أيار 17
بماذا سيسمي وليد إندماج العلم بالفن؟ بعد هذا الانحياز الرزن والمؤكد بشكل قطعي من قبل المهتمين الذين يتزايد عددهم باستمرار، بضرورة فهم هذه العلاقة التاريخية، التي قد تبدو مخالفة لواقعها النمطي، الا أنها باتت واقعاً. بل هناك من بدأ يستخدم مصطلح "علم الفن" الذي يرتكز على مفهوم قديم للفن، اسماه اليونانيون القدامى "تيكني" "بمعنى "تكنو"، فيما ورد باللغات الرومانية والانجلو سكسونية بمصطلح "أرت" أو "آرتس"، إذ  لم يفرق المرء في تلك الفترات بين العمل اليدوي والفن (1)
قد يكون العنوان والمقدمة كشفاً مبكراً لما يريد أن يصل اليه هذا المقال. لكننا لو طرحنا السؤال بشكل مغاير لماهيته في سبيل الوصول الى مبتغاه بشكل استقرائي استدلالي من خلال، على سبيل المثال، رصد المشترك ما بين اينشتاتين وبيكاسو. يبدو السؤال غير المألوف، للوهلة الأولى على الأقل، بعيداً عن المنطق. غير أن قراءة متأنية فيه نجده يدور ضمن المدار الذي يتحرك فيه. وقد يكون مسعى الى الافصاح عن المبررات التي تقف مشرأبة لغواية القارئ، واستدراجه الى هذه المساحة من الضوء التي تحاول بالدلالات إبراز عمق العلاقة الجدلية والجذرية في آن واحد التي تربط عالم العلم وواحة الفن.
 
قبل عشرين عاماً ونيف، نشرتُ على صفحات مجلة "الثقافة الجديدة" (2) الغرّاء نصاً موجزاً لمقال كنت كتبته باللغة الصربوكرواتية وقدمته خلال دراسة الماجستير، عن العلاقة بين العلم والفن. وخلال سنوات العقدين الأخيرين عزز عدد من الدراسات المهتمة بهذه الموضوعة عمق هذا الترابط وامتداداته بين هذين العالمين، اللذين رغم إختلاف أدوات كل منهما في التعبير عن جوهر ما يسعيان اليه، والأمثلة كثيرة، والدلالات متشعبة، تؤكد على وجودها النزعة العلمية لدى الكثيرين ممن يمتهنون الفن، كما أن هناك عديداً من المشتغلين بالعلم ممن لهم صلة ما في عدد من المجالات الفنية.
ولو قمنا باستقراء سريع للتاريخ لعثرنا على أدلة واسعة على وجود عديد من الناس الذين اهتموا بكلا الميدانين، العلم والفن. هناك أطباء ومهندسون، وحتى فلاسفة على سبيل المثال جمعوا بين العمل المهني الميكانيكي والابداع الأدبي والفني. ابتداء من افلاطون وأرسطو مروراً بابن سينا وابن رشد، وابن شبل البغدادي الملقب بشاعر المشيب والبديع والاسطرلابي حتى يومنا هذا، مثل يوسف إدريس وإبراهيم ناجي صاحب قصيدة الأطلال وشاكر آل سعيد. وعلى الصعيد العالمي الطبيب والروائي الإنجليزي «توبياس سموليت» وجون كيتس الذي ترك مهنة الطب ليصبح شاعراً. وفي فرنسا عرف جورج وهامير والطبيب الروائي فرديناند وتيوش وغيرهم.
مثال آخر للدلالة على هذا الترابط العملي بين الفن والعلم هو الرسم الهندسي او الصناعي، الذي يعتبر "بمثابة اللغة التي تمكن المهندس من التعبير عن أي تصميم بطريقة تمكن الآخرين من فهمه وتطويره وتصنيعه ويكون هذا الرسم وفقا لمعايير متفق عليها بالنسبة للشكل والتسمية والمظهر والحجم وما إلى ذلك. ويهدف إلى استيعاب كافة الخواص الهندسية لكيان أو منتج ما بشكل واضح بما لا يدع مجالا للبس. والغاية الأساسية من الرسم الهندسي هي توصيل المعلومات الأساسية التي تمكن المصنع من إنتاج المكون المعني" (3).
من خلال هذا التشابك بين الهندسة والرسم، على اعتبار أن الهندسة، نظام تقني يجمع الفن والعلم من خلال تطبيق النظريات العلمية، ومن طبيعة الدراسة التي تجمع بين الفنون والعلوم الانسانية مثل الاعلام والصحافة، يمكننا تلمس مفاصل هذه العلاقة وتشعبات دروبها التي لم تتوقف عند محطات التلاقي بين هذين المفهومين اللذين انطلقا مختلفين، وفق ما كان سائداً من أن للعلم إمبراطوريته، إن صح التعبير، وللفن واحته الريانة بالأحاسيس الذاتية. وقد عاش الفنان زمناً طويلاً في واحته الرحبة بعيداً عن مملكة العالم، رغم أنهما يشتركان في استخدام المواد المؤسسة لدوافع الابداع في كل منهما. ورغم ازدياد البحوث التي تتناول علاقة العلم بالفن في السنوات الأخيرة، لكن ما زال الخلاف قائما حول تحديد دوافع الابداع سواء للعالِم او الفنان. فمنهم من يقول انه الانفعال الخلاق، ومنهم من يرى دوافعه من اعلاء الرغبات الجنسية المكبوتة، كما ذهب فرويد، او في الشعور بالنقص، او في اللاشعور الجمعي، وهناك من يربط الإبداع بالجنس والبيئة والزمن، للوصول الى فكرة مفادها بأن الفن ليس نتاجا فرديا، والابداع فيه يعود الى واقع اجتماعي، بكل ما فيه من عادات وتراث وتقاليد.
هنالك عشرات النظريات التي تتناول موضوعة الابداع من جوانب مختلفة، لكن وبغض النظر عن ذلك، فثمة ترابط وثيق بين الابداع العلمي والابداع الفني، ولنا بمثال دافنشي دليل ناصع، فلم يكن دافنشي رساما عظيما فحسب، بل وقد كان عالما في مجالات مختلفة، في ميكانيكا السوائل، والطيران، مثلاً. فيشار اليه بالمبدع في كل هذه الانشطة. كما كان العالم غاليلو مهتماً بالرسم الهندسي في فن العمارة، شغوفا بدراسة الظلمة والضوء والظل وتوزيعها على اللوحة، الامر الذي حدا به الى دراسة الاجسام ثلاثية الابعاد.
تمتد أواصر العلاقة بين العلم والفن، الى أزمنة وعصور موغلة بالقدم، بل وتوصلنا دالاتها الى اولى الحضارات الإنسانية القديمة، حيث تخبرنا الإكتشافات الأثرية عن الرسومات والمنحوتات، التي حاكى فيها الانسان القديم الطبيعة، لإيجاد نوع من العلاقات اليومية معها، وفهمها والتآلف معها. وهذه الشواهد التاريخية التي وجدت في بلاد ما بين النهرين وفي مصر القديمة، ولاحقاً في مناطق مختلفة من العالم، عززت فهم هذه الرابطة، التي تطورت لتصبح أكثر وضوحاً، في عصرنا الراهن، في ما يتعلق بإدراك وجودها. ومنذ بواكير تاريخ البشرية، شرع الإنسان بدراسة الطبيعة ومحتوياتها الملموسة، كالصخور والمعادن والأخشاب، والظواهر الطبيعية ومن ثم الاستفادة منها لبلوع مستويات فنية وعلمية عليا في الهندسة والعمارة والفلك والطب وما الى ذلك في الفنون المختلفة، فبرز في هذا السياق علماء فنانون أمثال ليوناردو دافنشي الذي جسد حقيقة الفنان والمهندس، والعالم الذي صهر تلك الفروع وغيرها في كينونة واحدة يشهد عليها الإرث العظيم الذي خلفه من لوحات ومخطوطات. "لم يكن ليوناردو مهتما فقط بجمال جسم الانسان، ولكنه كان يبحث أيضاً عن الجمال في المالك الثلاث للطبيعة وترك وراءه كثيرا من الرسوم التخطيطية لحيوانات ونباتات وقواقع وصخور. وتصنف بعض بحوثه اليوم في مجالات الجغرافية الطبيعية وعلم المعادن والجيولوجيا" (4).
لقد شهد الفن وعبر مراحل تاريخية عديدة مرت بها البشرية، تطورات تسامى معها، كنتيجة منطقية لتفاعل الإنسان مع الطبيعة والتعبير عنها من خلال انشطته الحياتية المتعددة، والتي جسدها الانسان بأشكال فنية مختلفة، معتمدا على ادوات تطورت هي الأخرى على مدى العصور. وثمة العديد من نماذج فنون الرسم التي استدلت عليها الاكتشافات الاثرية القديمة، والتي قدمت دلائل على هذا التطور. ومثال ساطع على هذا رسومات الكهوف، التي نلمس فيها مدى استفادة الانسان من الطبيعة، ليس في الفن فحسب، بل وايضا الهندسة، رغم بدائياتها ودون إدراك الانسان بها. فكان الفن في تلك الازمنة عبارة عن تركيب هندسي مجرد، تحول في ما بعد، بفضل تطور انماط تفاعل الانسان مع الطبيعة ليصبح شكلا ماديا محسوساً. وقد تطورت مدارك الفنان ليصبح منتجا لأفكار وخيالات، بعد ان كان مقلداً لمظاهر الطبيعة الفوقية. وخلال فترة مكوثه في الكهوف تحولت ادوات التعبير لدى الانسان من رسم الاشكال والاوصاف الى كلمات مجردة، من خلال الرسم، فمثلا يرسم طيرا للدلالة عليه، ثم تحول من استخدام مسلمات الظواهر الجاهزة، الثابتة، الى التفكير المنطقي بمكنوناتها. وان وجودها في الطبيعة جاء على اساس حركتها وتفاعلاتها والتغيرات التي رافقت صيرورتها. ثم انتقل الانسان الفنان الى مرحلة اعلى من التفكير. فبعد ان كانت الفنون تنظر الى اشياء الطبيعة في ظاهرها المرئي، باعتبارها (كتلة ذات شكل ولون)، أصبح ينظر لها (طاقة ذات لون وبناء داخلي)، بمعنى الولوج الى جوهر الاشياء ومتابعة حركاتها وتفاعلاتها. وهذا جاء بفضل تطور العلم.
 
تاريخية العلاقة
إنّ تسليط الضوء على جذرية العلاقة بين العلم والفن يعيدنا إلى العصور التاريخية، التي ظهرت فيها الفلسفة كأقدم علم عرفته البشرية، بل وبأكثر دقة إلى بداية العصر الإغريقي، حيث السؤال التاريخي الكبير الذي جلبته الفلسفة: هل يمكن معرفة العالم؟ لنواصل بعد ذلك الغوص في مكنونات هذا العالم، وفهم طبيعة عناصره وتفاعلاتها عبر العصور. وقبل ظهور الفلسفة كانت علاقة العلم بالفن تبدو وكأنها علاقة بين الأدب والعلم، باعتبار أن الأدب أكثر الفنون شيوعاً وأسرعها تأثراً بالواقع الاجتماعي وأغناها في ما يتعلق بتعدد مواده التعبيرية التي تشحن أحاسيس الناس من أجل توصيل رسالته الإنسانية. والعلم من هذه الزاوية أيضاً يخدم حاجات الناس العملية وهو الذي يتربع على مكانة ذات شأن رفيع المستوى، بل وأكثر أنواع المعرفة رقياً، يُعد الدافع الأساسي لاستنباط الحقائق، من خلال سلسلة العمليات المتواصلة التي ترافقها ويرطب من حرارة صيرورتها بُعد التفكير والعوم في فضاءات الخيال الملهم والدافع للابداع. إذن فهدف الفن والعلم بهذه الصيغة واحد، وهو تطوير مدارك الإنسان ورفع مستواه الثقافي والاجتماعي، وبالتالي تغيير العالم، وذلك على الرغم من اختلاف الموقعين، ففي حين تعبر فنية الأدب عن إدراك حسي انفعالي خيالي، يفصح العلم عن إدراك عقلي ملموس.
وفي طوفان هذا التفاعل، كان الجدل حول علاقة الفن بالعلم يتجلى في محاولة فهم جوهر المعرفة. واستيعاب طبيعتها وارتباطها بالعلم، ومقدار قوة الأواصر التي تربط المعرفة بالفن في ذات الوقت.
وكانت الخلافات التاريخية إزاء هذه العلاقة ترسو قبالة ضفتين: ففي حين شقت اتجاهات تقليدية طريقها بنفي وجود أية علاقة بين الفن والمعرفة وحددت ارتباط المعرفة بالعلم فحسب، برزت في سياق التعمق في فهم عملية المعرفة مدارس تحاول التأكيد على قوة هذه العلاقة. وبين هذين التيارين، وكنتيجة منطقية للعملية الجدلية عندما يبرز الصراع بين فكرين مختلفين حول قضية ما، هنالك التيار الثالث الذي أخذ يراوح في مكانه وهو يعلن تشككه بعلاقة الفن بالمعرفة تارة، ويبدي الاقتراب من استيعابها تارة أخرى، حتى أخذ اقترابها وبعدها في هذه العلاقة أشكالاً شتى، بل وتوقف الحديث عنها، في فترة زمنية امتدت عقوداً.
ولو تتبعنا في بحث استقرائي لتاريخية هذه الظاهرة لتوصلنا إلى أن النزعات والاتجاهات التي انحدرت من أصول الفكر الميتافيزيقي، المثالي هي التي ظلت متمسكة بثنائية العلم والفن وعدم التقائهما، رغم أن ثمة توجهات، داخل هذا الفكر، كانت تتوكأ على سند التحليل المثالي للظواهر، حاولت استيعاب هذه العلاقة ولكن بفهم مثالي. ولعل الفيلسوف الإغريقي سقراط هو أول من توصل إلى وحدة الفن والعلم، ولكن بفهمه الميتافيزيقي، حيث رأى، من خلال التجريد المنطقي للصفات المشتركة للأشياء، أن المفهوم هو جوهر المعرفة. وهذا الاستنتاج قاده إلى المفاهيم المتعلقة بحياة الإنسان ونشاطه العقلاني، وبشكل خاص نشاطه على صعيد معرفة الذات. وعلى أساس هذا الاكتشاف جاء بموضوعته الشهيرة «اعرف نفسك» التي انطلقت من معرفته المثالية لمفهوم الجمال وفكرته، التي صاغها استناداً على هذا الفهم وجملته الشهيرة «إن كل ما هو معقول جميل». فالإحساس بالجمال، حسب رأي سقراط، لا يمكن تلمسه إلا بالعقل، ومعرفة الجمال هي معرفة الحياة. وسقراط ينظر إلى الفن بمقدار معرفته بالحياة، وبما أن للحياة هدفا «معقول»، فللفن، بالضرورة، وظيفة معقولة وهدف معين. وبما أن الفن بجماليته لم يكن في يوم ما تهريجاً بهلوانياً. فمن هنا لا يجد سقراط في الرقص، على سبيل المثال، فناً إلا من خلال كونه أداءً جميلاً هادفاً إلى تنمية الجسد. والفن من هذه الزاوية يعادل المعرفة في سياق سعيها نحو بلوغ هدفها وأداء رسالتها في الحياة.
ثم يجيء أفلاطون ليقلب بمفهومه المميز للجمال فهم سقراط له، ليشير إلى أن الجمال ليس في الفن، بل هو في الحياة ذاتها. كما يرى في علاقة الفن بالمعرفة ثنائية وترابطاً في آن واحد. الجمال، حسب، أفلاطون يوجد موضوعياً وبشكل مستقل في وعينا. وعلى هذا الأساس فالجمال الحقيقي لا يكمن في العالم المادي، بل في الأفكار الغيبية. إن هذه النظرة لعلاقة الفن بالعلم تجد جذورها في النظرة المثالية نحو العلم وفي أساليب البحث ودراسة الظواهر الطبيعية والتاريخية التي تنكر دور عملية الصراع والحركة وأسبقية المادة على الوعي وما إلى ذلك.
من جانبها جاءت المادية الديالكتيكية لتدلي بتفسيرها حول الطريق الذي تراه مناسباً لمسير البشرية نحو النمو والتقدم، الخ، باكتشافها قوانينها الخاصة المتعلقة بتطور العالم المادي. فقد ربطت المادية الديالكتيكية والتاريخية بين أهم ظاهرتين في سياق المعرفة وهما العلم والفلسفة، مؤكدة على أن تطور العلوم الطبيعية من شأنه توثيق علاقتها وتأثيراتها المتبادلة على الفلسفة. وقد تبنى الفكر الماركسي هذه العلاقة لشموله قوانين الصراع والحركة والتطور. واستخدمت أسس هذا الفكر كأدوات لمعرفة ظواهر العالم المادي، ولفهم مجمل النشاط الإنساني في سياق العملية التاريخية، إذ أكدت الماركسية على جدلية العلاقة بين العلم والفن، متخذة من نظرتها لعلم الجمال منطلقاً لتحليلات هذه العلاقة، عندما تربط بين الفن والواقع بعلاقة معرفية تشكل شرطاً ضرورياً لحياة الفن ذاته.
إن اهتمام علم الجمال الماركسي بعلاقة العلم والفن، من جهة، وعلاقة الفن بالواقع من جهة أخرى، جعل العلم يرى في هذا الترابط استجابة للاستقلالية النسبية للنشاط الفكري في إنجاز عملية الخلق الفني. وذلك بالرغم من تأكيد هذه النظرية على أن الدور الرئيسي في تشكيل الطابع التاريخي للفن يعود إلى القاعدة المادية الاقتصادية، وأن الفن والعلم يشكلان جزءاً من البناء الفوقي الذي يخدم القاعدة. بمعنى اذا كانت البنية التحتية لوسائل الانتاج متطورة، فبالضرورة ستتطور الفنون والعلوم وغيرها وبالعكس. ولكن هناك استثناءات. إذ يُنقل عن كارل ماركس قوله حول وجود مراحل معينة في تطور العلوم والفنون لا تخضع للتطور الاقتصادي والاجتماعي العام، ولا تتطابق مع أسسه المادية. وقد لاحظ ماركس أن الفن قد ازدهر في عصور لم تكن وصلت إلى درجة راقية من التطور المادي العام، بل ان أساليب إنتاجها كانت بدائية. والفن الإغريقي وروائع شكسبير المسرحية، وموسيقى المؤلفين الروس الساحرة في القرن التاسع عشر، ورسوم فناني النهضة وغيرها نماذج حية تدل على عدم حتمية ارتباط الفنون بتطور القاعدة المادية لاقتصاد المجتمع.
من ناحية أخرى، لو اختزلنا التوصيفات التقليدية للعلم التي أطلقها مختلف الباحثين باعتباره مجموعة معارف الإنسان عن الطبيعة والمجتمع والتفكير، وجمعاً منظماً ومثبتاً بالبراهين العملية والأدلة لمختلف الأبحاث المادية التي تدرس ميادين محددة من هذا العالم، فإننا نجده بهذا الوصف قريباً إلى حد ما من الفن الذي نلخص توصيفه بأنه يمثل شكلاً من أشكال انعكاس الواقع المادي في وعي الإنسان، يستمد مادته من العالم المحيط ومن الظواهر والأحداث التي تعصف في المجتمع والطبيعة ويعكسها عبر أساليب وقنوات مختلفة.
هنا، إذاً، يلتقي العلم بالفن من ناحية صيرورتهما التي يستمدانها من منبعين يشاركان معهما، هما الطبيعة والمجتمع. فللعلم فروعه المتعددة وكذا الفن، وكل منهما يؤدي وظيفة تتلاءم وتعدُّدَ وظائفِ النشاط البشري، ذلك رغم تباينهما في طريقة عكس الظواهر، ففي حين يبرز العلم الظاهرة على شكل مفاهيم وقوانين محددة، يجسدها الفن بشكل حسي ملموس، كنموذج فني تتجلى فيه ميزات فردية خالصة.
العلاقة على ضوء تطور التقنية الرقمية
 علاقة العلم بالفن، أخذت تتجلى أكثر بعد تطور ادوات المعرفة، واستخدام التقنيات الحديثة في البحث عن المعلومات، وتنامي شبكات الاتصالات المعرفية المتطورة، التي اسهمت في بلورة مفاهيم جديدة معاصرة ونسجت أواصر علاقات مؤسسة على خلفيات حديثة الاكتشاف، بين مختلف ظواهر النشاط البشري وميادينه المتعددة. كما أننا نلمس في عصرنا الراهن تعددية مجالات النمط العلمي الواحد وتنوع ارتباطاته بالأنشطة الإنسانية المختلفة أو بالأحرى يجري دمج تخصصات فروع مختلفة، سواء أكانت ضمن نطاق الميدان الواحد، أم بين عدة ميادين وفروع متباينة، كما هو الحال مع اقتراب المجالات العلمية - التقنية من الفروع الإنسانية. كما ان النظر الى الماكنة، أو الآلة، كونها شكلت، في الماضي، سمة لعصر الصناعة، ووسيلة من وسائل الإنتاج الصناعي الراقي فحسب، باتت اليوم، ونتيجة للتأثير المتبادل في التطور بينها وبين الانسان، ومن منظور عصر تقنية المعلومات، تعبر عن رسالة إعلامية تحمل دلالة العصر الذي تنامت فيه، فضلا عن كونها تحمل في بنيتها سمات فنية متعددة.
 لنأخذ مثلا، الكومبيوتر الذي يجمع بين علم السبرنتيكا، وهو ما يتعلق بتقنية التحكم والسيطرة على منظومة الاتصالات الداخلية المؤسسة على مكوني "هارد وير" (الاجزاء الفيزيائية الصلبة الثابتة في الجهاز، والمجهزة بدوائر الكترونية، ذات معالجات مختلفة) و"السوفت وير"، بمعنى البرامج المؤلفة والتي بموجبها تعطى الاوامر لفعاليات مختلفة الاختصاصات، والنموذج الأولي الرقمي والرياضيات وغيرها، واللغة والمعلومات، والتأليف وفن الألوان أو التطور في مجال الموسيقى حيث يتداخل علما الفيزياء والرياضيات بالتأليف الموسيقي وإنتاج الصوت.
لقد اتاح لنا تطور وسائل الاتصال والمعرفة امكانية إعادة قراءة الظواهر، بوسائل تقنية أكثر حداثة ورقياً، ونسج خيوط افكار مختلفة، وردم الهوة بين مفاهيم كانت حتى وقت قريب قوالب جاهزة، لا يمكن المساس بها، بل كانت من المسلمات. كالعلاقة بين مفهومي التقنية والفن، على سبيل المثال، أو بصورة أدق بين العلم والفن. فبعدما كانت الهوة سحيقة في فهم العصور السالفة للاختلاف بين هذين النوعين من النشاط البشري، نجد اليوم أن ثمة وعياً يتبلور حول تضييق رقعة هذه الفروق. حتى باتت نظرتنا التقليدية للفن تتغير إلى حد كبير. فلم يعد الرسام اليوم معتمداً، فقط، على قطعة قماش أو لوحة خشب يمرر عليها فرشاته ويسطر فوقها أفكاره وأحاسيسه، بل إن مرسمه، اليوم، أيضاً، هو عبارة عن «شاشة» عرض إلكترونية يقيم عليها مهرجانه التشكيلي، تتقلص فيه مساحة الصورة التقليدية إلى معبر تمر من خلاله المرئيات في سياقات رقمية مختلفة لا تأخذ حيزاً مكانياً ذا أهمية.
بالإضافة إلى ذلك ثمة مفاهيم جديدة أخذت تحل محل تلك التقليدية القديمة. يشير بعض الباحثين إلى أن تقنية الكومبيوتر اليوم، على سبيل المثال، تقترب من الفن أكثر من اقترابها من العلم.
كما أخذت تبرز اتجاهات فنية جديدة تنحو باتجاه تكوين صلة معينة بين الفن والبحوث العلمية القريبة منه، على سبيل المثال العلوم المتعلقة بحركة الأجساد، "البيومكانيك". اضافة الى البحوث في مجال الاعصاب والدماغ التي كشفت عن تأثيرات الفن، كالموسيقى والرسم والرقص، على تطور وتنمية خلايا دماغ الانسان.
كما أن ثمة أسئلة علمية بدأت تبرز بحلل جديدة في أروقة النقاشات الأكاديمية، تتعلق بهوية بعض فروع النشاط الإنساني وتصنيفاتها. اصبحت هناك عملية تشكيك في صيرورتها! هل يمكن النظر الى هذه الظاهرة او تلك كعلم أم كفن؟ فهل يمكن أن تسمّى عملية الترجمة علماً أم فناً؟ او كلاهما؟ وينطبق هذا الأمر على الإعلام والبلاغة وغيرهما.
التشكيك، في تعريف مفهومي العلم والفن، لم يأت وليد اليوم، بل حدث ذلك منذ عقود عدة، لكن كلما تطورت تقنيات البحث، كلما توصلنا الى مفاهيم جديدة عن الظواهر التي كان ينظر اليها على انها ثابتة.  وقد بدأت عملية تفكيك مصطلح عالم العلوم، وإعادة صياغة عالم الفن وفق أسس جديدة، ومن ثم مدّ جسور العلاقة بينهما. ومن الطبيعي ان اي تغيير في المفهوم والتشكيك فيه وايجاد علائق جديدة بين المسلمات، كما هو الحديث عن علمية الفن أو فنية العلم، إن شئتم، لا بد من ان يواجه معارضة، ومعارضة شديدة. وما يثير الانتباه ونحن نتحدث عن الرابطة المثيرة بين العلم والفن، ان المعارضة لهذه العلاقة تأتي من قبل الفنانين قبل الباحثين العلميين، مع استثناءات.
الفن والتكنيك عند دافينشي­­­­­­
أكثر الامثلة دلالة على علاقة الفن بالعلم تتجسد في العلاقة بين الفن والتقنية، وهي مسألة تفرضها صيرورة العمل الفني، حيث يستخدم الفنان التشكيلي، الرسام والنحات، مثلا تقنيات مختلفة لخلق نتاجه الفني الجمالي، وبالتالي التوصل إلى روح الطبيعة. وهذا ما اقترب منه (ليوناردو دافينشي) كثيراً، بل يعتبر البعض أعمال هذا الرسام الإيطالي الكبير دليلاً ساطعاً على وحدوية الفن والعلم، والتي ابرزها احد اهم الكتب التي صدرت قبل سنوات، وتحديدا العام 2004 في هذا المجال، وهو كتاب بعنوان "الرياضيات والموناليزا" (5). في هذا الكتاب يتحدث البروفيسور الامريكي التركي الاصل بولندت اتالي، عن العلاقة الوثيقة بين العلم والفن، من خلال تحليله للوحة الموناليزا ولوحات اخرى للفنان والعالم ليوناردو دافنشي. وبولنت وهو رسام واستاذ في علم الفيزياء، يتحدث في كتابه هذا، عن الصلة التي تربط علم الجمال، في اعمال الرسم والنحت، والهندسة المعمارية، وعلاقتها بالفيزياء والبيولوجيا. ويورد عدداً من الأدلة التي توضح هذه الفكرة حول مدى قوة العلاقة بين الأعمال الفنية والمقاييس العلمية النموذجية، مستشهداً بالتماثيل المجسدة في العالمين، الفني والطبيعي. كما يعرض مواضيع تفكك وتناقش العلاقة، بين الذائقة الفنية والاحساس الجمالي وامكانية التعبير عن مكنونات النفس البشرية والتأثير فيها، وبين الاسس التي يفرضها العلم وتحددها المقاييس الهندسية في لوحات ليوناردو دافنشي، وسر الابداع فيها وخلودها على مر العصور. فهو يتحدث عن تأثير ما يعرف بـ"النسبة الذهبية"، وهو الرقم المعروف ومقدراه 1,618 أو نسبة 1:1.61 الذي توصلت اليها البحوث العلمية الرياضية، ويمثل تناسب الأطوال بين قيمتين عدديتين تحققانها، بأن تكون نسبة الطول كاملا بالجزء الكبير منه، تساوي نسبة الجزء الكبير للصغير. وهذه النسبة كامنة في الطبيعة ومتواجدة في كـل شيء، بما فيها جسم الإنسان. فهو مبني بتقسيماته الهيكلية الأساسية وأبعاده الخارجية على النسبة الذهبية. في توازن بين كل ابعاد وتقسيمات جسمه. فالمسافة بين أعلى رأس الإنسان إلى أخمص قدميه مقسومة على المسافة، من السرّة إلى الأرض تعطي النسبة الذهبية. ومن الخصر الى الأرض مقسوما على الركبة للأرض تحقق النسبة الذهبية. والمسافة من الكتف لأطراف الأصابع مقسومة على المسافة من الكوع لأطراف الأصابع تعطي النسبة الذهبية وهكذا المسافة بين الورك الى الأرض مقسمة على المسافة بين الركبة والأرض تعطيك نفس الرقم الذهبي. هذه النسبة تنطبق ايضا على اعمال ليوناردو دافنشي، كما يشرحها الكتاب ويبين كيفية تأثيرها على أبعاد لوحاته بشكل واضح جدا. كما يخصص جزءا من الكتاب للحديث عن هرم الجيزة الاكبر، وهندسته وأرقامه، في ما يتعلق بفن المعمار، ثم يتناول فضل العلوم، بشكل عام على الفن.
 
آينشتاين - بيكاسو
الموضوع الاخر الذي يدلل فيه الباحثون على جذرية او جدلية العلاقة بين العلم والفن، مبني على اساس ما توصل اليه العالم اينشتاين والفنان بيكاسو. وهنا يجري الحديث عن الفيزياء الحديثة في العلم والتكعيبية في الرسم، في الفن.
ففي الوقت الذي اعلن فيه آلبرت اينشتاين عن نظريته النسبية، قام بابلو بيكاسو برسم لوحته الشهيرة. "آنسات افنون". قد تكون هذه مصادفة. لكن آرثر ميللر، مؤلف كتاب اينشتاين ـ بيكاسو، لا يعتبرها كذلك. هي ليست مصادفة ان يقوم شابان بنفس العمر، احدهما فيزياوي الماني والاخر فنان اسباني بنشر نتائج ما توصلا اليه على اساس تحليلهما لكتاب عالم الرياضيات الفرنسي هنري بوانكاريه "العلم والفرضية" الذي صدر العام 1902. والذي اكد فيه على اهمية الهندسة او الهندسيات الجديدة التي تمتد في فراغات منحنية وابعاد عليا، بخلاف الهندسة الكلاسيكية والمسماة بالاقليدية التي كانت سائدة. اي عدم التسليم بمفهومي المكان المطلق والزمان المطلق اللذين ارتكزت عليهما الفيزياء في السابق. حيث كان سؤال هذا العالم في العام 1902 فيما اذا كانت هذه الهندسيات المعقدة تشكل، بالفعل، قوة محركة لعالمنا الذي نعيشه باتجاهات مختلفة؟
العالم البرت اينشتاين اجاب على هذا السؤال من خلال حديثه عن القوى الكهربية المحركة للاجسام، ومن ثم نظريته النسبية، التي تحرر فيها من الحدود الزمانية والمكانية التي وضعها العلم سابقا. اما الفنان بابلو بيكاسو فجسد اجابته على سؤال بوانكاريه في لوحته "آنسات افنون" وولادة الفن التكعيبي في العام 1907. فهذه الشخصيات الخمس، الآنسات، رُسمن من كل جهاتهن، بانف جانبي وعين امامية. وهذا الفن التكعيبي وهذه النظرية النسبية تنطلقان من ذات النظرة المتجاوزة للاطار الزماني والمكاني، ففيهما الاجسام لا تمثل من منظور وحيد ومن زاوية واحدة مختارة، بل ومن عدة جهات في آن واحد.
وتوصل شخص عالم وآخر فنان الى الاجابة ذاتها على سؤال العلم لم يأت مصادفة، مما يؤكد على أن العلم والفن وجهان لعملة واحدة (6). هكذا حلل ميلر، الاستاذ في تاريخ وفلسفة العلوم في لندن في كتابه "اينشتاين بيكاسو" الصادر العام 2001 علاقة العلم بالفن، بل ذهب ميلر الى ابعد من ذلك وتحدث عن العلاقة بين المبدأ التكعيبي الذي اوضحه جان ميتزنغر وهو مصور ومنظّر كبير، استند على تصوير الاجسام من جهات مختلفة وفي زمن واحد، ومبدأ النظرة التكاملية للذرة الذي طوره الفيزيائي الدانمركي نيلس بور لفهم سلوك الذرة التي كان ينظر على انها تتكون من نواة موجبة، والكترونات تدور حولها بسرعة كبيرة، وأن الشحنات الكهربائية التي تفرزها الالكترونات نتيجة سرعتها، يمكن ان تضعف قدرتها، بعد تبدد هذه الطاقة، فتصطدم بالنواة مما يؤدي الى انهيار الذرة.
نيلس بور أكد أن الالكترونات تدور في مدارات دائرية حول البروتون تحت تأثير قوة التجاذب، ولها طاقات كمية منفصلة. وعندما يقفز إلكترون من مدار لآخر فإنه يفقد أو يكتسب طاقة أخرى، ورغم انه يعود بعد اقل من ثانية الى وضعه الطبيعي، لكن نتيجة التحول الى مدار آخر تؤدي الى افراز وحدة ضوئية تعرف بـ"الفوتون"، وتساوي فرق الطاقة بين المستويين، ما عزز فرضيته من ان هناك أشياء يمكن النظر اليها كجزيئات وكموجات في الوقت نفسه. وعند القياس دائماً ما يكون، إما جُزيء أو وموجة. وهذا الاستنتاج الذي توصل اليه العالم الدانيماركي، وشكل اسهامة كبيرة في ما يعرف بنظرية الكم او "ميكانيكا الكم" او ما يطلق عليها ايضا بالميكانيك الكوانتي، التي جاءت على اساس تأثره بكتاب " التكعيبية" لمؤلفيه آلبير غليزر وجان ميتزنغر. وبهذا تتعمق فكرة التأثير المتبادل بين العلم والفن، حيث ان التكعيبية التحليلية في الرسم تسعى لأن تجسد مشهداً يمكن النظر اليه من جوانب مختلفة على لوحة واحدة. ونظرية بور تفترض أن الإلكترون هو موجه وجزيء في الوقت نفسه. ولكن عند مشاهدتك له فإنك تختار أحد الاحتمالين. وعن هذه العلاقة يشير ارثر ميلر في كتابه "اذا كانت التكعيبية اثر العلم في الفن فان النظرية الكوانتية هي اثر الفن في العلم". ويُذكر ان العالم الفيزياوي الدانمركي الذي توفي عام 1962 كان يعلق في مكتبه لوحة تكعيبية للفنان جان ميتزنغر بعنوان "الفارسه".
 
واقعية الكم تجسيد لمعنى علاقة العلم بالفن (7)
 وفي هذا السياق خرج الفنان العراقي المعروف محمود صبري في بداية سبعينات القرن الماضي، بنظرية تحاكي نموذج العالم الدانمركي نيلس بور، اسماها "واقعية الكم"، وبالتالي تؤكد على علاقة العلم بالفن. ولكن البيان الذي ضمنه فرضيته والذي اصدره في العام 1971 أسيء فهمه، من قبل الاوساط الفنية العربية والعراقية. وحتى الآن ما زال ينظر بعين شك الى هذا التصور الابداعي في الفن.
انطلق صبري من فكرة مفادها ان تطور الفنون عبر العصور، يأتي نتيجة لملاحقتها للعلوم في تطورها. وكان ينظر الى ان ثمة ترابطا جدليا بين العلم والفن، في ما يتعلق بصيرورة العملية الابداعية، باعتبار ان الفن في جوهره يمثل محاكاة للطبيعة، بل وتحوله من محاكاة ظاهرية الى خلق طبيعة ثانية. فالعلم يتحرك باتجاه استقصاء القوانين العلمية للطبيعة. اما الفن فهو يتحرك نحو كشف القوانين الجمالية فيها. رغم ان الفن اسهم كما اسلفنا في منح العالِم خيالاً يحلق به في صيرورة ابداعه العلمي، كما هو الحال ايضا مع الرسم البياني الذي اشتهر باسم مخترعه هنري راسل والذي استعمل على نطاق واسع في الفيزياء الفلكية. وفي كتابه "امبراطورية النجوم" الصادر عام 2005، يشير ميلر الى ان الفنان الفرنسي مارسيل دوشان قد تأثر ببعض الاجزاء في النظرية النسبية لاينشتاين، وعلى اساسها رسم لوحته العارية التي تهبط على السلالم، علما ان اينشتاين نفسه تأثر برائعة ديستوفيسكي "الجريمة والعقاب" لتصبح دافعا لنظريته النسبية، مبنيا ذلك على اساس بطلة الرواية، وهي امرأة تعتبر ساقطة في مجتمع القرن التاسع عشر، لكنها في ذات الوقت من افضل نساء المجتمع، مما يستنتج بأن القيم نسبية. وينسب الى البرت اينشتاين قوله بأنه لولا لم يقرأ هذه الرواية، لما توصل ربما الى النظرية النسبية. 
الفنان صبري ارتكز على معادلة اينشتاين حول العلاقة بين الكتلة والطاقة. بمعنى هناك طاقة تمثل هذا الكون، وتتجسد بالطيف الشمسي، وتساوي الكتلة. كان العلم، قبل اينشتاين، ينظر الى الكتلة ككيان مستقل، كتلة فقط. ثم تطور الفهم في النظر الى المادة، باعتبارها نموذجا اساسيا في الطبيعة، فجاء البرت اينشتاين بمفهومه الجديد للكتلة وطرح نموذجه الرياضي الذي يشير الى ان الطاقة = الكتلة x مربع سرعة الضوء. بمعنى ان الكتلة والطاقة شكلان متحركان من اشكال المادة، يقبل احدهما باخذ مكان الآخر. هذا المفهوم الجديد الذي توصل اليه العلم للطبيعة، كونها مؤلفة من وحدات طاقة تتفاعل في ما بينها من خلال مجموعة من العمليات الداخلية، لا يمكن للفن ان يعبر عنه، بهدف اكتمال الصورة الجديدة للعالم، الا باستخدام المفردات التي جاء بها العلم. بمعنى استخدام المادة باعتبارها ذرات، تمثل اشكالا من الطاقة المشعة، كأطياف متداخلة وجسيمات دقيقة. وقد جرب محمود صبري التعبير عن حركات، او تفاعلات الذرة في الطبيعة بالرسم. من خلال خطوط تميزها الوان تمثل اطياف الذرات. وما أطلق عليه "واقعية الكم" هو اسلوب جديد في التفكير العلمي بالفن، يرتكز على ان العلم توصل الى وجود أكثر من 90 عنصراً في الطبيعة (هناك 20 عنصراً أخرى اختفت). وهذه العناصر توجد بأشكال مختلفة: صلبة وسائلة وغازية. ولو تم التفاعل في ما بينها، وفق القوانين العلمية فسنحصل على مكونات، او مركبات جديدة.  واقعية الكم تأخذ هذه العناصر وتفاعلاتها لتجسدها في خلق اعمال فنية تمتع نظر الانسان وتوسع من مداركة ومعارفه.
واقعية الكم، في تطبيقها العملي تتلخص بالمثال الاتي (8):
لو أخذنا المركب الكيمياوي صوديوم، او ناتريوم، بيكاربونات: NaHCO3 وهو يتكون من:
ذرة صوديوم واحدة ذرة هيدروجين واحدة + ذرة كاربون واحدة + ثلاث ذرات اوكسيجين.
يتعرف العلماء على هذه العناصر بطريقتين: الاولى بواسطة الوزن الذري للعنصر، والثانية من خلال الألوان المشعة من ذراتها.
واقعية الكم تستخدم الطريقة الثانية: اذ أن لكل عنصر عدد الوان طيف خاصة به، تحدد هويته. وهذا العدد يختلف من عنصر الى آخر. كل عدد لوحده يسمى طيف/ كم. مجموع هذه الكمات/  الاطياف تؤلف شخصية العنصر، وهي منسقة بشكل هرموني دقيق.
كل عنصر في الطبيعة يتألف من عدد هائل من الذرات المتماسكة. وكل ذرة تتكون من كمات/ اطياف. فواقعية الكم مبنية على (ذرة، وكم). لكن هذه العناصر في الطبيعة تتكون من اعداد هائلة من الذرات غير مستقلة عن بعضها، وانما تشترك مع عناصر اخرى تشكل وحدة/ وحدات جديدة تسمى تركيبا، وهذا يضاف الى بنية واقعية الكم ليصبح اساسها: (ذرة، تركيب و كم).
فالرمز الكيمياوي/ التركيب أعلاه، من وجهة نظر واقعية الكم، هو الواقع الحقيقي والمستوى الجديد الذي كشف عنه العلم، وعلى الفنان السعي للامساك بلحظته التاريخية لتصويره. لكن الفنان لا يستطيع ان يقوم بذلك دون الاعتماد على قواعد دقيقة. ومن اجل هذا اختار صبري سبعة الوان، هي من اكثر الالوان حساسية لكل عنصر ووضعها في جدول أسماه "مختارات الاطياف الخطية للعناصر". وهي بمثابة حروف لغة الفن، بالنسبة لنظريته "واقعية الكم". وتحاكي جدول ماندليف للعناصر في الطبيعة.
ولوعدنا الى مثالنا "الرمز الكيمياوي NaHCO3 لطبقنا الاتي:
  • الصوديوم Na : لونان برتقالي مختلفان/ لونان أصفر مختلفان/ لونان أخضر مصفر/ لون واحد أخضر.
  • الهيدروجين H : لونان أحمر مختلفان/ لون واحد أخضر مزرق/ لونان بنفسجي مختلفان.
  • الكربون C : 3 ألوان أحمر مختلفان/ 4 ألوان بنفسجية مختلفة.
  • الاوكسجين O : 4 ألوان أحمر مختلفة/ برتقالي واحد/ أخضر واحد/ بنفسجي واحد.
هذه الالوان الخاصة بكل عنصر مرتبة بشكل متناسق، وهي موجودة في الطبيعة، وتتناسق مع الالوان من بقية العناصر الاخرى، لانها تعيش سوية في تركيب كيمياوي واحد. فكما هي منسجمة ماديا في الطبيعة لا بد ان تكون منسجمة في لوحة الرسام.
أليس هذا ادراكا لعلاقة جدلية بين العلم والفن؟
علم الجمال رابط العلاقة بين العلم الفن
ومثلما يشترك الفن والعلم بالإبداع فهما يشتركان ايضا في قيم الجمال والتاثير الجمالي الذي يسهم في بلورة الذهنية واشباع الشعور، الذي ادى تراكم الخبرة فيه الى نشوء ما يعرف بالاستيتيكا، او علم الجمال، بما يحمله من ابعاد فلسفية وفنية مختلفة، يأتي الاحساس فيه من خلال المكونات المرئية في الطبيعة. وقد تأثر العلماء بقيم الجمال، قبل قرون عديدة باتت واحدة من اسس المعرفة، حيث يجري التأكيد على أهمية التأمل والخيال بالنسبة للعالم، كما هو بالنسبة للفنان، في خلق صور ذهنية للقضايا البحثية التي تتطلب من العالم حلها، واغلب العلماء المعروفين توصلوا الى اكتشافاتهم وابتكاراتهم عبر التخيل والتأمل والاحساس بالجمال الذي يعد قوة دافعة للابتكار.
وهكذا نجد أن ثمة أسساً لترابط العلم والفن، حتى قبل أن تهب عواصف ثورة المعلومات. لكن هذه الثورة أسهمت في تحديد أطر هذا التفاعل والالتقاء وفق مفاهيم أكثر عصرنة وتماشياً مع المتطلبات المستجدة. فكل شيء الآن ينظر إليه من خلال عدسة المعلوماتية وثورة تقنية المعلومات. فهذه التقنية هي التي ساعدتنا في فهم العلاقة بين النظرية النسبية والمبادئ الاساسية في الفن التكعيبي. وهي التي ساعدت في تحليل لوحات دافينشي واوجدت العلاقة بين الرياضيات والموناليزا.  وأوصلتنا، بعد هذه الرحلة في قطار العلاقة التي تربط عربات العلم والفن، الى امر مفاده آنية اندماج مفهومي العلم والفن، ليخلق مصطلح جديد يتسم به كلاهما.