أيار 14
 
يستند فهم طبيعة الصعود الدراماتيكي لما يطلق عليه بالإسلام السياسي، أو ما يسميه أنصاره بالصحوة الإسلامية، منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، على قراءة علمية للأسس الأيديولوجية المشتركة التي تحرك نشاط قوى هذا التيار ومظاهر القوة والضعف التي يتسم بها. وعلى الرغم من تباين البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأطيافه المذهبية، فأن الأسس الفكرية التي تستند عليها أغلب تلك الأطياف تكاد تكون مشتركة.
ولعل من أبرز الأسباب التي أدت الى صعود هذا التيار ومكّنته من مواجهة القمع السياسي المتواصل الذي تعرضت له قوى المجتمع المختلفة، إحتماؤه بالمؤسسات الدينية وتلفعه بأردية مقدسة، إضافة الى إنحسار الوعي الوطني وتشظيه إلى أشكال متخلفة "عشائرية، طائفية، قومية، ومناطقية"، وغياب قدر مناسب من العدالة الاجتماعية، والتخادم السياسي مع الغرب إبان الحرب الباردة، وإنهيار التجربة الإشتراكية وإنحسار قوة تأثير المشروع القومي في العديد من الدول الوطنية.
ورغم إن ذات الأسباب، أو اغلبها، قد كان وراء نمو الإسلام السياسي الشيعي أيضاً، الا أن إستناده الى فكر مختلف ومتميز نسبياً، وفّـر عوامل اضافية لنموه، من أهمها تغير الأسس الفكرية التي تعلل مسار تطور مناهجه، تحت تأثير الصراعات السياسية ـ الفكرية، الداخلية منها والخارجية.
وكان نتيجة ذلك، العديد من الصور المتداخلة والمتقاطعة والأسئلة المهمة والمركبة التي تثقل المتابع لما حدث ويحدث في شرق المتوسط، وخاصة الباحث الذي يسعى لتحقيق قراءات علمية للفكر الشيعي الأثني عشري وما يلعبه من دور مهم في عالم اليوم، حيث تتداخل صور الدولة الثيوقراطية التي تتبنى مفهوماً جامداً للدين بكل عباداته ومعاملاته، وصور ميليشيات مسلحة تحتكر ساحة الوعي وتغطيها بما تدعيه كحقيقة مطلقة، مع صور الشعارات الداعية للعدالة والإستقلال ومواجهة الظلم والإحتلال، تلك التي كانت لزمن طويل حكراً على الثوريين، واليساريون منهم بشكل خاص، ومع صور لشيَبَة، بعمائم ولحى كثيفة، تذكي جمر عزيمتها من قبس بندقية جيفارا.
ويشتد الناس حيرة، حين يبدو إتساقهم مع شعارات العدالة والتحرر تلك، إصطفافاً مع التزمت الديني والإستقطاب المذهبي والموقف الملتبس من الحريات، أو حين تبدو إدانتهم للتزمت والقمع تقاطعاً مع الشعارات الثورية والشبيبة المقاومة. ولفك هذا الإشتباك وتبديد حيرة الناس، كان لابد من من معرفة الأسس الفكرية التي إرتكز عليها هذا التيار، ودرجة التفاعل المتبادل بين هذا الفكر وبين مجموعة العوامل المحيطة به، كالوعي بالغياب الشامل للعدالة الاجتماعية والحرية السياسية، وكمستوى توفر حد مناسب من إرادة التغيير لدى الناس، وكمدى إتساق أحلامهم مع واقع احتكر فيه المستبد، الثروة والقوة وحتى رحمة السماء!
ورغم إن المكتبة العربية باتت تعج بالكثير من الدراسات التي تبحث في النظام السياسي الإسلامي وتاريخ الفرق الإسلامية المختلفة، فإن كتاب الدكتور فاخر جاسم (لمحات تاريخية من تطور الفكر السياسي الشيعي)، والصادر
حديثاً عن دار "فكرة" المصرية، يعّد بحق محاولة ناجحة في هذا الإتجاه، وسعياً للإجابة على الكثير من التساؤلات التي أشهرها الواقع علينا، هذا الواقع الذي وصلت فيه القوى والحركات السياسية التي تعتمد على العقيدة السياسية الشيعية،
إلى السلطة في دولتين من أهم دول العالم العربي والإسلامي (إيران والعراق)، خلال فترة لم تتجاوز ربع قرن. كما يعد مساهمة في تبديد العتمة أو عدم الوضوح عن الفكر السياسي لدى الشيعة الإثني عشرية، والذي يتمتع بحيوية وتجدد مستمرين، كما يعتقد الكاتب، لدرجة تركت تأثيراً كبيراً على تطور الفكر السياسي الإسلامي بصورة عامة، حيث وجد المفكرون الإسلاميون في الأبحاث الشيعية حول الإمامة، وشروطها وما إذا كانت نصاً إلهياً أم تركت خياراً للأمة بعد وفاة الرسول، ما يثير الاهتمام ويدعو لتطوير البحث. كما يتمثل الأثر التاريخي الهام لهذا الفكر أيضاً في رفع راية الكفاح ضد الاستبداد والقهر الذي مارسه الحكام المسلمون وفي الوقت نفسه الدعوة للحرية والمساواة ودولة العدالة.
ويسعى الكتاب الى الرد على الفكرة التي تبنتها معظم الأبحاث الأكاديمية، التي تناولت موضوع الإسلام السياسي الشيعي، وإعتبرته كتلة واحدة، ويكشف عن حجم التباينات بين أطرافه في تبني الإطروحات الفكرية المختلفة، كعلاقة الدين بالدولة وعلاقة الإسلام بالديمقراطية ومفهوم العدالة الاجتماعية والحريات الشخصية وغير ذلك. ويرى أن هذه الدراسات لا تأخذ بنظر الإعتبار أن تاريخ الأفكار، بما فيها الفكر الديني، نتاج للظروف الفكرية والاجتماعية لعصرها، ولا يوجد تاريخ للأفكار خارج هذه الظروف، وهو أمر يرتبط إدراكه بفك الإرتباط بين الفكر الديني والدين نفسه. إن القصور في ميدان دراسة هذا التراث، يستدعي من الناحيتين الكمية والنوعية، مواصلة البحث بطريقة مختلفة، لاسيما مع إتساع دائرة الإهتمام بهذا الفكر جراء تعاظم دوره في الحياة السياسية، إقليمياً ـ بشكل مباشر ـ ودولياً بشكل مكمّل، وهذا ما سعى الكتاب لتحقيق بعضه.
إن فك الإرتباط بين الفكر الديني والدين يعتمد على توضيح الفروق الجوهرية بينهما، فالأول فعل بشري خاضع للظروف الاجتماعية والمتغيرات الخاصة بمنتجي هذا الفكر. أما الدين فهو حقائق ذات قدسية خاصة. كما تتجلى هذه الفروق بتباين الإجتهادات تجاه فهم نفس الحقائق الدينية وذلك بإختلاف المفكرين أو/ وبإختلاف الظروف التي يفهمون بها تلك الحقائق. وبناء على ذلك يعتبر الإستقواء بالنصوص الدينية واللجوء للتكفير والتحريم ضد الخصوم السياسيين والفكريين، دليلا على ضعف الحجج التي يقدمها رجل الدين أو الحزب السياسي الديني لإقناع الناس بآرائه الفكرية وبرامجه السياسية. وفي الوقت نفسه تدلل على قوة الحجج والأفكار التي يكفرونها بين الناس. كما تلعب علاقة الدين بالدولة دورا مهما هنا، فبما أن الدين يشكل أحد المصادر المهمة للوعي الاجتماعي في البلدان الإسلامية، فإن العمل على حفظ التوازن بين الدولة والدين، بحيث لا يحوي الدينُ الدولةَ فيتأثر مجال الحرية، ولا تحوي الدولة الدين،
فيتحول إلى فكر سلطاني يستخدم كسلاح أيديولوجي لتبرير الاستبداد والقهر الذي تمارسه السلطات ضد المواطنين، بدلاً من أن يكون سلاحا بيد الطبقات الفقيرة والكادحة لتحقيق العدل والمساواة (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) "القصص.5".
لقد إهتم الكتاب بالتعريف بمسارات تطور الفكر السياسي لدى الشيعة الإثني عشرية في عصر الغيبة، ومجموعة العوامل التاريخية ـ الاجتماعية والسياسية التي تحكّمت بنشوئه وتبلوره ومسار تأثيره على تطور الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلدان التي نشأ أو تفاعل أو ساد فيها، ومسار تأثير ظروف هذه المجتمعات على المتغيرات في هذا الفكر. ونجح الباحث في الإجابة على الأسئلة الهامة المرتبطة بذلك ومنها، لماذا لم تندثر حركة الشيعة، كغيرها من الفرق الإسلامية الاخرى التي ظهرت في التاريخ الإسلامي، على الرغم من تعرضها للإضطهاد القاسي والتشويه على أيدي الحكام، وما أسباب قدرة الفكر السياسي الشيعي على بناء سلطة تقوم على العقيدة السياسية للشيعة، وبناء قوى وحركات نشطة تعتمد على المذهب الشيعي كأيديولوجية، وهل أفرزت مسيرة تطور الفكر السياسي الشيعي نظريات أخرى غير نظرية ولاية الفقيه المطبّقة في إيران في الظروف الراهنة، وهل كانت المعارضة السمة الرئيسية للفكر السياسي لدى الشيعة الإثني عشرية؟
وحول ما أضافه الكتاب لمكتبة العلوم الإنسانية العربية يمكننا القول إن الدراسات السابقة لتاريخ الفرق الإسلامية تميل إلى السرد التاريخي المجرد للأحداث، دون الاستفادة من استخلاص العبر التي تفيد واقعنا المعاصر.  وهذا الامر ينطبق على الأبحاث التي كتبت عن الفكر السياسي للشيعة بشكل عام والشيعة الإثني عشرية بشكل خاص، لذلك حاول الكاتب منذ البداية استشفاف العبر الاجتماعية من حركات الشيعة الثورية وهي كثيرة، ومن أهمها الجانب الاجتماعي الذي كان السمة البارزة. بمعنى سعي هذه الحركات إلى تحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية، تلك المبادئ التي كانت غائبة عن ممارسة أغلب الحكام المسلمين والتي ينطبق عليها وصف شيخ المعتزلة الحسن البصري الذي قال: هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم، ويقولون إنما تجري أعمالنا على قدر الله تعالى .. كذب أعداء الله". ولهذا السبب اعتبر مفكرو السلطات الحاكمة كل من يسعى لتحقيق هذه الأهداف من الزنادقة والملحدين كحركات المختار وزيد بن علي والزنوج والقرامطة والبابكية وغيرها. ومن نافل القول الإشارة الى أن الباحث في مجال التراث الفكري للفرق الإسلامية لا يمكنه التوصل إلى العبر الاجتماعية لحركات الشيعة بدون ربطها بالظروف الواقعية التي نشأت وتطورت فيها، فهي التي توضح لنا لماذا انحاز الفقراء والمضطهدون من كل الأقوام التي خضعت للحكم الإسلامي، الى جانب حركات الشيعة وكونوا القاعدة الاجتماعية لها. فالناس لم ينحازوا لأفكار الإمام علي (ع) وثورة الإمام الحسين (ع) وغيرهم من أئمة اهل البيت لأنهم من سلاسة الرسول (ص) فقط، بل لأن أفكارهم وسيرتهم الذاتية كانت تجسد أفكار العدالة والمساواة الاجتماعية. ولهذا السبب أيضاً لا يمكن ان تستخدم أفكار أئمة الشيعة الإثني عشرية كأداة في الكسب السياسي والصراع المذهبي والطائفي والإثراء غير المشروع وكسب المكانة الاجتماعية، لأنها قيم اجتماعية وفكرية أكبر من ان تحتويها فئة او حزب سياسي أو طائفة. فالأفكار الاجتماعية للإمام علي، على سبيل المثال، غالبا ما يمر عليها الباحثون مرور الكرام دون اكتشاف دورها الفكري في التاريخ الإسلامي وجانبها التحريضي ضد الاستبداد السياسي والحرمان الاجتماعي الذي مارسه أغلب الحكام المسلمين ضد فقراء المسلمين وكادحيهم.
لقد كان نجاح الكتاب في تحقيق أهدافه، بديهياً لما يتمتع به الباحث من قدرة متميزة، ليس في إنارة درب المعرفة، بل وأيضاً في تحليل الظواهر والأحداث بمنهجية علمية، وفي نقد بعض المسلمات وإعادة صياغتها لنا، لنتعرف على مصداقيتها من جديد، أو لنتخلص منها كمعيقات بائسة للتقدم، الأمر الذي جعل الكتاب جديراً حقاً بالقراءة لأكثر من مرة، على حد تعبير تولستوي.