أيار 17

بين الايديولوجيا الليبرالية والجدل الاقتصادي المدرسي

 -1تمهيد: الاستدامة المالية وقيد الموازنة الأمثل
   تنطوي السياسة المالية في اي بلد على مجموعة الوسائل والادوات التي تستخدمها الحكومة (السلطات المالية) من خلال الموازنة العامة للسيطرة على النفقات والايرادات العامة وادارة العجز وعلى وفق قواعد التعزيز (او الانضباط) المالي بغية تحقيق هدفين اقتصاديين بالغالب هما: الاستقرار في المستوى العام في الاسعار والتنمية الاقتصادية المستدامة.
ومن هذا المنطلق فإن استدامة التنمية الاقتصادية هي بنفسها بحاجة الى متلازمة تسمى: الاستدامة المالية (Fiscal Sustainability)، اذ تؤشر الاستدامة المالية عموماً على قدرة الحكومة في الحفاظ على نفقاتها وايراداتها بشكل مستمر في الامد الطويل دون ان تداهمها اية تهديدات تولدها مطلوبات Liabilities لا يمكن مواجهتها، مسببة تعثرات او عسرة مالية (Fiscal Insolvency) اذ تخضع عملية تعظيم الاستدامة الماليةMaximization  الى قيد رياضي، يحيط ذلك التعظيم ويضمن مسار الاستدامة ويسمى: قيد الموازنة الأمثل (Optimal budget constraint). إذ يمثل قيد الاستدامة الأمثل خريطة الطريق التي تسير عليها الاستدامة المالية العامة دون تهديد من اية مطلوبات، حيث يتبع قيد الموازنة الامثل المركب الافتراضي الاتي : وهو (( ان لا تزيد النفقات الجارية والمستقبلية محسوبة بالقيمة الحاضرة الصافية NPV على الايرادات الحالية والمستقبلية محسوبة بالقيمة الحاضرة الصافية  NPV ايضاً )).
2- مناهج المالية العامة المتاحة في جدلية الدولة الريعية
أ - هناك سياستان ماليتان مسؤولتان عن عمل الاستدامة المالية:
أولًا: السياسة المالية التقديرية (Discretionary fiscal policy) وهي سياسة تؤمن بتدخل الدولة للتأثير في آليات السوق، عن طريق فرض برامج مسبقة سواء في ادارة العجز او التمويل او الضرائب لتوليد قوة طلب السوق او ادارتها وتوجيهها لضمان الاستقرار الاقتصادي والنمو، وهي سياسة مالية كنزية (Keynesian policy) تتولى تنشيط طلب السوق عن طريق تقوية المضاعف الاستهلاكي ولاسيما في اوقات الركود وهي تتوخى ادارة الطلب الفعال Effective demand المؤدي الى نمو الناتج المحلي الاجمالي. اذ تعد سياسة ادارة الطلب او الانفاق الفعال من السياسات المالية التداخلية Intervention policy في اقتصاد السوق الموجه.
ثانيًا - السياسة المالية التي تعتمد القواعد (قواعد السوقMarket rule fiscal policy ). وهي سياسة مالية تقوم على اعتماد ما يسمى بالمثبت الديناميكي ذي البنيان الداخلي
 (Built in dynamic stabilizer). وهو اتجاه استقراري يعتمد داخل الموازنة ويتولى مقاومة اثر متغيرات الاقتصاد الكلي او قوى السوق تحديداً كمتغيرات خارجية Exogenous على مسارات الموازنة في بلوغ أهدافها، وذلك لتفادي حصول ما يسمى  التباطؤ الداخلي Inside lag في تغيير اتجاهات الموازنة، والذي يقتضي تداخلا تشريعيا غير متوافر في الحال، اي عدم  توافر تشريع آني في ظل بيئة قانونية متصلبة (كالسماح باستبدال ضرائب الاجور او الدخل بالضريبة السالبة negative tax اي دفع الاعانات والدعم عند الحاجة او السماح بإيقاف الضرائب او اللجوء نحو الاقتراض لتمويل العجز او اي نشاطات مالية اخرى بصورة تلقائية). فالسياسة المالية التي تقوم على القواعد كما ذكرنا هي سياسة تقترب من المدرسة النقودية Monetarist school اي مدرسة ملتن فريمان/ شيكاغو Milton Friedman وتتوافق بالغالب مع المنهج الليبرالي الجديد.
ب - التنازع الأيديولوجي في المالية العامة العراقية
تأتي فرضية الدولة الصغيرة حسب اجماع واشنطن Washington consensus كمقدمة لتحليل سلوك السياسة المالية ومرتكزها الموازنة العامة في بلادنا. ويعد اجماع واشنطن بمثابة المنتدى الأيديولوجي الذي اسس لفلسفة الليبرالية الجديدة وبات المتبنى الفكري لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ووزارة الخزانة الامريكية. فمنذ العام 1989، سادت فرضية الموازنات العامة التي تقوم على القواعد rules اي قواعد السوق وتوازناتها (والتي لا تسمح للدولة بالتدخل الواسع في الاقتصاد الانتاجي بنفسها ولوحدها، بل على العكس تسمح بتدخل قوى السوق في بناء اتجاهات السياسة المالية لبلوغ اهدافها، ذلك بإطلاق حرية السوق بأقل القيود والضوابط).
    فالعراق ومنذ تغيير نظامه السياسي بعد العام 2003، تأثرت السياسة المالية فيه اشد التأثير بمدرسة (القواعد وليبرالية السوق) حيث انقلبت المالية العامة العراقية من فلسفة التقدير او الاجتهاد المالي في إعداد الموازنة العامة (Disctionary fiscal)، وهو اتجاه كنزي، والميول لرأسمالية الدولة، متوجهةً نحو فلسفة القواعد (Rules fiscal)، في متبنيات المالية العامة. اذ اتبعت المالية العامة وسياستها حركات السوق بتحفظ شديد وتكيفت معها ريعياً، ولاسيما في التعاطي مع تأثيرات اسوق الطاقة العالمية لتقترب أكثر من المنهج الليبرالي الجديد وباتجاهين:
  الاتجاه الأول: الإيمان بمبدأ الدولة الريعية الصغيرة Small rental state assumption  وهو أحد مبادئ اجماع واشنطن، والتي تضمنت ان لا تكون الدولة هي المنتج المباشر والمالك للنشاط الاقتصادي وتحديدا الانتاج في قطاعي الصناعة التحويلية والزراعة الحكومية، الامر الذي قاد الى تعثر (المصنع العراقي الحكومي تحديداً) الذي قيد بدوره عموم الصناعة التحويلية لتقع تحت تأثير انفلات السوق وتحرير التجارة والقمع الذي مارسته سياسات الاغراق التجاري، ما جعل بطالة قوة العمل بسبب تعطل النشاط الانتاجي والحرفي الداخلي وعلى مدى عقدين من الزمن لتكون مستويات البطالة ومعدلاتها بمرتبتين عشريتين  dual digits unemployment ما شجع الحكومة تحت ضغط البطالة على التوسع في التعيينات الوظيفية الخدمية (ضعيفة الانتاج) وكأنما أمست الوظيفة العامة بمثابة (شركة كبيرة للتامين على الحياة ضد مخاطر البطالة  ومقاومة ضغوط البطالة المستدامة). اذ صار على سبيل المثال إزاء كل عشرة مواطنين موظف حكومي واحد، في حين ان بلدان تماثلنا في السكان (كندا تحديدا) تجد ان امام كل 750 مواطنا موظف حكومي واحد. وكندا هي واحدة من البلدان التي بنت نهضتها ونموها على دواليب اقتصاد تصدير الخام Staples economy ايضاً.
اما الاتجاه الثاني، فيتمثل بقيام السياسة المالية العراقية وللمرة الاولى بإدخال (اتجاه) داخل الموازنة كما اسميناه آنفا هو: (المثبت الديناميكي ذو البنيان الداخلي. وهو توجه يأتي لتجنب او تفادي تأثيرات السوق ولاسيما اسواق الطاقة على آليات عمل الموازنة في تحصيل مواردها وتوجيه نفقاتها وادارة إشكاليات العجز فيها، اي تفادي  تقلبات اسواق النفط وتأثر الريع النفطي وتقلب دورة الاصول النفطية (The  cycle of oil assets) على موارد الموازنة العامة خلال السنة المالية الواحدة والتي تشكل تلك الموارد النفطية حوالي 90% من إجمالي ايرادات الموازنة، اذ يوفر المثبت الديناميكي ذي البنيان الداخلي قدرة تعديل النفقات وتكييف الايرادات وتفادي اي (تداخل تشريعي متصلب) وتجنب حصول ما يسمى بالتباطؤ المالي الداخلي كما ذكرنا آنفاً. فمن امثلة مخاطر التباطؤ الداخلي على سبيل المثال: فرض الضرائب على العاملين العاطلين دون استبداله بالإعانة او عدم القدرة على توسيع برامج الدعم مباشر وغيرها وان الاستمرار بالجمود المالي دون تكيف ذاتي للصدمات الخارجية هو ما يطلق عليه بالمنحدر المالي (Fiscal cliff).
    وبناءً على ما تقدم فان عمل السياسة المالية التي تقوم على قواعد السوق في المالية العامة العراقية (اي من خلال دور المثبت الديناميكي) قد اقتضت نمطا من انماط التكيّف وما يمكن ان نطلق عليه مجازاً بالمدرسة الكينزية الهجينة hybrid Keynesian اي المتكيفة مع الليبرالية الجديدة والتي تقوم على مبدأين في الموازنات العامة السنوية وهما قبول (العجز الدائم) و(التحوط) وعلى النحو الاتي:
اولا: توليد عجز افتراضي virtual fiscal deficit بسبب التحفظ في سعر برميل النفط دون المعدل العالمي وعد ذلك مثبتاً ديناميكياً ذا بنيان داخلي.
ثانيًا: بناء  صندوق تحوطي داخل الموازنة وهو بمثابة (مصدة مالية fiscal buffer ) واشبه بصندوق استقرار الموارد المالية سواء عن طريق الاقتراض الفعلي عند الحاجة او تجميع ريوع النفط عند بلوغ اسعار النفط معدلات تفوق السعر التقديري لبرميل النفط المصدر نفسه لأغراض تحديد عوائد الموازنة؛ اذ يتحول العجز الافتراضي تلقائيا وعلى وفق القواعد rules الى ظاهرة عجز فعلي عند هبوط دورة الاصول النفطية او على العكس يتلاشى العجز الافتراضي عند ارتفاع فروقات الريع النفطي وتعاظم التدفقات المالية مع تصاعد دورة الاصول النفطية نفسها. وهنا تكون المصدة المالية بمثابة صندوق استقرار داخل الموازنة نفسها On budget وليس خارج الموازنة كصناديق الثروة السيادية في بلدان نفطية اخرى.
ثالثا: التوجه نحو فلسفة تحفظية في ادارة المخاطر: وهي فلسفة تجنب المخاطر (Risk avoiding) في ادارة الموازنة العامة ولاسيما الموازنة الاستثمارية.
اذ لوحظ على مدار السنوات العشرين الاخيرة ان (العجز الافتراضي) يماثل (الانفاق الاستثماري) وهو اتجاه يتفق وسلوك مفهوم الدولة الصغيرة ليبرالياً. وهنا أصبح الانفاق الاستثماري بمثابة المتغير العشوائي في الموازنة (Stochastic element) وبشكل مستمر. حيث تقوم نظرية إدارة الموازنة العامة على مبدأ تجنب المخاطر بمنح (علاوات مخاطرRisk premiums ) والتي عطلت الانفاق الاستثماري نفسه كما سنبين ذلك لاحقا. اذ يلحظ ان المشاريع الحكومية المعتمدة التي تدرج بالغالب دون دراسة جدوى تمنح سلفا تشغيلية قيمتها 10 بالمئة من قيمة المشروع الاستثماري لقاء خطابات ضمان ضعيفة غالباً ومن دون القدرة على متابعة التنفيذ المادي. وفي نطاق (سياسة تجنب المخاطر) التي قامت على ربط العجز الافتراضي او حتى العجز الحقيقي بتخصيصات الانفاق الاستثماري او الموازنة الاستثمارية طوال عقدين من الزمن بالغالب تولد لدينا اكثر من 6000 مشروع متعثر بسبب قرارات حكومية قامت على ادارة موازنة قوامها (تجنب المخاطر) وبلغت تخصيصاتها اكثر من 100 مليار دولار خلال السنوات العشر ونيف الاخيرة كما يذكر، ومنحت المشاريع سلفا لمنفذيها بنحو ربما بلغ 35 مليار دولار وهي مشاريع متعثرة غير مكتملة. وعند اعادة تشغيلها تطبق شروط العقد بتصعيد اسعار المقاولة (Contract price escalation) وتسمى اوامر الغيار وهو تجسيد فعلي لعلاوات المخاطر او تعويض كلفة المخاطر في ادارة الموازنة الاستثمارية ونفقاتها التي تأسست على تجنب المخاطر (Budget risk avoids) اي بربط (علاوة المخاطر) ايضاً بدفع فروقات (اوامر الغيار) في حال عجز المشاريع وتعثرها عند استئناف العمل بها ثانية بعد فترات من التعثر الطويلة. فضلاً عن تلازم العجز الافتراضي نفسه في القيمة مع الانفاق الاستثماري الحكومي كظاهرة خطيرة استمرت طوال عقدين من الزمن بالغالب.
ج - المالية التعويضية ومشكلات الوهم المالي.
اولاً - الوهم المالي (Fiscal illusion) والموازنة العامة التعويضية
يتجسد الدافع الرئيس للسياسة المالية التعويضية او الموازنة التعويضية نفسها، في مبدأ أن الحكومة يجب أن تضخ نفقات إضافية لإعادة الطلب او الانفاق الى المستوى المستهدف اي طالما ان الإنفاق الحكومي قادر على تعويض انخفاض الإنفاق الخاص. ويسمى هذه النمط من السياسة المالية بالسياسة المالية التعويضية. ولكن التعويض هنا يتم ذاتيا self-compensatory fiscal من خلال تحويل التخصيصات الاستثمارية غير المصروفة او المنفقة الى فقرات الانفاق الجاري الثابت في الموازنة نفسها والذي يمثله الإنفاق التشغيلي الحكومي لنفسه وهو إنفاق يصرف بنسبة 90 بالمئة بالغالب. اذ تمتلك تلك التخصيصات المعوضة القدرة على الانفاق الفوري بسبب طبيعتها الاستهلاكية. وبالمقابل نجد ان ثمة ضعفا شديدا في تنفيذ الموازنة الاستثمارية التي يبلغ مستوى الصرف السنوي فيها بالغالب 28 بالمئة مما هو مخطط في مشاريع البنية التحتية. اذ تنتهي السنة المالية (بعجز في تنفيذ المشاريع) ولكن (بفائض مالي) يجري تدويره عبر الموازنات التعويضية لمصلحة الانفاق التشغيلي في السنة اللاحقة تحت تأثير الظواهر الاتية:
1- ظاهرة الوهم المالي
يعرف الوهم المالي باختصار كما نوّهنا سلفاً على ان الحكومة هي دون مستوى الصرف او الانفاق (under spending)، وعليه فان فرضية ربط فكرة الدولة الصغيرة بالعجز الافتراضي الذي ينبغي ان يساوي الانفاق الاستثماري وما يترتب عليه من علاوات مخاطر هي من اخطر الظواهر التي عطلت استقرار برامج تمويل التنمية من جانب وولدت ارصدة من تدفقات مالية استثمارية غير مصروفة عززت بالوقت نفسه من ظاهرة  الفوائض المالية الوهمية (التي تماثل العجز في البنية التحتية والمشاريع الاستثمارية غير المنفذة) ذلك تحت ظاهرة الوهم المالي لتقود الى سلوك مفاده ولادة اتجاه يمكن تسميته: بالمالية العامة التعويضية الذاتية، اذ تعادل هنا التخصيصات المالية (غير المصروفة جراء القصور في تنفيذ المشاريع الاستثمارية خلال السنوات المالية المتعاقبة) لتعوض نسبة علاوة مخاطر risk premium التي ترسمها الحكومة جراء العجز في تنفيذ المشاريع الاستثمارية، والذي يأتي من تحت مبدأ عشوائي stochastic خطير في التنفيذ يقضي بربط فكرة او فلسفة العجز الافتراضي بالإنفاق الاستثماري عشوائياً ووجود المصدة المالية، ذلك جراء الميل في اعداد الموازنة العامة على اساس السياسة المالية القائمة موازنتها السنوية على قواعد السوق (market rules).
وهنا تنتهي السياسة المالية التي تقوم على قاعدة السوق بفكرة هي ان الحكومة هي دون مستوى الصرف وهي امام وهم مالي. نظرية أثارها الاقتصادي الايطالي بوفياني (Puviani 1903  . A) ما قاد لتبني سياسة مالية تعويضية ذاتية للتعويض عن نقص السلع العامة (public goods) ونقص البنية التحتية برفع نفقات الموازنات التشغيلية سنوياً على حساب المشاريع الاستثمارية وتخصصاتها غير المصروفة فعلاً. وكانت خطورة الموازنات التعويضية انها ذاتية ومشتقة من علاوة المخاطر نفسها اي ان تعظيم الانفاق التشغيلي الاستهلاكي الحكومي وتوسيعه بات ليصبح على حساب قدرات الانتاج والايرادات المنتجة الحكومية من القطاعات غير النفطية. والمالية التعويضية هنا ليست بمعنى التعويضية الكينزية لتحريك وتعويض الطلب الفعال في نشاط السوق، بل لمصلحة الانفاق الاستهلاكي الحكومي الجاري وهو الامر الذي ولد باستمرار عجزاً في الارصدة المالية الاولية او الرئيسة في القطاعات غير النفطية
(Non-oil primary fiscal balances) الذي يقدر العجز اليوم في تلك الارصدة بنحو (سالب 75) للعام 2023 حسب تقرير خبراء صندوق النقد الدولي الاخير، وهو عجز هيكلي حقيقي ومالي في جيد الاقتصاد الكلي ناجم عن تراجع الانفاق الاستثماري الانتاجي الحكومي (بفعل تأثير ظواهر الليبرالية الجديدة)، وان الموازنة التعويضية الذاتية هي مبدا استهلاكي يرتكز على مفهوم الدولة  الصغيرة الريعية غير المنتجة، فالمبدأ الاستهلاكي للحكومة الريعية غير المنتجة، يقوم بلا شك على متناقضة اساسها تعظيم الطلب الاستهلاكي الحكومي وتقليص الطلب الاستثماري الحكومي تلقائياً ولاسيما خواء البنية التحتية والابتعاد حتى عن فكرة تعظيم طلب السوق كينزياً من خلال التعويض المالي  (Compensatory fiscal) او الموازنة التعويضية كما يفهمها اصحاب المدرسة الكينزية في الاقتصاد والموجهة في الانفاق الى السوق مباشرة لتعويض نقص الانتاج ، بل هو توجه انفاق تبذيري استهلاكي ساد على مدار عقدين من الزمن وهو يتناغم  تلقائيا والهروب من فكرة الدولة المنتجة الكبيرة والقطاع العام.
2- المالية العامة التعويضية الذاتية وقيد الموازنة الهش Soft budget constraint
(أ) مشكلات نظرية الوكالة المزدوجة Dual agency theory في القطاع الحكومي
ان من أخطر ظواهر الموازنة التعويضية الذاتية والتي أشرنا اليها سلفًا ((والتي تحولت بموجبها بالغالب الارصدة الاستثمارية الفائضة في الموازنات السنوية (جراء قصور تنفيذ الانفاق الاستثماري) الى توسع سنوي في الموازنات التشغيلية ذلك بغية التعويض عن نواقص توافر السلعة العامة التي يولدها الانفاق الاستثماري الحكومي الكفء. انها عملية تراكمية سالبة قامت بالتعويض عن النقص الاستثماري الحكومي بتوسيع الانفاق التشغيلي)) وشكلت انقلاباً حاداً في مسار الاستدامة المالية Fiscal sustainability وتحول القيود من قيد الموازنة الامثل الى قيد الموازنة الهش، وهي نظرية الهشاشة المالية التي جاء بها الاقتصادي الكبير Kornai جوناس كورناي في كتابه الصادر في العام 1979 والموسوم The economics of shortages ومفادها:
ان تتعدى المصروفات العامة الايرادات العامة دون ان تشكل خرقا قانونيا اي امكانية ان يكون النشاط الانتاجي دون نقطة التعادل under breakeven point  وتشمل حاليا اوضاع قطاع الايرادات غير النفطية ومنها: الكهرباء والمصارف والكمارك والضرائب والمشاريع الصناعية الحكومية المعطلة وعموم خدمات القطاع العام. وهنا يسوغ قيد الموازنة الهش قبول مشكلات (الوكالة المزدوجة dual agency theory ) في تدهور الحوكمة بأركانها: المساءلة والشفافية والمشاركة، فالوكيل agent وهم المديرون يعظمون دالة المنفعة utility maximize لديهم بالامتيازات ويتجنبون المخاطر risk avoider ذلك بالتضحية بالربح من اجل الامتيازات والحفاظ على البقاء الوظيفي، طالما (المنح المالية متوافرة مركزيا وجاهزة للتعويض من ايرادات النفط او الاقتراض المصرفي تغطي الخسارة مركزياً) في حين ان المالك principal اي الحكومة تنتظر تعظيم الربح
 profit maximize وهي محبة او مفضلة للمخاطر risk lover وانها تسدي بالمسؤولية بان يتحمل الوكيل مسؤولية كفاءة الانتاج عند نقطة التعادل بين النفقات والايرادات breakeven point  وليس اقل من ذلك، وهو امر لم يتحقق اذ يرتكن الى مبدأ قيد الموازنة الهش، لذا مازالت الايرادات الحكومية غير النفطية اقل من 10% من اجمالي الايرادات العامة وتتعثر تحت قيد الموازنة الهش.
(ب) فشل السوق Market failure
شكلت الموازنات التعويضية الذاتية العامل الخارجي السالب Negative externality الناجم عن تعويض نواقص السلعة العامة بتعويض الانفاق التشغيلي للحصول على السلع الخاصة
 private goods للعاملين في الدولة بعد ان امست البنى الارتكازية او التحتية كسلع عامة غير الكافية في نموها واكتمال خدماتها. كما أن الموازنات التشغيلية بشكلها التعويضي الذاتي اهي لاساس الموضوعي الذي شخصته نظرية الخيار العام (ولاسيما الارضاءات السياسية التي سبق تناولها في بحث لنا تحت عنوان: نظرية الخيار العام والوهم المالي: ومضة في سلوك المالية العامة العراقية 2022)، ليصار الى فشل السوق.
   فالسوق في فشلها لا تحقق استقرارها بالعرض والطلب بما في ذلك سوق العمل، وان السوق لم تبلغ ما يسمى بأمثلية باريتو Pareto optimality وهي نقطة توازن الاستغلال الامثل للموارد والرفاهية عند منحنى امكانات الانتاج، وبعدها فان اي فرد يكون في حالة رفاهية مضافة معناه ان هناك شخصا يعاني من تدني في رفاهيته (اي ان رفاهية الاول تكون على حساب رفاهية الثاني) وهو تأكيد لفشل السوق.
فاذا كانت العوامل الخارجية externalities في الاقتصاد بمثابة التكلفة الخارجية externality cost أو (التكلفة الخارجية غير مباشرة) أو أحيانا تكون على العكس منفعة خارجيةexternality benefit   يؤديها طرف آخر ثالث غير مشارك في السوق (اي هي العوامل التي تنشأ نتيجة لنشاط طرف آخر غير مشارك بشكل مباشر في السوق) فانه يمكن عد العوامل الخارجية على أنها سلع غير مسعرة تشارك في معاملات سوق المستهلك أو المنتج. وبالرغم من ذلك فقد تلقت السوق الوطنية في فشلها تاثيراً سلبياً للعامل الخارجي ونقصد به الدور غير المرغوب الذي ولدته (الموازنات الذاتية التعويض) كعامل خارجي سالب على توازن السوق واستقراره جراء تراجع الإنفاق الاستثماري وتحويله تدريجيا الى الانفاق التشغيلي ذي الطبيعة الاستهلاكية بالغالب.
كما ولّد العامل الخارجي السالب أثرين إضافيين:
الاول: ان ارتفاع الاجور الحكومية دون ارتفاع الانتاجية امر ادى الى فشل السوق ذلك بدفع الاجور نفسها ولكن بإنتاجية منخفضة او اقل في قطاع السوق ويطلق عليها  في علم الاقتصاد (تأثير بومل Buomil effect) الذي ينصرف التأثير أيضًا باسم: (مرض تكلفة  بومل Buomil cost  disease نسبة الى عالم الاقتصاد الامريكي Buomil  وهو ارتفاع الأجور في الوظائف التي شهدت زيادة طفيفة أو معدومة في إنتاجية العمل، استجابةً لارتفاع الرواتب في الوظائف الأخرى التي شهدت نموًا أعلى في الإنتاجية (ولكن في المالية العامة الريعية لم تشهد نمواً في الانتاجية بالضرورة) واثرت بارتفاع اجور القطاع الاهلي. والثاني، هي الكلف الاجمالية الاضافية التي تتحملها دالة الانتاج في القطاع الخاص والناجمة عن تعويض تدهور البنى التحتية ونقص خدماتها كعامل خارجي سالب وعدم توافرها كسلعة عامة او شبه عامة، الامر الذي قمع القدرات التنافسية في السوق ازاء السلع المستوردة المماثلة.
4- نحو قيد الموازنة الصعب ((Hard budget constraint صناديق التنمية انموجاً))
  • ابتدأت الخيارات المتاحة امام الحكومة، في متبنياتها الانمائية في موضوع معالجة فشل السوق، باستخدام المتغير الخارجي الايجابي positive externality الذي ينصرف الى عمليات بناء السوق او (خلق السوقmarket creation ) اذا بدأت المالية العامة التعويضية بمنهج كنزي يمثل نوعا من المالية التعويضية غير الذاتية non self-compensatory fiscal من خلال التحول الى فكرة (صناديق التنمية) كبديل لتصحيح الموازنة التعويضية وتحويل (الوهم المالي الى حقيقة مالية تنموية). بعبارة اخرى تمويل الرهن المالي والمالية التعويضية الذاتية الى متغير خارجي موجب اي ابعاد قطاع السوق من ظاهرة المتغير الخارجي السالب قلبه الى متغير خارجي موجب positive externally للتقليل من فشل السوق الناجم عن الوهم المالي والذي ساهم على مدى عقدين من الزمن في ضرب توازنات السوق وفشلها ازاء استمرار تدهور الانفاق الاستثماري العام ادى الى ارتفاع مهول في كلفة البنية التحتية كسلعة عامة مجانية او حتى في تاثير انحراف الاجور الحكومية من خلال العمل بإنتاجية ضعيفة.
ب- ان صناديق التنمية بما في ذلك صندوق العراق للتنمية الذي اقر بموجب النظام رقم 3 لسنة 2023 هو في تقديري مسار تصحيحي كنزي المنهج، ولا يتقاطع مع ليبرالية السوق  بل يأتي بالغالب كاستجابة نسبية لمتطلباتها تحت ظروف ريعية خاصة جدا، اي بإعادة استخدام المالية التعويضية compensatory fiscal بغية تشجيع الطلب الاستثماري في السوق عن طريق القروض الميسرة او اطلاق شراكة القطاع الخاص الاستثمارية مع مشاريع الدولة partnership وهو نمط من انماط الشراكة بين الدولة والسوق، وهي نماذج تملك مستحدثة  تقترب من فكرة الخصخصة في الاحوال كافة...!
ج- وأخيراً تؤشر الملامح الفلسفية للموازنة العامة الاتحادية 2023 - 2025 مساراً تصحيحياً لإدارة مخاطر الموازنة خصوصا والسياسة المالية المعتمدة على قواعد السوق عموماً ولاسيما تحمل علاوات مخاطر من مما اشرنا وتصحيح المالية التعويضية الذاتية من كونها ظاهرة تخضع لشروط ومحددات نظرية الخيار العام public choice theory   التي تحد في تحيز السياسيين عند تبنيهم الموازنات التعويضية لمصالحهم الذاتية كما يرى ذلك عالم الاقتصاد
الليبرالي بوكانانBuchanan  ‏James M * الى سياسة مالية شبه تقديرية semi discretionary fiscal policy  اي شبه كنزية تدخلية في السوق، ولكن لدعم الطلب الاستثماري من خلال إشاعة فكرة ((صناديق التنمية  الموجهة للاستثمار الاهلي او المشترك)): وهي محاولة لتعظيم معادلة الارصدة المالية الرئيسة غير النفطية ولاسيما تعظيم (الناتج المحلي الاجمالي غير النفطي
 (Non-Oil GDP ). ان الهدف من ذلك يأتي لخفض العجز المالي في الارصدة الرئيسة غير النفطية من مستوى عجزها الحالي البالغ (سالب 75) الى (سالب 20) دون الاخلال بفرضية الدولة الصغيرة في الانتاج الحقيقي كما تظهر في مبادئ واحكام وآليات الصندوق العراقي للتنمية من حيث شدة الشراكات مع القطاع الخاص، وهو تضامن جديد بين اقتصاد الدولة واقتصاد السوق، ونجده بالغلب نمطاً مالياً ليبراليا ريعيا معدلا جديدا Modified Rental neo liberal fiscal.
اذ يتألف قيد الموازنة الصعب وهو ما يطلق عليه احيانا: قيد الموازنة المتداخل زمنياً intertemporal budget constraint وهي معادلة يبقى (بسطها) يمثل الفرق بين الايرادات غير النفطية واجمالي الانفاق العام بعد تجريد الاخير من خدمات الدين العام، في حين ان (مقام) المعادلة يمثل الناتج المحلي الاجمالي غير النفطي.
هـ- ختاماً، امست الاستدامة المالية بأمس الحاجة الى قيد الموازنة الصعب المنوه عنه انفا، وان تخطيطا ماليًا مرغوبا يقتضي ان يبلغ العجز في الارصدة المالية الرئيسة غير النفطية الى ((سالب مرتبة عشرية واحدة)) ليشكل جوهر فاعلية قيد الموازنة الصعب في ضمان مسار الاستدامة المالية كي تتحقق استدامة التنمية والازدهار الاقتصادي في الوقت نفسه.
 
المصادر
 
باللغة العربية 
  • - مظهر محمد صالح، العراق وصندوق النقد الدولي: التسلق على جدران العلم الكئيب، شبكة الاقتصاديين العراقيين، 5 حزيران2023 .
  • - مظهر محمد صالح، المالية العامة العراقية في مأزق سياسة التوقف-السير المزدوج، شبكة الاقتصاديين العراقيين، 15 آب 2022. 
  • - مظهر محمد صالح، نظرية الخيار العام والوهم المالي: ومضة في سلوك المالية العامة العراقية، أوراق في السياسة المالية، شبكة الاقتصاديين العراقيين، 29 كانون الثاني 2022.

الأجنبية

  • - Friedman, Milton (1953). Essays in Positive Economics. University of Chicago Press.m: North Holland Press, vol. A, p. 27; vol. B, p. 196. 
  • - Kornai's Soft Budge Constraint and the Shortage Phenomenon: A Criticism and Restatement, in: Economics of Planning, vol. 19, no. 1, 1985.
  • - James M. Buchanan and Richard  E .Wagner, Democracy in Deficit: The Political Legacy of Lord Keynes, N.Y Academic press 1977.
  • - Smayth  D.J (1966) Built in Flexibility of Taxation Automatic Stabilization.
  • Journal of Political Economy, vol. 74, no. 4 (Aug., 1966), pp. 396-400
  • - The Collected Works of James M. Buchanan, vol. 8, liberty Fund, Inc, 2000.

 *في تاريخ المالية العامة الرأسمالية فقد عدّ الاقتصادي الامريكي جيمس بوكانان ‏الاب في تطوير نظرية الخيار العام. وهي النظرية التي تختبر العلاقة بين العلوم الاقتصادية والعلوم السياسية. وفي الوقت نفسه هي منهج من مناهج تحليل السياسة الاقتصادية القائمة على دوافع القوى السياسية Politicians والقوى البيروقراطية الملازمة لها إزاء الموازنات العامة والتي اطرها في مؤلفه الشهير في العام 1977 والموسوم : الديمقراطية في عجز (أنظر المصادر). اذ تصدى بوكانان مع زميله فاغنر (Wagner R.E ) إلى الفكرة التي تقول ان سياسة الاقتصاد الكلي الكنزية تعتمد على فرضية مفادها ان صناع القرار يتصرفون على وفق المصلحة العامة وليس على وفق مصالحهم الشخصية. ويخالف بوكانان الراي الكنزي بالقول: انه طالما ان صناع القرار (السياساتي) هم من بني البشر، وانهم  سيتصرفون مثل باقي الناس ولاسيما في تعظيم  دالة منفعتهم الشخصية بدلاً من اعتماد مبدأ نكران الذات او الايثار على انفسهم في سلوكهم و امتثالهم للقانون وللسياسات المثلى التي تقدم الأفضل لعموم الامة، فانهم كمشرعين سيستخدمون  السياسة المالية التعويضية لمصالحهم الانتخابية، اي في كسب الناخبين عن طريق استخدام الوهم المالي كالتنزيلات الضريبية وغيرها والتي تتم لأغراض انتخابية حتى وان كان ذلك على حساب المصلحة العامة .