أيار 19
   مقدمة
     شهد العراق، وعبر مسيرة طويلة من النضالات منذ عشرينات القرن الماضي إلى تسعيناته في انتفاضة آذار المجيدة 1991 نضالات متلاحقة سعت إلى وطن لا يتحكم فيه الأجنبي ويعيش أبناؤه بحرية وسلام وسعادة. وقد وصلت ممارسات النظام الديكتاتوري الشمولي حدا بالغا من القسوة والعنف وإلى إسكات أي صوت ينادي بمطالب عادلة، وفرض تحكم الحزب الواحد والرأي الواحد الذي يؤله الطاغية. إن الأزمة المستفحلة بين سلطة القهر والاستبداد، وبين الجماهير المكتوية بالعسف لم تكن بعيدة عن تأثير الغرب، أوربا وأمريكا على مجرياتها، وذلك بوقوفهما إلى جانب النظام الديكتاتوري ودعمه.
بادرت الولايات المتحدة الأمريكية إلى التدخل المباشر في أوضاع البلاد، بذريعة امتلاك النظام لأسلحة الدمار الشامل، إلى احتلال البلاد وإسقاط النظام الديكتاتوري. ولم يكن الدافع لإسقاط النظام تسلطه ووحشيته في قمع معارضيه واستهتاره بحقوق الإنسان؛ بل مواصلة الهيمنة والتحكم بمصائر العالم وإظهار الغطرسة، خصوصا بعد الضربة التي تلقتها الولايات المتحدة في أيلول 2001 على يد الإرهاب الذي صنعته ودعمته.
إن إسقاط الأنظمة بالقوة العسكرية الخارجية، وتقديم الديمقراطية كوصفة جاهزة في بلد صودرت فيه ومنذ عقود من الزمن أبسط الممارسات الديمقراطية لم يكن أمرا صحيحا، حيث دعمت الولايات المتحدة القوى التي تناهض الديمقراطية، وهذه القوى وإلى وقت قريب كانت تعادي الديمقراطية وتكفرها. إن ما حصل يمكن اعتباره استباقا لما قد يحصل؛ وهو أن تبادر الشعوب إلى صنع مستقبلها بأيديها، فالولايات المتحدة وقفت وتقف ضد طموحات هذه الشعوب في قيام أنظمة ديمقراطية سليمة.
وشهدت البلاد منذ الغزو العسكري في 2003 أكثر من دورة انتخابية لمجلس النواب ومجالس المحافظات في بادرة من المحتل ومن القوى المهيمنة المتحكمة بالسلطة لإضفاء الطابع الديمقراطي على الحياة السياسية. وتركزت الممارسة الديمقراطية على العملية الانتخابية، وأصبح الصندوق الانتخابي هو معيارها دون منظومة آليات وقيم الديمقراطية التي تم انتهاكها في ممارسات مفضوحة. وإن القوى المشتركة في تقاسم كعكة السلطة والمتنافسة والمتصارعة في ما بينها، حتى في القائمة الواحدة تشتكي دوما بعد كل دورة انتخابية من شبهات تلاعب وتزوير بنتائج الانتخابات واستخدام للمال السياسي للتأثير على الناس وتزييف إرادتهم. وقد شاع استخدام تعبير المال السياسي متجاوزا المحلية فأصبح عالميا، تتداوله الأدبيات السياسية والإعلامية، خصوصا في العقود الثلاثة الأخيرة.
وقد تعمقت الفوارق الطبقية في المجتمع العراقي، ما بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، إلى الدرجة التي يضطر فيها البعض إلى العيش على مخلفات القمامة وما تجلبه من أمراض، ويقيمون في مساكن عشوائية تنعدم فيها أبسط الشروط الصحية، وهذا ما ولد بيئة سياسية صالحة لتأثير المال في حياة الناس، وهو يؤشر غياب الحد الأدنى من معايير العدالة الاجتماعية.
إن العوامل والظروف التي أشاعت استخدام المال السياسي هي نفسها التي صنعت كثيرا من المفاسد في الحياة السياسية، فهو يعكس صورة للتشويه والخراب الاجتماعي الذي حل بالبلاد، وانهيار منظومة القيم الأخلاقية، التي بدأت بوادرها في عهد النظام الدكتاتوري السابق، وتواصلت بعد الاحتلال بمديات واسعة.
فالمال السياسي هو المال المستخدم للفساد والإفساد، كشراء الأصوات والذمم، أو التزوير، أو الرشوة، أو التأثير على الخصوم السياسيين ومحاربتهم، أو لتفتيت قوى المعارضة، أو لبيع المناصب والدرجات الوظيفية والعقود، كما يساهم المال في تمرير قوانين معينة من خلال شراء النواب أو رشوتهم. وأنشأت بعض الأحزاب المتنفذة مكاتب اقتصادية تهدف إلى الكسب المالي لتوظفه في أهداف سياسية، كذلك انعدام الشفافية في مصادر تمويل الحملات الانتخابية. كما استخدم المال إعلاميا، بشكل واسع، عبر الكلمة المطبوعة والمسموعة، والفضائيات والبرامج وشبكات التواصل الاجتماعي، بمنحه للإعلاميين والمثقفين الذين يروجون توجهات وآراء الأحزاب المعادية للديمقراطية.
ولا شك أن المال يلعب دورا مهما في حياة الناس، وله تأثير في مختلف مناحي الحياة السياسية، ويتكامل دوره مع وسائل أخرى لتسييس الناس، من الإغراء واللين إلى العنف والإرهاب. ولم يقتصر وجوده وتأثيره في بلد معين، حيث يمكن أن نتلمس تأثيره في كيان الدول، في الأحزاب الحاكمة وفي الأحزاب المنافسة لها. إن استخدامات المال السياسي اقترنت بالصراع على السلطة والنفوذ في مختلف العهود التاريخية التي شهدها الحراك الاجتماعي في مختلف بلدان العالم.
 
المال السياسي في فترتي الخلفاء الراشدين والدولة الأموية
ورغم حداثة التسمية، ومن خلال تقليب صفحات الماضي، يمكن الإشارة إلى بعض استخدامات المال في التاريخ الإسلامي، ففي عهد الخلفاء الراشدين، وفي الصراع على السلطة بعد مقتل الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان (35 هجري)، عين الخليفة الإمام علي (عبدالله بن عباس) واليا على اليمن، فوليها، وخرج واليها المعين من قبل الخليفة عثمان وهو (يعلى بن منبه) "وأخذ ما كان حاصلا من المال ولحق بمكة وصار مع عائشة وطلحة والزبير وسلم إليهم المال"(1). ويحدد ابن العربي مقدار المال "وأعطى يعلى لطلحة والزبير وعائشة أربعمائة ألف درهم"(2). وهذا المال وإن اتخذ مظهر المطالبة بالثأر لمقتل الخليفة عثمان، فقد كانت وراءه نيات سياسية واضحة تتأكد من خلال توجههم للبصرة، بعد أن نصحهم والي البصرة، الموالي لعثمان (عبدالله بن عامر) بعدم الذهاب إلى الشام لأنها مضمونة من قبل معاوية. 
وبعد مقتل الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب، ومن خلال المراسلات بين الحسن بن علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان حول النزاع على الخلافة، يعرض معاوية على الحسن "أن يجعل له خراج الأهواز مسلّما في كل عام، ويحمل إلى أخيه الحسين في كل عام ألفي ألف (مليونان)، ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس"(3). أي المال مقابل تنازل الحسن عن الخلافة، وقد حرص معاوية على أن يكون هذا الأمر من شروط الصلح، وترد رواية في مصدر آخر تنص على عرض مختلف وتعرض شروط التنازل بصيغة أخرى، فبعد أن كتب الحسن إلى معاوية "دع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فإنك تعلم أني أحق لهذا منك عند الله وعند كل أوّاب حفيظ". فكتب معاوية كتابا، يرفض طلب الحسن، وعرض فيها أهليته ومميزاته وتجربته وخبرته السياسية، وطلب منه أن يدخل في طاعته "فادخل في طاعتي ولك الأمر من بعدي ولك في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ، تحمله إلى حيث أحببت، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك، يجبيها لك أمينك ويحملها إليك في كل سنة"(4). في رسالة الحسن دعوة مبايعة إلى معاوية، أما جواب معاوية فهو عرض واضح للرشوة.
وفي الصراع الذي دار بين بين معاوية بن أبي سفيان والحسن بن علي، أرسل معاوية إلى قيس بن سعد (كان قائدا في جيش الحسن) يريد أن يأخذ البيعة منه قائلا "على طاعة من تقاتلني وقد بايعني الذي أعطيته  طاعتك (أي الحسن بن علي) فأبى قيس أن يلين له حتى أرسل إليه معاوية بسجل قد ختم عليه في أسفله فقال اكتب في هذا السجل ما شئت فهو لك" وقد نجحت خطة معاوية واشترط قيس فيه (أي في السجل) له ولشيعة علي الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال، ولم يسأل معاوية في سجله مالا وأعطاه معاوية ما سأل(5).
ويورد اليعقوبي أن (قيس بن سعد) رفض عرضا ماليا قدره مليون درهم من معاوية، بينما قبل عبيدالله بن عباس العرض نفسه، فانحاز بسبب المال إلى معاوية وخان الحسن "وجّه معاوية إلى قيس بن سعد يبذل له ألف ألف درهم (مليون) على أن يصير معه أو ينصرف عنه، فأرسل إليه بالمال، وقال له: تخدعني عن ديني! فيقال: إنه أرسل إلى عبيدالله بن عباس وجعل له ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس على محاربته"(6).
ويؤكد مؤرخ آخر قبول عبيدالله بن عباس لرشوة المليون بالصيغة الآتية؛ كتب معاوية إليه "فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا، وإلا دخلت وأنت تابع، ولكنك إن جئتني الآن أعطيك ألف ألف درهم، يعجل لك في هذا الوقت النصف، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر، فانسل عبيدالله ليلا، فدخل معسكر معاوية، فوفى له بما وعده"(7). وهكذا نجح الإغراء المالي في تفتيت قوة الخصم، وكسبه إلى جانب معاوية.
  كما استخدم المال لتصفية الخصوم السياسيين، فقد أعطى معاوية مائة ألف درهم إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس، لأنها دست السم في طعام الحسن بن علي، وكان قد وعدها كذبا أن يزوجها ابنه يزيد(8).
ومثال من العهد الأموي، حيث استخدم المال للتأثير على بعض مواقف القوى السياسية، أو كسب موقفها بواسطة الإغراء المالي، فبعد موت مروان بن الحكم (ت65 هجرية) حصل تنازع على السلطة ثم اتفق على أن يكون الخليفة هو عبدالملك بن مروان، وبعد موته يخلفه عمرو بن سعيد بن العاص، وكتبا في ذلك كتابا وأشهدا أشراف الشام عليه، ولكن عبدالملك كان يتحين الفرصة للغدر بعمرو، فدخل عمرو على عبدالملك يوما، وقد استعد عبدالملك للغدر به "فأخذ وأضجع وذبح ولف في بساط" وأحس أصحاب عمرو بالمكيدة، وهم بالباب، فنادوا صاحبهم، فأخذ عبدالملك خمسمائة صرّة، في كل صرة ألفا درهم (المجموع مليون درهم) وأمر أن تلقى من أعلى القصر على أصحاب عمرو بن سعيد، فترك أصحابه الرأس ملقى وأخذوا المال وتفرقوا. وهذا الحادث يوضح لنا كيف استخدم عبدالملك بن مروان سلطان النقود لعزل أنصار عمرو، وجعله يواجه مصيره وحده، ويكشف لنا أيضا سلوك الخليفة في الغدر بما يتنافى وأبسط القيم الإنسانية. ومع ذلك وفي صباح اليوم التالي أخذ عبدالملك خمسين رجلا من أصحاب عمرو ومواليهم فضرب أعناقهم وهرب الباقون فلحقوا بعبدالله بن الزبير(9).
ويلخص الدكتور محمد الطيب النجار سياسة العطاء في العصر الأموي فيرى أن "الدولة الأموية جعلت الغاية هي تمكين الأمر لها وتثبيت دعائمه، واستخدمت الأموال، واستغلت العطاء لتحقيق هذه الغاية، فكان معاوية يزيد العطاء أو ينقصه أو يقطعه على حسب الاقتضاء" و"الأمويون كانوا لا يبخلون بمال في سبيل القضاء على قوة المعارضة وإحباط أغراضها"(10).
 
المال السياسي والشعر
ونجد في التراث العربي، وخصوصا في الشعر، وقبل التطور المذهل في وسائل الاتصالات والإعلام، حيث كانت الكلمة المسموعة والمقروءة تمارس تأثيرها القوي، نماذج لاستعمال المال السياسي، أغدق فيه الخلفاء والسلاطين وأولو الأمر على مادحيهم ومروجي تبرير تسلطهم، وإشاعة ما ليس لهم من الصفات الحميدة؛ فتصرفوا بالمال العام وأهدروه بحسب المزاج والأهواء.
ونظرة عابرة إلى العصر الأموي (41 - 132هجري) ترينا بعض نماذج هدر المال العام، حيث لجأت السلطة إلى الشعر لتبرر شرعيتها، في خضم الصراع الذي دار بين الأمويين والقوى المعارضة لهم، وعلى امتداد تاريخهم. لقد امتهن الأدب، وأصبح سلعة تباع في سوق أصحاب الأمر والنهي، وظهر مجموعة من الشعراء هم نتاج لتلك الظروف وتلك البيئة وتأثيراتهما، فأصبحوا يقفون على أبواب الأمراء ينتظرون جوائزهم، والأمراء يملؤهم الغرور لسماع كلمات المديح، فيتصرفون بالمال كما يشاؤون دون حسيب أو رقيب.
إن توظيف الشعر في الصراع السياسي ليس وقفا على الأمويين، بل شهدته العصور اللاحقة، كما أن القوى المعارضة للسلطة استخدمته أيضا، وربما هذا يفسر لنا وقوف الشعراء بجانب ثم تحولهم إلى الجانب الآخر حسب تقلبات الأحوال، مثلا من مدح خصوم الأمويين إلى مدح الأمويين أنفسهم، أو مدح العلويين بعد زوال سلطة الأمويين. وتحفل مصادر الأدب والتراجم والتاريخ والتراث عموما بأسماء كثير من الشعراء الذين وقفوا إلى جانب بني أمية، يبررون لهم سلطتهم وأحقيتهم بالخلافة، ويضفون عليهم صفات البر والتقوى. وأدناه بعض النماذج كأمثلة:
فإذا أخذنا منطقة (خراسان وسجستان مثلا) "وجدنا الولاة والعمال هناك يكيلون الأموال والعطايا للشعراء كيلا، ولعل أسرة لم تحظ بما حظيت به أسرة المهلب بن أبي صفرة الأزدي الذي قضى على الأزارقة (الخوارج) في فارس". وقد مدح الشاعر (كعب الأشقري) المهلب، فقال:
براك الله حين براك بحرا          وفجّر منك أنهارا غزارا
ملوك ينزلون بكل ثغر         إذا ما الهام يوم الروع طارا (11)
والشاعر زياد الأعجم مدح عبيدالله بن معمر والي فارس قائلا:
سألناه الجزيل فلما تأبى           وأعطى فوق منيتنا وزادا
وأحسن ثم أحسن ثم عدنا          فأحسن ثم عدت له فعادا
ويروى أن ابن معمر عد أبيات هذه القصيدة، فأعطاه على كل بيت ألفا (12) 
وقدم الشاعر على عبدالله بن الحشرج (كان واليا) وهو بسابور، وقال فيه:
إن السماحة والمروءة والندى            في قبة ضربت على ابن الحشرج
لما أتيتكم راجيا    لنوالكم                ألفيت باب نوالكم لم يرتج
فأمر له بعشرة آلاف درهم(13)
أما الشاعر أبو عطاء السندي فقد كان مع ابن هبيرة (والي أموي) وهو يبني مدينة على الفرات، فأعطى الناس صلات ولم يعطه شيئا فقال:
قصائد حكتهنّ ليوم فخر            رجعن إليّ صفرا خاليات
فيا عجبا لبحر بات يسقي           جميع الخلق لم يبلل لهاتي
فقال له يزيد بن عمر بن هبيرة: وكم يبلل لهاتك يا أبا عطاء؟ قال: عشرة آلاف درهم، فأمر ابنه بدفعها إليه (14).
والسندي من مخضرمي الدولتين، مدح بني أمية وبني هاشم. وكان من شعراء بني أمية ومداحهم، وأدرك دولة بني العباس، فلم تكن له فيها نباهة فهجاهم (15).
ومثال على تقلب المواقف والولاء من الأمويين إلى العباسيين: الشاعر أبو نخيلة لما خرج إلى الشام اتصل بمسلمة بن عبدالملك، فاصطنعه وأحسن إليه وأوصله إلى الخلفاء واحدا بعد واحد، فأغنوه. وكان بعد ذلك قليل الوفاء لهم. انقطع إلى بني هاشم فمدح الخلفاء من بني العباس، وهجا بني أمية فأكثر(16).
 
المال السياسي في فترة الدولة العباسية
ويمكن الإشارة إلى بعض أمثلة استخدام المال لأغراض سياسية في العصر العباسي الأول (132 - 232 هجرية) إن استخدام هذا المال في هذا العصر هو امتداد لاستخدامه في العصر الأموي؛ فالصراعات التي كانت قائمة في العصر الأموي استمرت وظهرت تحالفات جديدة، ومارس العباسيون سياسة الأمويين التي كانوا ينتقدونها، وهم في المعارضة. فالقوى السياسية التي قامت بالثورات ضد الخلافة الأموية نازعت الأمويين سلطتهم باعتبارهم مغتصبين لها ومتصرفين بالمال بغير الحق. وبعد قيام الدولة العباسية التي ساهم في التمهيد لقيامها العلويون والعباسيون؛ انفرد العباسيون بالسلطة، مستخدمين أساليب الأمويين في العنف واستخدام المال في محاربة العلويين.
وقد استخدمت القوى المعارضة للسلطة الدين والشعارات الدينية لنشر أفكارها والترويج لها، والمحاربة من أجلها سواء في العصر الأموي أو العباسي. وليس جديدا القول باستخدام الدين في السياسة أو السياسة في الدين، فهو موجود منذ زمن، وليس وقفا على دين معين واستخدمته الفرق المختلفة في الدين الواحد، بادعاء كل فرقة أنها على الحق وغيرها على الباطل.
ففي عهد الخليفة المنصور (136- 158 هجرية) ثار محمد النفس الزكية (في المدينة) وأخوه إبراهيم (في البصرة)، وهما من سلالة الحسن بن الإمام علي سنة 145 هجرية. قمع المنصور الثورة بالعنف، دارت معركة بين الطرفين في (المدينة) هزم محمد، وبعث (عيسى بن موسى) وهو ابن أخ الخليفة برأس محمد إلى المنصور. أما إبراهيم فقد دعا إلى بيعة أخيه محمد قبل أن يبلغه مقتله في المدينة، وبايعه جماعة منهم الفقهاء وأهل العلم حتى أحصى ديوانه أربعة آلاف. وتحصن أمير البصرة (سفيان بن معاوية) في دار الإمارة وطلب الأمان من إبراهيم فأمنه. دخل إبراهيم القصر ووجد في بيت المال مليوني درهم فاستعان بها، وفرض لأصحابه خمسين خمسين، وبعملية حسابية قدم لأصحابه 200،000 درهم، مستخدما المال لضمان ولائهم له (17).
وقد حصلت مراسلات بين محمد والمنصور. بادر فيها الخليفة إلى استخدام الإغراء المالي فكتب إلى محمد "لك عليّ عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم وأموالكم وأسوغك ما أصبت من دم أو مال وأعطيك ألف ألف درهم وما سألت من الحوائج....." وردّ عليه محمد برسالة منها "وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي عرضت عليّ فإن الحق حقنا وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا وخرجتم بشيعتنا وإن أبانا عليا كان الوصي وكان الإمام فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء" ثم كتب المنصور رسالة طويلة منها "....ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم ولحق بالحجاز وأسلم شيعته بيد معاوية ودفع الأمر إلى غير أهله وأخذ مالا من غير ولائه ولا حله فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه"(18). ويتضح من الرسائل المتبادلة أن كلا الطرفين يستخدمان المال لتحقيق غرض سياسي من خلال عرض مبلغ مغر. كما أن المنصور يعير العلويين بأنهم تنازلوا عن السلطة وباعوا حقهم بالخلافة مقابل المال في إشارة إلى صلح الحسن ومعاوية.
وفي سنة 147 هجرية خلع الخليفة المنصور عمه "عيسى بن موسى" من ولاية العهد، وكان السفاح قد عهد إليه بالخلافة بعد المنصور. ثم عهد المنصور بولاية العهد إلى ولده المهدي بتفضيل ابنه على عمّه(19). وكان المنصور قد حاول قتل عمه عيسى للتخلص من عهده بالخلافة، فدس إليه شربة سم، لكنه نجا منها. وبعد فشل محاولة الاغتيال سلّم عيسى أمر الخلافة إلى المهدي بن المنصور، وصار بعده في ترتيب ولاية العهد، فوهب له المنصور مالا عظيما وأقطعه قطائع نفيسة وولّاه الكوفة والأهواز وطساسيجها، وكان هذا هو الثمن الذي أخذه عيسى ليؤجل حقه في الخلافة.
وعندما تولى المهدي (158-169هجرية) الخلافة، استخدم أسلوب الإغراء المالي لإبعاد الخلافة عن عيسى وجعلها لولديه الهادي والرشيد. وكان ابتياع البيعة (من عيسى) والحنث في اليمين ثمنها عشرة ملايين درهم كما أشار الفقهاء. قبل عيسى ذلك، وبقي منذ فاوضه المهدي على الخلع إلى أن استجاب، حبيسا عنده في دار الديوان، فخلع وبايع للمهدي وللهادي من بعده. فالصراع على السلطة والمال يجري داخل العائلة الحاكمة ويتدخل الفقه لتسخر نصوصه في تسعيرة البيعة والحنث في اليمين (20).
وفي عهد الخليفة الهادي (169-170 هجرية) حدثت ثورة الحسين بن علي، سليل الحسن بن الإمام علي 169 هجرية. اقتحم الثوار المسجد، وانتهبوا بيت المال وكان فيه بضعة عشر ألف دينار، وقيل سبعون ألفا. تقاتل العباسيون وأنصار الحسين يوم التروية في (فخ) قرب مكة، فانهزم الحسين واحتز رأسه ورؤوس أصحابه، واختلط المنهزمون بالحجاج. وأغرى العباسيون أصحابهم بالقتال برصد مكافأة قدرها خمسمائة لمن يأتي برأس قتيل. وعندما علم والي المدينة بمقتل الحسين بن علي، هجم على دار الحسين ودور جماعة من أهل بيته وغيرهم ممن خرجوا معه، فهدمها وأحرق النخل وصادر ما لم يحرق وجعله في الصوافي والأموال المصادرة. فاستخدام المال هنا لكسب الأنصار بالمكافأة وللتنكيل بقوى المعارضة ومصادرة أموالها وجعله جزءا من مال الدولة كما أن المعارضة لم تتوان عن نهب المال (21).
وأفلت من هذه المعركة، المعروفة بوقعة (فخ) يحيى وإدريس، ابنا عبدالله (من سلالة الحسن). إدريس هرب إلى مصر ومنها إلى المغرب، حيث تأسست دولة الأدارسة. أما يحيى فقد هرب إلى بلاد الديلم، وفي عهد الخليفة الرشيد (170- 193هجرية) ثار يحيى، فأرسل الخليفة جيشا لمحاربته بقيادة الفضل بن يحيى في خمسين ألف رجل، وزوده بأموال كثيرة، منح منها نصف مليون درهم لأحد قواده الذي ولّاه جرجان كما منح أموالا كثيرة للشعراء الذين امتدحوه. راسل (الفضل) (يحيى) واستماله وحذره، وكاتب صاحب الديلم وجعل له مليون درهم كمكافأة على أن يسهل له استسلام يحيى، وحملت إليه، استجاب يحيى للصلح على أن يكتب له الرشيد أمانا بخطه. 
كتب الرشيد الأمان وأشهد عليه الفقهاء والقضاة، وعند قدوم يحيى إلى بغداد أمر الرشيد له بمال كثير. وبهذه الطريقة تمت استمالة الثائر الذي آثر السلامة، ويتضح أن الدوافع السياسية تتراجع أمام إغراء السلامة، وأن حب السلطة والمال متبادل بين الحكومة ومعارضيها. وفيما بعد نقض الرشيد كتاب الأمان الممنوح ليحيى، فقد سأل الخليفة القاضي أبا البخترى عن رأيه في الأمان فأجاب أن الأمان منتقض، فمزق الرشيد الأمان، وكافأ أبا البخترى بتعيينه قاضيا للقضاة. هكذا لم يحترم الخليفة كلمته وما يترتب عليها من اعتبارات أخلاقية، فقد كان همه البحث عن منفذ لإبطال الأمان كما أن موقف أبي البخترى يمالئ السلطة سعيا إلى مرتبة أرفع (22).
وفي صراع الرشيد مع منافسيه على السلطة والمال، بطش الخليفة بالبرامكة الذين تحكموا بمفاصل الدولة وتصرفوا بالأموال وقصدهم المحتاجون ومدحهم الشعراء. فقتل جعفر البرمكي وسجن أبوه وإخوته إلى الممات، فلا مجال للمساومة أو العواطف في مسائل السلطة والمال، حتى لو كانوا أصدقاء مقربين. وقد قبض الرشيد من سائر أموالهم 30،660،000 ثلاثين مليون وستمائة وستين ألف درهم إضافة إلى ضياعهم وغلاتهم ودورهم ورباعهم ورياشهم (23).
وقد عهد الرشيد بالخلافة إلى أولاده الثلاثة، الأمين والمأمون والقاسم. وكان تقسيم المملكة والثروة بين ابنيه الأمين والمأمون سببا في اندلاع الحرب بينهما، وكان الرشيد قد كتب على لسان الأخوين كتابا، حدد فيه صلاحياتهما وحدود منطقتيهما، وأودعها الكعبة بعد أن أشهد بني العباس عليها، وأخذ عليهما العهود والمواثيق، إلا أن الصراع اندلع بينهما وتطور إلى حرب ضروس. وتعتبر الحرب بينهما تجسيدا للصراع على المال (24).
ومن تتبع مجريات الصراع بينهما، نرى أن أنظار الأمين توجهت إلى ما يملكه المأمون واعتبره فائضا عن حاجته وأن فضول الأموال يجب أن ترد إليه، لا إلى أخيه. وطمعا في السلطة ألغى الأمين عهد أخويه وعهد بها إلى ولديه. وقد كان للحاشية ومصالحها دور في تأجيج الصراع. وكان المال محركا لمواقف الجنود وانحيازهم إلى هذا الطرف أو ذاك، فهو الذي يخلق الولاء ويغري بالانتقال من هذه الجبهة إلى الجبهة المعادية. لقد كان هؤلاء الجنود وقودا لحرب لا مصلحة لهم فيها وكان همهم الحصول على الأرزاق كائنا من يكون وليّ نعمتهم. ولم تتورع الحاشية عن استغلال المواقف الصعبة التي وصل إليها الصراع وتغير مواقفها طمعا في الحصول على المكاسب.
 
    المال السياسي في العراق اليوم
وما يجري في العراق الآن من صراع حاد بين قوى تصرّ على إدامة نظام المحاصصة، وبين قوى تدعو إلى قيام نظام مدني ديمقراطي، وبفعل تعمق الصراع الاجتماعي، بازدياد أعداد العاطلين عن العمل، وغياب التنمية في الزراعة والصناعة، وتدهور مستويات الصحة والتعليم والنقل، وانعدام الخدمات؛ يتزايد استخدام المال السياسي بمديات واسعة، وتؤدي استخداماته إلى مزيد من الفساد في مفاصل الدولة. ويصبح جزء من منظومة الفساد، يساهم في انتشار العنف وتكوين فصائل مسلحة لاستخدامها ضد القوى الرافضة لنهج المحاصصة والفساد، ويقدم صورة مشوهة عن الممارسة الديمقراطية وقيمها.
   ومن أغراض استخدام المال السياسي منحه للمثقفين والإعلاميين للترويج لسياسات ومواقف أحزاب السلطة، وتتصدر الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي إشاعة مواقفها وأفكارها، وتشويه مواقف الخصم، ولهذه الأهداف تنفق الأحزاب المهيمنة المتسلطة ملايين الدولارات على وسائل الإعلام وعلى المثقفين الذين يؤازرونها.
ولم تغب قضية استخدام المال السياسي عن الأحزاب المدنية الديمقراطية، فنبهت إلى مخاطره. وقد أقر الحزب الشيوعي العراقي في مؤتمره الحادي عشر في تشرين الثاني 2021، الوثيقة المعنونة "قدما نحو التغيير" وورد من ضمن المهام المطروحة فيها: "إبعاد العملية الانتخابية عن سطوة المال السياسي". وفي الموقف من الانتخابات تؤكد قوى التغيير الديمقراطية في وثيقتها السياسية الصادرة في تشرين الثاني 2022 على "منع استخدام المال السياسي وكبح جماح أي محاولة لشراء الذمم والأصوات، والتزوير".
إن منع استخدام المال السياسي لا يتم إلا عبر محاربة منظومة الفساد. والنظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والإثنية هو السبب في الفساد وقرينه، وهو بالتالي يعرقل سيرورة الديمقراطية وقيام نظام ديمقراطي سليم، يرتكز على المواطنة والحريات وحقوق الإنسان، ولا حل إلا بالتغيير، وهو الشعار الذي رفعه الحزب الشيوعي في مؤتمره الحادي عشر "التغيير الشامل: دولة مدنية ديمقراطية وعدالة اجتماعية"، وأكّد عليه في وثائقه اللاحقة، وهذا التغيير يستلزم تكاتف جهود القوى المدنية والديمقراطية وخوض كفاح صعب وطويل الأمد لإحلال بديلها المدني الديمقراطي.
 
الهوامش
1- أبو الفداء، المختصر في أخبار البشر. المطبعة الحسينية المصرية، القاهرة، 1325هجرية، ج1، ص172.
2- ابن العربي، العواصم من القواصم. دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 1996، ص179.
3- الدينوري، الأخبار الطوال. وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مصر، ص 218.
4-  الأصفهاني، مقاتل الطالبيين. دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1949، ص56 - 58.
5- الطبري، تاريخ الأمم والملوك. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت. ج4، ص125.
6- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي. دار صادر بيروت، 1995، ج2، ص 214.
7- الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص72 - 73.
8- الدينوري،  ص280 - 281.
9- الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص80.
10- محمد الطيب النجار، الموالي في العصر الأموي. دار النيل للطباعة، القاهرة، 1949، ص61 - 62.
11- شوقي ضيف، العصر الإسلامي، دار المعارف، مصر، 1997، ص218،227.
12- المصدر نفسه، ص228.
13- الأصفهاني، الأغاني. تحقيق إحسان عباس وآخرين. دار صادر، بيروت، 2008، ج 1، ص265.
14- المصدر نفسه، ج 17، ص 239.
15- المصدر نفسه، ص، 234،236.
16- المصدر نفسه، ج 20، ص 251.
17- أبو الفداء، ج 2، ص 4.
18- الطبري، ج 6، ص  195 - 198.
19- السيوطي، تاريخ الخلفاء. دار الكتاب العربي، د. ت، ص202.
20- الطبري، ج 6، ص 359.
21- المصدر نفسه، ص 411 - 417؛ الكامل في التاريخ، ابن الأثير. دار الكتاب العربي، 2012، ج 5، ص 260 - 263.
22- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة. دار الأضواء، بيروت، د. ت، ص225-226.
23- الطبري، ج 6، ص 450 - 454.
24- اليعقوبي، ج 2، ص 416.