أيار 19
  
ظلت الحرب موضوعا حاضر في حياة العراقيين فهي رافقت تاريخهم منذ تشكيل الدولة الوطنية ولغاية اليوم. إذ لم تغب عنهم طويلا وتحولت بمرور الوقت لشبه ثابت يغير مصيرهم ويحيله الى مسار مختلف. ولهذا كانت الحرب الأخيرة 2003 التي قامت بها الولايات المتحدة الاميركية أدت الى تغير النظام السياسي. وهنا ثمة مفارقة تكمن في نظرة العراقيين لهذه الحرب، ولو عاد بهم الزمن قبل 2003 هل سيرضون بها بعدما مروا بكل هذه الازمات والمشاكل. يضعنا هذا التساؤل أمام خيار " فاوست " الذي باع نفسه للقدر من أجل خلاصه. حينما نراجع أثر الحرب في تاريخ العراق السياسي. نجد أننا بحاجة الى فحص معنى الحرب في السياسة والتاريخ والعلوم الاجتماعية. إذ انصب اهتمام العلوم الاجتماعية على ظاهرة الحرب بعد الحرب العالمية الاولى 1914-1918، إذ كانت هذه العلوم مهتمة بدراسة المجتمع والجماعات والافراد، لكن تكرار الحروب والصراعات العسكرية في مختلفة مناطق العالم صار دافعا لكي تهتم أكثر العلوم الاجتماعية بهذه الظاهرة.
فالحرب ظاهرة يؤثر قيامها على مجمل حياة المجتمعات والدول. محليا حضرت الحرب في التاريخ العراقي الحديث بشكل شبه دائم وأصبحت مجالا حيويا يوقف ويعيد ترتيب نمط الحياة والعلاقات الاجتماعية على أسس غير مستقرة. هذا التلازم بين الحرب والتاريخ العراقي الحديث يصعب فهمه دون مراجعة العلاقة بين المجتمع والدولة، فالاضطراب الحاصل بين الطرفين تحولت الحرب فيه الى أفق كاشف عن معالم هذا الاضطراب. وعلى الرغم من تباين الآراء بين بعض الباحثين في مجالات العلوم الاجتماعية حول وجود أو عدم وجود مجتمع عراقي، فحين نبحث عن مفهوم للمجتمع نجد أن الاستمرارية "تراكم وتكوين النمط الثابت" والتغير "بسبب السلطة والثقافة وتحولات السكان"، هما من يحددان هذا المفهوم فالمجتمع العراقي يحمل سمتي الاستمرارية والتغير. أن سبب عدم تبلور مفهوم المجتمع في العراق راجع الى غلبة التغير على حساب الاستمرارية، ولذلك الحاضر في العراق جماعات أجتماعية تحمل كل منها خصوصيات أجتماعية وتاريخية وثقافية تتمايز بها عن بعضها البعض، وعندما نتساءل لماذا تغلب التغير على حساب الاستمرارية؟ نكتشف الجواب حينما نسير مع محطات التاريخ الاجتماعي والسياسي العراقي، لكي نلمس أن الحرب هي الاثبات المتحقق على ترجيح كفة التغير على الاستمرارية. وأما الدولة فهي تقف على مرتكزين هما الشرعية وأحتكار العنف، في النموذج العراقي نلاحظ أن الشرعية محصلة وليست متأتية من أجماع أجتماعي بسياقه الطبيعي، وأما أحتكار العنف نجد ان هناك تزاحم بين الدولة وقوى المجتمع على امتلاكه؛ ولهذا لم تتحول الدولة الى كيان مجمع عليه من قبل المجتمع، المفارقة ان الدولة في مسألة أحتكار العنف تحولت الى طرف في الصراع على شرعية حيازة العنف. ولذلك أتسع معنى الحرب في السياق العراقي وتعدد فهو لم يبقى على جانبه العسكري القتالي والذي يشترط وجود طرفين متقاتلين من خلال جيوش. لقد تخطى العراق هذا النموذج وأصبحت الحرب أطارا للحياة اليومية وذاكرة لا تغيب عن مرجعيات العمل والممارسة في السياسة والمجتمع.
إذ ظلت الحرب مسارا كامن في الحياة اليومية العراقية، لأنه يحيط بكل شيء ويترقبه المجتمع لانه صار جزءا حيويا من تاريخه السياسي، فمنذ قيام الحرب العالمية الاولى بين بريطانيا والدولة العثمانية ودخول قواتها البصرة العام 1914 كان العراقيون مشاركين في هذه الحرب، ثم بعد ذلك دخل المجتمع منذ العام 1920، ولغاية اليوم في صراعات تأخذ معنى الحرب، يعرف كارل فون كلاوزفيتز1780- 1831 الحرب بأنها "عمل عنيف يقصد منه إكراه الخصم على الخضوع لإرادتنا" وبذلك تصبح الحرب وسيلة من وسائل السياسة الهدف منها حماية مصالح الجهة المحاربة أو توسيع نفوذها. وهذا الوسيلة - الحرب - في النموذج العراقي هي بيد من؟ الدولة أو المجتمع؟
أن التداخل بين الحرب والصراع جعل معناه يقع في أكثر من دلالة ولا يتشكل ويثبت عند دلالة محددة، فالصراع في العراق لم تحدد معانيه، هل هو صراع سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي فضلا عن ذلك طائفي وقومي، كل هذه المعاني ينال الصراع منها معنى ثم لا يلبث ليأخذ غيرها، ربما من عدم وضوح معنى وشكل الصراع نستطيع فهم ظاهرة العنف التي تلازم كل تغير حصل في العراق بدءا من انقلاب 1936 والذي تحولت الدولة فيه الى طرفا في الصراع وباتت مؤسسة الجيش تحتكر جزءا واسعا من مساحة العنف والقدرة على تغير الحكم. ان الصراع في السياق العراقي هو بين من يملك القوة والذين لا يملكونها، وبالتالي أمست القوة وامتلاكها هي من تكوّن مضمون الصراع، وحينما نفحص تاريخ الدولة في العراق نلاحظ انها منفصلة عن السياق الاجتماعي العام ؛ لأن فعل تأسيسها كان من قوة خارجية لا تنتمي للمجتمع، حتى مع تغير 1958 والذي قام به الجيش وليس قوى المجتمع، إذ أن الجيش مؤسسة منفصلة عن المجتمع، وعندها سياقاتها التي تحكمها والتي لا تشبه السياقات الاجتماعية التي تسير علاقات المجتمع، ولهذا امست الحرب نهاية تصل إليها السلطة حين تسعى لتأكيد حكمها وسيطرتها على المجتمع. فالحرب باتت الإطار الذي يشكل ملامح النظام والسلطة.
ولهذا نستطيع الربط بين تعثر ثبات النظام الذي تنتجه الدولة وظاهرة الحرب في العراق، فحينما تضطرب وتختل شرعية النظام تصبح الحرب وسيلة لمعالجة هذا الاختلال، والحرب ضمن النموذج العراقي تأخذ مستويين خارجي وداخلي، في المستوى  الخارجي كانت الحرب  بالنسبة للنظام السياسي منذ 1936 هروبا الى الامام لتخلص من التحديات الداخلية "علاقة النظام بالمجتمع، متطلبات اجتماعية واقتصادية، استحقاقات سياسية"، كرست الحرب الخارجية  أسلوب أشغال المجتمع وافقاده قدرة الاهتمام بقضاياه الاجتماعية والاقتصادية، واما في المستوى الداخلي أمست الحرب نتيجة ومعالجة يصل اليها النظام حين يعجز عن استعياب الاختلاف والتنوع في المجتمع العراقي، وما جرى في كردستان العراق من احتراب 1961-1970 بين الحكومة العراقية والقوى الكردية، يمثل تأكيد على ان النظام بات طرفا مباشر وغير مباشر في الصراع الذي أخذ  شكلا من أشكال الحرب، حين نعود الى تعريف كلاوزفيتز والذي يؤشر أن غاية الحرب تقوم على اخضاع الخصم "المجتمع" من قبل النظام وقد يحصل العكس. لذلك تظهر حالة الصراع في العراق والازمات التي تنتجها بأن هناك تداخل بين المستوى الخارجي والمستوى الداخلي. لقد ولدّ هذا التداخل حالا للسلطة تكون فيه أمام خيارين الاول الجنوح نحو المركزية الشديدة التي تندفع باتجاه الاستبداد، والثاني تشظي السلطة بين قوى اجتماعية وسياسية متعددة. وعلى ضوء هذين الخيارين تتشكل السلطة ضمن ثنائية " السياسي / الاجتماعي " في السياسي تقوم السلطة بإنتاج شبكة العلاقات الاجتماعية وتعمل على تحديد قيمها ومعاييرها، ولكن في الاجتماعي تتجه القوى الاجتماعية نحو صياغة السلطة على أساس شكلها الاجتماعي التي نشأت عليه تلك القوى "حزبي، عشائري، طائفي، مناطقي، قومي". قارب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو العلاقة بين الدولة والحرب "1926-1984" من خلال رصد علاقات القوة التي تكوّن السلطة وخطابها. حينما نبحث المسار الذي تتشكل فيه السلطة في التاريخ السياسي العراقي الحديث، نجد ان السلطة غير متشكلة الا من خلال التحكم والاستبداد أو عن طريق امتلاكها من قبل قوى اجتماعية مختلفة "الملك والضباط الشريفيين، الجيش والحزب، الحزب والعشيرة، الجماعة والطائفة"، ولهذا لم تصل السلطة في العراق الى مرحلة الثبات والاكتمال؛ لأنها واقعة في مأزق البقاء في مرحلة القوة الطبيعية " force " التي يتنازع على امتلاكها كل من لديه القدرة والامكانية على امتلاكها،  أو القوة " power" التي في طريقها تسعى لكي تتحول الى المأسسة. أن الصراع على نقل القوة من مستواها الطبيعي الى المؤسسي، يكشف عن اختلال وعدم تكافؤ في علاقات القوة في النموذج العراقي ووقوعه في حالة شبه الحرب أو حرب داخلية دائمة (Semi-war or Home War) بين النظام والمجتمع والتي أفقدت الوضع العراقي عاملي الاستقرار والتراكم. لقد غيبت الحرب معنى ومفهوم السلام وجعلته غائبا عن القاموس العراقي في التفكير والتعامل، وكأنه حالة من الاستثناء التي تحتاج الى تميز العدو من الصديق. ولكن ما جرى منذ 2003 عدم القدرة على التميز بينهما. فالعدو يتحول الى صديق في مرحلة والعكس صحيح. لذلك ينزع النظام الى الحرب لكي يتحقق ماديا من هو العدو ومن هو الصديق.