هو أحد أهم مثقفي أمريكا اللاتينية ومن أكثر الفاعلين السياسيين خبرة في المنطقة. وخلال أربعة عشر عاما من عمله في حكومة بوليفيا المتعددة القوميات، لم يكن مسؤولاً فقط عن رسم الإستراتيجية السياسية لحكومة إيفو موراليس، بل أيضًا وضع الأسس النظرية للحزب الحاكم "حركة من اجل الاشتراكية".
في الثمانينيات كان غارسيا لينيرا أحد قادة حركة الكفاح المسلح الماركسية "توباك كتاري". وبسبب نشاطه السياسي، أمضى الكثير من سنوات تكوينه الفكري خلف القضبان: وعندما كان يقضي عقوبة بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة مشاركته في انتفاضة مسلحة ضد حكومة خايمي باز زامورا، كرس وقته لدراسة الماركسية وكتب كتابا عنوانه (شكل القيمة وشكل المجتمع)، الذي يعد الآن من كلاسيكيات الماركسية في أمريكا اللاتينية.
المنابع الفكرية التي تأثر بها غارسيا لينيرا متعددة الجوانب: الماركسية، الموروث الثقافي للسكان الأصليين (الهنود الحمر)، التفكير المستقل لأنطونيو نيغري والاشتراكية الديمقراطية لنيكوس بولانتزاس. ويُعد اليوم من أبرز مفكري اليسار في أمريكا اللاتينية وخارجها. فيما يلي ترجمة لنص الحوار المنشور معه في موقع "أمريكا 21" الألماني في 30 كانون الأول 2023. ونشر الحوار لأول مرة في 11 تشرين الأول 2023 في مجلة ريفيستا أنفيبيا الأرجنتينية.
- في الغالب هناك الآن حكومات يسار الوسط، أو حكومات يسارية في أمريكا اللاتينية. بضمنها بلدان لم تكن جزءًا من الموجة الأولى في بداية القرن، مثل المكسيك وكولومبيا. ومع ذلك، يبدو أن الموجة الثانية بعيدة كل البعد عن تحقيق هيمنة مماثلة لتلك التي تمتع بها اليسار قبل عقد من الزمن. لماذا؟
ـ نعم، كانت هناك موجة أولى، سُميت بهذا الاسم نسبة إلى ظهور حكومات تقدمية* في بداية القرن الحادي والعشرين. الأرجنتين مع نيستور كيرشنر، والإكوادور مع رافائيل كوريا، وبوليفيا مع إيفو موراليس، والبرازيل مع لولا دا سيلفا. فنزويلا (منذ عام 1998- المترجم) والسلفادور ونيكاراغوا وأوروغواي وباراغواي.
لقد كانت موجة تقدمية، مدعومة إلى حد كبير بتعبئة اجتماعية كبيرة. تتمتع موجة التعبئة بأهمية بالغة، عندما يتعلق الأمر بفهم السلوك الاجتماعي لأنها تكسر نظام معرفية المجتمع: ما هو ممكن، وما هو جدير بالثقة، وما يمكن قوله. وعندما تستند حكومة تقدمية على هذه الموجة، فإن قدراتها وفرصها للتغيير تصبح أكبر بكثير.
ثم جاءت لحظة التراجع والإرهاق وعودة الحكومات المحافظة: في الأرجنتين والإكوادور وأوروغواي وباراغواي والبرازيل. ومنذ بداية عامي 2018 و2019، بدأت موجة تقدمية ثانية، هي أكثر شمولاً من الناحية الجغرافية - حيث تشمل بوليفيا والبرازيل والأرجنتين، ولكن أيضًا المكسيك وتشيلي وكولومبيا. ان الموجة الثانية أكثر اتساعًا من الناحية الإقليمية ولكن لها خصائص مختلفة. على الرغم من أنها أكثر اتساعًا إقليميًا، إلا أنها أكثر سطحية في "كثافتها".
ويعد ذلك ولأسباب عدة، لعل أحدها، انها كانت أضعف من سابقتها. الموجة الأولى كانت مكثفة للغاية ومليئة بالأمل، وحققت إصلاحات كبيرة. لم تعد الموجة الثانية هكذا، بل دخلت المعركة منهكة. لقد تعاملت مع يمين أكثر ترابطاً، فقد أعاد تنظيم نفسه بعد الهزائم التي مني بها في الأعوام 2003 ،2005 و2010.
إنه يمين أكثر صخبا: فهو يخرج إلى الشوارع، ويخوض حرب ثقافية بطريقته الخاصة، ويحشد ويحتل وسائل التواصل الاجتماعي، وهو أكثر عدوانية ويمكنه كشف أخطاء اليسار والقوى التقدمية الحاكمة. لم يستطع اليمين فعل ذلك من قبل، لقد كنا شبه خاليين من العيوب لأننا لم نكن نحكم. لكن عندما تحكم، سوف تتوهم وتسهو وترتكب أخطاءاً. ثم تأتي اليد اليمنى وتفرك الملح على الجرح حتى لا يلتئم أبدًا.
الموجة الثانية لم تكن مصحوبة بتعبئة كبيرة (باستثناء كولومبيا، التي اتخذت الخطوات الأكثر جذرية). ولم تعد موجة تغذيها قوة التعبئة. ما حدث في تشيلي، على سبيل المثال، هو تراجع كامل للتعبئة، وهناك مزاج كئيب، ولا يوجد شيء يدفع الرئيس بوريك. لذلك نحن نتعامل مع حركة تقدمية باهتة إلى حد ما، وفي نفس الوقت مع قادة أكثر اعتدالا. إنها حركة تقدمية تدير ما هو قائم، ولا تحقق تحولات.
أحدثت الحركة التقدمية للموجة الأولى نقطة تحول. هكذا بدأ العالم: نظام سياسي جديد، نظام جديد للأفكار، اقتصاد جديد.
الحركة التقدمية الثانية هي حركة إدارية. "اهدئوا، دعونا ندير ما هو موجود ونجري بعض التحسينات هنا وهناك". "إنهم يريدون أن يكونوا جزءًا من النظام السياسي، في حين أن الحركة التقدمية الأولى لم ترغب في أن تكون جزءًا من أي نظام سياسي. لقد كانت النظام السياسي. معها تم ترتيب العالم. ومن ناحية أخرى، تريد الحركة التقدمية الثانية أن تجد مكانها في النظام السياسي على المدى المتوسط. إنها تصبح أكثر خجلا، وتكثر حساباتها، وتصبح أكثر استعدادا لتقديم تنازلات. ويتم استرضاؤها بسرعة أكبر. وهي حركة تقدمية، تفتقر الى قادة يدفعونها إلى الأمام، وبسبب غياب التعبئة في الشوارع، فإنها تريد الحفاظ على ما هو قائم بدلاً من تحقيق شيء جديد.
وطبعاً اليمين لا يسامح أحداً: يرى أنه ضعيف، ويرى أنه توقف قليلاً عن شرب الماء، ليأخذ بخناقه. لقد كان الحال هكذا دائما. يعتقد بعض القادة السياسيين بإمكانية إيجاد تعايش حضاري مع اليمين. لكن لا، لن يسامحك اليمينيون، فهم يريدون رؤيتك مدفونا. يتسامحون معك إذا كنت قويا. ولكن إذا لم يكن الأمر كذلك، فسوف يقفزون عليك ويبدؤون بالرقص فوق رأسك.
هذه هي الموجة التقدمية الثانية ضعيفة، وليست قوية بما فيه الكفاية، وأجرؤ على القول، انها مؤقتة. فرضيتي هي أنه في هذه الأوقات الانتقالية سيكون لدينا حركة تقدمية وحركة يمينية قصيرتا المدى: هيمنة قصيرة لليسار وأخرى مثلها لليمين، حتى يتقرر المصير لصالح إحداهما وتبدأ دورة طويلة تستمر 20 – 30 عامًا.
- هناك مسألة يجب ملاحظتها، بعد الموجة الثانية المتعبة، تبدو الجداول الزمنية الوطنية أقل انسجاما من ذي قبل. وهذا يعني ذهابًا وإيابًا بين اليمين (المتشدد أو المتطرف) والتقدميين الأكثر خجلًا. أين تعتقد وكيف أن هذه المباراة سيتم تحديدها في نهاية المطاف؟ أتصور أن الأمر يتعلق بقدرة الاستجابات السياسية على تشخيص الوضع وإيجاد نوع من الحل. ولكن السؤال المطروح هل سيكون هذا الحل ديمقراطياً بالضرورة؟
ـ أعتقد أننا في زمن التحول الهيكلي العالمي. لقد أصبحت أميركا اللاتينية الآن في بداية دورة انتقالية: نموذج لتراكم الثروة، وإدارتها، وإنتاجها، ووسيلة لإضفاء الشرعية على هذه العلاقات. تم تقديم نموذج السوق الحرة الليبرالي الجديد في الثمانينيات، ليحل محل نموذج دولة الرفاه (أو الدولة التنموية) الذي ظهر في الأربعينيات.
ان النموذج الليبرالي الجديد في حالة اضطراب؛ لم يختف، لكنه تصدع. ولم يعد يثير الحماس السابق. وفي هذا السياق حدثت الأزمة العالمية عام 2008، ثم جاء وباء كورونا، ثم حرب أوكرانيا. والآن تُقيم الاقتصادات في جميع أنحاء العالم ما هو قادم وتتبنى سياسات هجينة. هناك ترامب الذي يدافع عن حماية الولايات المتحدة. ويقول: "أميركا أولاً". وبعد ذلك يأتي بايدن "التقدمي" ويقول: "سوف نبني الجسور والطرق والهواتف المحمولة والسيارات الكهربائية في أمريكا الشمالية بمواد خام من أمريكا الشمالية وعمال من أمريكا الشمالية". لقد كان ذلك جنوناً قبل عشرين عاماً، نهجاً شيوعياً فاشلاً عفا عليه الزمن. حسنًا، الآن يقوم بايدن بدعم اقتصاده. الأوروبيون أيضًا، يدعمون الطاقة والصناعة بنسبة بين 3 و5 في المائة من ناتجهم الإجمالي المحلي.
بدأ البحث عن نماذج بديلة جديدة. وهنا لدينا شكل مختلط: سياسة التجارة الحرة مع سياسة حمائية، وسياسة العولمة مع سياسة الدعم. انه وضع مربك. وأميركا اللاتينية تعيش دوامة عملية إعادة الهيكلة العالمية.
ومن غير المعروف كيف سيبدو نموذج التراكم الجديد. يقول البعض: "دعونا نعود إلى قوانين السوق الحرة في العصر الحجري القديم، دعونا نعود إلى التسعينيات المجيدة عندما تمت خصخصة كل شيء أو كانت الحدود مفتوحة". ويقول آخرون: "لا، دعونا ننفذ هذا المزيج، سياسة برمائية للعولمة والحمائية". وتقول الصين: "انتظروا لحظة أيها السادة، سوق حرة مع حزب موحد". لذلك لا يمكن لأحد أن يجزم بما سيكون الأفضل في المستقبل: هناك محاولات جارية. إن انهيار النظام القديم والبحث عن نظام اقتصادي وسياسي جديد سوف يستغرق عقداً آخر. وهذا امر طبيعي.
منذ عام 2010، كانت هناك فوضى في النظام العالمي. وأظن أن هذا سيستمر لعقد آخر حتى يظهر نموذج جديد للتراكم. ربما سيكون نوع من اقتصاد السوق الحر الهجين مع الحمائية؟ على الأقل تسعى معظم الدول المتقدمة إلى تحقيق ذلك. هل سيكون النموذج الصيني لاقتصاد السوق الحر، ولكن مع قدر أقل من الحريات الديمقراطية الليبرالية؟ هل سيكون نوعاً مختلفاً من السياسات التقدمية على النمط الأميركي اللاتيني؟ أم أن هذا سيكون بمثابة عودة إلى السوق الحرة، ليس عن طريق الإغواء، بل بالسياط والهراوات ضد المتمردين؟
أي نموذج سوف يسود؟ الذين ينافسون بحماس كبير للغاية، والذين يحظون بأكبر قدر من الدعم الاجتماعي والذين يعملون على استقرار الاقتصاد على المدى الطويل، الذين ينجحون في توفير الثقة في عالم فقد الناس فيه الثقة بالتنبؤات سيكون لديهم فرص أكبر. وأعتقد أن الحل سيكون كونيا. في الموجة الأولى، نهضت أمريكا اللاتينية بقوة، ولكنها لم تكن مصحوبة ببقية العالم، الذي ما زال يمجد السوق الحرة.
هذه الأمور لا يمكن حلها اقليميا. وأمريكا اللاتينية سوف لن تمضي بمفردها. وكما كان عليه الحال في الأربعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، هذه مشكلة تحتاج إلى حل عالمي. والنموذج الجديد للتراكم الذي ينتج الاستقرار والنمو وتوزيع الثروة والشرعية السياسية سيكون له أيضاً حل عالمي. ولكن كيف سيبدو هذا النموذج؟ هناك خيارات مختلفة. يمثل الليبراليون الجدد في الواقع ليبرالية جديدة استبدادية تقترب من الفاشية. ويحاولون حل المشاكل، وضمان الاستقرار من خلال خصخصة كل شيء، ويتجاهلون الضغوط الاجتماعية.
- منذ فترة كنتَ تقول ان هذه المشكلة يتم حلها في الاقتصاد، وبما ان هذا الحوار يجري تحت عنوان "الصراع الثقافي"، وددت سؤالك، عما إذا كانت هناك في بعض الأحيان إرادة مفادها أنه يمكن حل كل شيء من خلال "الصراع الثقافي" (كما لو ان هناك رغبة في الفصل بينهما)، وأحيانا يغيب هنا البعد المادي. إلى أي مدى تركز هذه السياسات التقدمية التي تحدثت عنها على الجانب المادي؟ هل ترى أن هذه الأجندة الجديدة مرتبطة بذلك؟
تتبادر إلى ذهني جملة مؤثرة لأحد الثوريين الروس قبل مائة عام: "السياسة اقتصاد مكثف" (المقصود لينين – المترجم). الثقافة والنضال الثقافي والسياسي هو اقتصاد مكثف. سواء كان ذلك في ظل ظروف مختلفة، أو بأشكال تعبير أخرى، لكن الاقتصاد يقطع طريقنا دائما. والاقتصاد هو أيضا سياسة وثقافة متسامية. وكلاهما: متشابكان. وليس الأمر أنك إذا قمت بحل القضايا الاقتصادية فإنك ستحل القضايا السياسة تلقائيًا. لان الأولى تحتاج إلى السياسة والأفكار والمفاهيم الذهنية ووجهات النظر. والسياسة أساسا هي النضال من أجل أفق منظور للمجتمع واحتكاره.
ما هو الأفق المنظور؟ القدرة على تخيل ما ينتظرنا خلال عام أو عامين. إذا كنت ستتمكن من الادخار، وإذا كنت ستتمكن من السفر، وإذا كنت ستتمكن من شراء دراجة، وما إذا كنت ستتمكن من توفير ملابس أفضل لابنتك، وإذا كنت ستتمكن من تحسين نظامها الغذائي. كل هذا ما يجعل الاقتصاد يعمل. ان الاعتقاد بما سيحدث سيجعل كل هذا ممكنا: الادخار في البنك، أو بذل المزيد من الجهد في العمل، أو القبول بتخفيض الراتب، أو العثور على وظيفة أخرى براتب أعلى. إن الذهاب إلى السوبر ماركت والشراء بقيمة أكثر أو أقل يتم تحديده وفقًا لمعتقدات الناس. ويجب النظر إلى كل هذا في اطار ديناميكية مشتركة.
النضال من أجل الأفكار، من أجل الأفق المنظور، لكي يحظى بالدعم والمصداقية والجدوى العملية، يكون متوافقا مع الأموال الموجودة في جيبي، مع الأسعار، مع ما يمكنني توفيره في البنك، مع ما يدفعونه لي من راتب. وفي حال عدم وجود هذه العلاقة المترابطة، يختفي هذا الأفق. والعكس صحيح: إذا لم يقترن هذا الارتباط العملي بالراتب والدخل والمدخرات بترابط المثل، فلا أثر له ولن يدوم. كلاهما ضروري. إن الصراع الثقافي هو بالفعل صراع اقتصادي، والنضال الاقتصادي يحتوي على مكونات الصراع الثقافي. وحل أحدهما يساعدك على حل الآخر وبالعكس. لذلك لا يمكنك أبدًا إحداث التغيير دون المشي بكلتا القدمين.
لقد كان من دواعي سرورنا مقابلتك قبل ثلاث سنوات. لقد كان وقتًا مختلفًا، خلال انتشار الوباء. وكان جزء كبير من جهودك النظرية في ذلك الوقت يدور حول دور الدولة، والدور المركزي الذي تلعبه الدولة مرة أخرى. لقد طلب جميع مفسري السوق من الدولة مساعدتهم، وفي الوقت نفسه عاد الناس إلى ذلك الدافع الأساسي للمطالبة بالحماية من الدولة. وقتها قلت لي جملة تناسب ما كنا نتحدث عنه وأود اعادتا على مسامعك: " لقد ظهر سيناريو الإبداع والتعبير الاجتماعي الواضح، منذ بعض الوقت، في جميع أنحاء العالم، وإذا لم تقم قوى اليسار بعملها، ولم تبذل الجهود ولم تنتبه، فإن سيناريو "الخلاص" أو الاستبداد يمكن أن يترسخ، مع مرور الوقت، بسهولة في هذه الشقوق. ومن المؤكد أن الحلول الاستبدادية، كتلك التي تجري في بلدان أميركا اللاتينية، من الممكن أن تكتسب المزيد من الثِقَل وتنتشر في مختلف أنحاء العالم".
ما يشبه النبوءة (يبتسم). عموما أنا مع هذه الفكرة. وعندما تتعثر الأنظمة القديمة للشرعية السياسية والتنظيم الاقتصادي، كما كان الحال مع الليبرالية الجديدة، تبحث النخب والمجتمعات عن كل الخيارات الممكنة، الخيارات التقدمية مثلا. وإذا كان هناك قادة شجعان يفهمون هذه الرسالة، فيمكنهم أن يكونوا ذو قلوب قوية ويدفعوا الاقتصاد إلى الأمام: التأميم، التوزيع وانتشال الناس من الفقر.
ولكن هناك أيضًا مقترحات رجعية للغاية تقول: "لا، إذا كانت الليبرالية الجديدة تعمل بشكل سيئ الآن، فذلك لأنها لم تطبق بشكل صحيح، بسبب تحريفها. عليك العودة إلى الجوهر الأصلي للليبرالية الجديدة الحقيقية، والذي هو السوق المطلق، وتصفير دور الدولة".
إذا كانت الحكومة التقدمية التي تدير الدولة تعمل على زيادة مخاوف الناس بدلاً من حلها، فبالطبع سيكون الناس على استعداد لاستماع الآخر. وربما يكون المخرج هو المخرج الخلفي. كانت تلك هي طريقة الرئيس البرازيلي خايير بولسونارو (فاشي جديد- المترجم): الخصخصة. لقد قاموا بخصخصة ما تبقى من شركة النفط "بتروبراس"، بما في ذلك شركة الكهرباء التابعة لها، وفي الطريق الى هناك اكتشفوا أن هذا لم يكن حلاً للأزمة اطلاقا.
ومن المنطقي أنه في أوقات عدم اليقين هذه، عندما لم يعد النموذج العالمي القديم يعمل بشكل جيد، تظهر المزيد من الاستجابات الاستبدادية. وسوف تكتسب ردود الفعل هذه قوة إذا وصلت حركة تقدمية إلى الحكومة ولم تحل مشاكل الناس. ان هذا سيشجع متطرفو الليبرالية الجديدة على القول: "اسمعوا، لا دولة، لا ضرائب، لا إعانات دعم، دعونا نعود إلى النموذج الأصلي. فأنتم ترون، عندما كانت هناك دولة، تضاعف التضخم، وارتفع الدولار. دعونا نعود إلى المسار السابق".
وبشكل عام، تظهر في هذه الفترة الانتقالية طروحات محافظة وسلطوية وعنصرية. لماذا الاستبداد؟ لأن الامر مرتبط بالليبرالية الجديدة التي تقول: "اليوم نحن في وضع سيء بسبب شخص ما، بسبب الدولة، بسبب الضرائب. ويجب علينا التخلص من الذين يدافعون عن الحماية والدولة. هناك الكثير من الحقوق للنساء، والكثير من الحريات للنقابيين، والكثير من الفوضى، والكثير من المهاجرين الذين يستولون على وظائفنا". هذه رؤية قمعية لفهم المشاكل، والحل الذي يطرحونه هو العودة الى السوق.
على عكس الليبرالية الجديدة بدء من أواخر الثمانينيات، والتي قالت: "ليس هناك بديل آخر أيها السادة. لقد سقط جدار برلين. تعالوا إلى هنا. هذا هو الطريق الوحيد". لقد كانت ليبرالية جديدة مشرقة وواسعة ومغرية. اما الحالية فليس كذلك، انها قسرية: " إذا لم يسمحوا لأنفسهم بمعاقبتهم، فمصيرهم السجن، كما هو الحال عند نجيب بُقيلة. (رئيس السلفادور الحالي- المترجم) اللغة مختلفة. الوصفة الاقتصادية ماتزال كما هي، وتستكمل برواية خطابية مختلفة عن العقاب والكراهية والقمع.
تظهر في جميع أنحاء العالم، لكنها تجد جمهورًا أكبر وتميل إلى أن تصبح أكثر "شعبية" (شيء غريب) عندما يسبق الاقتراح أيضًا فشل الحركة التقدمية والدولانية (سيطرة الدولة على الاقتصاد – المترجم). ويصبح الأمر أكثر صعوبة عندما تكون الحكومة التي تسببت في السخط يمينية، لأنها لا تستطيع تبرير أي منها. إن الليبرالية الجديدة الاستبدادية موجودة بالفعل، لكنها ستكتسب حضورا اجتماعيا أكبر في ظل حكومة تقدمية فشلت في الوفاء بوعدها.
ولهذا السبب لا ينبغي للحركة التقدمية أن تحاول أن تكون طرفاً اضافيا في مؤسسة الإدارة المعتدلة. وفي الأوقات المضطربة، الاعتدال يعني هزيمتك وفشلك. إن الحركة التقدمية ملزمة بتسريع التاريخ، وإحداث التغيير، وتحمل المخاطر. لأنها إذا لم تفعل ذلك وتتمسك بالاعتدال فلن تحل المشاكل.
إن "حل" الليبرالية الجديدة قائم على تفكيك الدولة. وهذا يعني انتهاك حقوق الشعب. لأن الدولة هي ما يشترك فيه المجتمع، وهي كنز ما بناه المجتمع على مدى عقود وقرون، من خلال النضالات والانتفاضات، من خلال التعبئة والإخفاقات.
وهذا يشكل عائقا أمام الليبرالية الجديدة. إنها تريد استبداله بـ "الخاص". ومع ذلك، ليس هناك أمة عبارة عن مجموعة من مالكي القطاع الخاص: هذا هو السوق. اما الأمة فهي مجموع انتصاراتنا، ورياضاتنا، ونضالاتنا، وحروبنا، وعمليات تحررنا، وتعبئاتنا، وحفلاتنا، وحالات رضانا الجماعي، المخزونة والمتراكمة كحقوق، وسرديات تاريخية، كأبطال، وكتقاليد وطنية.
في بلد لا يوجد فيه سوى مالكي القطاع الخاص، دائمًا ما ينتصر الأكبر. المالك الكبير سوف يسيء دائمًا إلى المالك الصغير. لكن الدولة ذات القواسم المشتركة تجد طريقة لمقاومة جشع الأكبر، وإيقاف الأقوى. وبدون هذه القواسم المشتركة، يلتهمك الأكبر، ويسحقك، يسحقك لكي يصبح أكبر. لأن الملكية هي المسألة، من يملك المزيد من الممتلكات لديه فرص أكثر يستطيع فيها شراءك.
ان ما يوقف الجشع هو الصالح العام، الملكية التي تعرف ما هو ملك الجميع. إنها غامضة، ويُساء استغلالها، ويُساء استخدامها في بعض الأحيان، لكن الدولة هي المكابح التي تملكها المجتمعات، لمنع الملكية الكبيرة من سحقها.
هذه لحظة معقدة للغاية على المستوى القاري، وستكون أكثر تعقيدًا إذا فشلت الحركة التقدمية، ووجد المستبدون طريقهم الى السجادة الحمراء.
وإذا جاء المستبدون ودفعوا هذا النوع من الأجندة، من موقع سلطة الدولة الى امام، فما هو المجال المتبقي للذين يدعمون أجندة تقدمية يسارية وطنية شعبية؟
نعم، الليبرالية الجديدة الاستبدادية والقمعية هي نوع من "حديقة جراسيك" (فلم هليودي شهير يتناول الحيوانات المنقرضة والديناصورات – المترجم). والعالم يتحرك في الاتجاه الآخر. انظروا إلى الطريقة التي يحكم بها بايدن: لقد سن قوانين لدعم صناعاته حتى تصبح الولايات المتحدة قوة ضد الصين في مجال التكنولوجيا الحيوية، والرقائق الدقيقة، والذكاء الاصطناعي، والأمن القومي. لكنني لا أتحدث عن دعم بنسبة 0,1 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي، بل أتحدث عن ثلاثة أو أربعة أو خمسة في المائة من الناتج الاجمالي المحلي سنويًا. تطبق الولايات المتحدة إجراءات حمائية في منافستها مع الصين. وبايدن ليس من أنصار كينز، ولكنه يدرك أنه، من الناحية الجيوسياسية، إذا لم يعمل على تعزيز صناعته، فسوف تتحول إلى سوبر ماركت يديره الصينيون. وينطبق الشيء نفسه على أوروبا، التي تنفق 3,5 في المائة من ناتجها الإجمالي المحلي سنويا على دعم صناعاتها، وسوف تحظر بعض المنتجات. وتتجه أوروبا والولايات المتحدة نحو تدابير الحمائية بينما تستمر في دعم شركاتها. وفي أمريكا اللاتينية، أرادت بعض البلدان (مثل البرازيل في عهد بولسونارو) العودة إلى فترة التسعينيات، التي تبين أنها أصبحت عتيقة.
ولهذا السبب فهي حديقة جراسيك: عندما يأتي الاستبداد، فلن يكون هناك سوى هراء لمدة ثلاث أو أربع سنوات، لكنه يمكن أن يحدث الكثير من الضرر. الاستبداد هو نفق عبر الزمن يعود إلى الماضي.
أولاً، لا أرى لهم مستقبلاً كبيراً. هيكليا وعالميا، فإن تجارب حدائق جارسيك الاقتصادية الليبرالية الجديدة ليس لها مستقبل في عالم يجمع بين الأسواق الحرة والحمائية. ثانياً، ما الذي بقي على القوى التقدمية أن تفعله؟ هو ما فعلوه دائمًا، وبإصرار أكبر. إدراك أن الوقت قد حان للنضال، للنضال من أجل ما تعتبره حقوقها.
وأعتقد أن على أميركا اللاتينية أن تفهم أن الموجة الثالثة لن تكون تذكير حزين بالموجة الأولى. وقد حققت الموجة الأولى غرضها. والقادة الذين كنا، جزء منهم قاموا بعملهم، وهكذا كان.
سيكون هناك آخرون لديهم أفكار تتجاوز المعروف، تحت قيادة مختلفة، وبمقترحات مختلفة، وبأفكار جريئة أخرى. لأن العالم الذي واجهنا في بداية عام 2005 يختلف كثيراً عن العالم الذي نعيشه الآن.
ما فعلناه غيّر بلداننا، لكن لا يمكننا تكرار هذه الخطابات وهذه الأغاني. قال أحد الرفاق: "نحتاج إلى أغاني مختلفة ". هذا يعجبني. هناك حاجة إلى لحن مختلف للموجة التي ستأتي الآن. وهذا يعني قادة جدد، ينظرون باحترام إلى ما سبق ان فعلناه، ولكنهم يتجاوزوننا، ويذهبون أبعد من ذلك. انهم ليسوا مثلنا، يدخلون التاريخ بشخصيتهم الخاصة. ويجب على من بقي منا على قيد الحياة أن يدعمهم، لأنهم جيل مختلف، ولحظة تاريخية مختلفة، واحتياجات مختلفة، ومخاوف مختلفة.
لقد فهمنا البلد الذي نحن فيه وفعلنا ما في وسعنا. وسيتذكر الناس أننا فعلنا أشياء جيدة. البلد اليوم مختلف. كنا في بوليفيا حيث كان 60 بالمائة منهم فقراء. والآن بلغت النسبة 35 بالمئة. إنها دولة مختلفة، وآمالها مختلفة، وشبابها مختلفون، وتجربة مختلفة. لديهم الإنترنت، لديهم شبكات التواصل؛ لم يكن لدي ذلك. والشباب الذين تتراوح أعمارهم الآن بين 15 و20 سنة، لا يعرفونني. كان ابائهم وامهاتهم فقراء للغاية ولم يتمكنوا من تناول الطعام مرتين في اليوم، ويأكلون الآن ثلاث وجبات في اليوم ولديهم آمالا مختلفة. يجب على القادة الجدد فهم هؤلاء الشباب الذين يبحثون عن أشياء مختلفة، وتقدم اجتماعي مختلف، وطريقة استهلاك مختلفة.
في الآونة الأخيرة، تحسنت المجتمعات من حيث الحصول على حقوقها، لكنها تراجعت من حيث العمل في القطاع الرسمي. نحن بحاجة إلى فهم هؤلاء العمال غير الرسميين، الذين يشكلون 50 في المائة من القوى العاملة، ويتأثرون بالتضخم. يجب على الحركة التقدمية الجديدة أن تتحدث إلى إليهم، هؤلاء ليس لديهم نقابة، ليس لديهم دخل ثابت؛ وهؤلاء الشباب الذين لا يعرفون ماذا فعلنا قبل 20 عامًا.
إذا كانت هناك عودة للمحافظين والاستبداديين، فسوف يتعين علينا أن نناضل مرة أخرى، من الأسفل ومن أجل الجميع، كما حدث من قبل. لكن "كل شيء" اليوم يختلف عما كان عليه قبل عشرين عاما. أنت بحاجة إلى قادة يفهمون هذا الشعب الجديد في مخاوفه الأكثر واقعية: الخيال، والترفيه، والتغذية، والدخل. وبناء النضالات والمقاومة والتعبئة المطلوبة. أنا متأكد من أن الليبراليين الجدد الاستبداديين لن يحلوا مشاكل الناس. لم يفعلوا ذلك قبل 20 عامًا وانتهى بهم الأمر بالفرار بطائرات الهليكوبتر. فلماذا يجب عليهم حل المشاكل اليوم؟ ما هو المختلف في كتاب وصفات الليبرالية الجديدة؟ لا شيء، سوف يخلقون المزيد من المعاناة، والمزيد من الظلم. ويجب أن يكون هناك قادة قادرون على ترجمة هذه المعاناة إلى عمل جماعي.
ومن المؤكد أن الناس سوف يمنحون الحكام الجدد شيكاً على بياض لمدة عام أو عامين. لكن هذا الشيك ليس دائم الصلاحية. وهذه ليست مؤامرة شيوعية، هذا هو الحس السليم للناس العاديين. ويتعين عليك أن تكون حاضراً في اللحظة التي يمزق فيها الناس الشيكات البيضاء الممنوحة للحكومة السيئة ويبدؤون في التعبير عن رغباتهم في التحسين الجماعي وليس الفردي.
ويجب على القادة الجدد أن يكونوا حاضرين لدمج هذه النضالات والآمال في برنامج جديد من الإصلاحات التقدمية. أعتقد أن هذا العقد سيوفر الأساس لفرضيتي بأن العودة الاستبدادية، مثل عودة بولسونارو في البرازيل، ستكون قصيرة المدى. وهذا سيؤدي إلى ظهور مشروع تقدمي جديد، بوجوه جديدة وخطابات جديدة وأشكال تنظيمية جديدة. ويجب أن يتمتع الجيل الجديد من القادة بالشجاعة اللازمة لمواجهة التحديات الجديدة دون حزن أو حنين، مع احترام التاريخ، ولكن بما يكفي من الجرأة والإبداع لمعالجة تحول الحاضر نحو المستقبل الذي يتخيلونه.
ولهذا السبب أنا متفائل على المدى المتوسط. لأن الليبرالية الجديدة، حتى لو بنت الكثير من السجون، لن تحل مشاكل الناس. ونحن نعلم بالفعل أنها فشلت. يجب على الناس أن يمروا بهذه التجربة، ولكن سيتعلمون في هذه العملية كيفية تحويل مقاومتهم وخيبات أملهم الى تفاؤل تاريخي جديد، موجة تقدمية جديدة يمكنها في الواقع حل مخاوف الناس. فهل يمكن التغلب على هذه المخاوف من خلال حلول متقدمة؟ بالطبع سيكون كذلك.
يبلغ معدل التضخم السنوي في بوليفيا 2 في المائة. وهل تعلم كم نمونا خلال 17 عامًا؟ سنويا بنسبة 4,5 في المائة. نحن الشعبويون فعلنا ذلك. وكذلك فعل التقدميون، وفي هذه العملية نجحنا في خفض الفقر إلى النصف.
من الممكن أيضاً أن تحل الأساليب الشعبوية مشاكل الناس. وهي موجودة لهذا الغرض: حل المشاكل الحقيقية للناس، الأفقر، والأبسط، والمهملين. ان هناك دائما طريقة تقدمية للحل. لقد أممنا، ورفعنا الضرائب، وأخذنا الأرباح من البنوك ووضعناها في الصناعة. هناك دائما حلول تقنية للاقتصاد السياسي، ولكن إذا وقفت إلى جانب الفقراء وقلت: "الأمر ليس أن الأغنياء هم أعدائي، ولكن في أوقات الأزمات عليهم ان يفتحوا محافظ نقودهم، حتى يتمكن الفقراء من الحصول شيء للأكل". ثم ستكون هناك أوقات أفضل عندما لا يكون الأمر مهمًا كثيرًا. ولكن عندما تكون هناك مشاكل، فإن حل مخاوف الفقراء يكمن في محافظ نقود الأغنياء.
ويجب أن يكون هناك قادة قادرون على القيام بذلك بجرأة وقوة. هل هناك طريقة تدريجية للخروج من التضخم وقطاع العمل غير الرسمي؟ بالطبع هناك مثل هذه الطريقة. ومن المهم البحث عنها وتطويرها. ما لا يمكن قوله: ليس هناك بديل. فهذا ممنوع في هذا الزمان.
*- في أمريكا اللاتينية، يتم تعريف التقدمية على النحو التالي: "التقدمية هي ظاهرة تاريخية تتعلق بعملية التحول الرأسمالي لهيمنة أمريكا الشمالية والنظام الليبرالي الجديد، وتعني اضعاف هيمنة رأس المال المالي ورأس المال المؤسسي وتضاءل سلطة الولايات المتحدة والمنظمات المتعددة الأطراف على بلدان أمريكا اللاتينية. وهذا يتيح ظهور حكومات غير مرتبطة بالأحلاف، مدعومة من الجماهير، تعزز عمليات تأميم الموارد الطبيعية وسياسات إعادة توزيع الإنفاق العام برؤية مناهضة للإمبريالية.