أيار 19
 
في كانون الأول (ديسمبر) 1861، أرسل الرئيس أبراهام لنكولن خطابه السنوي الأول - الذي أصبح يُعرف في ما بعد بخطاب حالة الاتحاد - إلى مجلس النواب ومجلس الشيوخ.
في اليوم التالي، تم نشر جميع الكلمات البالغ عددها 7000 كلمة في الصحف في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك الجنوب الكونفدرالي المتمرد. وكانت هذه فرصة لنكولن الأولى للتحدث إلى الأمةً منذ خطاب تنصيبه.
في هذا الخطاب دان لنكولن "المواطنين غير الموالين" المتمردين على الاتحاد، وتحدث عن قوة الجيش والبحرية، وأطلع الكونغرس على الميزانية.
صحيفة شيكاغو تريبيون ركزت على جزء من الخطاب ونشرته تحت عنوان "رأس المال مقابل العمل":
«وقال الرئيس السادس عشر للبلاد "العمل قبل رأس المال ومستقل عنه". "رأس المال هو ثمرة العمل فقط، ولا يمكن أن يوجد لولا وجود العمل أولًا. العمل هو أعلى من رأس المال، ويستحق الكثير من الإهتمام"».
تبدو هذه الفقرات، المأخوذة من الخطاب، وكأن كاتبها هو كارل ماركس، ومرد هذا التشابه الى حقيقة أن لنكولن كان يقرأ كارل ماركس بانتظام. وكذلك لانه كان محاطا بعدد من الشخصيات "الاشتراكية" من الذين يعتمد عليهم في المشورة.
لم يكن أبراهام لنكولن اشتراكيا أو شيوعيا بطبيعة الحال، لكنه كان من مجايلي ماركس، فالفارق بينهما من حيث العمر هو تسع سنوات فقط لصالح لنكولن. وكان لهما أصدقاء مشتركون وبدأت اولى مراسلاتهما عام 1865.لنعد بالتاريخ قليلا الى اربعينيات القرن التاسع عشر، حيث كان لنكولن محاميا شابا ونائبا في مجلس النواب عن ولاية إليانوس، وكان اقرب صديق له هو هوريس جريلي مؤسس صحيفة نيويورك تريبيون التي كانت صاحبة الفضل في نشر المثل والأفكار التي تشكل على اساسها الحزب الجمهوري عام 1854 الذي اختار اللون الاحمر رمزا له. ومن بين هذه الافكار يمكننا ذكر مناهضة العبودية، والوقوف الى جانب العمال، واحيانا القليل من الافكار الاشتراكية.
يذكر الباحث جون نيكولاس في كتابه "تاريخ مختصر لكلمة الاشتراكية في أميركا" ان صحيفة نيويورك تريبيون رحبت كثيرا بعملية توزيع الأراضي الغربية على الفقراء وتحرير العبيد من عبوديتهم. وذكر ايضا ان جريلي كان رافضا لمن يفضل مصالح السوق على مصالح العمال الذين يتشكلون حسب رأيه من العبيد المقهورين في الجنوب وعمال الصناعة المستنزفين في الشمال.
على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي كان هناك كارل ماركس الذي ربط بين مصير العمال ومصير العبيد. ففي اعقاب فشل الثورة في أوربا انتقل ماركس الى لندن، وكان يفكر بالانتقال الى الغرب الاميركي، وتحديدا الى تكساس، حسب ما يذكره المؤرخ روبن بلاكبيرن في كتابه "ثورة لم تتم: كارل ماركس وابرهام لنكولن". (منشور بالعربية بترجمة عزة خليل)
كان ماركس مهتما بشدة بمحنة العبيد الأمريكيين. في يناير 1860، أخبر إنجلز أن أكبر شيئين يحدثان في العالم هما «من ناحية، بدء حركة العبيد في أمريكا بموت جون براون، ومن ناحية أخرى حركة الأقنان في روسيا».
كتب بلاكبيرن ايضا أن ماركس ساوى بين مالكي العبيد الجنوبيين والأرستقراطيين الأوروبيين، واعتقد أن إنهاء العبودية «لن يدمر الرأسمالية، لكنه سيخلق ظروفًا أكثر ملاءمة لتنظيم العمل ورفع مستواه، سواء أكان أبيض أم أسود".
في تلك السنوات كان ماركس صديقا لجارلس دانا الاشتراكي الاميركي والضليع في اللغة الالمانية ورئيس تحرير صحيفة نيويورك تريبيون. وفي عام 1852 بدأ ماركس عمله في الصحيفة باعتباره مراسلا اوروبيا. واستمر في الكتابة على مدى عقد من الزمان، وكانت الصحيفة تنشر احيانا مقالات ماركس (دون ان تحمل توقيعه) في الصفحة الاولى باعتبارها افتتاحية العدد. وإذا عرفنا ان لنكولن كان قارئا نهما لصحيفة نيويورك تريبيون يمكننا القول بكل ثقة انه كان متابعا لما يكتبه ماركس.
في عام 1860 نجح لنكولن في الفوز بمنصب الرئاسة الأميركية وكان ذلك بفضل عاملين أساسيين. الاول هو وقوفه الى جانب الثوار الالمان السابقين الذي هاجروا الى أميركا بعد فشل الثورة في اوربا واصبحوا، فيما بعد، شخصيات مؤثرة داخل الحزب الجمهوري، والثاني دعم صحيفة نيويورك تريبيون لحملته.
ظل لنكولن ملتزما بتحالفه مع الاشتراكيين فعين جارلس دانا ممثلا له في وزارة الحرب حيث كان يتابع حركة القوات العسكرية وينقلها مع رأيه بالجنرالات الى الرئيس. وظل جريلي يحث لنكولن على اتخاذ موقف أشد صرامة ضد العبودية حتى لا تتحول الحرب الاهلية الى مجرد الدفاع عن وحدة البلاد، بل من اجل الغاء العبودية أيضا. وكان ماركس يساهم في هذا المسعى من خلال مقالاته في الصحيفة. في عام 1863 تحقق لهم ما أرادوه حيث اعلن الرئيس ابراهام لنكولن وثيقة الغاء العبودية في أميركا.
بعد فوز إبراهام لنكولن بفترة رئاسية ثانية في تشرين الثاني (نوفمبر)عام 1864، كان المجلس المركزي لرابطة العمال الدولية يعقد اجتماعا له بتاريخ 19 تشرين الثاني (نوفمبر) من نفس العام، وكان احد قراراته إرسال رسالة تهنئة الى الرئيس الاميركي بمناسبة إعادة انتخابه، وتم تكليف كارل ماركس بكتابة مسودة الرسالة التي تم اقرارها بتاريخ 29 تشرين الثاني (نوفمبر). وجرى الاتفاق ايضا ان يسلمها كارل ماركس الى السفير الأميركي في بريطانيا، تشارلز فرانسيس آدمز.
تم نشر الرسالة لأول مرة في العدد 169 من صحيفة بي – هايف بتاريخ 7 كانون الثاني (يناير) 1865، أما الترجمة الألمانية لها فقد تم نشرها قبل ذلك في صحيفة الإشتراكي الديمقراطي الألمانية بتاريخ 30 كانون الأول (ديسمبر) 1864.
يتضح من الرسالة ان ماركس كاتب الرسالة، ومن ورائه المجلس المركزي لرابطة العمال الدولية، أراد التركيز على أربع نقاط أساسية:
أولا: تذكير الرئيس الاميركي بأهمية الثبات في موقفه تجاه العبودية، حيث كان فوزه الأول بفضل شعار حملته "الكفاح ضد العبودية" وكان فوزه الثاني بفضل شعار حملته "الموت للعبودية".
ثانيا: التأكيد على ان الطبقة العاملة الأوروبية مهتمة جدا بالصراع الأمريكي المهول خصوصا وان أحد اسباب اندلاع الحرب الأهلية كان توزيع الأراضي الغربية على الفقراء من المهاجرين والعبيد الذين جرى عتقهم.
ثالثًا: التأكيد على كون الصراع صراعًا عالميًا بين رأس المال والعمل. من ناحية، يمثل تمرد ملاك العبيد "حملة صليبية مقدسة للملكية ضد العمل"، وفي مواجهتهم كان "العمال" مع آمالهم وتطلعاتهم المستقبلية. وقد تم التعبير عن معارضة الطبقة العاملة الأوروبية، بحزم، في تحمل المصاعب والجوع خلال أزمة القطن حيث توقفت المصانع عن العمل وتضور العمال جوعا بسبب عدم توفر محصول القطن الأساسي لعملهم الآتي من الجنوب الأميركي. كما عارض هؤلاء العمال تدخل بعض الحكومات الأوروبية لدعم مصالح ملاك العبيد. أما في أميركا فقد كان المهاجرون ينضمون إلى جيوش الاتحاد ويساهمون بـ "حصتهم من الدم" في سبيل القضية السامية.
رابعا: أن الحرب الأهلية كانت تقدمية من الناحية التاريخية. فقبلها، لم يكن العمال الشماليون قادرين على تحقيق "الحرية الحقيقية" لأن العبودية "تدنس جمهوريتهم"، وكانوا مجبرين على بيع عملهم لمن يدفع أعلى سعر. علاوة على ذلك ، لم يكن العمال الأمريكيون قادرين على دعم إخوانهم الأوروبيين بينما كانوا خاضعين لرأس المال. وقد انتهى هذا الآن.
ربما كانت السمة الأكثر لفتًا للانتباه في هذه المراسلات هي تركيزها على الأشكال المختلفة للتقدم. فقد رأى الرئيس لنكولن في موت العبودية بداية لفصل جديد في تاريخ الولايات المتحدة. وكانت هذه، حسب رؤيته، عدالة متساوية وحقيقية "لجميع الرجال العاملين". بدلاً من ذلك، اعتقدت رابطة العمال الدولية أن الحرب الأمريكية على العبودية ستؤدي إلى ظهور حكم الطبقة العاملة على مستوى العالم لكن التاريخ أظهر خلاف ذلك.
ثمة سبب آخر لا بد من التنويه اليه لكي يقوم الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الامريكية بالرد على رسالة رابطة العمال الدولية، إضافة طبعا لما ذكرناه سابقا حول متابعة لنكولن لما يكتبه ماركس خصوصا في صحيفة نيويورك تريبيون. السبب هو وجود ما يقارب 200 الف متطوع أميركي من المهاجرين الالمان في جيش الاتحاد، وكان معظمهم من المؤيدين للحزب الجمهوري، بل ان البعض منهم ارتقى في السلم العسكري ليصل الى رتبة جنرال ومنهم على سبيل المثال يوسف فيديماير و أوغست فيليش وكلاهما عضوان سابقان في عصبة الشيوعيين ومن المقربين لماركس.
رسالة المجلس المركزي لرابطة العمال الدولية إلى أبراهام لنكولن، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية
 مقدمة إلى السفير الأمريكي تشارلز فرانسيس آدامز
كارل ماركس (28 كانون الثاني "يناير" 1865)
سيدي:
نهنئ الشعب الأمريكي على إعادة انتخابكم بأغلبية كبيرة. إذا كان الكفاح ضد العبودية هو شعاركم لانتخابكم الأول، فإن صرخة الإنتصار لإعادة انتخابكم هي الموت للعبودية.
منذ بداية الصراع الأمريكي المهول، شعر عمال أوروبا، غريزيا، أن الراية المتلألئة بالنجوم تحمل مصير طبقتهم. ألم تكن المنافسة على الأراضي، التي فتحت الباب لهذه الحرب، من أجل تقرير ما إذا كان ينبغي ربط التربة البكر للمساحات الشاسعة بعمل المهاجر أو بالعبيد المشردين؟
عندما تجرأت الأوليغارشية المكونة من 300 ألف من مالكي العبيد على أن تكتب، لأول مرة في سجلات العالم، كلمة "العبودية" على راية الثورة المسلحة، وعندما ظهرت لأول مرة في نفس الأماكن التي ظهرت فيها فكرة جمهورية ديمقراطية عظيمة واحدة قبل قرن من الزمان، حيث صدر أول إعلان لحقوق الإنسان، الذي كان الدافع الأول للثورة الأوروبية في القرن الثامن عشر؛ عندما تمجد الثورة المضادة في تلك المواقع بالذات، بدقة منهجية، موضوعة إلغاء "الأفكار التي تم الاستمتاع بها في وقت تشكيل الدستور القديم"، وحافظت على العبودية لتكون "مؤسسة رسمية"، وهو ما يمثل في الواقع، حلا قديما للقضية الكبرى المتمثلة في "علاقة رأس المال بالعمل"، وأعلنت بسخرية ان امتلاك الإنسان هو "حجر الزاوية في الصرح الجديد" - عندها فهمت الطبقات العاملة في أوروبا على الفور، حتى قبل أن يُحذّر التحزب المتعصب للطبقات العليا طبقة النبلاء الكونفدرالية، من أن تمرد مالكي العبيد سيكون بمثابة ناقوس الخطر لحملة صليبية مقدسة عامة للملكية ضد العمل، وأنه بالنسبة للعمال، فإن كل تاريخهم وآمالهم المستقبلية كانت على المحك في ذلك الصراع الهائل على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي. وتحملوا بصبر، في كل مكان، المصاعب التي فرضتها عليهم أزمة القطن، وعارضوا بحماس تدخل الحكومات الموالية لمصالح مُلّاك العبيد – وساهموا، من معظم أنحاء أوروبا، بحصتهم من الدم من أجل القضية السامية.
وإذا كان العمال، القوى السياسية الحقيقية في الشمال، قد سمحوا للعبودية بتدنيس جمهوريتهم، وإذا كانوا قد قبلوا أن يُستعبد الزنجي ويُباع دون موافقته، وإذا كانوا يتفخارون بميزة العامل ذي البشرة البيضاء لبيع نفسه واختيار سيده، فإنهم لم يتمكنوا من الحصول على حرية العمل الحقيقية، أو دعم إخوانهم الأوروبيين في نضالهم من أجل التحرر؛ لكن هذا الحاجز أمام التقدم قد جرفه البحر الأحمر من الحرب الأهلية.
أن عمال أوروبا على يقين من أنه كما كانت حرب الاستقلال الأمريكية بداية لحقبة جديدة من صعود الطبقة الوسطى، فإن الحرب الأمريكية ضد العبودية ستفعل ذلك للطبقات العاملة. وهم ينظرون بجدية الى حجم الأعباء التي تقع على كاهل أبراهام لنكولن، الابن البار للطبقة العاملة، خلال الحقبة القادمة في قيادة بلاده في النضال الذي لا مثيل له من أجل إنقاذ عرق مُقيد وإعادة بناء المجتمع العالمي.
 جواب السفير الأميركي
لندن
سيدي:
لقد تم توجيهي لإبلاغك بأن رسالة المجلس المركزي لرابطتكم، التي تم إرسالها حسب الأصول من خلال هذه المفوضية إلى رئيس [الولايات] المتحدة، قد تم استلامها من قبله.
وبقدر ما عبّرت الرسالة عن مشاعر ودية لشخصه، فإنه يقبلها برغبة صادقة، وقلقة، في أن يتمكن من إثبات جدارته بهذه الثقة التي منحها اياه مؤخرا مواطنوه والعديد من أصدقاء الإنسانية والتقدم في جميع أنحاء العالم.
ان حكومة الولايات المتحدة تعي بوضوح تام بأن سياستها لم تكن ولن تكون سياسة رجعية، ولكنها في الوقت نفسه تلتزم بالمسار الذي اعتمدته في البداية، وهو الامتناع عن الدعاية المضادة والتدخل غير القانوني في أي مكان في العالم. وهي تسعى جاهدة لتحقيق العدالة المتساوية والحقيقية لجميع الولايات ولجميع البشر، معتمدة على الدعم في الداخل، والاحترام وحسن النية في جميع أنحاء العالم.
لا توجد الأمم لنفسها وحدها، بل لتعزيز رفاهية وسعادة البشرية من خلال العلاقات الخيرة وتقديم القدوة. وفي سياق هذه العلاقات، تعتبر الولايات المتحدة قضيتها في الصراع الحالي مع العبودية، والحفاظ على جذوة الرفض لكل ما يخالف الطبيعة البشرية، قضية جوهرية، وهي تستمد قوتها من خلال الدعم المثابر وشهادة العمال في أوروبا بأن الموقف الوطني يحظى بموافقتهم وتعاطفهم الجاد.
 يشرفني أن أكون، سيدي، خادمك المطيع.
تشارلز فرانسيس آدامز
سؤال للتأمل: ماذا كان سيحصل لو نفذ ماركس فكرته بالانتقال الى ولاية تكساس الاميركية؟
 
 
كادر تحرير صحيفة نيويورك تريبيون ويظهر هوريس جريلي الثاني من اليمين من الجالسين، وجارلس دانا الواقف في الوسط