أيار 17
  اخترت هذا الموضوع لعدة أسباب: أولها، ما يحظى به موضوع التربية والتعليم من أهمية قصوى في كل العالم لاسيما بعد الجائحة، وبالخصوص في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث يعتبر ضعف المنظومة التعليمية من أهم العوائق التي تقف في وجه إنجاح مشاريع التنمية المستدامة.
ثاني تلك الأسباب، ما تمثله الثورة الرقمية اليوم من فرصة حقيقية من أجل إصلاح أعطاب التعليم عندنا والتعرف على البدائل التي تقدمها في هذا المجال. وبهذا الصدد تحدثت مساعدة المديرة العامة لليونسكو للتربية ستيفاني جيانيني في تموز/ يوليو 2022، عن ضرورة إحداث تحول في التعليم لكي يتصدى للمشكلات الجديدة للقرن الحادي والعشرين، وقد بين تقرير اليونسكو الذي صدر مؤخرا بشأن مستقبل التربية والتعليم، أنه يتعين تعديل المناهج وطرق التعليم لكي تتأقلم مع معطيات تغير المناخ والعولمة والثورة الرقمية وغيرها من مستجدات العصر.
 كما قامت المديرة العامة لليونسكو السيدة أودري أزولاي في القمة الأخيرة حول التعليم، والتي انعقدت بأيلول| سبتمبر 2022 بمشاركة أكثر من 130 دولة، تحت عنوان "تغيير التعليم من أجل تعليم أخضر" بتقديم، إستراتيجية المنظمة لتغيير التعليم، من خلال "تغيير المدارس لتصبح أماكن للتعلم ونماذج للحياة المستدامة وتكييف المناهج وتطوير المعلمين، بحيث يتمتع كل متعلم بالمهارات التي يحتاج إليها للإبحار في عالم وسائل التواصل الاجتماعي والخوارزميات والذكاء الاصطناعي" (1). وأكدت اليونسكو أنها ستمضي في هذا الزخم قدما لتحقيق الهدف العالمي المتمثل في توفير تعليم جيد للجميع بحلول عام 2030.
السبب الثالث لاختياري هذا الموضوع، هو الرغبة في ربط منبرنا الموقر هذا، منبر حوار التنوير، بما يحدث حولنا اليوم من متغيرات عالمية هائلة، تفرض علينا إعادة قراءة واقعنا وتحديد مواقع الضعف في مجتمعاتنا بمنظور مختلف يساعدنا على طرح أسئلة جديدة، والأسئلة عندما تكون دقيقة هي من تقودنا إلى الحلول الصحيحة، وهذا يذكرنا بقيمة السؤال في الدرس الفلسفي، حيث اعتبر الإغريق وبالتحديد منذ سقراط أن السؤال أهم من الجواب.
يصعب على الباحث اليوم في أي مجال من مجالات العلوم الإنسانية، أن يتناول بالتحليل أي موضوع من مواضيعها دون الأخذ بعين الاعتبار ما يعيشه العالم وبشكل متسارع لاسيما في العقدين الأخيرين من ظواهر جديدة، غيرت وجه العالم وأساليب العيش فيه وجعلته في نفس الوقت يبدو وكأنه بالفعل قرية صغيرة، وذلك بفضل الثورة الرقمية أو ثورة المعلومات، التي جعلت المعلومة كما الخبر ينتقلان من أقصى الأرض إلى أقصاها في زمن حقيقي (في نفس اللحظة)، كما جعلت المعرفة بكل فروعها متوفرة للجميع من خلال خدمات الإنترنت وتطبيقاته العديدة التي باتت تختزن جُل الذاكرة الإنسانية ماضيا وحاضرا…، الأمر الذي غير مفاهيم عديدة كما غير نظرتنا إلى أمور كثيرة، وخاصة منها المعرفة حيث أصبحت الأمية مرادفة للجهل بالعالم الرقمي وتطبيقاته وعدم القدرة على الاستفادة من خدماته.
 إن العالم الرقمي وتكنولوجيا المعلومات أصبح بالفعل عالما مترامي الأطراف، مؤثر في جُل مناحي الحياة، من الاقتصاد والمال إلى النقل والإعلام فالصحة والتعليم والثقافة والفن… والقائمة تطول كما ونوعا مع التطور السريع الذي تعرفه الثورة الرقمية.
نحن إذن، أمام ثورة شاملة غيرت وجه العالم وستغيره أكثر لأنها حسب الخبراء ما تزال في بداياتها، تدعى بالثورة الرقمية، فما هي الرقمية وما الذي يميزها عن الثورات السابقة؟
 تعريف
تعد الثورة الرقمية ثالث ثورة صناعية يعرفها العصر الحديث، ويرى جيرمي ريفكن في كتابه "الثورة الصناعية الثالثة"، "أننا نكون إزاء ثورة صناعية تجديدية، عندما يقترن الانتقال من استخدام مصدر للطاقة إلى مصدر آخر من خلال ظهور شبكة جديدة من الاتصالات" (2) من هذا المنظور، يمكن التمييز بين ثلاث ثورات عرفها العالم المعاصر:
فالثورة الصناعية الأولى، قامت على الطاقة المتولدة من الفحم الحجري، وإنشاء شبكات السكك الحديدية والملاحة البحرية، وفي الثانية، تم اكتشاف طاقة النفط والكهرباء، فنشأت شبكتا النقل الطرقي والاتصالات السلكية واللاسلكية. وفي الثورة الحالية ظهرت شبكة جديدة هي الإنترنت، ويجري العمل الآن على استبدال الطاقة الأحفورية بموارد نظيفة جديدة، كالرياح والماء والشمس.
ويمكن القول أن ما ميّز الثورتين الأولى والثانية هو أن نصيب مجتمعات العالم الثالث في بدايتها كان ضعيفا، خاصة في الفترة الاستعمارية، إذ غالبا ما استغلت بلدانه كمخازن للمواد الأولية لتطوير صناعات البلدان الأوروبية وتشييد بناها التحتية خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تم تسخير البشر وتهجير الأيدي العاملة لأبناء المستعمرات ونقلهم بالآلاف للعمل في مجالات شاقة كبناء الطرقات وحفر المناجم والأنفاق وبناء الجسور ومد السكك الحديدية وغيرها من الأعمال الشاقة في ظروف صعبة، مقابل أجور زهيدة، وقد استمر نهب المستعمرين الأوربيين لتلك البلدان خاصة في أفريقيا إلى ما بعد الفترة الكولونيالية. كما أن ما شيده الاستعمار من بنى تحتية في البلدان المستعمرة، كان أساسا لخدمة المعمرين وتحسين ظروف عيشهم وتسهيل عملية نقل البضائع والمواد الأولية إلى بلدانهم.
في الثورة الرقمية، نحن أمام وضع جديد، أمام ثورة بعيدة عن روح الأنانية*، ثورة عالمية بكل معنى الكلمة تضع نفسها كخيار مفتوح أمام كل من يسعى إلى الانخراط فيها والاستفادة من خدماتها وتكييفها حسب احتياجاته، وقد يتعلق الأمر بشخص أو بمجموعة أشخاص كما بمؤسسة أو دولة.
 صحيح أن بلدان الجنوب لم تساهم في الثورة الرقمية ولكنها كغيرها من بلدان العالم تستفيد ولو بتفاوت من خدماتها الجُلى؛ وفي مقدمتها ربح الوقت والمال وتعزيز الحَكامَة وتقريب الإدارة من المواطنين.
وقد عملت الثورة الرقمية على عولمة العالم وعلى تعميم المعرفة وسهولة الوصول إلى المعلومات، إذ يكفي أن تتوفر على هاتف ذكي أو حاسوب أو لوحة إلكترونية لتصبح متواصلا مع كل العالم وبين يديك أو في حقيبتك جُل المعلومات والمعارف التي راكمتها الإنسانية في مجالات العلم والمعرفة، شرط أن تحسن استعمالها مع إجادة إحدى اللغات التي تعمل بها.
لا يخفى على أحد مدى الأسئلة الشائكة التي تثيرها الثورة الرقمية وما ألحقته وما ستلحقه مستقبلا سواء بالعلاقات الإنسانية والاجتماعية وبالأنماط الإنتاجية التي ألفناها أو حتى بنظرة الإنسان إلى نفسه وللعالم، فالذكاء الاصطناعي سينقلنا إلى مجتمع الآلة الذكية التي ستصبح جزءًا من حياتنا اليومية، وتتمتّع بنفس قدرات الإنسان وأكثر. هنالك أسئلة يطرحها الذكاء الاصطناعي حول حدوده وإمكانياته وكيف يمكن أن يتطور دون أن يتوصل مثلا إلى القدرة على السيطرة على الإنسان والتحكم فيه.
إلا أن ما يهمنا في هذا البحث هو موضوع الرقمنة وإسهامها في مجال التعليم الرقمي، وإلى أي حد يمكن أن يشكل رافعة للتنمية؟
تعريف التعليم الرقمي
تكمن أهمية التعليم الرقمي في جانبه البيداغوجي أساسا، ففي الوقت الذي نجد فيه التعليم التقليدي مازال يتمحور حول الأستاذ في عملية تلقينية قائمة على الحفظ، أصبحنا في التعليم الرقمي أمام مفهوم جديد للتعليم والتعلّم تتحول فيه علاقة الأستاذ بالطالب من علاقة تبعية مطلقة إلى عملية تشاركية يتحول المعلم فيها إلى مرشد ومصاحب للعملية التربوية، تاركا للتلميذ مهمة البحت عن المعلومة، لأن جُل المعلومات أصبحت موجودة على الإنترنت، وهو ما يؤهل التلميذ للاعتماد على النفس، ويُنمّي لديه حب المعرفة، وطرح السؤال، ويؤهله لتطوير مَلَكَاتِه العقلية الأساسية، كالفكر النقدي والتحليل والمقارنة والاستنتاج وغيرها من الآليات الفكرية التي تساعده على بناء شخصيته المستقلة.
إن مفهوم التعلم في المجال الرقمي يتمحور أساسا حول تحقيق هذه الأهداف، من أجل بناء أفراد قادرين على الإبداع والابتكار، وما أقل المبدعين والمبتكرين لدينا ولا أدل على ذلك من أن أغلبهم يبتكرون ويبدعون عندما يلتحقون بالجامعات الأجنبية.
قد يسأل السائل هنا: كيف استطاعت البلدان التي أصبحت متقدمة أن تنجح في مجال التعليم حتى قبل ظهور الرقمنة؟ وما الذي يمكن أن تضيفه الرقمنة إلى هذا التعليم الناجح أصلا؟ والجواب هنا هو إدراكهم المبكّر للأهمية القصوى للعملية التربوية. وقد ظل البحث التربوي في أولويات اهتماماتهم بهدف صقل المواهب، وإبراز قدرات التلاميذ والحيلولة دون أن تصبح المؤسسة التربوية مكانا للإقصاء، لأن فشل الطالب غالبا ما يكون فشلا للمنظومة التعليمية وليس للطالب نفسه، فحسب هذا المنظور لا يخلو أي تلميذ من قدرات أو مواهب، يجب على المعلم والمؤسسة التربوية مساعدته نفسيا وتربويا على اكتشافها وتطويرها.
ولعل نظرية "جان ديوي" -وهو من أشهر أعلام التربية الحديثة- والتي تسمى بنظرية "التعليم التقدمي"، القائمة على ضرورة ربط النظريات التربوية بالأهداف التربوية مع الحرص على تجنب تأثير الأفكار السائدة والتقاليد الموروثة والتركيز مقابل ذلك على الديالكتيك؛ أي منهجية بناء الدرس حيث يتعين على المعلم القيام بإعداد منهجي لمراحل الدرس من خلال تحديد الأهداف المفترض بلوغها، (وهو ما يسمى في علم الديالكتيك بالتعلم بالأهداف) والتأكد فيما بعد من خلال عملية التقييم من الوصول إلى تلك الأهداف، اعتماداً على طرح أسئلة تركيبية على الطلاب عند نهاية الحصة لقياس مدى استيعابهم للدرس وأهدافه.
يبقى الشطر الثاني من السؤال، وهو ما الذي يمكن أن تضيفه الرقمنة للتعليم؟ سواء في الغرب أو الدول المتقدمة عموما؟ الجواب هنا هو أن إيجابيات التعليم الرقمي جد هامة بالنسبة لكل المجتمعات وذلك لعدة أسباب:
أولا؛ الجانب الاقتصادي، سواء الاقتصاد في الوقت أو الاقتصاد في بناء المدارس والجامعات الذي يوفره التعليم عن بعد.
ثانيا؛ من الناحية البيداغوجية، يقوم التعليم الرقمي على مفهوم التعلم الذاتي وهو ما كانت تسعى إليه النظريات التربوية الحديثة، كما أشرنا سابقا، والذي أصبح تحقيقه أسهل مع التعلم الرقمي من خلال الإنترنت ووسائل الاتصال الذكية، الأمر الذي يوفر للطالب فرصة البحث والاجتهاد والاعتماد على النفس.
ثالثا؛ تعزيز الجانب الثقافي، من خلال توسيع آفاق البحث الثقافي التي يتيحها الإنترنت وبالتالي تنمية الفضول المعرفي لدى الطلاب.
رابعا؛ التعلم مدى الحياة، ذلك الهدف الأسمى الذي سعت إليه النظريات التربوية الحديثة، على اعتبار أن عملية التعلّم لا تتوقف وتجديد المعارف وتطويرها أمر ضروري من أجل بناء مجتمع المعرفة والبقاء فيه، وهو المكسب الذي يمكن أن يحققه التعليم الرقمي لطبيعته المختلفة والتي جعلته معرفة نقالة يحملها الإنسان أينما ذهب ويسألها وقتما شاء.
المغرب والثورة الرقمية والتجربة في مجال التعليم الرقمي
 قياسا إلى بلدان العالم الثالث، تعتبر التجربة المغربية في مجال الرقمنة تجربة جيدة نسبيا خاصة فيما يتعلق برقمنة القطاع المالي والاقتصادي والإداري وغيرها من المرافق والخدمات التي تتم رقمنتها تِباعا، ويعود ذلك لما راكمه المغرب من تجارب في هذا المجال منذ عقدين أو يزيد، مما جعله من بين المستثمرين في مجال الرقمنة في أكثر من بلد أفريقي.
إلا أن هناك حاجة إلى تعزيز هيكلة هذا المجال وتوسيع تجربة الرقمنة وتسريع وتيرتها لتصل إلى كل الجهات والمناطق.
وبهذا الصدد يقول الأستاذ الحسين الساف وهو أحد الخبراء المغاربة في مجال الإعلام الرقمي وهندسة مضامين التعليم عن بعد:
"نعيش حاليا تحولا حقيقيا على مستوى الرقمنة، فهنالك كثير من الممارسات والعادات التي تغيرت بفعل شبكة الإنترنت، حيث بدأنا نتكلم عن مفاهيم جديدة مثل مفهوم" (المواطنة الذكية)، فالمواطن المغربي لم يعد مجرد متلقي أو مستهلك لما تفرزه الشبكة العنكبوتية، بل أصبح فاعلا ومؤثرا، يخبر وينتج ويعلم ويقيم ويسوق بل ويبتكر سلع وخدمات، هذا الفاعل الجديد يجب التركيز عليه في جل السياسات المتعلقة بالتحول الرقمي، ويكفي أن نعلم أن المغرب يتوفر الآن على 26 مليون ربط إنترنيت منزلي، ولديه 40 مليون هاتف ذكي؛ (أي أكثر من عدد سكانه) و15 مليون حساب على الفايسبوك، إضافة إلى عشرات الملايين من حسابات تويتر والتطبيقات الأخرى. وهذا معناه أن المغرب قطع أشواطا طويلة في مسألة البُنى التحتية في المجال الرقمي، ولكنه مع ذلك مازال يشكو من الأمية الرقمية، لذلك أرى أن هنالك ثلاث نقاط يجب التركيز عليها:
 أولا، العمل على وضع برامج وسياسات حكومية بإشراك خبراء متخصصين والاستعانة أيضا بكفاءات القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني للتغلب على الأمية الرقمية التي تظل عائقا في توسيع وتطوير الرقمنة.
ثانيا: إدراج مواد تكنولوجية في التعليم بكل مراحله.
ثالثا: توفير الإمكانيات المادية والبشرية لتوسيع وتحديث البنية المعلوماتية الوطنية.
رابعا: العمل على تكوين أجيال قادمة في مجال تكنولوجيا المعلومات والتي سيكون لها دور أساسي في ترسيخ الرقمنة مستقبلا في بلادنا" (3).
كما صرح وزير التعليم السيد شكيب بنموسى منذ بضعة شهور: "بأن إدارته ستقوم بوضع مجموعة مهمة من اللوحات الإلكترونية لصالح مجموعة من المؤسسات التربوية، بهدف تحسين جودة العملية التربوية بواسطة الرقمنة سواء بالنسبة للأساتذة أو التلاميذ، وستشمل هذه العملية تقنيات التعليم عن بعد كحل لمشكل الاكتظاظ داخل الأقسام، إضافة إلى حل مشكل الأقسام التي تضم عدة مستويات، ومعالجة المشاكل المتعلقة بالدعم المدرسي. إننا مقتنعون بأن استعمال الرقمنة وإدماجها بشكل منهجي في العملية التربوية من شأنه أن يساعد على التغلب على هذه الإكراهات.
هذا بالإضافة إلى إخضاع المربين القدماء إلى عملية التكوين المستمر والتأطير من جديد، لأنهم سينخرطون في رؤية بيداغوجية جديدة ستتطلب منهم مجهودا جديدا واستعدادا أيضا" (4).
هذه التصريحات وغيرها كثير سواء من طرف خبراء أو مسؤولين في مجال التربية، تؤكد عزم المغرب على اللجوء إلى التعليم الرقمي وخاصة لتقنية التعليم عن بعد، والتي اكتشفها المغاربة إبان أزمة كوفيد، وانقسم حولها الرأي العام المغربي آنذاك بين مؤيد ومتشكك في هذا النوع من التعليم غير مضمون النتائج.
    لا شك أن اللجوء لهذه الطريقة غير المألوفة في التعليم لم تلق إبان الجائحة قبولا عاما سواء من المؤطرين أو الطلاب أو أولياء أمورهم، ليس فقط بسبب الطبيعة المختلفة لهذا التعليم، وإنما أيضا في طريقة اللجوء إليه، التي اتسمت بالسرعة وعدم الإعداد الجيد، سواء فيما يتعلق بتكوين المؤطرين، أو توفير الأجهزة اللازمة للتلاميذ وحتى للمعلمين، إضافة إلى ضعف شبكات الاتصال التي لم تكن مهيأة لاستقبال الضغط المتزايد من طرف ملايين المستعملين في نفس الوقت، مما أدى إلى حدوث انقطاعات متكررة أثرت بشكل سلبي على سير عملية التعليم عن بعد. وكان العالم القروي والمناطق النائية الأكثر تضررا بسبب ضعف الشبكة العنكبوتية أو انعدامها أحيانا.
وبهذا الصدد لابد من الإشارة إلى أن المغرب وبالرغم من كل الإكراهات التي فرضتها أزمة الكورونا، استطاع إلى حد لا بأس به، النجاح في إنقاذ السنتين الدراسيتين اللتين عرفتا انتشار الجائحة، وذلك بفضل الدور الأساسي الذي قام به "مركز التعليم الرقمي بالرباط الذي يضم احدث الكفاءات والتقنيات البيداغوجية لتتبع المسار الدراسي عن بعد".
وهو عبارة عن مختبر تابع لجامعة محمد السادس التقنية، تم إنشاؤه سنة 2017 لمواكبة التطور الرقمي الذي يعرفه العالم في مجال التعليم وتطوير مهارات الأساتذة، من أجل الانتقال من نموذج التعليم الحضوري إلى المجال الرقمي القائم على تقنيات التعليم عن بعد.
يضم هذا المركز أخصائيين في الرقمنة يشتغلون مع الأساتذة من أجل تطوير دروسهم وتقديمها من خلال المنصات الرقمية عوض الأقسام، كما يتوفر المركز على استوديوهات مختلفة للتسجيل وإنتاج الدروس، وكاميرات تستخدم أحدث التكنولوجيات المتطورة، لتمكين الأساتذة من إعداد الدروس بشكل مهني، وتوضيبها من قبل تقنيي المعلوميات وذلك قبل تقديمها على المنصات الخاصة.
في البداية كان هذا المركز يشتغل مع مجموعة من المدارس النموذجية التابعة لولاية مدينة الرباط، كوسيلة تجريبية لتطوير آليات التعليم عن بعد. غير أن ظروف الجائحة وما صاحبها من فرض الحجر الصحي وقرار الحكومة السريع بإغلاق المدارس والانتقال إلى التعليم عن بعد كحل مثالي لإكمال المقررات التعليمية وإنقاذ السنة الدراسية، جعل أنظار المسؤولين تتجه إلى "مركز التعليم الرقمي التابع لجامعة محمد السادس التقنية" لما يحتويه من إمكانيات لوجيستيكية وموارد بشرية مؤهلة، إضافة إلى الخبرة التي راكمها في الميدان. وهكذا لعب هذا المركز دورا محوريا عبر توظيف الاستوديوهات الخاصة لتسجيل وإنتاج الدروس، مع فتح استديوهات جديدة في مدن مغربية أخرى.
   وهكذا فقد ساعد وجود هذا المركز أو المختبر بتكنولوجياته المتطورة والخبرة المتوفرة لدى الفاعلين فيه من اجتياز أزمة الكوفيد بالنسبة للتعليم في المغرب.
وبهذا الصدد يقول الخبير رفيق العلمي عن تلك الفترة: "لقد تم اتخاذ القرار بالتحول من التعليم التقليدي إلى التعليم الرقمي بين عشية وضحاها، وهو القرار الذي كان يحتاج إلى كثير من التحضير والعمل من اجل إخراجه على أكمل وجه، لكن ظروف الكوفيد، فرضت علينا العمل بسرعة، وكان بالفعل فرصة لكي يفهم الناس أهمية هذا التعليم، أي التعليم عن بعد، وأنه من الممكن أن يكون مكملا للتعليم الحضوري، وحتى بديلا عنه إذا ما توفرت الشروط اللازمة لإنجاحه، وهنا لابد أن أشير إلى الدعم الكبير الذي تلقاه هذا المركز خلال أزمة كورونا، سواء من وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني أو وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، إضافة إلى الجامعات المغربية والمكتب الشريف للفوسفاط، مما أمكننا من سداد الخَصَاص المرتبط بقلة الإمكانيات ومحدودية التجارب المرتبطة بالتعليم الرقمي ببلادنا. وكل ما نرجوه هو أن تستمر تلك الجهود بنفس الزخم لإعطاء التعليم عن بعد أهميته وقيمته الحقيقية" (5).
ما الذي يستطيع هذا التعليم تقديمه سواء للمغرب أو لباقي البلدان العربية؟
يستطيع هذا التعليم أن يقدم الكثير لبلداننا خاصة في مجال التنمية البشرية التي هي أساس التنمية المستدامة، من خلال المساعدة على حل كثير من المعضلات الاجتماعية التي تقف سدا في سبيل تطور مجتمعاتنا والتي يعود جزء كبير منها إلى ضعف المنظومة التعليمية منهجا ومضمونا وتأطيرا. فمازال التعليم العام عندنا يتبع مناهج عفا عليها الزمن، إضافة إلى ظاهرة التسرب المبكر التي تنتج جيوشا من العاطلين في رعيان الشباب، وضعف أو غياب مؤسسات التكوين المهني أو ارتفاع كلفتها بالنسبة للطبقات الفقيرة، والزواج المبكر للبنات الناتج أيضا أما عن غياب المدرسة أو بعدها عن أماكن السكن، إضافة إلى ضعف واهتراء البُنى التحتية للمؤسسات المدرسية في المناطق الفقيرة، التي تجعلها فاقدة لأية جاذبية بالنسبة للأطفال الصغار والمراهقين على السواء.
إن ما يميز التعليم عن بعد هو كلفته المتدنية، إضافة إلى اختصاره للمسافات، وقدرته على التأقلم مع حاجيات مختلف الفئات الاجتماعية، لكن تفعيل كل تلك الإيجابيات يحتاج إلى تنظيم وتأطير وإلى حملة تحسيسية، سواء من طرف الدولة أو الإعلام أو المجتمع المدني أو الهيئات المحلية المنتخبة.
لقد أشرنا سابقا إلى أن المغرب يملك 40 مليون هاتف نقال في الوقت الذي لا تتعدى ساكنته 37 مليون نسمة بما فيها المغاربة المقيمين في الخارج؛ إن الهاتف النقال كاف ليتحول إلى وسيلة للتعلم في كل مناطق المغرب شريطة تعميم الشبكة العنكبوتية وتزويدها بالقوة الكافية التي تجنبها الانقطاعات في المناطق الضعيفة التغطية.
والتعليم هنا نقصد به التعليم الموجه للطبقات المحرومة والمهمشة على الخصوص، من محو الأمية، إلى إعطاء فرصة جديدة للنساء والرجال الذين يرغبون في استكمال تعليمهم، إلى تأمين التكوين المهني للتلاميذ المُتسَربين في مهن مطلوبة كالكهرباء، مثلا، أو السباكة أو الزجاج أو غيرها من المهن الكثيرة المرتبطة بمجال البناء، إضافة إلى تعلم الحرف اليدوية واللغات والانفتاح أيضا على تعلم الخدمات المرتبطة بالانترنت، مثل السياحة والفندقة وغيرها.
لقد أصبح لدينا في المغرب كما في باقي البلاد العربية جيش من المتقاعدات والمتقاعدين من بينهم نسبة عالية من المعلمين والأساتذة الذين يمكن توظيفهم للقيام بهذه المهام، والتي لن تضطرهم للخروج من منازلهم، كما يمكن فتح المجال لأي ذي معرفة أو صنعة أو حرفة يرغب في الإسهام في هذا المشروع التنموي بامتياز.
لقد أصبح التعليم عن بعد واقعا عالميا، تتبناه الجامعات والمدارس في كثير من البلدان المتقدمة، وهو في اتجاه أن يصبح مجانيا في كثير من الجامعات العالمية بما فيها جامعة هارفرد التي أطلقت مجموعة من التخصصات عن بعد، منها المدفوعة ومنها من تدرس بالمجان، كما تم إحداث جامعة أمريكية اسمها "جامعة الشعب" أول جامعة مجانية للتعليم عن بعد، ويمكن الدراسة فيها باللغة العربية أيضا.
النرويج مثلا قررت أنه عما قريب، سيكون في إمكان أي طالب التسجيل بجامعاتها دون مقابل، أي تعليم عن بعد مجاني.
وهنا نطرح التساؤلات التالية:
- هل نحن مقبلون على عصر تكافؤ الفرص في التعليم والتعليم العالي على الخصوص بل ومجانيته أيضا، ذلك المكسب الذي عجزت عن تحقيقه أعتى الديمقراطيات؟
- هل نحن مقبلون بالفعل على مجتمع للمعرفة يفتح ذراعيه للجميع؟
- هل الحضارة المقبلة ستكون من صنع كل الشعوب بفضل انفتاح فرص المعرفة أمام للجميع؟
- ما مصير الجامعات كبنايات في حال انتشار التعليم عن بعد؟
أسئلة كثيرة قد نجد جوابها في تعريف رئيس جامعة هارفارد الأمريكية لورانس باكو (6) Lawrence S. Bacow للتعلم الرقمي حيث يسميه بـ"الانزلاق" أو تسونامي الذي سيجرف الجامعات والمدارس، معلنا أننا بحاجة إلى تحول التعليم إلى تعلم رقمي وفي سنة 2030 ستصبح 80% من جامعات أمريكا رقمية، لا يوجد بها صفوف أو كتب أو مدرسين. نحن في عالم تجتاحه ثورة رقمية جارفة. إذا لم نتواءم معها سنضيع. والبداية تكون بصدور قرار حكومي بالاعتراف بالتعلم الرقمي. وفي نهاية المطاف فإن التعلم الرقمي هو التعلم الحقيقي، ففيه يُتاح للطالب ولوج الأفق الواسع للمعرفة الذي يؤهله إلى تعليم نفسه بنفسه.
عن الحداثة والتعليم
كما نعلم جميعا فإن سؤال "التعليم والحداثة" كان دائما وما يزال موضوع  أخذ ورد في بلداننا العربية، غير أنه لم يحظ بالأولوية التي حظي بها موضوع "التراث والحداثة" و"الأصالة والمعاصرة" وغيرها من المواضيع ذات الطابع السجالي الإيديولوجي والتي أظهرت التجارب أنها لا تحل بقرار سياسي وإنما بسيرورة اجتماعية قوامها تعليم مستنير ينشأ أفرادا برؤى جديدة وطموحات مغايرة.
لم يحتل موضوع ربط التعليم بالحداثة المكانة التي كان يستحقها، وظل شعارا أكثر ما هو وسيلة للتغيير الحقيقي، ربما لأن الحركات الوطنية بالبلاد العربية، ظلت في عمقها محافظة تسعى إلى الإصلاح ولكنها تخشى التغيير، لذلك ظل سؤال التعليم مرتبطا أساسا برهان التنمية، دون التفات إلى أهميته في بناء عقول الأفراد القادرين على الاندماج في العالم المعاصر والإبداع فيه.
 وغالبا ما كانت صيغة السؤال حول التعليم تحمل جوابها المبسط والمتمثل، في ضرورة ربطه بالتنمية وسوق الشغل والحال انه يمثل العائق الأساسي أمام التنمية وتوسيع سوق الشغل، نظرا لافتقار خِرّيجِيه لروح النقد والإبداع والبحث عن التميز.
وكانت المرجعية دائما، النتائج التنموية المبهرة التي حققتها بلدان شرق آسيا كسنغافورة وكوريا الجنوبية والصين أيضا في وقت قياسي لا يتعدى ثلاثة عقود على كل المستويات من خلال اعتمادها على تطوير وإصلاح منظومتها التعليمية بالأساس.
والحقيقة أن ما قامت به تلك البلدان كان تغييرا شاملا لمنظومة تعليمية عفا عليها الزمن وليس إصلاحا للمنظومة القديمة، إذ لا علاقة بين المفاهيم الفلسفية التي كانت تقوم عليها التربية التقليدية والمفاهيم الفلسفية الجديدة للتربية الحديثة، دون أن يعني ذلك التخلي عن ثقافة تلك البلدان أو تراثها، فهذا لم يشكل أبدا هاجسا عند الإصلاحيين الأسيويين، فقط هم انتبهوا قبلنا إلى أهمية المنهج في العملية التربوية أكثر من تزويد الطلاب بمحفظة ثقيلة مليئة بالكتب التي سرعان ما تنتهي صلاحيتها مع تطور المعارف والبحوث العلمية. لقد فهموا أن التعليم أساسه الإبداع بما فيه الإبداع المهني وليس التلقين الذي يوهم صاحبه أنه استوعب كل شيء عندما استظهر دروسه كاملة كما تلقاها من معلمه، لتقف العملية التعليمية عند هذا الحد الفاصل بين الإبداع والجمود.
 وبهذا الصدد يقول "وو بن"، صاحب كتاب "الصينيون المعاصرون، التقدم نحو المستقبل انطلاقا من الماضي" في وصفه للتحديث الذي طرأ على المجتمع الصيني والذي بفضله تحول المجتمع الصيني التقليدي إلى مجتمع عصري حداثي، ويذكر في مقدمة الأسباب التي سهلت ذلك الانتقال، عامل تحديث التعليم حيث يقول: "منذ أن ألغت الصين نظام التعليم الإمبراطوري في عام 1905 وهي تعمل على تحديث التعليم بصورة تدريجية، وأسست نظاما لتحديث التعليم يشتمل على التعليم العادي والتخصصات العليا واستمرار تعليم الكبار، وأصبح قبول تحديث التعليم عامل مهم لتحقيق تحديث أفراد المجتمع (…) أن تأثير المدرسة في تحديث الإنسان بعيد المدى جدا، ولا يجعل التعليم في المدارس الإنسان يولع بطلب العلم فحسب، بل يجعله أكثر قدرة على انتهاج أسلوب العقل للتعامل مع الحياة، وإنشاء مفاهيم جديدة للقيم. ناهيك عن أن المعارف التي يتلقاها بصورة رسمية في المدارس تلعب دورا مباشرا في تشكيل تحديثه ويمتد تأثيرها إلى سلوكه في الجوانب الأخرى" (7).
في نفس الموضوع يشرح "أليكس إنجلز" بإسهاب أهمية تحديث الأفراد بالنسبة لتحديث المجتمع، مشيرا إلى أن: "للأفراد دورا جوهريا في مسيرة تنمية وتحديث الدولة كلها، ولا يمكن أن نطلق على دولة ما لقب دولة حديثة حقا إلا عندما يكون شعبها من العصريين، وتتغير سيكولوجية الشعب وإعماله إلى الصفات الحديثة، ويحقق العاملون في أجهزة الإدارات الثقافية والاقتصادية والسياسية الحديثة نوعا من التحديث يتوافق مع تطوير العصرنة.
إن تحديث الأفراد يعد عاملا لا يمكن الاستغناء عنه لتحديث الدولة. وهذا العامل ليس نتاجا ثانويا لنهاية عملية التحديث، بل أنه شرط مسبق لتحديث النظم ويعتمد عليه تطوير الاقتصاد لفترة طويلة لإحراز النجاح" (8).
هذا التوجه نحو بناء الإنسان باعتباره ركيزة التقدم والضمانة الأساسية لاستمرار عملية التطور ونجاحها، هو نفسه الذي نجده في كل التجارب الآسيوية انطلاقا من اليابان، فالصين، إلى أصغر البلدان وأفقرها من حيث الثروات الطبيعية مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية.
واسمحوا لي هنا بإعطاء مثال من المغرب مجددا ينطبق تماما مع هذا التحليل، ويتعلق الأمر بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أطلقها المغرب منذ 2005 ولا زالت مستمرة إلى يومنا هذا، هدفها القضاء على الهشاشة والفقر خاصة في الأرياف والأحياء الهامشية للمدن، عن طريق النهوض بالطاقات البشرية من خلال إدماجها في مشاريع تنموية يتم خلقها وتمويلها بشكل تشاركي بين المستفيدين الذين يساهمون في التمويل بنسبة 10 إلى 20 بالمئة فيما تمول المبادرة الباقي من قيمة المشروع، واغلبها مشاريع مقولات صغرى والأكثر صغرا، تحفيزا للأفراد على تنمية إمكانياتهم وتطوير مناطقهم، مما يسهم في تحسين مداخلهم والرفع بالتالي من مستوى عيشهم.
لكن نتائج هذه المبادرة لم ترق إلى المستوى المرجو منها بسبب انتشار الأمية في تلك الأوساط وخاصة بين النساء، الأمر الذي شكل عائقا في قدرتهن على التطور كما على التسيير الذاتي ومن ثم على المضي بعيدا بمقاولاتهن.
وهذا أكبر دليل على انه في حالة غياب أو ضعف المنظومة التعليمية، فإن قدرة الإنسان تصبح منعدمة ليس فقط على الإبداع والابتكار بل وحتى على الاستقلال بذاته وتطويرها، حيث يتحول العامل البشري من رافع للتنمية إلى عائق في طريقها.
والمأمول بالنسبة إلينا في هذه الورقة أن يساعد التعليم الرقمي مستقبلا على خروج بلداننا من حالة الهشاشة البشرية إلى حالة النضج الإنساني من خلال تحرير البشر ليس فقط من الجهل والأمية، بل ومن الروح الاتكالية والتبعية والخوف من اخذ المبادرة.
إن ما يؤهل التعليم الرقمي في رأيي للقيام بهذه المهام -مع تأمين تأطير في البداية على الأقل- هو قيامه أساسا على التعلم الذاتي وتنمية حب المعرفة وتقييم الذات. وكلها أمور تساعد على تطوير الملكات العقلية الأخرى، كممارسة التحليل والنقد والمقارنة والسؤال وغيرها من العمليات الفكرية التي تساعد الطفل منذ البداية على تكوين شخصيته الخاصة. ولعلنا بتحقيق هذه الأهداف نكون قد وضعنا مجتمعاتنا على طريق الحداثة الحقيقية التي تنطلق من تحديث الأفراد أولا، والتي أشار إليها كما رأينا "وو بن" في حديثه عن تجربة تحديث الإنسان في المجتمع الصيني، وأيضا في تعريف "أليكس إنجلز" لدور للإنسان الحديث في تحديث المجتمع، (وبالمناسبة يعد "أليكس إنجلز" من أشهر العلماء الذين اشتغلوا في مجال دراسة تحديث البشر وصفات الإنسان العصري).
لابد من الاستدراك للإشارة، إلى أن التعليم الرقمي متعدد وليس واحدا، فهنالك التعليم عن بعد الذي تحدثنا عنه سالفا والذي عشناه جميعا خلال أزمة الكوفيد، وهنالك التعليم الرقمي الحضوري الذي يجري داخل القسم لكن مع الاستعانة بالوسائط التكنولوجية سواء من طرف المعلم وحده، حيث يستعين بتلك الوسائط من اجل الشرح والتوضيح، أو بإشراك التلاميذ من خلال تزويدهم بأجهزة الكومبيوتر أو باللوائح الإلكترونية وهنا يتحول التعليم في الصف إلى تعليم رقمي مئة بالمئة وهو نموذج منتشر اليوم في أغلب البلاد الأوروبية وخاصة في البلدان الاسكندنافية.
أود قبل أن أختم هذه الورقة أن أتطرق إلى مسألتين هامتين طالما شغلتا الفكر العربي، الأولى تتعلق، بسؤال النهضة، لماذا نجحت النهضة الأوروبية وفشلت النهضة العربية، والسؤال الثاني يتعلق بمسالة العلاقة مع التراث أو ما يسمى بإشكالية الأصالة والمعاصرة.
سأحاول التطرق لهاتين المسألتين باختصار شديد، وذلك لقناعتي منذ فترة طويلة، أننا أعطينا لهذه المواضيع وما تفرع عنها من قضايا أخرى أكثر من الوقت والجهد اللازمين، دون أن يعني ذلك نكران أهميتها بطبيعة الحال.
بالنسبة للسؤال الأول، حول أسباب فشل النهضة العربية بالرغم من أن المؤسسين لها -على الأقل على المستوى النظري- كانوا إصلاحيين حقيقيين، مؤمنين بضرورة تحديث مجتمعاتهم وإخراجها من حالة التخلف المزمنة المتمكنة منها، عن طريق إصلاح الأعطاب وإزالة كل العوائق التي تقف أمام نهضتها وتقدمها، فنادوا بضرورة الإصلاح السياسي، والإصلاح الاجتماعي، والإصلاح الديني، وتحرير المرأة وغيرها من قضايا الإصلاح الكبرى.
لكن الملاحظ هو أن هذا الفكر الإصلاحي النهضوي على أهميته لم ينجح في تغيير المجتمعات العربية ولا في إصلاحها في أي مجال من المجالات، بل على العكس بدأ هذا الفكر بلهجة عالية النبرة، وأخذ بالتراجع شيئا فشيئا إلى أن وصلنا اليوم إلى فكر إسلامي يتزعمه محافظون ومتزمتون ووجدنا أنفسنا ننتقل من فكر محمد عبده والطهطاوي إلى القرضاوي وعمرو خالد وغيرهم كثيرون، والسبب في رأيي هو أن مطالب النهضويين العرب لم تكن تعبر عن مطالب اجتماعية حقيقية نابعة من واقع الناس وحاجاتهم بقدر ما كانت مطالب نخبوية لفئة من المثقفين الحداثيين، سرعان ما تبخرت أمام واقع الاستبداد السياسي، وغياب القاعدة الشعبية.
في حين نجحت النهضة الأوروبية واستمرت أفكار التنوير قوية، وتطورت وترسخت مبادئها عبر العقود والسنين، لأنها ببساطة، جاءت معبرة عن حاجة الناس لأنماط جديدة من التفكير تساير الواقع المتحول وتعيد تنظيم المجتمع تبعا لما لحقه من تغيير على كل المستويات، بسبب الثورات والتحولات التي عرفتها أوروبا.
بالنسبة للسؤال الثاني المرتبط بموضوع الأصالة والمعاصرة، اعتقد انه سؤال ينطوي على مغالطة، وكأننا كعرب ومسلمين مطالبين بالاختيار بين الاثنين، والحال أننا مزيج منهما معا، فإذا اتبعنا هذا المنطق وقلنا جدلا أننا مع المعاصرة أو مع الحداثة أين سنترك التراث وأين سنترك الأصالة...، المسألة لا تتعلق بقرار سياسي بقدر ما تتعلق بالإنسان حامل هذا التراث والمتطلع ربما أيضا للمعاصرة، والمسألة هي أنه يجب أن نخرج من فكر الثنائيات القائم على التقابل والتضاد، الأصالة أو المعاصرة، الاشتراكية أو الليبرالية، الحرية أو العبودية، الإيمان أو الكفر... لماذا مثل هذه الخيارات لا تعني دولا مثل الصين أو اليابان مثلا أو حتى ماليزيا أو إندونيسيا المسلمتين؟
كتبت كتب كثيرة في العالم العربي حول موضوع الأصالة والمعاصرة، وكتبت كثير من الكتب والبحوث حول تلك الكتب وما تزال الحلقة في دورانها دون نتيجة تذكر، والحال أن المسألة لا تتعلق بالقطع مع التراث لأن ذلك عمليا غير ممكن، إن الحل من أجل تجاوز أوضاعنا الراهنة لا يكمن في القطع مع التراث وإنما في التراكم الثقافي والمعرفي الذي يفضي إلى التحول، فالتغيير أساسه التراكم وليس القطع مع الماضي.
انطلقت بداية هذه المحاضرة من ضرورة الرهان على التعليم وخاصة التعليم الرقمي، لما يوفره من تربية بيداغوجية سليمة بفضل قيامه على التعلم الذاتي ومنحه مساحة أكبر للطلاب من أجل التفكير والإبداع وأيضا لما يوفره من تكافؤ للفرص في التعليم، إضافة إلى إمكانية تدارك الوقت الضائع بالنسبة لمجتمعاتنا ومنحها بالتالي الفرصة لتتحول إلى مجتمعات للمعرفة، ولأننا لا نستطيع الانسلاخ عن عالم آخذ في الصغر بفضل العولمة وثورة المعلومات التي أصبحنا جزءًا منها، فإن التراكم المعرفي مستقبلا قد يكون هو وسيلتنا لإنجاز نهضة حقيقية. وشكرا على صبركم وإصغائكم.
 
نزهة عمور: باحثة في علم الاجتماع في المغرب
 
الهوامش

(1) أنظر موقع اليونسيكو unesco.com

(2) جيريمي رفكين، الثورة الصناعية الثالثة: كيف تغير الثورة الموازية الطاقة والاقتصاد والعالم، ترجمة سعيد الحسنية، ط 1، بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2012، ص143.

بالرغم من جانبها الربحي حيث بلغت أرباح الفايسبوك على سبيل المثال 113,6 مليار دولار في عام 2022 أغلبها جاء من الإعلانات. (التحرير)

(3)  أنظر موقع تيلي ماروك "مركز التعليم الرقمي يضم أحدث الكفاءات والتقنيات البيداغوجية لتوفير إمكانية تتبع المسار الدراسي عن بعد"، المغرب "جامعة الغد".

(4)  شكيب بنموسى يستعين بشركات الاتصال لتعزيز رقمنة التعليم. أنظر موقع Madar21

(5)رفيق العلمي مدير مختبر رقمنة التعليم بجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية. أنظر موقع تيلي ماروك.

(6) طلال أبو غزالة، "تحديات التحول الرقمي في العالم العربي"، أنظر الموقع العربي2. 

(7) وو بن، الصينيون المعاصرون: التقدم نحو المستقبل انطلاقا من الماضي، ترجمة عبد العزيز حمدي، الجزء الأول، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1996، ص 276. 

(8) المرجع نفسه، ص 274.

 

مراجع إضافية
  • مجموعة من المؤلفين نحن والثقافة الرقمية، إشراف زهور كرام، ط 1، الرباط، مطبعة الأمنية، 2018.
  • نور الدين مشاط، المدرسة المغربية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ط 1، منشورات مجلة علوم التربية، العدد 28، 2011.
  • عزيز جناني، الموارد البيداغوجية الرقمية ومنهجية تطويرها، ط 1، الرباط، دار أبي رقراق، 2014.
  • عزيز جناني، تكنولوجيا التعليم وبناء المعرفة: نظرية البرمجيات الثلاث، ط 1، الرباط، دار أبي رقراق، 2018.
  • نبيل علي، الثقافة العربية وعصر المعلومات"، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2001.
  • حسان الباهي، الذكاء الصناعي وتحديات مجتمع المعرفة: حنكة الآلة أمام حكمة العقل"، ط 2، الدار البيضاء، دار إفريقيا الشرق، 2020.