أيار 17
كاتب وباحث عراقي حاصل شهادة الدكتوراه في القانون الدولي/ تاريخ ونظرية الدولة والقانون، عميد كلية القانون والسياسة في الاكاديمية العربية المفتوحة في الدانيمارك. له عشرات البحوث المنشورة في مجال العلاقات الدولية. صدرت له عدة كتب: الاحتلال وانهيار الدولة العراقية؛ آراء وافكار حول التوسع الرأسمالي، موضوعات في الفكر السياسي المعاصر، التشكيلة الرأسمالية العالمية والشرعية السياسية الوطنية، المنظومة السياسية للدولة الوطنية والاحتجاجات الشعبية، العولمة الرأسمالية والكفاح الوطني الديمقراطي. كما نشر الكثير من البحوث في مجلة (الثقافة الجديدة)، (النهج)، (الطريق) اللبنانية، مجلة الأكاديمية العربية المفتوحة.
 
ليس هناك من دولة عربية عانت من التبدلات والتغيرات في بنيتها السياسية مثل الدولة العراقية، وليس هناك تشكيلة اجتماعية عانت من التبدلات والاضطهاد السياسي لمكوناتها الطبقية والسياسية مثل الدولة العراقية.
استنادا الى تغيرات البنية السياسية للدولة العراقية نحاول متابعتها انطلاقا من طبيعة نظمها السياسية وقوى تشكيلتها الاجتماعية المتحكمة في نموها وتطورها عبر مراحل ثلاث، الأولى منها الدولة العراقية في العهد الملكي، وثانيها طبيعة السلطة وتشكيلتها الاجتماعية في العهد الجمهوري الأول، وأخيرا الدولة وتشكيلتها الاجتماعية في العهود الجمهورية اللاحقة.
أولاً- الدولة الملكية وبنيتها الاجتماعية
من المعروف ان الدولة العراقية الناشئة لم تتفق على تسمية شخصية عراقية لقيادة نظامها الملكي بسبب التناقضات المذهبية الحاكمة في تشكيلتها الاجتماعية، لذلك عمدت الكولونيالية البريطانية الى تسمية الملك فيصل الأول الوافد من الحجاز لقيادة المملكة العراقية الجديدة.
بهذا المعنى لم تكن تسمية الملك الوافد الا نتيجة لاستعصاء التناقضات الطبقية بين القوى الاجتماعية العراقية.
استناداً الى ذلك شهدت سلطة الدولة الوليدة تناقضات بين قاعدتها الاجتماعية تبدت بتقاسم مراكز الحياة الاقتصادية - السياسية بين المذهبين: السني الذي تزعم القيادة السياسية عبر هيمنته على المؤسسة العسكرية والاجهزة الإدارية المساندة للملكية، وبين الطائفة الشيعية التي احتكرت التجارة الداخلية ورفضها للمؤسسة الملكية الوافدة.
اتسمت الفترة الملكية بتعايش التناقضات الوطنية حيث شهدت الفترة المشار اليها كثرة من السمات نشير الى أهمها:
1 - تطور التشكيلة العراقية عبر قوى جديدة منها تطور مكانة الطبقة العاملة السياسية قبل الطبقة البرجوازية بسبب احتكار الكولونيالية البريطانية للتجارة الخارجية والداخلية ومنها قيادة الطبقة العاملة للكفاح الوطني، جامعة بذلك نضالها الوطني ومصالحها الطبقية في تيار اجتماعي واحد.
2 - تخلف البرجوازية الوطنية عن قيادة الكفاح الوطني بسبب اعاقة نموها من الوافد الكولونيالي المحتل.
3 - تبوء المؤسسة العسكرية مكانة كبيرة في التأثير على التطورات الداخلية وبهذا المسار لا بد من التأكيد على انتشار النزعتين الانقلابية والوطنية في المؤسسة العسكرية بسبب هيمنة القوى الأجنبية والوافدة والتي تعارضت مصالحها مع الوطنية العراقية.
4 - الدولة الوليدة لم تكن انعكاساً لمصالح طبقاتها الاجتماعية، بل كانت في تناقض واضح مع مكوناتها الاجتماعية بسبب تمثيلها - الدولة الوليدة - لمصالح الطبقات الكمبورادورية والاقطاعية، اما طبقة البازار الشيعي فكانت رافضة لها بسبب عدم اعترافها بشرعية الدولة الجديدة وسيطرة المذهب السني على المؤسسة العسكرية والاجهزة الإدارية فضلاً عن رفضها للتبعية والوفادة الخارجية لقيادة العراق.
تلخيصا لسمات المرحلة الملكية يمكن تأشير الدالات الاتية:
- شكلت بيروقراطية الجهاز الإداري في الدولة العراقية ومؤسساتها العسكرية القاعدة الاجتماعية لسلطة الدولة السياسية.
- عكست السلطة السياسية الملكية جهازاً ضامناً لمصالح البيروقراطية ومصالح الطبقة الاقطاعية الناشئة في الدولة العراقية.
- اندماج الدولة بالسلطة السياسية الملكية في نسق واحد وانعدام تمثيلها لطبقات التشكيلة العراقية الناهضة. 
 
ثانيا- الجمهورية الأولى وتشكيلتها الطبقية
افضى انهيار الملكية وانتصار ثورة تموز الوطنية الى تعديل تمثيل السلطة السياسية لطبقات التشكيلة الاجتماعية العراقية حيث مثلت السلطة السياسية الطبقات المنتجة المتشكلة من – الشرائح البرجوازية الوسطى، فضلا عن الطبقة العاملة والبرجوازية الصغيرة.
*  اقدمت الثورة على القيام بإجراءات اقتصادية - سياسية لصالح الطبقات الاجتماعية المنتجة في محاولة منها لتعديل التركيبة الطبقية للدولة العراقية، ومنع القوى الطبقية السابقة من العودة الى قيادة سلطة البلاد السياسية.
* أطلقت ثورة تموز الوطنية حرية العمل السياسي العلني حيث برز اليسار الاشتراكي في مقدمة القوى السياسية التي لعبت دورا كبيرا في صيانة الثورة الظافرة ودفعها لاتخاذ إجراءات وطنية لصالح الاستقلال الوطني وصيانة الثروة الوطنية.
* لم تستمر الإجراءات الوطنية لثورة تموز طويلا حيث تمت الإطاحة بنظامها السياسي وعودة القوى السياسية المبعدة، ممثلة بقواها العسكرية الى دفة الحكم.
 
ثالثا- الجمهورية الثانية وتبدلات سلطتها السياسية
لم يكن الانقلاب العسكري ضد الجمهورية الاولى بمعزل عن القوى الخارجية ومناهضته لمصالح الطبقات الفقيرة، حيث اتسم الحكم الجديد بسمتين أساسيتين، أولاهما معاداته لمصالح طبقات التشكيلة الاجتماعية المنتجة واحزابها السياسية. والثانية التعاون مع الخارج الرأسمالي بهدف المحافظة على مواقعه في السلطة السياسية بسبب ضيق قاعدته الاجتماعية.
ولغرض قطع الطريق على القوى اليسارية والديمقراطية المناهضة لسلطة البعث الأولى أقدمت القوى العسكرية القومية على الإطاحة بالانقلاب البعثي الأول وإعادة بناء السلطة السياسية على ضوء حماية مواقعها القيادية.
بالمقابل، لم تستمر سلطة الجمهورية الثانية بماركتها القومية طويلا الا وعاد حزب البعث الى قيادة السلطة السياسية (بانقلاب قصر) وحاول رغم طابعه الدكتاتوري القيام بإجراءات وطنية وأخرى اقتصادية بهدف التقرب من القوى اليسارية والديمقراطية.
لقد اتسمت السلطة الجديدة بقيادة حزب البعث بسمات كثيرة أهمها:
1 - حزبية وهامشية القوى الاجتماعية الماسكة بالسلطة السياسية.
2 - تحالف القوى الانقلابية وبيروقراطية الجهاز الإداري مع القوى الهامشية لقيادة السلطة السياسية.
3 - اقتران التحالف السياسي الجديد بروح إرهابية معادية للقوى اليسارية والديمقراطية، وما نتج عن ذلك من اضعاف للقوى الوطنية الديمقراطية.
4 - القيام بإجراءات اقتصادية - سياسية مناهضة للخارج الرأسمالي، خاصة في قطاع النفط عبر التأميم الوطني لشركات النفط الأجنبية.
إن إجراءات القوى اليمينية القائدة في حزب البعث المهيمنة على السلطة السياسية لم تمنع من تأييد القوى اليسارية للإجراءات التي اتخذتها الحكومة البعثية ومهدت الطريق لقيام الجبهة الوطنية عام 1973.
كما ترافق اعلان التحالف الوطني وحملة ارهابية معادية للأحزاب الديمقراطية واليسار الاشتراكي، تكللت بانهيار التحالف بين الحزب الحاكم والحزب الشيوعي وانتقال الأخير الى مقاومة الحملات البوليسية برفع السلاح بوجه الحملة الإرهابية.
وافضى استمرار الكفاح المسلح والحرب العراقية - الإيرانية الى كثرة من التدخلات الخارجية حرمت القوى الديمقراطية من بناء سلطة سياسية، تلبي المصالح الوطنية.
من جهة اخرى، أنتجت الحرب العراقية - الإيرانية كثرة من المصاعب الوطنية منها زيادة حدة البطالة وآلاف القتلى مترافقاً وعشرات الآلاف من المعوقين، الأمر الذي أدى الى اشتداد الازمة الوطنية الشاملة.
وبهدف الخروج من الازمة الوطنية أقدمت السلطة الإرهابية على اجتياح الجارة الكويت وضمها الى العراق، وما رافقها من سطو مسلح على ثروات البلاد النفطية تحت مبررات تاريخية زائفة.
استناداً الى تلك السياسة الارهابية استطاع العدوان الأمريكي الهيمنة على العراق واسقاط الحكم الاستبدادي.
فتح الاحتلال الأمريكي الابواب امام حكم القوى الطائفية السياسية على أساس المحاصصة الطائفية – القومية المناهضة للديمقراطية السياسية والشراكة الوطنية.
بالرغم من اتشاح الدولة العراقية بالديمقراطية وفصلها بين السلطات الثلاث التنفيذية – التشريعية - القضائية الا ان المحاصصة أصبحت الناظم السياسي لطبيعة السلطة العراقية.
ان استمرار مبدأ المحاصصة السياسية بتشكيل أجهزة الدولة أوقع البلاد بحزمة من الإشكالات أهمها ضعف سلطة البلاد السياسية وانتشار التشكيلات العسكرية الطائفية والارهابية.
 
رابعاً: الهيمنة الطائفية السياسية وتغيرات البنية الطبقية
افضت الانتخابات التشريعية الى تصدر الأحزاب الطائفية للعملية السياسية ونتيجة لذلك فقد هيمنت الأحزاب الطائفية السياسية على السلطات الثلاث في الدولة العراقية.
افضى اعتماد أسلوب المحاصصة الطائفية تدريجيا الى ضعف الدولة الوطنية المتجسد بالمفاصل الاتية:
- اعتماد الأحزاب الطائفية على مليشيات مسلحة موازية للمؤسسة العسكرية الوطنية.
- امتلاك المليشيات العسكرية أجهزة أمنية موازية للأجهزة الامنية في الدولة العراقية.
- ترافقت الجوانب السياسية المشار اليها وتغيرات في البنية الطبقية للتشكيلة الاجتماعية العراقية، تمثلت بتصدر الطبقات الفرعية للعملية الاقتصادية وابعاد الطبقات الأساسية.
- انقسام التيار الطائفي الى مرجعيتين مرجعية إسلامية متضمنة صيانة الاستقلال ومناهضة الخارج الأجنبي، ومرجعية ولائية مساندة لتوجهات دولة الفقيه الإسلامية.
- تعدد المرجعيات الفقهية يحمل مخاطر الصراعات الاهلية وتقسيم البلاد الى أقاليم طائفية.
ان التغيرات السياسية والاقتصادية المشار اليها أدت الى تفكك الروح الوطنية بسبب عدم تجانس الأحزاب الطائفية واضعافها لسيادة الدولة الوطنية.
     
 خامساً – الشرعية الديمقراطية وإعادة بناء الدولة العراقية
ان محاصرة الطبقات الفرعية ومنع تفكك الدولة العراقية وما ينتجه من نزاعات طائفية يتطلب من القوى الوطنية الديمقراطية اعتماد برامج وطنية ديمقراطية ترتكز على:
-1 اعتماد الشرعية الديمقراطية للحكم واستبعاد المحاصصة السياسية التي تسعى الى تفتيت الدولة العراقية.
-2 خوض المنافسة السلمية في الانتخابات الوطنية على اساس برامج وطنية – ديمقراطية تعني بتقوية وتطوير الدولة العراقية وتشكيلتها الطبقية.
-3 حل المليشيات المسلحة وادماجها في المؤسسة العسكرية تحت قيادة سلطة الدولة السياسية.
-4 ارتكاز المنافسة السلمية في الانتخابات الوطنية على أساس وطنية البرامج الانتخابية واستبعاد السمة الطائفية.
ان الموضوعات المشار إليها ربما تشكل دالات كفاحية تنفع القوى السياسية في كفاحها المناهض للتبعية والتهميش.