أيار 16
ابتداء أشكر الاخوات والاخوة في (منظمة حكماء العراق للعدالة الانتقالية) على اقامتها هذا المؤتمر العلمي الدولي للعلوم الانسانية* وبعنوان (العدالة الانتقالية: آفاقها وسبل تحقيقها في العراق والمنطقة)، وبالتعاون مع عدد من الجامعات والمؤسسات العلمية والقانونية والنقابية. واحيي الاخ الشريف البروفيسور خالد بن ناجي المنسق العام للمنظمة على جهوده الطيبة واتمنى له ولرفاقه النجاح والتقدم.
واقول ان الاخوة في هذه المنظمة الكريمة كلفوني بكتابة ورقة بعنوان (دور المدونة التاريخية والنصب التذكارية في حفظ ذكرى الفظائع الوطنية). وقد سعدت جدا بهذا التكليف نظرا لان هذا الموضوع مهم وضروري لتحقيق العدالة الانتقالية بعد سلسلة من التجاوزات على الانسان وكرامته ودوره في الحياة.
من المؤكد ان الشعوب ومنذ ان وجد الانسان على ظهر هذا الكوكب تبحث عن ان توثق لما تمر به من تحديات ونكبات وهزائم بنفس القدر الذي تحرص فيه من اجل ان توثق لما تمر به من انتصارات ونجاحات. والقصد في كل هذا ان تظل تذكر الاجيال بما وقع لها وما مرت به.
ونقصد بالنصب التذكارية (مونيومنتا Monument) بناء او موقع او تمثال يشيد لكي يخلد حادثة او شخصا بقصد التذكير القومي للشعوب بأحداث مؤلمة او سعيدة.
أما المدونات التاريخية فهي السجلات التي تكتب لتوثيق ايام وحوادث ووقائع مرت بها الشعوب او الدول عبر تاريخها القديم او الوسيط او الحديث او المعاصر.
ويقينا، ان ما تُسجله (المدونات التاريخية) وما تجسده (النصب التذكارية) يظل قائما كوسائل مهمة وضرورية لتنشيط وحث الذاكرة الانسانية، ليس بقصد الثأر والانتقام وانما بقصد اتخاذ العبرة ومنع حدوث كوارث وفظائع متشابهة.
ويبدو ان اقامة مثل هذه النُصب والتماثيل قد تكون وسيلة من وسائل التفاهم الانساني من الطرفين. واضرب مثلا على ذلك النصب التذكاري لجنود مصريين قتلوا في الحرب الاسرائيلية - العربية الاولى سنة 1948 والموجود في مدينة اشدود جنوبي اسرائيل، والذي اقيم سنة 1989 وقد ذكرت صحيفة (جيروزاليم بوست) الاسرائيلية ان النصب التذكاري المصري اقيم سنة 1989 في ذكرى مرور عشر سنوات على توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وانه مصنوع من الجرانيت المصري الأحمر، ومنقوش عليه بأربع لغات هي: العربية والعبرية والإنجليزية والهيروغليفية.
وهذا النصب التذكاري المصري يأتي تخليدا لذكرى أربعة جنود قتلوا في معركة “الفالوجة” في حرب سنة 1948، وهم: أحمد عبد العزيز، وأحمد بيومي، وإبراهيم السيد، وأبو حسين عيسوي. واشارت الصحيفة إلى أن حرب 1948 وهي التي تسميها اسرائيل بـ(حرب الاستقلال) شارك خلالها أكثر من 2500 جندي مصري، حاولوا الوصول إلى مدينة تل أبيب، آنذاك، ولكن قتل منهم 2000 مصري.
اليهود هم من الذين حاولوا توثيق ما مر بهم من فظائع خلال الحرب العالمية الثانية من خلال حديثهم وتوثيقهم لما اسموه (الهولوكست) اي (الهشواء أي الشي او الشواء) وتعني باللغة العبرية (الكارثة) ويقصدون الابادة التي تعرض لها ما يقارب الستة ملايين يهودي على ايدي النظام النازي.
واذا ما عدنا الى الفيتناميين فإنهم جسدوا بطولاتهم عبر متحف التاريخ العسكري في العاصمة (هانوي). وأرخ الفلسطينيون كفاحهم ضد الاحتلال الاسرائيلي في نصب تذكارية عديدة انتشرت على مساحة واسعة من الميادين العامة في الأراضي الفلسطينية، وخصوصاً في قطاع غزَّة. ومن أشهر هذه النُصب (الجندي المجهول)، والذي أُقيم وسط مدينة غزَّة في سنة 1956، وبحسب المؤرّخ الفلسطيني سليم المبيض، فإن الاحتلال الإسرائيلي دمَّر هذا النُصب، ثم أٌعيد بناؤه، فعاود الاحتلال تدميره سنة 1967، واعادت السلطة الفلسطينية بناءه بإيعاز من الرئيس الفلسطيني الراحِل ياسر عرفات، الذي أزاح الستارة عنه في السنة 2000، وقد تمّت إضافة مجسّم لجندي مجهول يعتلي القبر.
وكما هو معروف فإن تكرار نُصب الجندي المجهول في عددٍ من البلاد العربية والأجنبية ومنها العراق، هو احترام وتقدير لتضحيات الجنود الذين ضحّوا بأرواحهم من أجل بلادهم وماتوا من دون أن تُعرَف قصصهم وهويّاتهم.
وفي متحف مدام توسو أي متحف الشمع في لندن، رأيت جانبا من جوانب ما تعرض له اليهود على يد هتلر، وبطريقة تجعل الزائر يشعر بالرعب. كما انهم جسدوا في المتحف ايضا من قتل بالمقصلة في ايام الثورة الفرنسية سنة 1789 وبطريقة مثيرة للرعب حقا.
وفي مدينة السليمانية زرت (المتحف الاحمر) حيث مقره هو (مديرية امن السليمانية السابق)، وفيه الغرف التي كانت تشهد حفلات التعذيب للمناوئين للنظام السابق 1968 - 2003، وكذلك الامر في نصب شهداء حلبجة والمسمى بالكردية (مونومينتي هه له بجه)، وهو تمثيل وتذكار لجريمة مروعة حيث استخدم السلاح الكيماوي خلال الحرب العراقية – الايرانية عندما قُصفت حلبجة. وراح ضحية القصف اكثر من 5000 شهيد و10 الاف جريح، فضلا عن تدمير البلدة.
النصب التذكارية، ليست الا تجسيد لرمزية وطنية بهدف ترسيخ هذه الرمزية في نفوس الاجيال، واعطاء الانطباع بديمومة النضال من اجل الحرية والتقدم والسلام.
واريد ان اقول ان كل الشعوب المحبة للسلام والتقدم في العالم تسعى الى ان تضع في ساحاتها ومدنها وميادينها نصبا تذكارية، تذكر بما مرت به تلك الشعوب في حياتها.. في اميركا وروسيا واليابان والصين وفي كل مكان.
وغالبا ما تقام النصب التذكارية من النحاس، وقد تقام من الكونكريت. ويحاول الفنانون ان يخرجوا بما يصنعونه من نصب الى الشوارع والساحات العامة، ليشركوا اكبر عدد ممكن من ابناء الشعب في تعميق الاهتمام بالعدالة والنضال من اجل الحرية.
من هنا، يمكننا القول ان النُصب ليست فقط أعمالا فنية بقدر ما هي اعمال انسانية تحثّ على أهمية أن تتمتّع جميع فئات المجتمع بحقوقها. وهنا يرتبط الفن بالتاريخ ويصبح الفن هو المؤرّخ صاحب الذاكِرة الأقوى في تدوين ليس فقط الماضي وانما الحاضر وبطرق مختلفة وحتى يترك كل هذا للأجيال القادمة التي من حقّها أن تعرف ما وقع على هذه الأرض من انتصارات وانكسارات.
وبقدر ما يكون للنصب التذكارية من دور في تذكير الاجيال بما حدث، فإن للمدونات التاريخية المتمثلة بالوثائق والكتب والمذكرات الشخصية والرسائل الخاصة والصحف والمجلات والموسوعات، دور في توثيق ما جرى؛ فالمؤرخ الحصيف هو من يعيد تشكيل الحدث كما وقع وبدون ان يزيد او ينقص. وهذه الرؤية هي من نتائج تحول التاريخ في القرن الثامن عشر وعلى يد المؤرخ والمفكر الفرنسي فولتير الذي انقذ التاريخ من ايدي رجال الدين والمتسلطين من الحكام، ليجعله تاريخا للشعب، وهو اول من تحدث عما سماه فلسفة التاريخ والتي كان من نتائجها ان المؤرخين ومنهم كولنجوود في كتابه (فكرة التاريخ) بدأ يتحدث عن السنن والقوانين والاحكام التي تتحكم في احداث التاريخ، كما تتحكم السنن والقوانين والاحكام في احداث الطبيعة.
وقد بدأنا نرى ان المؤرخين الكبار وخاصة في اوربا قد انصرفوا لوضع مدونات تاريخية وطنية تجسد ما مرت به شعوبهم. فهذا توماس بابنجتون ماكولي (1800 – 1859) يكتب تاريخ انكلترا وهذا فرانشيسكو غيتشارديني (1486 - 1540 ) يكتب تاريخ ايطاليا، وهذا هنريش فون ترايتشكه يكتب تاريخ المانيا. وهذا جول ميشليه يكتب تاريخ فرنسا ووضع اوزوالد شبنغلر كتابا عن الحضارة الغربية، والّف ارنولد توينبي كتابا عن الحضارات الانسانية، وانتقلت الكتابة التاريخية لتصبح تصويرا جديدا للماضي وسبيلا من سبل التقدم نحو الحرية والعدالة والتقدم.
يقول كولنجوود ان الفيلسوف (كانت) اعتقد ان هناك قيمة واحدة فقط لا يمكن ان تتعدد وهي قيمة مستقلة عن خدمة الاغراض الانسانية، تلك هي القيمة الاخلاقية لإرادة الخير والسلام.
باختصار اقول: اننا لكي نستذكر الفظائع الوطنية وغير الوطنية في العراق لا بد لنا من احصائها وانتقاء منها ما يساعدنا على تخليد نماذج منها من خلال تدوينها وتوثيقها رقميا وكتابيا واقامة نصب تذكارية لضحاياها قبل 2003 وبعد 2003 وخلال سيطرة عناصر داعش على عدد من المحافظات العراقية بين 2014 و2017، لما لذلك من تأثير معنوي ايجابي على الناس وخاصة الضحايا وتأسيس ما يعرف بالذاكرة التاريخية الجماعية.
بوركت جهودكم من اجل تعميق مفاهيم العدالة الانتقالية وتهيئة المناخ الملائم لها والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
قدمت المادة في مؤتمر عقد في مدينة اربيل عاصمة كوردستان العراق بين 12 - 13 شباط – فبراير سنة 2020.