أيار 17
 
تاريخياً
يرتبط تطور اي بلد بدرجة تطور التعليم لديه. والسويد نموذج له خصوصية تاريخية؛ ففي عام 1842 في زمن الملك كارل الثاني عشر اصدر الملك مرسوماً ملكياً جاء فيه، انه على كل وحدة إدارية (ما يشبه البلديات الحالي) ان تفتح مدرسة لتعليم السكان في كل المملكة. واحدة من تلك الوحدات الصغيرة في وسط غرب السويد، ردت على المرسوم الملكي، انه ليس لديها ما يكفي من المال لأنها قد رصدت ما لديها هذا العام لتجديد باب الكنيسة المهترئ. كان رد الديوان الملكي بانه لا يقبل اي اعتراض لأي كان لعدم تنفيذ القرار، وكانت اول خطوة في المجتمع من اجل التعليم العام وقد سميت مدرسة الشعب.
منذ ذلك الحين لم تتوقف المدرسة السويدية عن التطور مع مجريات التطور العالمي لغاية اليوم. والتي شملت المناهج، وطرق التدريس، واستخدام النظريات العالمية الحديثة في كل مرحلة. والتي اعتمدت في النهاية على فلسفة تعليم من التلقين الى الإبداع، ومن المعلومة المطلقة الى الشك والنقد، في كل من المنهج وطرق التعليم الى توفير اخر المستجدات المختبرية والعلمية للطلبة، لربط المعلومة بالتجربة العملية لتسهيل استيعابها وتطويرها.
بدأت المناهج كبقية العالم من البسيط والمقرر بكل التفاصيل الى أن وصلت اخيراً الى خطوط عامة لكل مادة. وهناك شركات تقوم بترجمة محتواها كل بطريقته وطبعها ككتب تعليمية، وهناك على الاقل عشرة منها لكل مادة دراسية، وتشتري المدرسة باتفاق المدرسين في المادة المعينة ما تراه الأكثر مناسباً لطلبتها، ومن ميزانيتها.
 فبدلاً من كتاب واحد، فيه 1+2+2=5، يمكن أن يكتب بعدة اشكال اخرى تؤدي نفس الغرض.
لطرق التدريس فلسفتها الخاصة في السويد والتي قد تشبه جيرانها الى حد ما، لكنها تبنى على عدة دعائم اولها اعطاء المدرس حرية الطريقة في التدريس للمادة ضمن المنهج للمرحلة بقسميها النظري والعملي، وقد تتفق مدرسة على استخدام نظرية تربوية خاصة بها. والثانية هي الانطلاق من مستوى الطالب وليس اعلى منه او اقل بكثير، لكي يستطيع التطور والاستيعاب. والثالثة هي عدم ربط الطالب بالمنهج كحد اقصى بل اعطاؤه فضاءً مفتوحاً للأعلى بلا حدود وتشجيع ذلك، والمجتمع مهيأ لذلك ايضاً. فمثلاً طلبة الثالث المتوسط يطرحون اسئلة ـ في لقاء ـ على اساتذة وطلبة احد المعاهد المهمة بالتكنولوجيا وغيرها خلال زيارة للمعهد، لاكثر من هدف: لتهيئتهم للمستقبل، ومنحهم إحساسا يمكنهم من الوصول الى هنا للدراسة، وزيادة الثقة بأهمية ما يتعلمونه الآن للمستقبل.
يتضمن المنهج المدرسي نقطة حاسمة في التعليم ألا وهي توفير فرصة البدء بالبحث والتجريب وربطها بالمنهج. مثال ذلك في مادة الفيزياء والتكنيك يختار المدرس واجباً او تجربة تشمل عدة مواضيع مع بعضها، لكي ينمي التفكير بان كل الظواهر الطبيعية مترابطة ومتداخلة رغم دراستها منفصلة عن بعضها. مثال: كيف يمكن ان يعمل تصميم لاسقاط بيضة نيئة من ارتفاع ثلاثة الى خمسة امتار دون ان تنكسر؟ هنا يتم العمل وكأنه مستحيل لكن بعد عدة محاولات فاشلة تتمكن الغالبية من النجاح، وتجري مسابقة بين افضل التصاميم، ويقوم كل منهم بتفسير سبب النجاح والفشل سابقا. (هل ينسى الطالب هذه التجربة؟ لا اعتقد لاني التقيت البعض بعد سنين وهم ما زالوا يتذكرونها بابتسامة). والامثلة كثيرة لا تحصى.
العوامل الدافعة للبحث والتطور تبدأ عادة مبكراً بإثارة اسئلة وليس اعطاء اجوبة لاسئلة مسبقة من الكتاب المدرسي. هذا يعطي الطالب الاحساس بانه ليس هو من لا يعرف الجواب بل الاغلبية لانهم لم يتطرقوا له بعد. كما ينطلق الدرس من البيئة القريبة المحيطة لتكون ملموسة وسهلة التعرف عليها وتذكرها عند الحاجة. والدافع الاخر الذي يساعد على التعلم هو العمل ضمن مجموعات معاً من اثنين الى اربعة في اغلب الدروس للتعاون والاستفادة من وجهات نظر بعضهم البعض تطبيقاً لنظرية الباحث فارانس مارتون المجري الاصل، صاحب نظرية تقول بان التعلم يصبح اسهل وأكثر نجاحاً اذا كان يتم بطرق مختلفة لكي تناسب الطالب نفسه، كمن يرمي كرة في سلة، فلكي ينجح افضل، عليه ان يغير زاوية رمي الكرة. من المهم ان يكون التعليم موضوعيا. بمعنى عدم الخلط بين العلوم المختلفة والقضايا غير العلمية. فيتم تدريس الاديان كلها حسب ما هي دون تفريق بينها، لان هذا غير خاضع سوى لأحاسيسك بغض النظر عمّا هي. 
 العلم واللاعلم
يدور الكثير من اللغط حول مفهوم العلم واللاعلم وبالارتباط بالدين او المعتقد وهناك خلط بينهما احيانا من قبل البعض، لذا بودي توضيح هذا الاختلاف وبقدر من التبسيط دون ان يفقد الجوهر.
العلم هو كل ما يمكن إثباته او تفنيده بالشكل التجريبي او النظري الذهني بالاعتماد على الحقائق المتوفرة في زمن معين لدى الانسان، وهذا متغير باستمرار لانه بسبب التراكم الكمي للمعرفة العلمية تظهر دائماً تعديلات على المعلومة السابقة لتكون اكثر دقة اولاً ثم تصل الى نظرة مختلفة او ظهور نظرية جديدة او ما يسمى اتجاها مختلفا بشكل كبير على تلك الظاهرة السابقة، وهذا يشمل كل العلوم الطبيعية والانسانية وكل ما يسمى علما. فمثلاً عندما جاء نيوتن بقانون الجاذبية المعروف فقد وضع نظرية لكيفية تفسير لماذا تسقط الاشياء على الارض واستخلص ابعاد ذلك في كل المجالات بما في ذلك الكواكب والاجرام الفلكية، والثانية هي نظرية بياجيه التربوية التي سادت لنصف قرن، وما زالت فاعلة وبرزت نظريات ما تسمى بما بعد بياجيه والتي طورها اتباعه. ومن جهة اخرى ترجمت لاول مرة في السبعينات افكار التربوي الروسي ليف فيكوتسكي المتوفى عام 1934 المختلفة عن بياجيه في المنطلقات والتحليلات والتي تدرس منذ التسعينات في جامعات العالم، اي انها لم تكن في متناول الناس قبل ذلك، وبالتالي لم تكن جزءاً من التراكم المعرفي المطلوب في مجاله. لقد اثبت اينشتاين ان نظرية نيوتن غير صحيحة في ما يخص الفلك لانها تخضع لقوانين اخرى وجاء بنظرية اكثر تفصيلاً في مجالات الجزيئات النووية من جهة، ولكن حتى هو كان غير دقيق في تحديد بعض الجوانب كالحد الاقصى للسرعة بسرعة الضوء، لان علماء اليوم تمكنوا من التوصل الى سرعة تعدل ثلاثة اضعاف سرعة الضوء. ولكن هذا كله لا يعني عدم صحة النظريات العلمية بل يؤكد تطورها المستمر من الادنى للأرقى.
السؤال كيف يتم تطور العلوم بشكل عام؟ والجواب سهل لكونه يتبع عدة خطوات واضحة جدا، وهي:
اولاً: قبول العلم المتوفر اليوم كنقطة بداية وهذا هو جهد آلاف البشر وتراكم خبرة آلاف السنين.
ثانياً: هو محاولة فهمها والنظر اليها على انها عمل بشري وتدقيقها بنظرة نقدية وتشكيكية لما يراه الشخص مختلفاً والتفكير بتفسير او رأي مغاير او ما يسمى فرضية جديدة للظاهرة او جزء منها، وهذا غالباً لا يؤدي الى اية نتيجة، لكنه مهم جداً، لانه اساس التطور وتجربة الافكار الجديدة.
ثالثاً: تجريب الفكرة او الفرضية وهنا ياتي ما نسميه (العلم) سواء كان ذلك تطبيقياً ام منطقيا ذهنيا، وسواء كان جزئياً ام شاملاً. ففي حالة نجاح واثبات ذلك تتحول الفرضية الى نظرية، بهذا القدر او ذاك. وهذا بدوره يترك اثره على بقية المجالات القريبة اذا كانت نظرية عامة كالنسبية او جزئية كالثقوب السوداء او في مجال ضيق جداً لا يتجاوز تفصيل في اختصاص محدد جداً مثل شحنة الالكترون الموجب. والتي تعاد من قبل الآخرين بنفس الظروف والطريقة، للتأكد من الاستنتاج الذي خرج به الباحث.
رابعاً: الحقيقة العلمية، عندما تتم تجربة النظرية من جوانبها المختلفة وتثبت انها تتطابق مع مضمونها لدرجة كبيرة وتصبح مقبولة من قبل المختصين في مجاله، عندها يقال انها اصبحت في حقل الحقيقة لكنها ليست مطلقة، بمعنى انها تخضع للاختبار والنقد العلمي باستمرار من قبل الآخرين لدحضها والمجيء بالبديل او لتطويرها اكثر في احد مفاصلها. وهذا هو الفرق الجوهري بين العلم عن غيره.
اما اللاعلم فهو يمكن ان يكون اي شيء آخر. ما دام لا يخضع لهذه الخطوات وبهذا التسلسل.
 
هوامش:
  •  دٌرِسَت هذه في المدرسة المتوسطة في السويد في السنة الاخيرة كمدخل في موضوعة تطور الكائنات العضوية حسب نظرية داروين من قبلي لسنين في مادة العلوم الطبيعية. إضافة الى مواضيع اخرى لها علاقة بالموضوع.
  •  جامعة التكنولوجيا في مدينة يتوبوري. Charlmers  ـ  
  •  الباحث التربوي فارانس مارتون المجري الاصل.
  •  مرسوم الملك كارل الثاني عشر عن المدارس الشعبية عام 1842.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبد العزيز ججو: عبد العزيز ججو، خريج جامعة بغداد عام 1970 كلية التربية قسم علوم الحياة. عمل في التدريس في العراق والجزائر والسويد لغاية 2020. درس علوم الرياضيات في السويد. ودَرَّس باللغة السويدية مادة الاحياء والرياضيات في الإعدادية والفيزياء والكيمياء والتكنيك، في المدارس المتوسطة السويدية.