أيار 17
 
بتفكك الإتحاد السوفيتي وانهياره في أواخر العام 1991 انتهت الحرب الباردة بين العملاقين وطويت في ما بدا حينذاك صفحات المؤامرات والتدابير الخفية وسباق التسلح وحرب الجاسوسية، لتبدأ الباحثة (ف .ف.سوندرز) مشوارها في كواليس المخابرات وأرشيف الصحف والمجلات الثقافية والمكتبات في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فتنجز عملا توثيقيا نادرا عما فعلته المخابرات الأمريكية والبريطانية على الجبهة الثقافية خلال حقبة الحرب الباردة.
بعد عامين من اندلاع الحرب العالمية الثانية وفي أعقاب ضرب الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر 1941، بادرت الولايات المتحدة الى إنشاء “مكتب الخدمات الإستراتيجية” من عناصر ذات مهارات تدريبية عالية، مهمته اكتشاف الخطر قبل وقوعه. كان كل عضو من أعضاء هذا المكتب يحمل حقيبة صغيرة فيها بندقية قصيرة وعدد من القنابل اليدوية وبعض العملات الذهبية وحبة دواء، وكانت المهمة تنفيذ عمليات قذرة.
    بعد انتهاء الحرب ألغى الرئيس ترومان المكتب المذكور بزعم أنه لا يريد تشكيلا شبيها بالغستابو الألماني، وسرعان ما تغيرت الرؤية بعد هزيمة النازية – الفاشية، اذ انفتح الصراع على اتجاهات جديدة بنشوء معسكر آخر ضمّ دول شرق أوربا التي حررها الجيش الأحمر من الإحتلال النازي... في 1947 تبلور “مشروع مارشال” الذي يتلخص في تقديم مساعدات اقتصادية الى بلدان اوربا الغربية وخاصة الدول التي تعاني من أزمة اقتصادية حتى لا تسقط في يد الأحزاب الشيوعية (ايطاليا، فرنسا، اليونان). وفي مقابل ذلك أنشأ السوفيت “الكومنفورم” بديلا عن “الكومنترن” التي حلّت في 1941، ثم خطت الحكومة الأمريكية خطوة أخرى عندما أعلن ترومان في يناير 1949 برنامج (النقطة الرابعة) الذي يقوم على دعم الأمم المتحدة والإصلاح الاقتصادي على أساس مبادئ الاقتصاد الحر وتقوية الدول التي تقف ضد الشيوعية.. ولأن عدوها الجديد يملك امكانات وخبرات في المجال الثقافي وشبكة من المثقفين المنخرطين في الحركة الثورية العالمية وحركات السلام، اتجهت السياسة الأمريكية الى تركيز ضرباتها في الجبهة الثقافية بما تشمله من أفكار وفنون وآداب وعلوم وكل ما يتعلق بالمقروء والمسموع وتقديم النموذج الأمريكي في الحرية وطريقة الحياة... في يوليو 1947 أنشأت الولايات المتحدة جهاز المخابرات المركزية متكونا من بعض أعضاء مكتب الخدمات الاستراتيجية ومنهم (ألن دالاس) الذي سبق أن كوّن مكتب الخدمات الخاصة بالتعاون مع (كيرميت روزفلت)، أول أعمال الجهاز تكوين جبهة على الصعيد الثقافي لتحصين العالم ضد الشيوعية، فتشكل كونسرتيوم من مجموعة من الراديكاليين اليساريين الذين تحطم ايمانهم بالشيوعية وأصابهم الإحباط بسبب سياسات ستالين، خاصة اتفاقية عدم الإعتداء مع المانيا الهتلرية 1939، يتلخص عمل المجموعة بنقد الشيوعية بمختلف الوسائط (مقالات، محاضرات عامة ، روايات، أعمال مسرحية، أفلام سينمائية ، ..). يقوم بهذه النشاطات شيوعيون منشقون لذا فإن الخطاب أكثر اقناعا وتأثيرا من خطاب العناصر اليمينية المعروفة ... افتتح السوفيت مركزا ثقافيا في برلين في تماس مع الوجود الأمريكي هناك لبناء ثقافة جديدة معادية للنازية والفاشية، حيث أعيد اعداد اوبرا ريجوليتو بصياغة معادية للفاشية على المسرح الألماني ومنع عرض مسرحية شكسبير (يوليوس قيصر) لأنها تمجد الدكتاتورية وعرضت مسرحية تولستوي (الجثة الحية) لأنها تخدم أهدافا غير رأسمالية.. وردا على ذلك اسرع الأمريكيون في افتتاح مراكز ثقافية في عدة بلدان من العالم، لتقديم الثقافة الأمريكية في عروض سينمائية وحفلات موسيقية ومعارض فنية ومحاضرات وارسال فرق الجاز لتقديم صورة مغايرة عن العنصرية المتفشية في المجتمع الأمريكي آنذاك. حصل الجهاز في العام 1949 على حق انفاق الأموال لتمويل نشاطاته دون تقديم بيانات عن أوجه الصرف كي لا يترك مستندا يدلّ على دور الحكومة، وباكورة أعماله في داخل الولايات المتحدة هي كشف الشيوعيين والمتعاطفين معهم وتعريتهم باختلاق شائعات وأفكار مضللة عنهم ومنهم مارلون براندو وشارلي شابلن.
 
صراع في برلين
وفي المانيا أعيد تشكيل اوركسترا برلين ليكون حصنا ضد الثقافة السوفيتية بما تقدمه من معزوفات وأعمال خارج القوالب الموسيقية السائدة. كان هناك نوع من التفاهم بين الوكالة والمثقفين المنشقين والمهاجرين لكي يخوضوا الحرب الثقافية ضد الشيوعية. كتب المؤرخ (آرثر شيلسنجر): لم يكن نفوذ الوكالة وعملها دائما شريرا أو رجعيا، وقيادتها كانت مستنيرة سياسيا وشديدة الذكاء، دون أن يكترث لأعمال الوكالة في اسقاط حكومة مصدق في ايران وآربنز في غواتيمالا 1954 وعملية خليج الخنازير وبرنامج فونيكس في فيتنام وتجسسها على عشرات آلاف الأمريكيين لكنها استطاعت أن تقدم نفسها كوعاء ذهبي لليبرالية... برز (مايكل جوسلسون) وهو ضابط أمريكي كان يتكلم أربع لغات بطلاقة لذا يعتبر ثروة لا تقدر بثمن بالنسبة للأمريكان وهو ابن مهاجر من روسيا بعد ثورة 1917، التحق بالجيش الأمريكي في 1943 وبعد ثلاث سنوات تسرح ليقدم خدماته الى سلطة الإحتلال في برلين للمساعدة في اللجان التحقيقية، كما عيّن نيكولاس نابوكوف وهو ابن عم الروائي الروسي المهاجر فلاديمير نابوكوف وكان يحتفظ بعلاقات واسعة مع الأدباء والكتاب والفنانين وفي عام 1945 التحق بقسم الشؤون المعنوية بصفته موسيقيا، كانت مهمته استئصال الروح النازية في الموسيقى الألمانية. وهكذا أصبح جوسلسون ونابوكوف ثنائيا متجانسا الى حدٍ كبير، حاولا استقطاب الكفاءات الألمانية ممن كان لهم دور كبير في ظل النظام النازي لاستخدامهم في سياق حملة ضد الشيوعية. كان السوفيت أضعف من الناحية الاقتصادية وليس لديهم قدرة نووية ولكنهم كانوا أكثر حماسا للعمل على الجبهة الثقافية بينما كانت أمريكا ضعيفة الخبرة في الميدان الثقافي. كانت الدعاية السوفيتية تصور أمريكا بمثابة صحراء ثقافية ودولة مصانع اللبان والسيارات الفارهة والعنف والتمييز ضد السود، وسيردّ الامريكان عليهم بارسال مغنين سود لإحياء حفلات غنائية وموسيقية وإحياء حفلات اوبرا بالتنسيق مع أرقى الأكاديميات وتبني برنامج ضخم لطبع ونشر وارسال كتب عن الحياة في امريكا واغراء الناشرين التجاريين والترويج لمساهمات كتاب أوربيين ومن بينهم كتاب اندريه جيد (العودة من الإتحاد السوفيتي) ورواية آرثر كويستلر (ظلام في الظهيرة) .. في يونيو 1947 أعلن جورج مارشال وزير الخارجية الأمريكي مشروعه لإعادة تعمير أوربا من على منصة جامعة هارفارد، خطابه الذي استغرق عشر دقائق كان لحظة فارقة وتحولا في مصير أوربا بعد الحرب. كان من بين الحاضرين في حفل الافتتاح عالم الفيزياء الألماني اللاجئ في الولايات المتحدة  (روبرت اوبنهايمر) والشاعر (ت.س. اليوت) وهما موجودان لتسلم درجات فخرية، بينما كان السوفيت يعقدون اجتماعا للكومنفورم يدعون فيه الى مقاومة النفوذ الأمريكي في اوروبا واستثمار ما تحقق بعد الحرب. كان كثير من الأدباء والفنانين والعلماء منخرطين في عمل منظم لإحلال السلام وتجنب اللجوء للحرب في حل الخلافات بين الأنظمة الاجتماعية المختلفة. في اكتوبر 1948 صدرت مجلة (ديرمونات) في برلين بدعم الجنرال الأمريكي كلاي ورئاسة تحرير ميلفن لاسكي، كانت تطبع في ميونيخ وتنقل جوا عبر طائرات شحن تابعة للحلفاء الى برلين، وتموّل من الإعانات السرية في مشروع مارشال ثم من صناديق الوكالة ثم عن طريق مؤسسة فورد. كانت المجلة نموذجا لاستراتيجية الحرب الباردة، وقد تأكد أن المساعدات المالية ليست كافية، ولا بدّ أن تقترن ببرنامج مكثف للحرب الثقافية. لقد جمعت (ديرمونات) بين لاسكي المقاتل السياسي وجوسلسون رئيس المشتريات ونابوكوف الموسيقي. وفي امريكا ظهر فرع جديد من الدراسات يعرف بالكرملينلوجي للتعرف إلى ما يجري في الكرملين، أسسه (بوهلن) الذي عاش في روسيا وعرف قادتها ودرس أدبيات الثورة والأعمال الكلاسيكية، ليتطور الأمر في ما بعد بتأسيس معاهد وأقسام في الجامعات الأمريكية للشؤون الشيوعية. كان (جورج كينان) أحد صناع السياسة الأمريكية والنافذين في النخبة الأمريكية وهو أيضا أحد آباء المخابرات، فضلا عن كونه دبلوماسيا مثقفا ومهندس مشروع مارشال ومدير تخطيط مجموعة وزارة الخارجية، دافع عن مبدأ التدخل العسكري المباشر في ايطاليا لمنع وصول الشيوعيين الى الحكم.
 
مؤتمر في نيويورك
في أجواء من التوتر والتحضيرات لمواجهة ثقافية عقد مؤتمر في نيويورك في الخامس والعشرين من مارس 1949 برعاية المجلس القومي للعلوم والفنون في فندق والدورف استوريا بمشاركة وفد سوفيتي برئاسة فادييف رئيس اتحاد الأدباء والكتاب وحضور يساري، حوصر المؤتمر بتظاهرات نظمها تحالف يميني من الرابطة الأمريكية ومجموعة من الجمعيات الكاثوليكية والانجيلية، كما تم اختراق الفندق بشبكة اتصالات مكثفة أدارها عملاء الوكالة والمتعاونون معهم. كتب (آرثر ميللر) الذي قبل الدعوة لترؤس احدى جلسات المؤتمر (كل مدخل من مداخل والدورف استوريا يسدّه صف من الراهبات اللائي كنّ يصلين من أجل المشاركين الذين شوّش النشطاء  أذهانهم، وكان عليّ أن أمرّ بين راهبتين راكعتين في الممر، وأنا متجه نحو باب الفندق كان من المحيّر أن يتأمل المرء هذا العالم: عالم الإيماءات والتعبيرات الرمزية). نيكولاس نابوكوف قرر أن يحضر جلسة أدارها الموسيقار السوفيتي شاستاكوفيتش وقد وجّه سؤالا حول ثلاثة موسيقيين غربيين تم حظر أعمالهم في الإتحاد السوفيتي على انها منحازة للرأسمالية ما سبّب الحرج للموسيقار المعروف بإخلاصه للجمال. استمر المؤتمر عدة أيام وقد أرسل (أليوت) و(جون دوس باسوس) برقيات يعارضان فيها انعقاد المؤتمر، وخلال مناقشات المؤتمر ظهر شاب اسمه (نورمان مايلز) يشبه في أدائه (فرانك سيناترا)، أشار الى أن الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة مسؤولتان عن انتهاج سياسة خارجية عدوانية تقلل من فرص التعايش السلمي، وختم خطابه بالقول مادامت هناك رأسمالية ستكون هناك حرب ولن يتحقق السلام الا بتطبيق الإشتراكية وتحقيق المساواة وإن كل ما يفعله الكاتب هو أن يقول الحقيقة كما يراها. بعد أشهر من انعقاد المؤتمر أصبح أيّ مؤيد للمؤتمر أو مشارك فيه متهما بالخيانة. كان هناك اعتقاد لدى كثير من أفراد النخبة الثقافية الأمريكية أنه لولا المقاومة السوفيتية لتمكنت النازية من اخضاع اوربا كلّها وبريطانيا ولتمّ عزل الولايات المتحدة بعيدا عن اوربا. وكان قد تمّ تعيين لجنة مضادة للبرنامج السوفيتي مؤلفة من بنديتو كروتشه، ت.س.أليوت، كارل باسبرز، اندريه مالرو، جان ماريتان، برتراندرسل،ايغور سترافنسكي.. وجنّد شيوعيون سابقون وتروتسكيون لأداء دور في مقاومة النفوذ الشيوعي. في العام 1949 أنشأت بريطانيا (ادارة البحث الإعلامي)  للمساهمة في الحرب الدعائية ضد السوفيت والشيوعية، وبالرغم من اسمها العادي المشوب بالحيادية والاعتدال فإنها كانت بمثابة وزارة سرية للحرب الباردة وكان الكاتب المجري (آرثر كويستلر) واحدا من أهمّ المستشارين لدى الإدارة المذكورة، وكان كتابه (ظلام في الظهيرة) بمثابة ورقة اعتماده لديها ضد الشيوعية، وبصفته مجريا يعرف أكثر من الآخرين أساليب وتقنيات آلة الدعاية السوفيتية قبل مغادرته للولايات المتحدة. وخلافا لسارتر الذي كان معارضا بشدة للمؤسسات الحكومية كوسطاء للحقيقة، كان كويستلر يصرّ على مساعدة نخبة السلطة من أجل القيام بوظيفتها، وعن طريقه أدركت المخابرات ضرورة الإفادة من الشيوعيين السابقين لتبديد الأوهام بصدد الشيوعية وكذلك تعبئة اليساريين غير الشيوعيين في حملة واسعة للإقناع واستخدام رواية جورج اورويل 1984 وكتاب الإله الذي فشل (وهو مجموعة مقالات كتبها شيوعيون سابقون تلخص تجاربهم وتحولهم الى صف العداء للشيوعية وكان يوزع بواسطة أجهزة الحكومة الأمريكية في كافة أنحاء أوربا وبلغات مختلفة) وكتاب الوسيط الحيوي للمؤرخ شيلسنجر، وان الاشتراكية الديمقراطية يمكن أن تكون سندا في الحملة ضد الشيوعية. تأسست منظمة الحرية الثقافية في الولايات المتحدة في العام 1951، صمم هيكل عملها (ميلفن لاسكي) وهو يقوم على تعيين لجنة دولية مكونة من خمسة وعشرين عضوا وخمسة رؤساء فخريين وتقوم بتوجيه الأنشطة لجنة تنفيذية من خمسة أعضاء، يشبه هذا الهيكل التنظيمي جهاز الكومنفورم (مكتب الإعلام الشيوعي). وكما لاحظ أحد المؤرخين أن عمل المنظمة يتسم بالسرّية وإن أعضاءها كانت لهم أسماء مثلما هو معمول في الأحزاب الشيوعية، ومن مهامها اكتساب المتأرجحين بين التيارين وكان هناك اعتقاد أن السوفيت ينفقون أموالا لتنظيم مثقفي اوربا، وكان لابدّ للمنظمة أن تبتكر الوسائل للرد على ذلك التوجه... يقوم مشروع مارشال على قاعدة أن تقوم كل دولة من الدول التي تتلقى المعونات بإيداع مبلغ يعادل المبلغ الممنوح لها من الولايات المتحدة في مصرفها المركزي، وكان الهدف أن يؤدي الدعم المالي دورا مزدوجا يسمح بإنفاق مشترك بين الدولة المعنية والولايات المتحدة باستخدام تلك الإعتمادات معا. الجزء الأكبر من الاعتمادات 95% ملكية قانونية لحكومة الدولة، بينما تكون 5%من الوديعة وتقدر بمائتي مليون دولار ملكا للحكومة الامريكية وهي تحت تصرف الوكالة، قسم منها ينفق في الإنتخابات الأوربية ودعم منظمة الحرية الثقافية. أنشئ الفرع البريطاني لمنظمة الحرية الثقافية في عام 1951، وكانت بدايته مرتبكة بسبب الخلاف بين أعضائها، وبخاصة بين ستيفن سبندر والسكرتير الفخري للمنظمة حتى أصبحت في حالة تفكك. كان كثير من المثقفين البريطانيين مترددين في أن ترتبط أسماؤهم بمنظمة ذات أصول غامضة أو أن للحكومة الأمريكية يدا فيها، يقول أحد موظفي الجمعية البريطانية لحرية الثقافة (كنا نمزح ونحن نتكلم عن ذلك، نأخذ أصدقاءنا الى الغداء وعندما يحاولون أن يدفعوا الحساب نقول لهم :لا، لا، دافعو الضرائب الأمريكان سيدفعون) .. في ابريل 1952 وبإقتراح من نابوكوف أقيم مهرجان فني كبير في باريس ليكون علامة على التعاون الوثيق بين المؤسسات والثقافية الأمريكية والأوربية، وكان اقتراحه أن لا يكون المغزى السياسي والفكري واضحا. رفض سارتر حضور المهرجان معلقا بطريقة حادة أنه ليس معاديا للشيوعية الى هذا الحدّ، ولو كان هناك لغادر المكان، واذا كان هناك إله فشل كما روّجت المخابرات وواجهاتها الثقافية فإن ذلك الحشد وجد إلها آخر ولكن معاديا للشيوعية. لقد أشادت بالمهرجان صحيفة لوفيغارو اليمينية بسبب العلاقات التي تربط رئيس تحريرها بنابوكوف، الا أن الأجواء في باريس ما كانت تتقبل النفوذ الأمريكي بسبب الدور الذي قامت به الصحافة الشيوعية، وتتذكر (ديانا جوسلسون) تلك الأيام التي تموج بالعداء للولايات المتحدة في فرنسا. وبشكل عام فإن المهرجان أسهم في تعقيد علاقات الدعاية الفرنسية الأمريكية أكثر مما هي في السابق.
 
كونسرتيوم لإدارة الحملة
أحد الملامح الرئيسة لجهود الوكالة من أجل كسب الحرب على الصعيد الثقافي تنظيمها الدقيق لشبكة من الجماعات المستقلة ومن (الأصدقاء) في اتحاد غير رسمي هو عبارة عن تحالف مقاولات بين مؤسسات خيرية ومؤسسات تجارية وبين أفراد يعملون مع الوكالة. كان (ألن دالاس) شقيق (جون فوستر دالاس) الذي أصبح وزيرا للخارجية هو الذي أوحى بفكرة الكونسرتيوم، وكان الهدف المعلن استخدام المهارات العديدة والمتنوعة لليهود الشرقيين في المنفى من أجل تطوير برامج تتصدى بنشاط للنفوذ السوفيتي. بعد أشهر من إنشائها نجحت في التحول الى برنامج واسع وقد بلغ عدد أعضائها 412 عضوا من الامريكيين والأوربيين والخبراء المنفيين من اوربا الشرقية. الشعبة المسؤولة عن جمع التبرعات والاعانات لجنة اوربا الحرة، وكان المتحدث باسمها ممثل شاب هو (رونالد ريغان) الذي سيكون له دور في حملة مكارثي. كان استخدام المؤسسات الخيرية أنجع الوسائل لتمرير مبالغ كبيرة من المال لمشروعات الوكالة دون التنبيه الى مصادرها، وكانت مؤسسات فورد وكارنيجي وفارفيلد وروكفلر أكثر المؤسسات عطاءً بين المؤسسات الأمريكية الخيرية حتى قيل أن أي مؤسسة خيرية أو ثقافية لا بدّ أن تكون واجهة للوكالة. وبسبب قربه من البيت الأبيض أصبح (سي.د.جاكسون) هو الشخصية الأكثر شهرة في دائرة النفوذ التي أصبحت تعرف بالحكومة الخفية، كان يجلس مثل ملك شرقي أو حكيم يوناني قديم يتدفق عليه سيل الزائرين يلتمسون الحكمة والمشورة، يأتي اليه ضباط مسلحون بخطط للحرب الأيدلوجية ومن بينها مطبوعات دعائية تلقى فوق الستار الحديدي من بالونات الهليوم، وبوجوده في البيت البيض كسبت (الحرية الثقافية) موطئ قدم في واشنطن باعتبارها المؤسسة الوحيدة التي يمكن أن تصنع تحولا مضادا للشيوعية. كانت اللجنة الأمريكية لمنظمة الحرية الثقافية مؤلفة من (سيدني هوك) الذي كان يعمل مع الوكالة كمستشار متعاقد والمؤرخ (شيلسنجر) وقطب الحرب الباردة (رينولد نيبور) و(نورمان توماس). كانت اللجنة بمثابة سلاح بازوكا صغير في ترسانة امريكا السياسية، إلا أنها كانت تمثل مركز قيادة معاداة الستالينية، وهي تشرف على مجلات كومنتري، نيوليدر، بارتيزان ريفيو. وبينما كانت “بارتيزان ريفيو” توشك على التوقف كتب (سيدني هوك) التماسا الى مساعد وزير المالية لإعفائها من الضرائب. وبدعمها للمجلات المحلية كانت الوكالة تخرق ميثاقها التشريعي الذي كان يحظر دعم المجلات المحلية، إلا أن هناك سببين مقنعين لتجاهل هذا القيد القانوني أولا: أن المجلتين كانتا تقدمان رأس جسر يربط المثقفين الأمريكيين بالأوربيين الذين تجمعهم أرضية العداء للشيوعية، كانت الحياة الثقافية في نيويورك في الثلاثينات تقارن بموسكو، وكانت “بارتيزان ريفيو” المجلة التي أنشأتها جماعة من التروتسكيين بدأت كمطبوعة داخلية خاصة بنادي جون ريد الذي كان يسيطر عليه الشيوعيون، وصنعت لنفسها لغة هادئة تعبر عن الأفكار الماركسية، إلا أن اتفاقية عدم الإعتداء الموقعة في عام 1939 بين المانيا والاتحاد السوفيتي ثم الاغتيال الشنيع لتروتسكي في المكسيك 1941، دفع كثيرا من المثقفين الى تغيير أفكارهم والتوجه الى راديكالية تروتسكية او الى اليمين، وأخيرا وجدوا ضالتهم في الولاء لأمريكا.
شغلت مجلة “انكاونتر” التي صدرت خلال الفترة 1953 - 1990 مكانة هامة في التاريخ الثقافي لحقبة ما بعد الحرب. كانت المجلة تقرأ في بريطانيا وامريكا وآسيا وأفريقيا، وبينما كانت مشوشة وغامضة في الموضوعات الثقافية إلا أنها صامتة وبشكل غريب في القضايا السياسية، بيد أنها كانت مجلة ايديولوجية بوضوح. كانت كل من المخابرات الامريكية والبريطانية تدرسان فكرة تأسيس مجلة جديدة رفيعة المستوى لتشجيع خطاب يساري مغاير لنهج ولغة الكرملين، كما كانت وزارة الخارجية معنية بهذا المشروع لنقل وتوصيل الأفكار المعادية للشيوعية الى المثقفين في آسيا وافريقيا، وستقوم بضمان توزيع عدد معين من أعداد المجلة. كانت (ادارة البحث الإعلامي) تودع الأموال في حساب سري لصالح الجمعية البريطانية لحرية الثقافة وكانت حكومة صاحبة الجلالة تدفع راتب ستيفن سبندر بطريقة غير مباشرة، وقد ظل راتبه ثابتا عند الرقم 2500 جنيه وهو رقم كبير بقياس تلك الأيام، وبحلول 1953 صدرت المجلة فصلية ثقافية اما السياسة فتأتي مع الأدب والفن كجزء من نسيج الثقافة لاجتذاب أكبر عدد من القرّاء ... وبسبب قلة المجلات عالية المستوى في انكلترا، لم يكن ممكنا أن يقابل ظهور “انكاونتر” باللامبالاة وأصبح اسم المجلة على كل لسان ولم يخل منها حفل عشاء .. في أواخر الخمسينات كانت الوكالة تعتبر مجلة “انكاونتر” الصادرة في لندن رايتها، وكان مبدأ الوكالة كما وضعه (توم برادن) أن المنظمات التي تتلقى دعما من الوكالة لا ينبغي أن يكون مطلوبا منها بالضرورة تأييد كل جانب من جوانب السياسة الأمريكية، ربما تعبر عن طيف من اليسار ولكنها ليست منبرا يساريا، فقد كانت تنشر آراء تنقد امريكا ولكنها ليست نقدية في حقيقتها. وبينما كانت المجلة تواصل دورها في فضح الأكاذيب ورفض تسميتها حقائق، إلا أنها لم تكن متحررة من فخ الأيدلوجيا ومن سيكولوجية الحرب الباردة، كان يقال أن مقال أي مجلة يحمل ما يحمل من أفكار وأن الكاتب مسؤول عما يكتبه من أفكار وحجج ولكنها كانت تستبعد مواد لا يرضى عنها الذين يدعمونها في السرّ. كانت يد (مايكل جوسلسون) هي التي رسمت الأغلفة التجريبية الأولى للمجلة، وكان يقرأ ويراجع مواد الأعداد الأولى ويتلقى معلومات مسبقة عن المحتويات من المحررين، كان يوبخهم عند هبوط المستوى ويتملقهم لطرح مقالات أو موضوعات معينة.
لم تتورع “منظمة الحرية الثقافية” عن استخدام مثقفين عملوا لحساب النازية مثل (فون كارايان) و(فورتفانجلر). وقد أشار (جورج كينان) وهو أحد مهندسي استخدام الثقافة في الحرب الباردة (في السنوات الأخيرة ظهر توجه كريه وهو توجه شمولي يحكم على صلاحية الإسهامات الثقافية على ضوء الانحياز السياسي). وهكذا وجد أقطاب الحرب الباردة أنفسهم في تناقض سافر، فبينما يطالبون بالفصل بين الفن والسياسة لكنهم عندما يتعلق الأمر بالشيوعية لا يكونون على استعداد لممارسة ذلك الفصل أو تقبله. وبينما كان يحتفى ببعبع النازية (فورتفانجلر) في الأوساط الثقافية الأمريكية كانوا يسخرون من (برتولد بريخت) على صفحات مجلة ديرمونات الصادرة في برلين ... دعمت الوكالة طبع ونشر الكتب لأن كتابا واحدا يمكن أن يغيّر أفكار وسلوك قارئ بشكل لا يتحقق عن طريق وسيلة أخرى ما يجعل الكتب أهم وسيلة في استراتيجية بعيدة المدى، وذلك عن طريق دعم المطبوعات الأجنبية والناشرين بشكل سري لا يظهر فيه أي أثر لعلاقة واضحة بحكومة الولايات المتحدة، منها على سبيل المثال كتاب (الطبقة الجديدة) من تأليف أحد الشيوعيين اليوغسلاف المنشقين وهو دراسة عن الاوليجارشيات الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، كما عهدت بترجمة قصائد اليوت المعروف بعدائه للشيوعية (الرباعيات الأربع)، وكانت تلقى نسخ منها بالطائرات على الاتحاد السوفيتي. كما دعموا منح الشاعر (عزرا باوند) جائزة بوللنجن للشعر عن عمله (أناشيد بيزا) لأنه يمثل برأيهم قمة الثقافة الراقية، وأثار منحه الجائزة جدلا واسعا ليس لأنه كان نزيل مصحة نفسية ولكنه كان الأمريكي الوحيد المتهم بالخيانة في الحرب العالمية الثانية، فقد كان يقدم برامج من اذاعة موسوليني تتضمن نقدا لاذعا للرئيس روزفلت، وكان يقول أن كتاب “كفاحي” لهتلر تحليل ذكي للتاريخ.. كيف يمكن للفن أن يكون مستقلا من ناحية ومتورطا في السياسة، ولكن يبدو أن الحملة ضد الشيوعية تقتضي تملق ومداهنة النازية - الفاشية.
ولأهمية السينما في الدعاية أدركت هوليوود الحاجة الى تقديم أعمالها بما يتناسب والمزاج السياسي والاجتماعي، فأنتجت أفلاما معادية للبولشفيك في العشرينات والثلاثينات، وخلال الحرب الثانية أنتجت أفلاما تمجد روسيا كحليف مثل “نجم الشمال”، “أيام المجد” “انشودة روسيا”، وهي أفلام تدافع عن الإتحاد السوفيتي الى حدٍ ما، ولكنها انتقلت في الخمسينات الى انتاج أفلام معادية للشيوعية والسوفيت مثل “الكابوس الأحمر” ، “غزو أمريكا”، “كنت شيوعيا” ، ...وحتى الخمسينات لم تكن هوليوود تشغل مكانة لائقة بين صناع السينما لدى الأوربيين. وقد تمثل ذلك في غياب تمثيل دبلوماسي أمريكي أو من صناعة السينما الأمريكية في مهرجان كان 1951 ، بينما أرسل السوفيت نائب وزير السينما الى جانب المخرج بودوفكين الذي قدّم خلاصة عن الإنجازات السوفيتية في السينما ، ما دفع الحكومة الأمريكية الى إعارة اهتمام استثنائي للفن السابع .. بعد وفاة الروائي (جورج اورويل) تم التعاقد مع أرملة الكاتب لإخراج فيلم عن روايته (مزرعة الحيوان) مولته الوكالة وتولت توزيعه في كافة أنحاء العالم، وتم حل مشكلة السيناريو بتغيير النهاية. ففي النص الأصلي لا يمكن التمييز بين الخنازير الشيوعية والرأسمالية، كلهم منجذبون الى بركة العفن ذاتها، أما في الفيلم فيتم تجاهل ذلك التطابق، كما عملوا على توظيف روايته 1984 بما يجعلها في سياق الحملة المعادية للشيوعية، على أن أورويل يهاجم ويشجب مساوئ ومفاسد مختلف الأنظمة التسلطية.
في 1956 حدث التدخل السوفيتي في أحداث المجر ما تسبب بردات فعل لدى كثير من مثقفي أوربا، دان (جان بول سارتر) بشدة تدخل السوفيت وخصّ شيوعيي فرنسا بقدر من الذمّ والطعن، طبعت منظمة الحرية الثقافية آلاف النسخ من بيان سارتر مع بيان البير كامو الذي هدّد بتزعم مقاطعة للأمم المتحدة إن هي فشلت في التصويت لصالح الإنسحاب الفوري للقوات السوفيتية. ويبدو أن ثمة تصدعا في صفوف الشيوعيين واليسار إزاء ذلك الحدث وواجهت اللجنة الوطنية للكتاب برئاسة (لوي اراغون) تحديا لوجودها واستمرارها. وعلى أثر الحدث أخذت منظمة الحرية شكلها وصيغتها، بدت كما لو أنها المنظمة المستقلة الوحيدة التي تعلي من شأن الحرية. كانت المسألة هي صنع مساحة من الحرية التي يمكن أن تزدهر فيها الأعمال الفنية والأدبية والفكرية، ولكنها في المطاف الأخير تخدم هدفا سياسيا معينا. إحدى النتائج المتحصلة عن الأزمة المجرية هي تكوين اوركسترا المجر السيمفوني بفضل منحة مالية قدرها 70000 دولار، صارت الأوركسترا بؤرة الصراع الثقافي ضد السوفيت... وفي غمرة الأحداث وبعد عام تقريبا أطلق السوفيت في اكتوبر 1957 سبوتنك – 1 الذي كان يزن أقل من 200 رطل، كان حدثا علميا وثقافيا باهرا أسهم في تفريغ الحملة الصاخبة بسبب أحداث المجر، وقد أثار ذلك الحدث العلمي رد فعل داخل الولايات المتحدة، حاولوا بعد شهر اطلاق قمرٍ أصغر حجما ولكنه سقط على الأرض على مرأى من كاميرات العالم، كان طعم الهزيمة مرا.
من بين المجلات التي أصدرتها المنظمة مجلة (حوار) باللغة العربية في 1962 وقد رأس تحريرها توفيق صايغ، وعلى صفحات عددها الأول مقابلة مع ت.س.اليوت ومقال سيلوني يدعو فيه الى استقلالية الكاتب واستقلالية الفن. كما صدرت مجلة “ترانزشين” في اوغندا، وفي لندن صدرت مجلة “سنسرشب” في عام 1964، ودخلت منظمة الحرية الثقافية في الترتيبات الجديدة مع (بارتيزان ريفيو) و(نيوليدر ) للتعاون مع المنظمة، والذي تمثل في مطبوعات مشتركة واتفاقات تحريرية وتبادل المعلومات والمعارف.
لقد ارتبط عشرات المثقفين الغربيين بالوكالة عبر حبل (الذهب) السرّي وهم لا يستطيعون مقاومة اغراء الكسب غير المشروع، عندما كان المثقفون الزائرون الى نيويورك يحظون بكرم باذخ، حفلات فخمة وطعام باهظ الثمن وأشياء أخرى، فضلا عما يتمتعون به في فيللا بيللوني في بيلاجيو شمال ايطاليا الممنوحة لمؤسسة روكفلر وفي روما فندق انكلترا وفندق غراند، وفي لندن فندق كونوت، وفي باريس الجناح الملكي من فندق بالتيمور.
في عام 1962 وبعد أشهر من بناء سور برلين تلقى (نيكولاس نابوكوف) دعوة من (فيلي براندت) عمدة برلين الغربية حينها ليكون مستشارا للشؤون الدولية. كان الأمريكيون يمولون براندت وكذلك البرنامج الثقافي للمدينة، وكانت برلين الغربية قد فقدت توهجها الكوزموبوليتاني ولذا كان الوقت ملائما لإعادة استثمارها في اللعبة الثقافية لصالح الوكالة.
اعتبارا من العام 1964 فكّر (مايكل جوسلسون) أن يوجّه دفة عمل منظمة الحرية الثقافية بعيدا عن المفاجآت المنتظرة، فكّر أن يغير الاسم أو قطع الصلة المالية مع الوكالة ليحلّ محلها تمويل من مؤسسة فورد، وقبل كل شيء حاول ان يوجه عمل المنظمة بعيدا عن الحرب الباردة أو أن تكون أداة في يد حكومة الولايات المتحدة. وبالرغم أن علاقة مجلة (انكاونتر) بالوكالة لم تكن بعيدة إلا أن هناك من حاول أن ينفي ذلك، في بيان موقع من كريستول وستيفن سبندر وميلفن لاسكي نشر في مايو 1966 أشاروا فيه الى أننا (لا نعرف عن أية تبرعات غير مباشرة فنحن سادة أنفسنا ولسنا جزءا من دعاية أحد، كانت مؤسسات تمويل خاصة تتولى الإنفاق على نشاطات منظمة الحرية الثقافية واصدار المجلات ومنها مؤسسات فارفيلد وروكفلر وفورد). وفي العام نفسه نشرت مجلة “رامباراتس” تحقيقات عن العمليات السرية للوكالة وشبكة المنظمات الوهمية التي تدعمها، وما كشفت عنه المجلة انتقل الى الصحف القومية ما جعل (سبندر) الذي كان لا يزال في الولايات المتحدة يدخل في دوامة ويبذل جوسلسون ولاسكي جهودا لتهدئته وكذلك كان حال أشعيا برلين عندما تكشفت علاقة المجلة بالوكالة كان يتحدث عن المجلة بازدراء وهاجم جوسلسون ولاسكي لأنهما عرّضا سمعة أشخاص محترمين للشبهة. وفي 1967 تكشفت علاقة المخابرات الأمريكية بمنظمة الحرية الثقافية وتمويلها أنشطتها عبر مؤسسات خاصة واعترفت الجمعية العمومية للمنظمة بدور الوكالة كما أن قدامى العاملين فيها (جوسلسون، لاسكي، نابوكوف) يدركون حقيقة الأمر. كتب (جاياراكاش نارايان) رئيس الفرع الهندي للمنظمة (لا أستطيع أن أتصور كيف لشخص أن يؤمن بالحرية والمجتمع المفتوح والتطابق الأخلاقي بين الوسائل والغايات كيف لهذا أن يعتبر قبول معونات وتبرعات من مؤسسة للتجسس العالمي أمرا مقبولا).. أصبح واضحا فساد الصفقة التي أبرمها المثقفون وأنه لا يمكن أن تكون في صالح الفن والأدب ولا في صالح البشرية. إن العملية التي اندفع مقاتلو الحرب الباردة لكي يجعلوها مشروعة قوّضها افتقارها للإخلاص والصدق، والحرية التي تبجحوا بها كانت عرضة للشبهات، وفي سعيهم نحو فكرة مطلقة عن الحرية انتهى بهم المطاف الى تقديم ايدلوجيا أخرى ...ظلّ (ميلفن لاسكي) رئيسا لتحرير (انكاونتر) حتى العام 1991 حيث توقفت. وفي ذلك الوقت كان قليلون هم الذين يستطيعون تقديم شهادة ايجابية عنها، كانت تبدو صورة هزلية لبداياتها، أصبحت مكرسة للتجارة بالحرب الباردة، وبذل لاسكي قصارى جهده ليحتفظ بالبقية الباقية من المجموعة القديمة ونظّم لقاءً أخيرا في برلين 1992 احتفالا بنهاية الحرب الباردة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 من دفع للزمار الحرب الباردة االثقافية للباحثة البريطانية فرنسيس ستونر سوندرز، ترجمة طلعت الشايب، مراجعة عاصم الدسوقي، المشروع القومي للترجمة، 2009.