أيار 17
ظهرت الدولة القومية في البدء مع بدايات القرن الرابع عشر عندما تمكنت بعض الدول كفرنسا واسبانيا  من إخضاع الكنيسة والإقطاع لسيطرتهم ما أدى لان يكون للملوك دور كبير في إرساء دعائم الدولة، وشاع مفهوم الدولة القومية بعد التوقيع على  معاهدة ويستفاليا عام 1648 التي وضعت حداً للحروب الأوربية المتناحرة وتدشين بداية مرحلة الدولة القومية، والتي اعترفت بحدود الدول القومية، وأقرت الاحترام المتبادل لسيادة هذه الدول على أراضيها ومواطنيها، باعتمادها على نظام ملكي مطلق وجيش وطني ونظام ضريبي، وانتشرت في العالم حتى أصبحت النمط السائد في النظام السياسي للدول(1) التي تميزت بتجميع السلطات في يد حكومة واحدة، تملك الوسائل المادية والقانونية، بما يمكنها من السيطرة على الإقليم من دون منازعة من أية سلطة أخرى. ومن عوامل نشوء الدولة القومية نمو المدن التي تحولت إلى مراكز للنشاط التجاري والسياسي والاجتماعي والثقافي ونشوء النقابات وتبلور اللغات القومية والوعي القومي والشعور القومي وكذلك ظهور الحركات الفكرية التي ساهمت في تشكل الفكر السياسي وانسلاخه عن الفكر الكنسي وبروز السلطات الزمنية على حساب السلطات الدينية، وظهور الحركات الفردية وحرية الفرد والعقيدة وانبثاق فكرة المواطنة بمعناها الحديث، وان من مظاهر هذا الانتقال: ضرورة أن تكون الأمة كوحدة اجتماعية للقضاء على الهويات الإقطاعية، الوحدة السياسية القومية، الأداة هو دولة مركزية قومية تعتمد على جيش جماهيري من خلال التجنيد الإلزامي. إن دول العالم الثالث كانت تعمل على بناء الدولة القومية بإقامة مؤسسات وظيفية، ومن ثم تكوين الشعور بالذاتية القومية. إن الدول الغربية فرضت قسرا نموذجها في بناء الدولة القومية، وتأسيس مبادئ السيادة، وسيطرة الدولة على إقليمها الجغرافي والمعترف به من قبل الدول الأخرى. ومن ذلك التاريخ، كانت مهمة الدولة الرئيسية تكمن في ضبط الحدود الإقليمية وتمثيل مواطنيها في المؤسسات الشرعية العالمية. وإن الدولة القومية ستبقى على قيد الحياة في المدى المنظور بغض النظر عن توحد الاقتصاد عالميا.
 
الدولة والأمة:
الدولة هي كائن معنوي تتكون من مجموع الشعب، الذي يستقر في اقليم معين، وتكون لها سلطة سياسية عليا ذات سيادة، تفرض على الشعب. والدولة هي حقيقة قانونية قوامها سلطة سياسية، يخضع لها أفرادها. إما الأمة: فهي مجموع الأفراد الذين تجمع بينهم وحدة روحية تشكلها عوامل مختلفة، أبرزها اللغة والتاريخ المشترك. وتؤدي بهم هذه الوحدة الروحية إلى الرغبة في العيش والحياة معا. وهي أيضا، حقيقة اجتماعية ونفسية قوامها التجانس والارتباط القومي، نتيجة لخصائص ومقومات مشتركة تجمع بين أفرادها.
ان ما يميز بين الدولة والأمة هو وجود السلطة السياسية في الدولة والتي تفتقدها الأمة، وكذلك تسبق الأمة وجود الدولة عند الأمم التي كانت خاضعة للإمبراطوريات، وكافحت من اجل استقلالها، لتكوين دولها الخاصة بها لتعبر عن روحها الوطنية والقومية
إنّ معيار التمييز بين الدولة والأمة يكمن في السلطة السياسية التي هي من خصائص الدولة دون الأمة، فالتلازم بين الدولة والأمة ليس حتميا. فهناك دول يتكون شعبها من أفراد ينتمون إلى أجناس أو أمم مختلفة فلا يشترط أن يكون شعب الدولة متجانسا، وقد أعطى لنا التاريخ الكثير من الأمثلة التي فيها دول ذات شعب غير متجانس كالولايات المتحدة وسويسرا.
 
الأسس التي تقوم عليها الأمة
اختلف الباحثون في الإجابة عن الأسس التي يعتمد عليها مفهوم الأمة التي هي ظاهرة تاريخية تتعدد وتتنوع العوامل التي تؤدي إلى تكوينها. وغالبا ما تكون هذه الأسس تتفق وسياسة الدولة التي ينتمون إليها.
فإن معظم المفكرين الألمان يتبنون نظرية وحدة الأصل أو الجنس كأساس للأمة وسبب ذلك يعود الى الحاجة لوحدة الأمة الألمانية التي كانت مجزأة إلى دويلات عديدة. بينما تبنى المفكرون الفرنسيون نظرية المشيئة أو العيش المشترك معا، كأساس للقومية بسبب الرغبة الفرنسية بضم المستعمرات. وهناك من يعتقد أن أساس الأمة هو العقيدة الدينية كالدولة الإسلامية في صدر الإسلام أو إسرائيل.
إن الاتجاه العام يرى ان الجماعة البشرية المسماة شعبا، يمكن أن تتحول إلى امة إذا ما أحس أفرادها بالرغبة المشتركة في العيش معا، نتيجة ما يجمع بينهم من روابط كاتحاد الجنس واللغة والدين والعادات والمشاعر والذكريات ووحدة الآلام والآمال. ولا يشترط توافر كل هذه العوامل دفعة واحدة؛ فقد تشكلت أمم رغم عدم توفر كل تلك العوامل، كما هو حال الأمة السويسرية أو البلجيكية(2)، وهناك دول نشأت واستمرت ولكن شعبها يتكون من عناصر أو قوميات مختلفة مثل حالة الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تتشكل من قومية واحدة، إنما جاء تشكلها من خلال جماعات تنتمي لأصول أممية مختلفة (انجليزية وفرنسية وايطالية وأسيوية...)، ولا شك أن الدولة التي يتكون شعبها من امة واحدة، يمثل ذلك عامل تماسك ووحدة، وهذا ما يميزها عن الدولة التي تفتقد التجانس الأممي، وقد تحتاج إلى فترة من الزمن وتوالي الأحداث، ليدخل بعد ذلك عامل التاريخ المشترك والتحديات المشتركة ليصنع من جديد أمة واحدة، فتتكامل عناصر الشعب، ويتولد بينهم الإحساس بالرغبة في العيش معا(3)، ومن الجدير بالذكر، أن دول العالم اليوم مكتظة بالأعراق والإثنيات ولا تتسم بالتناسق والتجانس حيث لا تتعدى الدول المتجانسة في العالم قاطبة 9 % من بين 132 دولة مستقلة (وقت إجراء الدراسة) ولا توجد في العالم سوى 12 دولة فقط، تتمتع بالتجانس الثقافي، وتتكون من عرق واحد بنسبة 90 % كالصومال واليابان(4).
 
اثر تشكيل الدولة العراقية على العلاقات العربية الكردية
كان العراق ومنذ القدم مركزا للحضارات المزدهرة، كالحضارة البابلية والآشورية والكلدانية والتي بزوالها، فقدت بلاد ما بين النهرين استقلالها ودخلت مرحلة الانحطاط وانهارت حضاراتها وبقي الوضع كذلك حتى ظهور الإسلام، حيث أصبح العراق يخضع للدولة العربية الإسلامية وبظهور الخلافة العباسية 750 – 1258 أصبحت بغداد عاصمة لها، حتى سقوطها على يد هولاكو وانتهاء الخلافة العباسية.
احتلت الدولة العثمانية بلاد ما بين النهرين بصورة متدرجة والتي ابتدأت من انتصار القوات العثمانية في عهد السلطان سليم الثاني في معركة جالدران في عام 1514 ضد الفرس حتى دخول بغداد بصورة سلمية على يد السلطان سليمان القانوني في عام 1534. وقد استمر حكم العثمانيين على العراق حوالي أربعة قرون. وكان العراق يحكم لفترة ثلاثة قرون من قبل الاستانة بصورة مباشرة، ومن ثم قسم إلى ثلاث ولايات: ولاية بغداد وولاية الموصل التي أنشئت عام 1879م، وولاية البصرة التي أنشئت عام 1884م.
لقد وظفت السلطات العثمانية الدين الإسلامي بشكل انتهازي، لبقائها هذه الفترة الطويلة، وجعلوا من الدين وسيلة لتحقيق نواياهم التوسعية حيث مارسوا سياسة الخداع والتظليل مع الشعوب المتدينة والمتمسكة بالإسلام، منهم الكرد والعرب، وتم استغلال أبناء الشعوب القاطنة تحت ظلال الخلافة في الزج بهم في حروبها الدائمة؛ إما للدفاع ضد هجمات الدول الأخرى أو لتوسيع رقعة الإمبراطورية المترامية الأطراف.
ومن عوامل بقاء هذه الإمبراطورية لفترة طويلة وخضوع الشعوب لسيطرتها، هو سيادة الفكر الديني، وان الخليفة السلطان هو المدافع عن حياض الإسلام من هجوم المسيحيين الكفار، والضعف في الشعور والوعي القوميين الذي هو في الأصل نتاج المجتمعات التي تنتقل من العلاقات الإقطاعية القائمة على الإنتاج الزراعي إلى العلاقات الرأسمالية القائمة على الإنتاج البضاعي الصناعي القائم على وجود المدن والمناطق الصناعية حيث وجود المعامل والمصانع والمصارف والمدارس والجامعات والمسارح.
ولقد بدأت بذور الفكر القومي مع أفول دولة الخلافة الإسلامية التي كان يطلق عليها بالرجل المريض، وكان ذلك داخل مثقفي الشعب التركي أولا ولدى الطلبة والمثقفين من الشعبين العربي والكردي والشعوب الأخرى، رغبةً في التخلص من نظام الحكم المطلق الذي لم يعد ينسجم مع التطورات السياسية والاجتماعية في أوربا والعالم، وبالأخص بعد قيام الثورة الفرنسية لسنة 1789 وانتشار قيمها، وتصاعد هذا الشعور مع تنحية السلطان عبد الحميد بعد الانقلاب العسكري من قبل جمعية الاتحاد والترقي على مقاليد الحكم سنة 1908، والتي تبنت سياسة التتريك لشعوب الإمبراطورية. وكرد فعل على تلك السياسات، تعاظم الشعور القومي لدى الكرد والعرب، والذي تجسد من خلال تشكيل العديد من التنظيمات السرية والنشاطات الثورية.
وعند قيام الحرب العالمية الأولى كانت الفرصة مواتية للشعبين العربي والكردي من بين الشعوب العديدة التي خضعت لنير الإمبراطورية العثمانية، لنيل الحرية والانعتاق التي انتهت بانتصار بريطانيا وفرنسا وهزيمة ألمانيا والسلطة العثمانية التي خاضت الحرب بالتحالف معها.
 
إرهاصات التحرر من النير العثماني
كان العرب يتطلعون للاستقلال من الإمبراطورية العثمانية، واستطاع الانكليز جر العرب لإعلان الثورة ضد الأتراك، واعدين إياهم بتحريرهم من هيمنة الاستعمار العثماني، ومنحهم حريتهم واستقلالهم. وكان على رأس أولئك (الملك الحسين بن علي) ملك الحجاز، الذي أعلن الثورة العربية ضد الأتراك، اثر اتفاق (مكماهون) عام 1916، وقاتل إلى جانب بريطانيا، اعتمادا على التعهد الذي قطعته له بضمان استقلال البلاد العربية، وتنصيبه ملكا عليها بعد الحرب، لكن الانكليز كانوا قد رتبوا أمورهم، وتقاسموا النفوذ والسيطرة على البلاد العربية في ما بينهم بموجب معاهدة (سايكس بيكو) السرية عام 1916، ومن ثم بموجب معاهدة (سان ريمو) في عام 1920(5)
انتعشت آمال الكرد بشكل عام في كل مكان بما فيها آمال كرد العراق لفترة من الزمن، بعد التوقيع على معاهدة (سيفر) في العاشر من آب 1920 والتي تضمنت في المواد (62، 63، 64) حق الأكراد في تشكيل دولتهم المستقلة، وحق أكراد ولاية الموصل في الانضمام إلى هذه الدولة المنتظرة، إلا أن رفض تركيا لهذه المعاهدة ورغبة بريطانية في وضع العراق بأكمله تحت الانتداب، فضلا عن صراع المصالح بين الدول الكبرى، أبقت هذه المعاهدة حبرا على ورق(6)، إلا أن المعاهدة كانت عاملا في تنامي النشاط والوعي القوميين لدى الأكراد. وقد تبددت تطلعات الكرد عند إبرام معاهدة (لوزان) عام 1923، حيث تم الاتفاق على تقسيم كردستان بين تركيا وإيران والعراق مع بعض التدخلات في كل من أذربيجان وسوريا.
 
الاحتلال البريطاني للعراق
استكمل البريطانيون احتلال العراق بالدخول إلى مدينة الموصل مركز الولاية في 8 تشرين الثاني 1918 التي كانت تخضع لها مدن اربيل، السليمانية دهوك رواندوز، وعند انهيار الدولة العثمانية فان الأتراك فوضوا إلى الزعيم الشيخ محمود الحفيد أمر إدارة منطقة السليمانية وحاميتها التركية على ان يحكمها باسم الدولة العثمانية، غير أن الانكليز استطاعوا أن يقنعوا الشيخ محمود بتسليم الحامية التركية إليهم عملا بشروط هدنة (مدروس) المنعقدة في 30 /11 /1918 وتعيينه حاكماً لمنطقة السليمانية وتعيين بعض رؤساء قبائل المنطقة حكاما للوحدات الإدارية المجاورة في المنطقة(7).
أصيب الشعب العراقي بمرارة بعد أن اتضحت مخططات البريطانيين برغبتهم في حكم العراق بشكل مباشر من قبل القادة العسكريين، بدل الولاة العثمانيين، فأخذت حالة الرفض والامتعاض تتعاظم بين صفوف المتعلمين والدعوة إلى الثورة والانتفاضة والتي كان أخطرها ثورة النجف في آذار 1919 التي دامت 45 يوما، وكذلك في السليمانية حيث اندلعت ثورة الشيخ محمود الحفيد في ايار 1919 بعد إن أدرك ان الانكليز غير عابئين بحقوق الشعب الكردي، وسوء النوايا تجاهه، حيث كانت السلطات الحقيقية بيد المستشار الذي عينه الانكليز.
وهذه التحركات المناهضة للبريطانيين قد تسارعت بعد الإعلان عن صك الانتداب على العراق في 17 حزيران 1920، وتم تتويجها في ثورة العشرين التي اندلعت بالرميثة في 30 حزيران 1920 وامتدت إلى الكوفة، الحلة وغيرها من المدن والتي كبدت القوات المحتلة العديد من الخسائر والأرواح، وشارك الشعب الكردي في هذه الثورة من خلال المعارك التي دارت في السليمانية وعقره وكفري، حيث تمكنت قوى الثورة في كفري بقيادة إبراهيم خان من الاستيلاء على المدينة.
بعد استقدام قوات كبيرة، استطاع البريطانيون إخماد الثورة، لكنهم توصلوا إلى قناعة، وهي صعوبة حكم العراق بشكل مباشر كما هو في الهند، وأقدموا على تشكيل حكومة عراقية مؤقتة وتنصيب الأمير فيصل ملكا على العراق، على أن تكون حكومته ديمقراطية تمثيلية دستورية خاضعة للقانون.
لقد تضمن صك الانتداب بعض البنود التي يراعي القانون الأساسي تضمينها وهي: الأخذ بنظر الاعتبار حقوق الشعب ورغبته في ضمان الحريات والشعائر الدينية. ان يضمن عدم التفريق بين أبناء الشعب، وان اختلفوا لغة وجنسا ودينا. ان يضمن حقوق كل طائفة في بناء مدارسها والتعليم بلغتها. وعند مناقشة مسودة القانون الأساسي دارت مناقشات حول الحقوق القومية للأكراد، وحقهم في التدريس باللغة الكردية في مدارسهم(8).
 
بدايات تشكيل الدولة العراقية
كان الشغل الشاغل للعراقيين كيفية إدارتهم شؤون العراق الذي تشكل حديثا، والشروع بتنظيم مؤسساته وكذلك حسم تبعية لواء الموصل وترسيم الحدود مع تركيا التي تطالب بالموصل، وكذلك الصراع مع البريطانيين بإمكانياتهم الكبيرة وعلى مختلف المستويات، الذين بيدهم صك الانتداب والوصاية على الشعب العراقي، ورغبتهم في الحصول على امتياز التنقيب واستخراج النفط. في ظل تلك الأجواء كانت هناك مطامح للشعب الكردي في نيل حقوقه بإعلان قيام دولته، التي تعقدت بسبب رفض تركيا لمعاهدة سيفر واستبدالها بمعاهدة لوزان التي لم تأت بذكر للأكراد والتنصل من كل الحقوق التي تم الإعلان عنها، وان الشعب الكردي سيقسم بين تركيا وإيران والعراق وقسم منه في سوريا وأذربيجان، فقد أيدت الحكومة البريطانية في البداية قيام كيان كردي ذي حكم ذاتي، إلا أن ظهور النفط في الأقاليم الشمالية للعراق، قد أدى بدوره إلى تخلي بريطانيا عن وعدها وتأييدها الوحدة الجغرافية للدولة العراقية الحديثة، ومقاومة نزعات الأكراد الانفصالية، ضمانا لاستثمار السيطرة البريطانية على الثروة البترولية الوليدة في العراق(9). وكان للانكليز دورهم المعروف في سياسة “فرق.. تسد” بين مكونات العراقيين لاستمالة احدهم لضرب المكون الآخر. وقد كانت سياستهم منصبة على الاستحواذ على العراق، رغم الأساليب الملتوية التي مارسوها من تخدير الكرد ببعض الوعود البراقة والتي كانوا يلوحون بها لغرض اخذ التنازلات من الأتراك أو الحكم الوطني الجديد في العراق لإدامة وجودهم الفاعل والسيطرة على ثرواته.
 
البريطانيون والتعامل مع الأكراد
تعامل البريطانيون بخصوصية بالغة مع الأكراد وبالأخص في الفترة الأولى لتأسيس الدولة العراقية من خلال العلاقة مع الشيخ محمود الحفيد الذي قاد أربع انتفاضات في سنوات (1919، 1922-1927، 1930 -  1931، 1941) والذي يتمتع بمزايا سمحت له بفرض سياسة الأمر الواقع وتحقيق بعض المطالب ذات الطابع القومي، بما لم يسمح للآخرين، وذلك لمكانته في المنطقة، وقدرته على تعبئة وجهاء وأبناء المنطقة في التصدي لسياسة الانكليز. وكان التعامل مع لواء السليمانية يتم من خلال المندوب السامي بشكل مباشر لفترات متقطعة. وله الفضل الكبير في إنماء الفكر القومي وتقديم العديد من المطالب والتي من أهمها: تشكيل حكومة كردية في المناطق الكردية الممتدة من زاخو حتى خانقين على أن تكون هذه الحكومة تحت الانتداب البريطاني، وتحت تلك الضغوطات أقرت الحكومة العراقية في عام 1930 قانون اللغة الكردية الذي صادق عليه مجلس الأمة.
وقد ساهم الملا مصطفى أيضا في النضال التحرري لنيل حقوق الشعب الكردي من خلال مناشداته للسلطة الحاكمة وتقديمه عددا من المطالب، وقد توج نضاله في ثورة بارزان ما بين عامي 1943 - 1945.
 
النضال المشترك بين الشعبين
انخرط المثقفون والعمال والطلاب من أبناء الشعب الكردي في النضال السياسي في فترة الأربعينات وما بعدها من القرن الماضي كجزء مكون من الحركة الديمقراطية العراقية. ساهموا في نضال الشعب العراقي في معاركه الوطنية والطبقية ضد السلطات الملكية المدعومة من قبل الاستعمار البريطاني، فكانوا ضمن الطلائع المتقدمة عند إضراب عمال النفط في كاورباغي الشهير عام 1946، فقد كان محامي العمال هو السيد مكرم الطالباني، وكذلك مشاركتهم في وثبة كانون عام 1948،  وفي انتفاضة تشرين عام 1952، حيث كان احد قادتها السيد بهاء الدين نوري من أهالي لواء السليمانية، والمشاركة في فوز 10 نواب من مرشحي الجبهة الوطنية لانتخابات عام 1954 ومنهم شريف الشيخ من أهالي عنه عن لواء السليمانية(10)، ومظاهرات الشعب العراقي للتضامن مع مصر ضد العدوان الثلاثي عام 1956. وفي مجرى هذا النضال اقتربت الكثير من القوى الوطنية، من متبنيات الشعب الكردي وتطلعاته، فقد تصدر شعار استقلال كردستان الصفحة الأولى لأول عدد من جريدة كفاح الشعب الصادرة في عام 1935، ومنذ الخمسينات تم رفع شعار الحكم الذاتي للشعب الكردي كشعار مرحلي ينسجم مع حق تقرير المصير في ظل موازين القوى القائمة آنذاك، وتم عقد تحالف سياسي بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي العراقي في سنة 1957، وقد تكللت هذه النشاطات المشتركة بثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 الوطنية التحررية، والتي من ثمارها النص في الدستور المؤقت (إن العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن) الذي صدر في 27 تموز 1958، وهذه البادرة، شكلت أول اعتراف بالأكراد على صعيد المنطقة كشركاء أصيليين في البلاد، ما أغاض هذا الموقف الجديد، دول المنطقة التي يسكن فيها الأكراد، وتحاملهم على الثورة وحياكة المؤامرات ضدها وتحيّن الفرص للانقضاض عليها.
ومن الجدير بالذكر أن تشكيلة مجلس السيادة(11) وهو أعلى سلطة دستورية في البلاد، كانت من رئيس وعضوين، وان احدهما كردي، ويوجد تمثيل للأكراد في الوزارات التي يتم تشكيلها طيلة فترة حكم عبد الكريم قاسم، وقد سمحت الثورة بعودة الملا مصطفى البرزاني ورفاقه إلى الوطن، وكان استقبالهم محط ترحيب رسمي وشعبي كبيرين، يعكس المكانة الكبيرة التي يحتلها الشعب الكردي بين صفوف الشعب العربي. وعند اندلاع ثورة أيلول سنة 1961 التي كانت في البدء تحرك (للاغوات)  الاقطاعيين المتضررين من قانون الإصلاح الزراعي لسنة 1958، والذي تطور إلى نزاع مسلح. وعلى اثر ردود الفعل المبالغ بها ذات الطابع العسكري من قبل السلطات الحكومية، تم تبنيه من قبل قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، وعلى ضوء ذلك اشتدت المعارك العسكرية، وقد دافعت القوى الديمقراطية عن الحل السلمي في كردستان، من خلال توقيع العرائض المطالبة بإنهاء العمليات الحربية، وعلى هذا الموقف تم اعتقال الكثيرين من أبناء الشعب العربي وزجهم في المعتقلات والسجون.
قد أخذت العلاقة بين الشعبين العربي والكردي في العراق طابعا محوريا في السياسة العامة للبلاد، طيلة فترة الستينات والسبعينات والثمانيات وحتى انتفاضة الشعب العراقي في ربيع 1991 من القرن الماضي، وكان الصراع سجالا بين حكومات تأبى تلبية الحقوق للشعب الكردي وحركات سياسية تحاول استغلال الأحداث للانقضاض وتتحين الفرص لفرض حقوقها، وقوى إقليمية ودولية تتربص لعموم الشعب، وتستغل التناقضات القائمة في تحقيق مآربها، ما يوقع الأطراف جميعا في خسائر لا تحمد عقباها، وهذا ما حدث بعد الانقلاب الدموي الذي قاده البعث في يوم 8 شباط من سنة 1963، والأحداث السياسية التي أعقبتها، والتي تميزت بين اتفاقات سياسية قصيرة المدى، والعودة لاستخدام السلاح، ما بين قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني والحكومات المركزية في بغداد حتى الإعلان عن اتفاق 11 آذار لسنة   1970 والتي سميت اتفاقية الحكم الذاتي.
فبعد سقوط حكومة عبد الكريم قاسم وسيطرة حزب البعث العربي الاشتراكي في 8 شباط 1963 تم تشكيل “المجلس الوطني لقيادة الثورة”، وهو الهيئة الدستورية العليا في البلاد، الذي يملك السلطات التشريعية وتعيين رئيس الجمهورية والوزارة، والذي ضم البعث والقوميين، ومنها احتكر هؤلاء السلطة الحقيقية في البلاد واستبعاد أي دور لممثلي الشعب الكردي عن عملية صنع القرارات، وبقي دورهم هامشيا في تشكيلة بعض الوزارات حتى سقوط النظام عام 2003، ما عدا فترة ما بعد إعلان اتفاق 11 آذار، الذي انتهى بإعلان الحكومة المركزية قانون الحكم الذاتي من طرف واحد في آذار 1974.
من الجدير بالقول: أصبح أبناء الشعب الكردي محط الشبهات في العديد من مفاصل الدولة العراقية المهمة كالدفاع والداخلية والخارجية والمؤسسات الأمنية، التي تم تعريبها وإجبار المنتسبين اليها على الانتماء إلى حزب البعث. وهذه السياسة لم يتبعها حتى النظام الملكي الذي كان رئيس الوزراء ورئيس أركان الجيش من الشعب الكردي عند سقوطه.
وكانت فترة الثمانينات من اعقد صور المواجهة ما بين نظام ديكتاتوري شوفيني عدواني والقوى المسلحة الكردستانية والتي ساهمت فيها أعداد كبيرة من العرب ضمن تشكيلات قوات الأنصار للحزب الشيوعي العراقي. وقد توجت هذه المواجهة  باستخدام الأسلحة الكيماوية سنة 1987 - 1988 المحرمة دوليا من قبل النظام الحاكم ضد أبناء الشعب الكردي في حلبجة وعدد من القصبات الكردستانية وتهجير مئات الآلاف من أبناء قرى كردستان، إما إلى خارج الحدود أو السكن في معسكرات الإيواء والمحاطة بالحراس والأسلاك.
ان انتفاضة آذار عام 1991 التي اندلعت شرارتها في البصرة وسرى لهيبها إلى قصبة رانية واربيل، تعد تجسيداً حياً لوحدة نضال الشعبين وترابط مصيرهما ضد الأنظمة الديكتاتورية، حيث وفرت الانتفاضة حالة من الاستقرار في كردستان وانتخاب برلمان وتبني شعار الديمقراطية للعراق والفيدرالية لكردستان. هذا الشعار الذي حظي بقبول القوى السياسية العربية أثناء فترة النضال المشترك.
لقد فشلت النظم السابقة القائمة على الحكم الفردي والديكتاتورية ونظام الحزب الواحد الشمولي، من بناء المواطنة العراقية المرتكزة على الهوية الوطنية الواحدة والتي يعلو فيها الولاء للوطن، فوق الانتماءات القومية والطائفية.
ومن جهة أخرى تصدى لمسؤولية الدفاع عن حقوق الشعب الكردي في العراق شخصيات ثورية، تحملت عبء المسؤولية وهي من أصول عشائرية معروفة وبيوت دينية عريقة، قدموا اعمالا جليلة لا تنسى في خدمة القضية الكردية، لكنها لم توفق في قراءة المناورات والنوايا البريطانية والأمريكية وتحركات الدول الإقليمية سيئة النية من جانب، وسوء تقدير الإدارة للأمور وعدم تجاوبها وروح العصر من جانب آخر.
 
العلاقة ما بعد الاحتلال وسقوط النظام الديكتاتوري
لقد صاغ القادة السياسيون من خلال مجلس الحكم المشكل بعد الاحتلال قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، والذي هو بمثابة الدستور المؤقت للبلاد، والذي تضمن القواعد الأساسية لبناء الدولة الجديدة من خلال تبنيه النظام الديمقراطي النيابي البرلماني والتداول السلمي للسلطة عبر انتخابات دورية. وتم إرساء أسس للنظام الاتحادي من خلال الإقرار بتمتع كردستان بالفيدرالية، والتي كانت قائمة بفعل الأمر الواقع وبحماية دولية. وهذا يمثل أفضل الحلول المطروحة للتعددية في العراق ولقضية الشعب الكردي. وهذا ما تم إدراجه في دستور سنة 2005 والذي نال ثقة الشعب عبر استفتاء شعبي.
أتيحت الفرصة للقوى السياسية العراقية بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق في نيسان 2005، ان تتشارك في إعادة النظر في طبيعة النظام القائم والذي جلب الويلات والدمار لأبناء الشعب كافة، والذي لم ينج منه أحد لا من العرب ولا الأكراد، وقد تم الأخذ بالديمقراطية التوافقية التي تعني المشاركة الواسعة في صنع القرار والإدارة الذاتية والتمثيل المتوازن لممثلي المكونات في إدارة مؤسسات الدولة وحق النقض للأقلية لضمان الحضور الفاعل لكل مكونات المجتمع ومنها ممثلو الشعب الكردي كإجراء متبع لدى العديد من الدول ذات التركيب الاجتماعي غير المتجانس ويتسم بالخلافات السياسية بين ممثلي مكوناته الرئيسية وكإجراء مؤقت حتى تتشكل الهوية الوطنية الجامعة قولا وفعلا.
ان الدولة القومية الحديثة تبنى من خلال الاعتراف بالتعددية بكل اشكالها الفكرية والسياسية والمجتمعية والثقافية واحترام خصوصية كل شعب او مكون وبالأخص لمجتمعنا الذي يسوده عدم التجانس والخلافات السياسية، جراء السياسات السابقة. الدولة القومية الحديثة تبنى من خلال تبني النظام الديمقراطي القائم على الانتخابات الدورية والتداول السلمي للسلطة، وفي ظل أجواء الحرية والتنافس وتطبيق مبدأ سيادة القانون على كل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الدائرة في المجتمع، ووجود نظام قضائي مستقل، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة بين العراقيين دون اي تمييز على أساس العرق او الدين او اللغة وفي كل المجالات. وان خيار الفيدرالية يشكل الطريق المناسب لتعايش القوميتين العربية والكردية جنبا إلى جانب مع المكونات الأخرى، وكذلك تبني الإدارة اللامركزية والتي هي شكل من أشكال الإدارة الذاتية للتشكيلات الإدارية في البلاد وإشباعها بالصلاحيات التي تؤمن نجاح عملها في توفير الخدمات العامة للمواطنين، وكذلك الاهتمام بالمكونات الأخرى في التمتع بحقوقها التي كفلها الدستور.
ان توفير هذه المستلزمات الضرورية وغيرها والعمل الدائم من اجل نهضة المجتمع وتطوير بنيته التحتية وتجاوز التحديات والصعاب من خلال الحوار والنقاش المفتوح والاحتكام للقانون والقضاء عند أية خلافات او منازعات تنشأ في مجرى الحياة اليومية هي الكفيلة لولادة الأمة العراقية المتدرجة بشكل متدرج وسلمي، وبالإرادة الطوعية الذاتية للشعبين العربي والكردي وسائر مكونات الشعب العراقي. 
 
الاستنتاجات
1 - إن ظهور القومية والدولة القومية هو ظاهرة أوربية حديثة، جراء تحلل النظم الإقطاعية بفعل نمو العلاقات الرأسمالية التي تبحث عن سوق موحدة عبر عوامل اللغة والتاريخ والثقافة والمصالح المشتركة.
2 - تقسيم دول المنطقة وتشكيل الدول العراقية بحدودها المعروفة، جاء برغبة القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، واستجابة لتطلعات قسم من أبنائها في الاستقلال.
3 - صعوبة إجراء تغييرات جدية في الوضع القائم بخصوص تطلعات الشعب الكردي في الاستقلال دون موافقة الدول الأربعة التي ينتشر فيها الأكراد في المنطقة والقوى الدولية.
4 - إن النظم الفردية والديكتاتورية والحزب الواحد والسياسة المركزية الشديدة، أساليب قد فشلت في بناء دولة المواطنة القائمة على الهوية الوطنية العراقية.
5 - ما زال للدولة دور قائم في بناء الوحدة الوطنية وتشكيل معالم الهوية العراقية من خلال ثبات عمل المؤسسات الدستورية والمشاركة الفاعلة للقوى الاجتماعية من كلا الشعبين فيها.
6 - إن الديمقراطية واعتماد الفيدرالية واللامركزية الإدارية ضمان للتطور الحر في البلاد وأفضل الحلول للتعددية القائمة في البلاد.
7 - إن من مستلزمات قيام الدولة القومية الحديثة هو العلاقة المتكافئة بين الشعبين العربي والكردي دون أي إبعاد وتهميش لأي مكون من المكونات.
8 - أهمية المشاركة الفاعلة في تسيير أعمال الدولة من قبل جميع المكونات، وكلما كان هناك استئثار بالقرار من طرف دون الاطراف الأخرى، فان ذلك سيعمق من حالة الانقسام، وبالتالي يضعف اللحمة الوطنية.
9 - ضرورة اعتماد الحوار والشفافية عند وجود أية إشكاليات قائمة وإتباع الوسائل القانونية والدستورية، ولاسيما إن جميع القوى قد ساهمت بشكل فاعل في صياغة الدستور والتصويت عليه.
 
الهوامش:
(1) د حامد سلطان، أصول القانون الدولي، القاهرة، 1975، ص 551. 
(2) حسين عثمان محمد عثمان، النظم السياسية، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2012، ص 85 - 88.
(3) د محمد رفعت عبد الوهاب، النظم السياسية، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2009، ص33.
(4) (بهاء الدين مكاوي محمد قيلي، اثر التعدد العرقي على الاستقرار السياسي، رسالة دكتوراه ( الخرطوم، كلية الدراسات العليا - قسم العلوم السياسية بجامعة النيلين، 2002)، ص 301.
(5) حامد الحمداني، صفحات من تاريخ العراق الحديث، الكتاب الأول، فيشو نميديا كرونبري- السويد، الطبعة الأولى، 2005، ص 26.
(6) القاضي الدكتور محمد عمر مولود، الفدرالية وإمكانية تطبيقها كنظام سياسي ( العراق نموذجا)، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 2009، ص 369.
(7) المصدر السابق، ص 372.
(8) علي محسن مهدي، الإجراءات الشكلية والموضوعية لتعديل الدستور العراقي، دار الرواد المزدهرة، بغداد، 2014، ص 35.
(9) Derk Kinnane, THE KURDS AND KURDISTAN, London,1964,p 36                                                                                  
(10) جريدة الزمان الدولية بتاريخ 14-8- 2021
(11) كان يتولى مهام رئيس الجمهورية، تشكل على اثر قيام ثورة 14 تموز 1958، وهو يتألف من رئيس وهو السيد نجيب الربيعي وعضوية كل من الشيخ محمد مهدي كبة من العرب الشيعة وخالد النقشبندي من الكرد السنة.