تشرين1/أكتوير 11
 الدكتورة نزيهة الدليمي: المهم هو أن يكون هناك استراتيجية ما بعد التغيير
في شهر مايس 2000، التقيت بالسيدة الدكتورة نزيهة الدليمي عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وأول وزيرة عراقية بعد ثورة 14 تموز 1958، فحاورتها حول احداث الثورة والمنعطفات الصعبة التي مرت بها. وباعتزاز أقول: انها اجابت على اسئلتي بكل حرص واهتمام.
                                                                          أجرى اللقاء: مجيد القيسي
 
دكتورة نزيهة، كما هو معروف أن ثورة تموز تعد من الأحداث البارزة والمهمة في العراق بشكل خاص وفي الشرق الأوسط والعالم عموماً. كيف حصلت هذه الثورة؟ هل كان استخدام العنف هو الوسيلة الوحيدة للتغيير في العراق حينذاك؟ أو بتعبير آخر هل استنفدت كل المحاولات السلمية؟
  • إن الجماهير العراقية كانت على الدوام سلمية في مطاليبها، وعندما لا تجد أذنا صاغية لمطالبها كانت تلوذ بالمظاهرات السلمية، أما السلطة فقد لجأت إلى العنف وصولاً إلى استخدام السلاح لقمع المظاهرات ليتساقط القتلى والجرحى وليتعرضوا إلى التوقيف والتعذيب والسجن. وفيما أدركت الجماهير بأن السلطة تتجاهل مطاليبها، لم يبق أمامها سوى التفكير بوسائل أخرى لإزالتها. وهنا طُرحت فكرة الاغتيالات من قبل البعض على أن حزبنا رفض هذه الفكرة، إذ كان يخطط إلى تغيير جذري للتخلص من النظام الذي كان يقمع الشعب ويضحي بثرواته ويكبله بالقيود الاستعمارية. ومثل هذه المهمة لا يمكن أن تتم في تلك الظروف إلا من خلال القوات المسلحة حيث كانت في تلك الفترة مجاميع من الضباط الأحرار مهتمة بهذا الموضوع وكل مجموعة لها تصوراتها وخططها.
 القوات المسلحة كان لها ولاءات متنوعة لأحزاب متباينة. كيف كان رصيدكم في الجيش؟
  • نعم. كان لدينا قطاع واسع من الشيوعيين العاملين في الجيش. وعن طريق الراحل وصفي طاهر (من ضباط الثورة البارزين) ترتبت لنا علاقة مع عبد الكريم قاسم ومجموعته منذ عام 1954. لقد أدرك الضباط الوطنيون الذين اشتركوا في حرب 1948 لتحرير فلسطين خيانة الوصي عبد الإله والطغمة الحاكمة في العراق فصمموا على إزاحتها. وبعد ثورة 23 تموز 1952 في مصر ضد الملكية ونجاحها، أسس رفعت الحاج سري حركة الضباط الأحرار بهدف القيام بثورة على غرارها في العراق. ولعب رفيقنا وصفي طاهر دوراً بارزاً وعمل على ترتيب اجتماع بين عبد الكريم قاسم ورفعت الحاج سري، وواصل عمله في توحيد مجموعات الضباط وضباط الصف والجنود في حركة الضباط الأحرار، حيث انبثقت اللجنة العليا للضباط الأحرار نهاية عام 1956 بعيد انتفاضة الشعب العراقي في خريف 1956 تضامناً مع مصر ضد العدوان الثلاثي عليها. وكانت وحدة حركة الضباط الأحرار عاملاً أساسياً في نجاح ثورة 14 تموز 1958 وعندما وضع عبد الكريم قاسم خطته للتحرك العسكري للاستيلاء على السلطة وحدد توقيتها ولم يبلغ بذلك حزب البعث ولا حزب الاستقلال بل اكتفى بتبليغ الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي العراقي. وكان لحزبنا ولضباطنا الشباب في الجيش دور حاسم في إنجاح الثورة نظراً لبسالتهم وحزمهم في تنفيذ المهام التي أوكلت إليهم للاستيلاء على المواقع الحساسة في الجيش وأسر قائد الفرقة الثالثة، ومن ثم وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش والسيطرة على وزارة الدفاع ومعسكر الرشيد والوشاش ومن ثم أسر قائد الفرقة الأولى.                              إن الهَبة الجماهيرية التي أيدت الثورة منذ الصباح الباكر ليوم 14 تموز وقدرات الحزب المدنية والعسكرية قد جعلت قاسم يشعر بعدم الاطمئنان لنشاط الحزب الشيوعي العراقي خاصة وأن أعداء الحزب كانوا يحرضونه ضده.

عند اندلاع الثورة اتخذت العائلة المالكة قراراً بالتسليم والتنازل عن العرش ومغادرة العراق. فإذا كان هذا قد حصل فعلاً، فلماذا تمت تصفيتهم؟ هل كان هناك قرار ثوري باستخدام القوة ضدهم؟

  • لم يكن هناك قرار بتصفية العائلة المالكة إطلاقاً، بل أن الرأي الذي كان سائداً هو إلقاء القبض على مقترفي الجرائم من أعضاء السلطة وتقديمهم إلى المحاكم، وإذا حصلت مقاومة لابد من الرد عليها. لقد سلمت العائلة المالكة نفسها، ولكن تصفيتهم لم يكن مخطط لها. فبعد تسليمهم لأنفسهم في حديقة قصر الرحاب أطلق أحد الطباخين الذي كان لا يزال داخل القصر رصاصة أصابت أحد الضباط الأحرار في الحديقة، فتم الرد بالرمي بكثافة من قبل القوة التي كانت تصاحبه مما أدى إلى قتل الوصي وجرح الملك حيث نقل إلى المستشفى وتوفي هناك وهو شيء مؤسف جداً. لقد كان هدف الضباط الأحرار وجبهة الاتحاد الوطني هو تحرير البلاد وإقامة دولة مستقلة وديمقراطية دستورية ذات سيادة حقيقية على أرضها وثرواتها، ولكن بعض الممارسات الخاطئة التي حصلت كانت بفعل الهيجان الشعبي الذي يصعب التحكم به دائماً.

 

ما هي الإشكالية التي ظهرت بعد اندلاع الثورة بين الحزب الشيوعي العراقي والضباط الأحرار وبشكل خاص عبد الكريم قاسم الذي أبعد الحزب من أول وزارة في العهد الجمهوري؟

  • عندما طرح عبد الكريم قاسم نفسه أنه صاحب هذه الثورة وأبعد الحزب الشيوعي العراقي عن الوزارة الأولى دون غيره من أحزاب جبهة الاتحاد الوطني، كنا ندرك أن هناك تناقضاً بين تركيب السلطة وبين القوى التي قامت بإنجاح ثورة 14 تموز. ولكننا كنا نتصور أن هذا الإشكال سوف يُحل بالطرق السلمية وبالحوار، ومن ثم من خلال الانتخابات الحرة لمجلس تأسيسي يضع الدستور الدائم للبلاد وينهي فترة الانتقال ويقرر قانوناً للانتخابات النيابية وبذلك يتم إرساء الحكم على أسس ديمقراطية. لقد اعتمد عبد الكريم قاسم قبل الثورة على عبد السلام عارف ووثق به وهو الذي فرضه على اللجنة العليا للضباط الأحرار كما جاء في الكثير من مذكرات أعضائها. ولكن عبد السلام عارف بعد الثورة، أخذ ينهج نهجاً فردياً ووصولياً من أجل أن يمسك بزمام السلطة. إن مقابلته مع الرئيس جمال عبد الناصر في دمشق عندما ذهب إليها كرئيس للوفد العراقي، قد بينت هذا السلوك بقوة وبشهادة العديد من المذكرات لقادة عسكريين وسياسيين، عندما وعد عبد الناصر بتبني شعار «الوحدة الفورية»، بل نصا على إقامة أفضل العلاقات مع البلاد العربية وصولاً إلى تحقيق الوحدة. وبعد لقاء دمشق هذا تبنى ميشيل عفلق الأمين العام للقيادة القومية لحزب البعث حينئذ شعار الوحدة الفورية وجاء إلى العراق ليفرض هذا الشعار على القيادة القطرية لحزب البعث وأمينها العام فؤاد الركابي رغم معارضة الأخير لهذا الطرح باعتباره يتنافى وقرارات جبهة الاتحاد الوطني. أما عبد السلام عارف فقد التف حوله القوميون الناصريون والاستقلاليون من القادة العسكريين في اللجنة العليا للضباط الأحرار ومن القادة السياسيين لهذه الأحزاب القومية، وبهذا انشقت حركة الضباط وانشقت جبهة الاتحاد الوطني إلى نصفين متناحرين.

بالتأكيد إن عبد الكريم قاسم كان يراقب الأحداث عن كثب وكان على علم بما يجري حوله ولاسيما أنه وسط تلك الصراعات، كذلك إن رائحة الانقسام طافت في كل مكان. فكيف كانت ردود فعله وإلى أي النصفين المتناحرين كان يميل؟

  • أعتقد أن عبد الكريم قاسم كما أوضحت كان يعتبر نفسه صاحب هذه الثورة أو بتعبير آخر أن الثورة ملك له. فالانقسام بين القوى الوطنية وضمن حركة الضباط الأحرار عزز اعتقاده وفتح أمامه طريقاً جديداً. لقد اتجه نحو «الفردية» في الحكم وتلك جاءت بنتائج سلبية نعرفها جميعاً.

يبدو لي أن حزبكم حينذاك وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه. فهو بالتأكيد ليس سعيداً بالانقسام وليس مرتاحاً للنهج الجديد الذي اختاره عبد الكريم قاسم. كيف تعاملتم معهذا الواقع؟ هل كان موقف الحزب مؤيداً أم معارضاً للسياسة الجديدة؟

  • لقد كانت الثورة آنئذ مهددة من القوى الاستعمارية وحلف بغداد وشركات النفط الاحتكارية ومن الرجعية المحلية والإقطاع. فكان لا بد من توجيه ضربة لتلك الأخطار. وكان الحزب الشيوعي العراقي مركزاً اهتمامه على مسألة «صيانة الجمهورية» والتأكيد على الوسائل السياسية لتصحيح مسار الثورة والتنبيه إلى الأخطار المحدقة بها. وفي مايس 1959 سارت المظاهرة الشعبية المليونية تحمل مطالب القطاعات المختلفة للمجتمع، وقد طرحت الجماهير في هذه المظاهرة شعار مشاركة الحزب الشيوعي في الحكم مما استفز عبد الكريم قاسم وتصور أن الشيوعيين يهددون سلطته وازدادت مخاوفه وشكوكه، لاسيما بعد بروز القوى التي اختلفت معنا حول موضوع الوحدة أو الاتحاد الفيدرالي والتي أضافت نفسها إلى القوى الرجعية التي كانت تحرضه ضدنا.

إن الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي حزبان معروفان بمواقفهما المتقاربة في أكثر القضايا الملحة ولاسيما «جبهة الاتحاد الوطني» ومسألة الديمقراطية وغيرها، إلا أن داء الانقسام أو الاختلاف انتقل إليهما. فما هي أسباب اختلاف الحزبين اللذين كانا يمثلان القاعدة الجماهيرية والديمقراطية لثورة تموز؟

  • إن نقطة الخلاف الأولى بيننا وبين الحزب الوطني الديمقراطي كانت حول آلية الوصول إلى إرساء الحكم على أسس ديمقراطية. فقد كانوا يعتقدون بأن الحكومة ستقوم بذلك دون ضغوط وكنا نعتقد بأهمية المطالبة بالحقوق السياسية والاقتصادية لأبناء الشعب حتى بالقيام بمظاهرات سلمية من أجل الضغط على الحكومة من قبل الجماهير.
نقطة الخلاف الثانية كانت حول قانون الإصلاح الزراعي. فقد كان الوطني الديمقراطي يحبذ سقفاً أعلى للملكية لملاكي الأرض الكبار، أما الحزب الشيوعي العراقي فكان يطالب بإصلاح زراعي جذري يحدد سقف الملكية إلى مستوى يبقى على مساحات أكبر من الأرض لتوزيعها على معدمي وفقراء الفلاحين. لقد اعتبر الوطني الديمقراطي مطالبتنا بالإصلاح الزراعي الجذري يعني تطبيق هدف اشتراكي، فأجابهم الشهيد محمد حسين أبو العيس عضو المكتب السياسي لحزبنا في كراسه «الإصلاح الزراعي» قائلاً: إننا نريد بشعارنا إيقاف استغلال الإقطاع للأرض وليس إيقاف تطور العلاقات الرأسمالية في الريف لأن الإصلاح الزراعي الجذري لا ينفي تطور العلاقات الرأسمالية في الريف.
     المسألة الأخرى لخلافنا مع الوطني الديمقراطي هي مسألة «الديمقراطية». إن المطالب التي حصلنا عليها حرية الصحافة، حرية الأحزاب، حرية المنظمات الجماهيرية، ليست هبة إنما هي حصيلة مطالبنا الكثيرة التي كنا نقوم بها، بينما يصر الحزب الوطني على رأيه بأن الحكومة هي التي تقوم بذلك ولا حاجة لاستفزازها والضغط عليها. فهم بذلك يتحاشون كل مواجهة مع عبد الكريم قاسم.

ألا تعتقدين أن التقاطع مع حزب البعث وحزب الاستقلال ثم الاختلاف فيما بعد مع الحزب الوطني الديمقراطي وأخيراً تحشيد الجماهير للتظاهر من أجل تنفيذ مطالبها السياسية والاقتصادية أغضبت هذه القوى كما أغضبت عبد الكريم قاسم أيضاً ووضعت القوى الاستعمارية والرجعية في حالة تأهب للدفاع عن مصالحها في المنطقة. هل أدرك الحزب مدى المخاطر الجسيمة التي كانت تحيط به؟

  • نعم، كان الحزب الشيوعي العراقي قد حسب المخاطر الجسيمة التي كانت تحيط به. فلقد كانت الخطة الإنكليزية كما عرضها مكميلان في مؤتمر على مستوى القمة مع أيزنهاور في نهاية آذار 1959: إنني أشك في أن تؤدي حملة ناصر ضد قاسم إلى الإطاحة به.. وقد ظهر أن قدرات ناصر لا تزال محدودة وأن جهوده في داخل العراق للإطاحة بقاسم قد دفعت الأخير إلى مزيد من الاعتماد على الشيوعيين(1).
     لهذا تركزت جهود الخطة التي توصل إليها الرئيسان مكميلان وآیزنهاور إلى تحريك القوى الرجعية في داخل العراق للتودد إلى قاسم بهدف عزله عن الشيوعيين.
 وعلى ذلك أن الملاكين الكبار الذين تضرروا بقانون الإصلاح الزراعي لعام 1958 والذين وردت أسماؤهم في العديد من المؤتمرات ضد قاسم أخذوا يتوددون له خاصة بعد أحداث الموصل وكركوك عام 1959 وتأييد إجراءاته ضد الشيوعيين، في الوقت الذي شنت فيه الصحف الرجعية حملات إعلامية، وتشويهات ضد الحزب الشيوعي خاصة موقفه من الدين ومن المرأة بشكل اتهامات لا أساس لها من الصحة.

هل هذه الحملة الإعلامية أو الاقتراب من قاسم لها شأن في إبعاد الحزب الشيوعي العراقي من الوزارة أم هناك أسباب أخرى؟

  • في الواقع كان هناك شبه اتفاق بين قاسم والوطني الديمقراطي بهذا الشأن وقد فوجئ حزبنا بذلك. لقد تولدت لدى قاسم قناعة بأن الدول الإمبريالية لن تهاجم العراق عسكرياً وثانياً أن القوى القومية لن تقوم بعمل يهدد سلطته. وهذان التخمينان قاداه إلى الخوف من الشيوعيين وقوتهم حتى لحظات حياته الأخيرة قبل قتله من قبل انقلابيي شباط عام 1963. لقد اتصل به الرفيق سلام عادل(2) صباح اليوم الأول من الانقلاب طالباً السلاح للجماهير التي تقاوم الانقلاب، إلا أنه تعذر بأن الانقلابيين قلة لا شأن لهم وسيتم القضاء عليهم! كان الغرب يدرك أن القوتين الصاعدتين آنئذ في البلاد العربية هما الحركة الشيوعية والحركة القومية، فسلك الغرب طريق الاعتماد على القوى القومية بضرب الحركة الشيوعية (جاء ذلك في تقرير أيرلاند، أحد الدبلوماسيين الأمريكان إلى وزارة الخارجية الأمريكية أوائل الخمسينات) فالشيوعيون كانوا مستهدفين. وكان حزبنا يعتمد على الجماهير مصدر قوته، بينما كان نشاط القوميين في حينه وتآمرهم قد ساعد ليس في حرف الثورة بل في إسقاطها.


إن الثورة كما يقال تآكل أبناؤها. لقد كان هناك ضباط لهم دور مهم في ثورة 14 تموز 1958 بل إن بعضهم كان يعمل قبل الثورة بفترة في حركة الضباط الأحرار. فلماذا تم إبعادهم؟

  • هذا صحيح. إن الشواف مثلاً كان في الخمسينات يستلم جريدة الحزب الشيوعي العراقي - والطبقجلي كذلك لم يكن معادياً لنا. لكن الخلافات بين الضباط الأحرار كانت مختلفة، بعضها سياسية أشرنا إليها وبعضها شخصية. فالشواف مثلاً كان يعتقد أن يكون له دور مهم في الثورة إلا أن عبد السلام عارف حال دون ذلك. كذلك ناظم الطبقجلي كان يفترض أن يكون حاكماً عسكرياً، إلا أنه نتيجة رفض عبد السلام عارف عيّن آمر حامية.

لماذا وقف عبد السلام عارف من الشواف موقفاً سلبياً؟ مع أن الشواف، كما ذكرت ضابط وطني لا غبار عليه. هل هناك خلفية لهذا الموقف؟

  • هذا موضوع له جذوره الشخصية فيما أعتقد، لأن عبد الوهاب الشواف أراد أن يقوم بحركة قبل ثورة تموز في مايس 1958، ولكنه لم يضع عبد السلام عارف في قائمة مجلس قيادة الثورة حينذاك، ما أثار حفيظته ضد الشواف. فالمسألة في رأيي كانت مسألة ثار وليست مسألة سياسية. إن انحراف الثورة عن مسارها والاتجاه الفردي في قيادتها والتآمر المستمر لوأدها كلفنا الكثير من الخسائر التي نتذكرها اليوم ونعيشها بمرارة.

لقد ذكرت في بداية حديثنا أن للحزب إمكانيات واسعة في صفوف الجيش وبين الجماهير كما أشرت إلى قدراته الكبيرة في العمل والتنسيق بين الأحزاب من خلال تحالفاته المختلفة. فإذا كانت إمكانياته فعلاً بهذا الحجم، فلماذا لم يتمكن من تحقيق أهدافه السياسية طيلة فترة طويلة من نضاله؟ ألا تعتقدين أن الحزب ارتكب أيضاً أخطاء سياسية وعسكرية؟ أين يكمن الخلل في عدم تسلمه السلطة؟

  • لا شك في أن أي عمل سياسي لا يخلو من الأخطاء ومثل ذلك قد حصل في عدم استلام السلطة. لقد كان هناك تيار في المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي وكانوا الأكثرية (عددهم 4 من 7) يقولون بضرورة دعم عبد الكريم قاسم وإجراءاته وعدم استفزازه وهؤلاء انتقدوا سلام عادل سكرتير الحزب على سياسته في الضغط الجماهيري على قاسم لتحقيق المطالب الديمقراطية، وعندما تأزمت العلاقة مع قاسم أواسط 1959 ، تقدم بعض الرفاق بمشروع للتغيير تم التعبير عنه حينذاك (نتغدى به قبل أن يتعشى بنا).
وقد جاءت لحظة «الغداء» هذه عندما حصل الاعتداء على حياة عبد الكريم قاسم من قبل متآمرين، كان صدام حسين والغريري من بينهم، فأطلقوا الرصاص عليه في شارع الرشيد ببغداد. فنقل عبد الكريم قاسم جريحاً إلى مستشفى السلام وهنا وفي تلك اللحظة كانت الإمكانية كبيرة جداً لاستلام السلطة وذلك بإرسال الزعيم عبد الكريم قاسم إلى العلاج في الخارج ثم تعيينه سفيراً فيما بعد، أو إبقائه هناك. إلا أن جماعة الكتلة في المكتب السياسي عارضوا ذلك بشدة ووقفوا ضد فكرة «الإبعاد».
كما كانت هناك إمكانية أخرى تقدم بها قائد القوة الجوية جلال الأوقاتي للتغيير بشكل سلمي قوبلت أيضاً برفض المكتب السياسي بحجة أن النظام سوف يتحول تدريجياً إلى نظام ديمقراطي. وهكذا ضيعنا الفرصة تلو الأخرى ونحن نتحمل إلى اليوم نتائج أخطائنا.

ما هي الدروس التي يمكن تعلمها من ثورة تموز وانتكاستها؟

  • أود أن أشير هنا إلى أن الحزب تعرض إلى نكسة أخرى وهي الانشقاق عام 1967 وبذلك عرقل عزيز الحاج الذي تزعم هذا الانشقاق إمكانية استلام السلطة التي كان التخطيط لها جارياً. إن الدروس التي يجب أن نتعلمها كثيرة. يجب أن نؤكد قبل كل شيء على مسألة الديمقراطية ونعيرها اهتماماً كبيراً قبل البدء بأي تغيير. إن المطالبة بالديمقراطية ليس فقط بالظاهر، إنما جوهرياً ومن خلال تقوية النشاط الاجتماعي ومن خلال المجتمع المدني. إن التغيير وحده ليس كافياً، إنما المهم هو أن يكون هناك وضوح في استراتيجية ما بعد التغيير. إذا لم تكن هناك عوامل أخرى تؤثر في تحقيق الديمقراطية من خلال الناس، إذا كانت الجماهير غير قادرة على استيعاب قضية الديمقراطية، فلا يمكن تحقيق ما نصبو إليه. كذلك يجب دراسة الوقت والظروف بدقة هل هي مواتية أم لا؟ هناك قاعدة تقول: إن الذين يعيشون الأحداث عليهم أن يدرسوا التاريخ كي لا يقعوا بنفس الأخطاء.
 
ـــ شكراً لك دكتورة نزيهة على استجابتك لهذا الحوار وأمنياتي لك ولكل مكتوٍ بتلك الأحداث بقيام نظام ديمقراطي يعيد الطمأنينة والأمن والسلام لشعب يعيش بين جورين، جور السلطة الديكتاتورية وجور الحصار الظالم.
برلين / بوتسدام / ألمانيا
 
الهوامش:
 (1) جاء كذلك في مذكرة عن محادثات أيزنهاور - مكميلان في الوثائق السرية لوزارة الخارجية الأمريكية، واشنطن 19-23 آذار 1959 نشرها هيكل (الصحفي المصري محمد حسين هيكل/ المحرر) في كتابه (سنوات الغليان) الجزء الأول، ص 498.
(2) سلام عادل سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، اعتقل من قبل انقلابيي شباط 1963. استشهد تحت التعذيب.
 
نشرت المادة في (الثقافة الجديدة)، العدد 306 / حزيران 2002