أيار 17
 
مقدمة القراءة
ثمة خلط يكاد لا تستبان منه القسمات بوضوح، يحضر بقوة في طريقة استحضار مفهومي (الدراسات الثقافية) و(التاريخ الثقافي)، حيث المسعى نحو البحث في الفجوة القائمة بين الماضي والحاضر. الدراسات الثقافية ينصب اهتمامها في طريقة تشكل الوعي المعاصر(1) فيما ينهمّ التاريخ الثقافي في البحث عن آثار الماضي وتأثيرات التاريخ في تشكل الوسيط البيئي الذي أفرز التفاصيل المتعلقة بالواقعة حيث الحدث كما كان، فيما تتمايز قسمات المعاصر بناء على طريقة الوعي بالمعنى وطريقة تسلله في الذاكرة الثقافية، والطريقة التي يتم التعاطي بواسطتها معه في الواقع المعاصر المعاش.  فجوة هائلة بين الذي كان، وبين ما هو قائم ومتداول وموجود ومتفاعل في صلب الواقع الاجتماعي والثقافي الراهن.
قد يتم استدراجنا نحو التركيز على الماضي من أجل العمل على تفسير وتحليل الحاضر. وهذا هو المقوم الأكثر حضورا الذي يقوم عليه إغراء التاريخ. لكن التداعيات التي تفرضها أحوال المعاصر والتشابكات والتعقيدات التي تقوم عليها الحياة الراهنة، تجعل من أشد المتحصلين على الدربة والحنكة المعرفية، وقد  وقعوا في شراك تأثيرات المعاصر على حساب الواقعة التاريخية، تلك الأخيرة التي تبقى متفاعلة بناء على الشروط الخاصة التي تحكمها. وتتبدى المفارقة في أقصاها حين يتنادى الجميع قائلا: أنه لا يمكن محاكمة الماضي بعقل الراهن(2) باعتبار محاولة النأي عن تاثيرات الإسقاط Projection، وتجنب حضور المفارقة التاريخية The fallacy of anachronism  إلا أن غواية التاريخ سرعان ما تتسلل في صلب المعاصر، فارضة عليها شروحاتها وتفسيراتها وتحيازاتها واختزالاتها بل وتقمصاتها(3).
منهجية القراءة
تسعى القراءة نحو الإفادة من مقولة  Raymond Williams حول طريقة النظر إلى الحاضر والتي يعمد إلى وضعها في تقسيم ثلاثي يقوم على: المترسب  Residual والذي يتمثل في ما تم وراثته من الماضي ولكن تأثيراته تبقى محدودة على صعيد الراهن. والمهيمن  Dominant وهو الحضور الطاغي للتشكيلات التي تحرك الراهن . والناشئ  Emergent حيث التكوينات في طور التفاعل، لكن تأثيرها الفاعل في الراهن يبقى محدودا وغير واضح(4). القراءة هنا تسعى إلى قلب العلاقة في طريقة التعاطي مع الواقعة التاريخية؛ فبدلا من الانهمام وتوجيه التركيز نحو التاريخ الثقافي، سيكون التوجه نحو قراءة الواقعة التاريخية (ثورة العشرين) بناء على موجهات منهجية الدراسات الثقافية  Cultural Studies، انطلاقا من إمعان النظر في  موجهات وتفاعلات الحاضر العراقي، من خلال الاستناد إلى المقوّم المنهجي والمتمثل في العناصر الثلاثة (المترسب، المهيمن، الناشئ)  التي سبق ذكرها.
المترسب في الحاضر العراقي ينطوي على المزيد من ارث الماضي، حيث مشروع الدولة الوطنية الذي أسس له المستعمر البريطاني، وظهور المؤسسات ونشأتها وظهور النخبة السياسية الحاكمة (ضباط هاشميون، رجال إقطاع) التي تولت حكم البلاد طيلة العهد الملكي، سعيا نحو سلسلة الانقلابات العسكرية، مرورا بالشرعية الثورية وتقمصاتها الآيديولوجية . وما نجم عن كل هذا من أحوال وأهوال وقمع وتنكيل جراء الصراع على السلطة، حتى  لم يخرج من كان على رأس السلطة برأسه سالما سوى الرئيس (عبد الرحمن عارف) فيما تمت الإطاحة بالرئيس (أحمد حسن البكر) بطريقة لا تخلو من إذلال. شهوة الملك ولوثة السطوة والسيطرة تبقى مترسبة في العقل السياسي العراقي على صعيد الحاضر الراهني. لكن هذا الحضور يبقى في الاطار النخبوي المحدود. حتى أن السؤال الأكثر تداولا في الحاضر العراقي راح يدور في فلك  المقارنة بين الطاغية المتسلط المتجبر الذي حكم العراق عبر منظومة العائلة والقرابة، والراهن  من السياسيين الذين اعتاشوا على معارضة النظام السابق، فيما عملوا على تقديم الخدمة المجانية  للسابق عبر الأداء السيئ القائم على الحزبية والمحاصصة والفساد الإداري وتشريع اللصوصية والفوضى التي راحت تضرب أطنابها في البلاد، فكان الافصاح المخيب بطريقة شديدة الفجاجة عن أوضاع الفشل الذريع في إدارة الدولة المهيمن في الحاضر العراقي الذي يحرك الراهن، إنما يقوم على سؤال الهوية، بعد أن عقدت النخبة السياسية أواصر علاقتها مع مشروع السلطة بناء على المحاصصة الطائفية، وجعلت من مشروع الدولة وفكرة الاستقلال الذي نادى به ثوار العشرين مجرد شعارات مفرغة من المحتوى الأصيل والعميق، حتى غاب مفهوم الوطن  في الراهن الذي يعيشه العراقيون في ظل الاحترابات التي انشغل بها زعماء الطوائف الذين راحوا يعلونها على الملأ ودون أن يرف لهم جفن (امنحني حصتي وافعل ما تشاء). فيما راح الشعب يتلظى من أهوال الاهمال والبطالة والعوز والفقر وانعدام الخدمات وفشل الدولة المقيم . السؤال هنا يقوم على: كيف يستقيم الحديث عن ثورة العشرين التي مهدت لتبلور فكرة الوطن العراقي المعاصر، فيما يكشف الحاضر عن فشل الدولة، وبالتالي فإن السؤال الفاعل في الراهن العراقي إنما يقوم على (سؤال الوطن؟!)، الذي راح يعاني من سوء الإنشاء وسوء الاستعمال، فيما تداخلت المعاني فيه، حتى لم يعد لهذه المفردة من معنى في ظل هيمنة الصراعات الفرعية على حساب المركزي من القضايا. فالمهيمن على الراهن الحاضر، بات يقوم على تركيز النخبة السياسية للحصول على المزيد من الامتيازات وتوسيع المواقع وتركيز التحالفات، والعمل على جعل الموقع السياسي وسيلة للارتزاق ونبيل الحظوة والمكانة. ولعل اللافت في الأمر أن هذه النخبة لم تعد مكتفية بما تحصلت عليه، بقدر ما صار التطلع نحو تكريس الحضور عبر توسيع مجال التحالف بين المكونات الحزبية والقوى السياسية المختلفة، ليصار إلى ترك البلاد نهبا لأحوال الفشل، حتى لم تعد الحكومات المتعاقبة التي تولت شؤون إدارة الحكم والسياسة في البلاد قادرة على انجاز مشروع خدمي واحد لصالح الشعب، بعد أن استغرقت النخبة السياسية في جعل الدولة بمثابة الوسيلة التي يتم من خلالها توطيد المراكز وتوسيع المنافع الشخصية.
الناشئ في الحاضر العراقي ينطوي على المزيد من التفاعلات المحدودة وغير الواضحة، التي لا تزيد في حضورها على الأحلام المهيضة الجناح، حيث حلم الدولة المدنية المستندة إلى الدستور والقانون والهيئات التشريعية وفصل السلطات (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، والتي غدت مادة للتلاعب ومجالا لتوزيع المآرب والمغانم، بعد أن تسيدت المحاصصة الطائفية على الواقع العراقي. فيما تغولت مؤسسات الطائفة والعشيرة والحزب، تلك التي راحت تتوجه نحو تشريع حضورها من خلال ارتهان المؤسسة الديمقراطية، والعمل على إعادة إنتاج المزيد من النفوذ والقوة والمصالح، بإزاء الدواء المرير لفكرة الوطن والمواطنة.
في الحاضر العراقي ظهرت ملامح التطلع نحو تفعيل مؤسسات المجتمع المدني، والإيمان المطلق بالتعددية الحزبية، والتأكيد على حرية التعبير وتعزيز مسار فكرة المواطنة والمشاركة الايجابية والشفافية، ألا أن الالتباس والغموض راح يفرد بقلوعه على جلّ هذه المسميات المفرغة من محتواها، بعد أن تمكنت مؤسسة السلطة (التنفيذية، التشريعية، القضائية) من عقد أواصر التحالف والعمل على رسم معالم نموذج (الديمقراطية الريعي)، حيث التمثل الفاضح لثقافة الغنيمة والعمل على استحضار ثقافة (الملك العضوض).
المشتركات الممكنة
ما هي المشتركات الممكنة بين الماضي والمعاصر؟ وكيف يمكن الوثوق بهذا الحبل الوثيق بين الماضي والحاضر؟ فيما الانفصالات لا تلبث حاضرة في صلب العلاقة القائمة بين الطرفين(5). قد يتم استحضار وحدة المكان، العلاقة السلالية بين الأجداد والأحفاد، مشغلات مثل؛ (الهوية، الذاكرة، الإرث، النسب، المجد والفخر، الوصمة والعار). لكن خصوصيات الأجيال تبقى فاعلة في صلب السياق الذي يميز لحظة تاريخية بعينها. فما تفاعل خلال العام 1920 على سبيل المثال لا الحصر، لا يمكن وتحت أية ذريعة أن يتساوى وما يحدث في العام 2020.  هكذا يقول المنطق وهذا ما يستند إليه الواقع وهذا ما يفصح به الزمان وتجلياته، الأمر هنا لا يقوم على الفاصل الزمني باعتبار الأمد الطويل (مائة عام) وتعاقب الأجيال والأحوال والأهوال، بقدر ما يستند الأمر إلى فاعلية اللحظة التي تتشكل عليها الواقعة. لحظة قد تكون طريقا إلى عقد أواصر علاقة متينة مع هذا الطرف أو ذاك، أو يتلبسها سوء الفهم لتكون مسارا لإرث من العداوة التي لا تعرف الانقطاع.
نحن بإزاء لحظة تأسيسية في تاريخ العراق المعاصر، تتمثل في ثورة العشرين. السؤال المركزي هنا يتمثل في: من كان يفكر في هذه (اللحظة التاسيسية)؟! رجل الثورة الذي تفاعل في خضم تفاصيلها ومشغلاتها ونتائجها وعواقبها، أم الشخص الذي جاء في أعقاب تداول الأجيال للواقعة ليضع عليها وعيه ومدركاته والسياق الذي يعيش فيه، ليعمل على إلباس الواقعة القماشة التي يراها هو من زاويته الخاصة(6)؟! ولعل السؤال الأهم يبقى عالقا في مجال الدراسات الثقافية إنما يقوم على الطريقة التي يتفاعل فيها معنى ثورة العشرين في الذاكرة والثقافة العراقية المعاصرة. هذا مع أهمية أن التاريخي يحضر وبكل قوة في ترسيم معالم هذا المعنى، لكن الفاصلة التي تتوقف عندها القراءة إنما تنطوي على إشكالية رئيسة تقوم على تمييز مدى العلاقة القائمة بين؛ (الماضي) و(الحاضر). إذ تبقى العلاقة القائمة بين الطرفين يشوبها المزيد من الانقطاعات والتهويمات والمبالغات وسوء الإنشاء أحيانا وسوء الفهم في أحايين كثيرة وعديدة؟ إذ يبقى الالتباس سيد الموقف في طريقة التمييز بين (الماضي) و(الحاضر)(7)، لا سيما حين يكون التطلع نحو وضع الحدود الفاصلة بين الطرفين، فيما يكون لتسرب المعاني واقحامات المعنى حضورها الفاعل وسط هذه العلاقة، تلك التي لا تخلو من التأثير المباشر للتصورات والرؤى  والرهانات والإرادات والتحديات، والآثار التي تحدثها طريقة التعاطي مع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتفاعلات التي تفرزها طبيعة العلاقات التي يفرزها الواقع، والأثر المباشر الذي يتركه على الفرد والجماعات في بث المعنى وطريقة تلقيه واستقباله، وبالتالي تمثله والانخراط في تجلياته.
 المعاصر الذي يقرأ الحدث بعد مائة عام يمكّنه موقعه من تمييز طريقة تفاعل نظام القيم داخل الوسيط العراقي خلال واقعة ثورة العشرين، حيث منظومة الثائر الذي استحضر منظومة القيم وكيف راح يتمثلها في موقف شديد الصراحة، غير قابل للالتباس أو التمويه، حيث الرفض لهذا المستعمر الذي جاء بقوته المفرطة كي يجثم على مساحته الخاصة به حيث (المعرفة)(8). فيما المنتفع جعل من واقعة العشرين مجرد (حدث) يمكن من خلاله الانسلال في الوسيط التفاعلي العراقي لينال من خلاله جني الثمار والفوائد واحتلال الموقع الذي هيمن على المجمل من تطلعاته الشخصية والفردية.
 
 القطائع والوشائج
 الحديث عن التمييز بين الماضي والحاضر، لا يعني أن ثمة قطيعة تعتور العلاقة القائمة بين الطرفين، فلا حاضر من دون ماض بطبيعة الحال. فالحاضر لا يمكن أن يكون نبتا شيطانيا يظهر إلى الوجود دون تأسيس على هذا الماضي الذي يشكل دالة الحضور والتفعيل والتأسيس للسياقات والمدركات والمعاني والدلالات التي يقوم عليها الخزين المعرفي الإنساني(9). حيث تشكلات الذاكرة الثقافية، تلك التي تمثل الذائقة والحاسة الإنسانية التي يتم من خلالها ترسم أحوال المعايير والأحكام  والاشتراطات والاحتكامات الأكثر تداولا في الحياة الإنسانية، تلك التي يتم من خلالها تمييز هذه الجماعة عن الأخرى .
الواقع أن الحاضر الذي نعيش راهنه ما هو إلا نتاج الماضي، حيث الحضور الطاغي لهذا الأخير باعتباره الأصل الذي تستند إليه مجمل الفاعليات التي أثمر عنها ولادة المعاصر، علاقة جدلية غير قابلة للفصل والتقطيع والعزل. الأهم فيها أنها لا تقوم على أحوال التواصل (الذي يشكل أصلا فيها) بقدر ما يستند إلى أهمية تمييز أحوال الخفاء والتجلي لهذا الماضي الذي يغيب في خضم تفاصيل الحياة ومشغلاتها، لكن ثقل الماضي سرعان ما يتبدى على حين غرّة في لحظات من الحاضر(10)، حتى يطبعه بطابعه الخاص، ليتحول هذا الماضي إلى ثقل وأحيانا إلى أغلال من العسير الإفلات من قبضته الشديدة. وإذا كان للنجاح آباء كثر، وما يمكن أن تتحصل عليه القيمة والمثل الأعلى من إدعاء الجميع بالانتساب إليها. فإن نموذج (ثورة العشرين) ولما لها من رأسمال رمزي في الواقع العراقي وثقل وحضور في الذاكرة الثقافية العراقية، أضحت بمثابة الميدان الواسع الذي يتنافح الجميع عنه حتى صار الجميع يدعي وصلا بليلى، وهكذا تعددت التفسيرات والتأويلات بحق هذه الواقعة التاريخية(11)، وصار المسعى نحو الباسها الثوب الذي يناسب هذا التيار أو الاتجاه: الماركسي يركز ناظريه في التناقضات التي تلبست أحوال أنماط وعلاقات الإنتاج، وكيف آلت الأمور نحو انتفاض الجموع الفلاحية ضد القوى الاستعمارية وحلفائهم من القوى الاقطاعية والرجعية. والقومي لم يتردد لحظة من استدعاء رموز البسالة والبطولة الكامنة في الشخصية العراقية، والعمل على استنهاض الجهود لمقارعة المحتل البريطاني، فيما توجه الإسلامي نحو تأكيد الدور الكبير والمساهمة الجادة لرجال الدين في حشد الطاقات الروحية عبر استدعاء مفهوم الجهاد نحو مقارعة المستعمر.
 
التزامن والتعاقب
اللافت في الأمر أن القوى التي تعززت مصالحها وتنامت الفوائد التي جنتها وتعززت المواقع التي تحصلت عليها، سعت وبكل ما لديها للتعاطي مع واقعة الثورة بكل أريحية وهدوء يثير العجب. حيث (الحدث،الانتفاضة، الواقعة، الثورة)، تلك التي لا تنفك تثير الشجن والعواطف والحماس والانفعال لدى جميع الأطراف، حيث الإشارة الباردة والتي لا تتخطى حدود التعاقب في ترسيم معالم الحدث. الأهم في كل هذا ينطوي على طريقة الكشف عن التحيزات التي يثيرها الماضي في صلب الحاضر، حيث أحوال انتشار القيم والمعايير وما يمكن أن تفرزه على طريقة التفاعل الاجتماعي داخل الفضاء الثقافي العراقي.
ثورة العشرين، هل بوصفها الحدث البطولي الذي ميز الفعل الإنساني للفرد العراقي في سياق تاريخي شديد الخصوصية؟ هل هي التعبير عن الموقف الوطني حيث المناداة بالاستقلال أو الموت الزؤام؟ هل هي الانتفاضة التي قامت على ردة الفعل المباشر إزاء أخطاء الضباط البريطانيين وتهورهم وتعاليهم وغرور القوة التي استبد بعقولهم؟ هل هي التفاعل المستند إلى قيم الرجولة والنخوة واستحضار المجمل من القيم والمعايير التي ميزت المجتمع العراقي؟ هل هي الورطة التي جعلت من الفدائي الذي قارع الجيش البريطاني يتنادى صائحا (وجوها وذبوها علينه) وهو يقصد أن أفندية بغداد قد رفعوا الشعارات المنادية بالثورة، فيما تركوا مهمة العمليات العسكرية لينهض بها فلاحو الفرات الأوسط؟ هل هي التمثيل لأحوال الإفراط في التناخي ورفع الشعارات والمقاومة بمجرد الصراخ والهتاف من واقع (يسقط المطر في الشتاء؟!)
تداعي أسئلة من هذا النوع لا يلغي البتة أن الماضي يشكل الأصل الذي يقوم عليه التاريخ. ومن هذا فإن هذا التعدد الذي يحاول تقديم مقاربة لأحوال التنوع في المواقف، إنما يعبر عن أحوال التفاعلات التي أنتجها الواقع العراقي بدءا من العام 1920 وصولا إلى لحظة 2020. وبالطبع أن مدار التفعيل لا يمكن أن يتوقف عند رقم بعينه أو سنة يمكن تشخيصها، بقدر ما يكون التطلع نحو تمييز المفارق التاريخي الذي يعن على الدارس والباحث، باعتبار المسعى نحو وضع نقطة دالة، يمكن من خلالها الانطلاق في الاستدلال المنهجي، والعمل على وضع خطاطة سردية يتم من خلالها استبيان ملامح العلاقات الفاعلة في الوسيط الثقافي العراقي إن كان على صعيد طريقة إنتاج المعنى، أو مستويات استقبال الأفكار، أو مسارات التصور السائدة(12).
 
المركزي والهامشي
التاريخ في أبسط تعريف إجرائي ممكن، إنما هو تمثيل لطريقة الوعي بالماضي من خلال الاعتماد على المنهجية العلمية الصارمة. ثورة العشرين واقعة يتم التعبير عنها بدلالة الاسم، وهي بلا شك مغرقة في الماضي حيث الفاصل الزمني الذي تقوم عليه، حيث الاستناد إلى هذه المائة عام! ومن هنا يتناسل المزيد من الأسئلة حول هذه المائة عام من الماضي بكل أحداثه العارضة والمقصودة، والمؤثرة والفاعلة، والمركزية والهامشية، والفرعية والرئيسة، والمؤكدة والمختلف عليها. ومن هذا فإن السؤال الرئيس إنما يقوم على الطريقة التي يتم التعاطي بها مع هذه الثورة هل بوصفها (معرفة) أم (حدث)؟
 الحديث عن (حدث) لا يعد إغراء للباحث والدارس، فما أكثر الأحداث التي مرت في تاريخ العراق والتي تفوق ثورة العشرين في أهميتها وقوة تأثيرها على الواقع العراقي. الأمر هنا لا يقوم على التطلع نحو عقد مقارنات بين قوة هذا الحدث بإزاء حدث آخر. وإلا فإن البعض يرى في ثورة العشرين بوصفها مجرد ردة فعل صادرة عن مجموعة من المنتفضين الذين رغبوا بالخلاص من ربقة الضريبة التي بالغ البريطانيون في طريقة استحصالها. فيما جعل البعض الآخر من هذا الحدث بمثابة الإعاقة التي ضربت مشروع الحداثة التي جاء به المستعمر البريطاني في الصميم، مبررين ذلك بأحوال الازدهار الذي نعمت به قرى وقصبات وبعض مدن العراق تحت السيطرة البريطانية، وكيف حل المَحْل والجدب والانحطاط أحوال العراق في أعقاب الثورة ؟!
ما يأتي بثورة العشرين بعد المائة عام، ويجدد فيها الحضور إنما ينطوي على معطى (المعرفة) المستل من معنى التاريخ، وإلا ما قيمة التاريخ إن لم يكن (معنى، إدراك، تصور، رؤية، مفهوم، هوية، سلطة،رهان، إرادة)، ها نحن الآن في هذ اللحظة الراهنة نكون رهنا بتجليات الحاضر واسباغ هيمنته على الماضي. إنه المسعى نحو الاقتراب من الفكرة التي يطرحها  Williams  Raymondحول هياكل الاحساس  Structure of feeling وما يكتنف طريقة التفاعل مع الحاضر على صعيد (التنشيط، المرونة، الوقتي، المهم)(13). وإلا كيف يمكن أن نفهم الماضي دون أن نفهم الحاضر، الأمر هنا لا يقوم على اسبقيات واولويات بقدر ما ينطوي على طريقة التمثل للمعرفة(14). فإن كنت تنظر بقدسية ومهابة إلى واقعة ثورة العشرين، فهذا لا يعني أن القداسة والمهابة يجب أن تنسحب على الجميع من رصفائك الراهنين الذي يصطفون معك في الحاضر الراهني.
 
الحدود الفاصلة
تستلهم ربيكا كولمان Rebecca Coleman عن رايموند ويليامز مفهوم البنية التحتية للمشاعر infra-structures of feeling سعيا للوقوف على طبيعة المشهد الذي يميز الحاضر الراهني في ظل طريقة إنتاج المعنى والاختلاف في طريقة التواصل الاجتماعي الذي جعل الحاضر مختلفا بطريقة متغوّلة، لا سيما وأن التماس مع الوقت صار أشد التصاقا وتأثيرا أكثر من اي زمن مضى. حيث الحاضر الذي بات يتوسع ويهيمن على كل شيء، فيما راح الماضي يعاني  من الوهن(15). باعتبار ما تعكسه الثورة الرقمية على طبيعة العلاقات الإنسانية، واحوال التبدل السريع الذي راح يهيمن على مجمل التفاعلات الإنسانية، والتأثير المباشر الذي راح ينشر بقلوعه على المفاهيم والمعايير والقيم المتداولة. إنها أحوال الانتشار السريع للمعنى، الذي راح يتبدى بطرق شديدة الاختلاف،  لم تجربها البشرية ولم تستشعرها سابقا. لكن هذا الزخم التقاني وعلى الرغم من ظهور تيار الحتمية التكنولوجية الذي راح المزيد من المنظرين يبشرون به، لا يمكن له أن يطيح بالحس التاريخي، الأمر هنا لا يقوم على صراعية بقدر ما راح يثمر عن المزيد من أحوال التلاقح في مجال المعرفة التاريخية، تلك التي راحت تنهل من هذا التنوع والتسارع والتفاعل حتى صار الاقتراب وشيكا من أحوال المعرفة التاريخية المحايدة(16).
إنها أحوال تفاعل المعرفة التاريخية في الوسيط الرقمي، الذي راح يترك آثاره وبطريقة مباشرة في صميم المعرفة التاريخية، هذه الأخيرة التي راحت تعيش أحوال الافلات من براثن أحوال النظرة الجاهزة والمواقف المسبقة؛ إذ لم يعد الأمر مرهونا بتشابه الأحداث ولم يعد من المقبول الوقوع في شراك المقارنة بين حدث وآخر، والعمل على حث الجهود في ترصد التطابق والاختلاف بين حدثين(17)، بقدر ما راح المسعى يتملى طويلا في قيمة هذا الحدث المراد تحليله، (هو بنفسه)  دون اقحام عوامل أخرى. ومن هذا المعطى فإن القراءة هنا تتوجه نحو دراسة ثورة العشرين انطلاقا من أهمية المسعى نحو تمييز مفاصل هذه الثورة بوصفها (معرفة)، لها آثارها وابعادها وقسماتها على الواقع العراقي، لا سيما بعد مائة عام. بمعنى ماذا تبقى من هذه الثورة في الضمير والوعي العراقي؟ وهل ثمة تواصل لهذه المعرفة في الواقع العراقي؟ باق ومدرك ويمكن تمييزه في الراهن الذي يعيشه جيل الثورة الرقمية؟ وكيف لهذا الجيل أن يتعاطى مع ( الحدث) المتعلق بواقعة الثورة، هل يتم عبر البحث عن الشواهد والقرائن والمصادر التاريخية(18) ومحاولة تمييز ملامح الاقتراب من الذاكرة الثقافية، حيث المدرك الشائع والمتاح والمتداول من الأنماط والعادات والاستجابات والتفاعلات الاجتماعية، بناء على معطيات منهجية الدراسات الثقافية وليس التاريخ الثقافي.
 
الحدث والمعرفة
لا يمكن الركون إلى واحدية النظر حول ثورة العشرين. ( الحدث) الذي تم في سنة 1920، وطريقة التعاطي مع ثورة العشرين (المعرفة) خلال سنة 2020، حيث الاختلاف الذي لم يعد يطال طريقة النظر والتحليل والمصالح والإرادات والرهانات، بقدر ما راح يقف عند مجال (المعنى)، فخلال المائة عام التي مرت على ثورة العشرين بوصفها (الذاكرة) كم من الأفكار والرؤى والتصورات والتيارات والأيديولوجيات مرت عليها، تزامنا وتعاقبا، وظهورا وضمورا. فيما يأتي باحث الراهن المعاصر ليعمل على قراءة العلاقات والمؤثرات والتشكيلات والبنى التي ساهمت في تبلور الحدث، وبالتالي سيره في مجال الواقع، وما أفرزه من نتائج وعواقب ليشكل معرفة لها قسماتها الفارقة(19).
الإشكال الأبرز في طريقة النظر إلى ثورة العشرين، تحيلنا إلى طريقة النظر تلك التي يمكن أن تصدر عن أهل الماضي (الذين عاصروا الحدث عام 1920) وأهل الحاضر (المعاصرين للواقع الراهن حيث العام 2020) الذين يحاولون دأبهم وجهدهم نحو الغور في الماضي والعمل على فحصه وتفكيك خصوصياته وعلاقاته وتجاربه(20). المسعى هنا ينصب نحو أهمية العمل على فهم الإطار التاريخي لمجمل التفاعلات التي عاش في كنفها المجتمع العراقي خلال هذه المائة عام، سعيا نحو تمييز ملامح الفعل الاجتماعي ( ماضيا وحاضرا)، إنه السبر في مجال الزمن وترصد أحوال التغيرات التي طرأت على طبيعة الوعي وترسم أوضاع الذاكرة الثقافية لهذا المجتمع(21).
ما هي الحدود الفاصلة التي تميز العلاقة القائمة بين الماضي والحاضر؟ الماضي الذي تشكل وراح يفرز معانيه وآثاره المباشرة على الواقع، حيث ثورة العشرين التي كان لها الأثر المباشر في إجبار القوة الأعتى في العالم على تغيير مسار خططها السياسية إزاء العراق، لكن زخم الواقعة (الثورة) سرعان ما تم الالتفاف عليها من قبل القوة الاستعمارية (بريطانيا) ورجال النخبة السياسية العراقية الذين تم انتقاؤهم وبعناية شديدة لتدبيج ملامح مشروع الدولة الوطنية التي تأسست عام 1921 عبر إعلان الملكية، والعمل على تكريس صورة الدولة من خلال التركيز على العلم والدستور ومجلس الأمة، ليصار إلى تقديم مبررات (الظرف التاريخي الذي يمر به العراق، الأولويات والضرورات)(22) ليتم اقصاء مادة الثورة والمتمثل في رجالاتها من الواقع السياسي،  لكن هذا الإقصاء لم يكن له أن يتدبر أمر النبذ والتهميش والإبعاد عن الذاكرة الثقافية العراقية، تلك التي لم تنفك تردد على مدى المائة عام سرديات الثورة وبطولاتها وأهازيجها وشعاراتها ورموزها الكبرى.
بقيت ثورة العشرين تتفاعل في مجال الرأسمال الرمزي للمجتمع العراقي حيث الجوهر المدرك والقيمة التي ينطوي عليها المعنى الثقافي حيث وشيجة العلاقة القائمة بين الماضي والحاضر والتي لا تعرف الانقطاع بحكم الجوهر القيمي الذي ينطوي عليه الحدث الذي عبر عن مجمل وجوهر المعرفة القيمية والثقافية للمجتمع العراقي خلال اللحظة التي تم إنشاؤها عام 1920. حدث في الماضي اختصر مجمل المعرفة التاريخية والوعي والجوهر القيمي للمجتمع العراقي. نعم قد يذوي أو يضعف، قد يتم استذكاره سنويا بطريقة متحفية، ربما يتحول إلى فلكلور أو كرنفال سنوي لا ضير. لكن المعطى القيمي الكامن فيه يبقى بمثابة التعبير الأشد حضورا عن هذه الاستمرارية بين الماضي والحاضر. استمرارية لا تعني النكوص والرغبة في العودة إلى الماضي والتغني بالامجاد والارتهان إلى قوة حدث ما، بقدر ما يكون المسعى نحو البحث في مجال التأثير العميق والدال الذي يفرزه مسار العلاقة القائمة بين الماضي والحاضر(23).
 الهوامش:
  1. Jennifer L. Koosed, Robert Seesengood , 2013, Jesse’s Lineage: The Legendary Lives of David, Jesus, and Jesse James, Bloomsbury, New York, p 16
  2. Todd Tremlin, 2006, Minds and Gods: The Cognitive Foundations of Religion, Oxford University Press, p 4.
  3. Amos Morris-Reich, Dirk Rupnow, editors, 2017, Ideas of ‘Race’ in the History of the Humanities Palgrave Macmillan, Switzerland, p 201.
  4. During, op, cit, p. 62.
  5. Wen-chin Ouyang, 2013, Politics of Nostalgia in the Arabic Novel, Edinburgh University Press, p 193.
  6. Irwin C. Lieb, 1991, Past, Present, and Future: A Philosophical Essay about Time, University of Illinois Press, p 129.
  7. Susan Sellers, editor, 2010, The Cambridge Companion to Virginia Woolf, Cambridge University Press, p 70.
  8. Chris Barker, 2005, Cultural Studies: Theory and Practice, SAGE, London, p 198.
  9. Dmitri Nikulin, 2017, The Concept of History, Bloomsbury, London, p 19.
  10. Max Scheler, 2012, Person and Self-Value: Three Essays, DePaul University, Chicago, p 96.
  11. Susan L. Mizruchi, 2014, The Power of Historical Knowledge: Narrating the Past in Hawthorne, James and Dreiser, Princeton University Press, p 50
  12. Joram ten Brink, Joshua Oppenheimer, editors, 2013, Killer Images: Documentary Film, Memory, and the Performance of Violence, Columbia University Press, p 177.
  13. Rebecca Coleman,20 Dec  2017, Theorizing the present: digital media, pre-emergence and infra-structures of feeling, Cultural Studies  Journal , Taylor and Francis Group, Volume 32, nr 4, p 600.
  14. Reinhart Koselleck, 2004, Futures Past: On the Semantics of Historical Time, Columbia University Press, p 111.
  15. Coleman, op cit , p 601.
  16. Diviacco, Paolo, editor, 2014, Collaborative Knowledge in Scientific Research Networks, IGI Global, USA, P 367.
  17. Efraim Podoksik, editor, 2012, The Cambridge Companion to Oakeshott, Cambridge University Press, p 48.
  18. Danny P. Wallace, Connie J. Van Fleet, 2012, Knowledge into Action: Research and Evaluation in Library and Information Science, ABC-CLIO, LLC, California. P 161.
  19. Christopher Lane, 2010, History, Letts. UK, P 174.
  20. Ian Hodder, 2012, The Present Past: An Introduction to Anthropology for Archeologists, Basford Ltd, UK, p 72.
  21. Carmel Schrire, editor, 2009, PAST AND PRESENT IN HUNTER GATHERER STUDIES, Walnut Greek, California, p xiii
  22. Steward T.A. Pickett, Jurek Kolasa, Clive G. Jones, 2010, Ecological Understanding: The Nature of Theory and the Theory of Nature, Elsevier, Amsterdam, p 159.
  23. Martin L. Davies, 2015, How History Works: The Reconstitution of a Human Science, Routledge, London, p 108.