أيار 17

 نتناول هنا، بعض المقالات النقدية المنشورة في مجلة الثقافة الجديدة مقسماً على مبحثين، حلل كل مبحث منهما مقالات مختارة من صفحات المجلة وعمدنا إلى تحليلها ومناقشتها؛ إذ انتشرت المقالات النقدية في المجلة مع أول ظهور لها على يد الدكتور صلاح خالص والدكتور صفاء الحافظ. وكان المبحث الأول يعنى ببعض القراءات النقدية النظرية التي كتبها نقاد المجلة. وكان اختيار هذا القسم نظراً لكثرة المقالات المنشورة في هذا الجانب وإعطاء المجلة أهمية بالغة للجانب النظري في نقدها الأدبي. أما المبحث الثاني فكان يعنى بمقالات أخرى من النقد المترجم، وقد اتبعنا منهجية نقد النقد في هذا البحث لمعرفة قيمة المقالات النقدية ودرجة موضوعيتها.

تعد مجلة الثقافة الجديدة من المجلات الرصينة في تاريخ العراق الثقافي، إذ ركزت على مختلف القضايا النقدية والفكرية والثقافية ضمن الباب المخصص للأدب والفن، فضلاً عن قضاياها الأخرى السياسية والاقتصادية والفلسفية.  

 النقد النظري

      يعنى النقد النظري بمعرفة الأسس والقواعد النظرية للخطاب النقدي، فضلاً عن معرفة المصادر والمناهج النقدية التي يعتمدها النقاد، إذ يركز هذا النقد على الممارسة النقدية الخاصة بالقواعد والمفاهيم والمصطلحات، كما يستمد تلك القواعد والمعايير والأصول من النصوص الأدبية بهدف تعديل تلك الأعراف الأدبية وإثرائها بقيم وتقاليد من شأنها أن تغني التجربة الإبداعية وتعمق العلاقة بين الأدب والنقد(1)، وعن ذلك يذهب الناقد محمد مندور الى أن النقد ليس علماً، وأن قوام النقد ومرجعه كله إلى التذوق، وأن للذوق الشخصي الكلمة العليا في نقد الفنون، وأن الذوق المقصود هو الذوق المدرب المصقول بطول الممارسات القرائية والتحليلية والفهمية(2)، كما يرى أن الانطباعية هي الثابت النقدي في التحول المنهجي(3) لأن "المنهج التأثري الذي يسخر منه اليوم ... ويظنونه منهجا بدائياً عتيقاً بالياً، لا يزال قائماً وضرورياً وبديهياً في كل نقد أدبي سليم، ما دام الأدب كله لا يمكن أن يتحول إلى معادلات رياضية أو إلى أحجام تقاس بالمتر والسنتي أو توزن بالغرام والدرهم"(4).

            من المقالات النظرية التي كتبت في الثقافة الجديدة مقالة الناقد فيصل لعيبي بعنوان "أبو غيلان بدر شاكر السياب"(5). كانت المقالة عرضاً لبعض الآراء النقدية حول الشاعر بدر شاكر السياب، إذ كانت المقالة في الذكرى الرابعة والعشرين لوفاته، وهذا بعد أن أعلنت المجلة رغبتها في إصدار ملف خاص عن الشاعر وقد وعدت قراءها بذلك، وفي معرض حديث الناقد عن بدر وتاريخه مع الحزب الشيوعي، يذكر شاعرين حاولا النيل من السياب، الأول في ذروة نبوغه، والثاني بعد وفاته باثنين وعشرين عاماً وهما من العراق أيضاً(6)، حيث يقول الأول: "... وبالمناسبة فإن هذا الشاعر الرومانتيكي قد انتهى ولن يشفع له بعد الآن تشجيع أصدقائه ولا أسلوبه النثري العقيم في كتاباته الأخيرة ..."(7)، أما الثاني فقال: "وبقدر ما يتعلق الأمر بتجربة السياب، فإنها والحق يقال، تجربة ناقصة.... فقد كان ذا رؤية شعرية ضيقة تفتقر إلى أي أساس فكري أو فلسفي ... فانتهى كما بدأ شاعراً موهوباً، ولكنه ضيّق الأفق"(8)، ويقصد الناقد بالقول الأول كاظم جواد، وبالقول الثاني سامي مهدي، الذي عُدَّ يوماً ما من التيار الجديد في الشعر العراقي المعاصر، كما أصدر مع بعض الشعراء الموهوبين مجلة شعر69، ويعلق الناقد على هذه الآراء بأن السياب تعرض وسيتعرض إلى العديد من الأسئلة المهمة والجادة، وإلى الأسئلة التي لا معنى لها غير ما يمكن تفسيره وإرجاعه إلى أسباب شخصية تتعلق بالأخلاق والمثل والقيم السياسية والثقافية المتنوعة(9).

      تعرض الناقد لقصائد السياب الشعرية المدرجة في ثماني عشرة مجموعة شعرية، يذكر منها ثمانيَ فقط صدرت في أثناء حياته هي: أزهار ذابلة سنة 1947، وأساطير سنة 1950، والمومس العمياء سنة 1954، والأسلحة والأطفال، وأنشودة المطر 1960، والمعبد الغريق 1962، ومنزل الأقنان 1963، وشناشيل ابنة الجلبي 1964(10)، وبعد وفاته بأيام صدر له اقبال 1965، وقصائد بدر شاكر السياب سنة 1971، أزهار وأساطير 1971، أعاصير 1972، فجر السلام 1974، الهدايا 1974، ديوان بدر شاكر السياب 1971 الجزء الأول، وديوان بدر شاكر السياب 1974 الجزء الثاني(11).

      ويسرد الناقد أيضاً أبرز الأعمال التي قام بها السياب ومنها مقالات نقدية كتبها السياب في الصحافة العراقية عنيت بالأدب والأدب الشعبي والشعر والفلكلور، وكذلك مقدماته للمجاميع الشعرية، إضافة إلى مذكراته التي أطلق عليها الناقد (مسلسله السيء الصيت) حول تجربته الحزبية مع الشيوعيين العراقيين والتي صدرت تحت عنوان "كنت شيوعياً" ونشرتها عام 1959 جريدة الحرية، وكذلك مقالاته الأخرى حول الموضوع نفسه التي نشرتها آنذاك الجريدة نفسها عام 1959 وانتهاء بالعدد 1520 في 15 تشرين الثاني عام 1959(12).

      كما أن هناك أكثر من 195 دراسة وكتابا ومقالة كتبت عن السياب منها اثنتان الأولى كتبت باللغة الفرنسية(13)، والثانية بقلم نذير عظمة باللغة الانكليزية في مجلة جمعية الاستشراق الأمريكية عام 1968(14)

      في باب الترجمة يذكر الناقد ترجمات انكليزية كتبت حول الشاعر السياب منها: الشاعر والمخترع والكولونيل، وهي مسرحية في فصل واحد للكاتب الروسي الأصل والممثل الشهير بيتر استينوف في عام 1953(15)، وعيون إلزا أو الحب والحرب للشاعر الفرنسي الكبير لوي أراغون، وقصائد مختارة من الشعر العالمي تحتوي على عشرين قصيدة شعرية سجن من أجلها أسبوعاً كاملاً لعدم ذكر اسم المطبعة والتاريخ(16)، وكذلك ثلاثة قرون من الأدب لفورستر بالاشتراك مع يوسف الخال، ونجيب المانع، والدكتور عبد الواحد لؤلؤة، وفخري خليل، وفاروق محمد يوسف في جزءين عن دار مكتبة الحياة في بيروت(17).

      وبعد حديث مفصل للناقد عن حياة بدر وظروفه الاجتماعية الصعبة التي عاشها في مقتبل عمره، يشير الناقد إلى انتقال الشاعر إلى بغداد وهو انتقال فتح له عالماً جديداً أكثر حركة وهو عالم المرأة، إذ كانت المرأة واحدة من الرموز المهمة في شعره العاطفي، ابتداء من التي أخذت منه قصائده لتقرأها وانتهاء بعشتار ربة الجمال(18).

      ومن جملة الآراء التي أوردها الناقد حول الشاعر السياب كان رأياً للناقد عبد الجبار البصري يقول فيه: "وتظهر قدرة السياب على اعداد الديكورات التي تحول الشيء العادي إلى شيء غير عادي ... وربما كانت مهارة السياب في صناعة الديكور أحد مظاهر عظمته التي حولت جيكور إلى رمز فني وأعطت للصراع السياسي في عهد قاسم خلفية أسطورية، وحولت حكاية مرضه إلى دراما مأساوية"(19).

      ورأي آخر للشاعر جبرا إبراهيم جبرا نشر في مجلة "الفصول الأربعة" التي أصدرها الشاعر العراقي بلند الحيدري في خريف عام 1954، التي أغلقتها السلطة بعد العدد الأول(20)، وكان هذا الرأي من ضمن ترجمة لجبرا إبراهيم جبرا لفصلين من المجلد الرابع من "الغصن الذهبي" لجيمس فريزر تحت عنوان "أدونيس" يقول فيه جبرا: "لقد كان من المصادفات أن اطلع بدر على هذه الأسطورة في فصلين من مجلد كنت قد ترجمته من كتاب "الغصن الذهبي" لسير جيمس فريزر... ولما قرأهما بدر وجد فيهما وسيلته الشعرية الهائلة التي سخرها في ما بعد لفكرته، لأكثر من ست سنين كتب فيها أجمل وأعمق شعره(21).

      وعن تأثر السياب بالشاعر اليوت يذهب الناقد إلى أن الشاعر جبرا إبراهيم جبرا يفسر تأثر السياب بالشاعر اليوت بأسباب غير موضوعية كالترجمة أو الصدفة؛ لأنه ينسى عاملين الأول: هو أن السياب كان قد تعرف على اليوت من خلال قراءته مباشرة وبلغته الأصلية (الانكليزية) في عام 1942 وهو بهذا قادر على قراءة غيره من دون الاعتماد على الترجمات التي كثيراً ما تكون مشوهة خاصة إذا كانت شعرية(22).

      والعامل الآخر هو أن الحقبة التي نضج فيها السياب كانت قد أنجبت رجالاً كباراً أمثال جواد سليم، وجميل بشير، ومصطفى جواد، وغائب طعمة فرمان، ومحمد القبانجي، وسلام عادل، وعبد الكريم قاسم، وحضيري. ولا شك أن السياب واحد منهم، فالثقافة التي استوعبها مثقفو العراق كانت تتماشى مع هذا التصاعد والغليان والتغير والتبديل الذي رافق المرحلة(23).

      وتطرق الناقد أيضاً إلى أبرز القصائد الناضجة في شعر السياب منها قصيدته بعنوان "في السوق القديم"، وعدّها القصيدة العربية الأولى الناجحة فنياً وشكلياً(24)، عكس ما يرى السياب نفسه الذي يعدُّ قصيدة "هل كان حباً" القصيدة الأولى في الشعر العربي الحر الحديث، ويبرّر الناقد ذلك القول بأن الناحية الفنية تعطي القدم لقصيدته "في السوق القديم"؛ لأنها الانضج والأكثر إفصاحاً عن الاتجاه الجديد. أما الناحية التاريخيّة فصحيح أن قصيدته "هل كان حباً" هي الأقدم(25).

      وفي أثناء حديث الناقد يصل إلى عبارة الشعر الحر ويحاول تأصيل ذلك المصطلح، فيدعي أن هذا التعبير ظهر في الكتابات النقدية التي عالجت نتاج الشاعر الأمريكي "والت وتمن" عندما نشر مجموعته "أوراق العشب" عام 1855؛ لأنها كانت قد استعملت أسلوباً يختلف عن أسلوب الشعر التقليدي الذي يعتمد على القافية والوزن المتوارث(26).

      وفي ما يتعلق بفكر السياب يرى الناقد أن الشاعر قد استند إلى تراث عميق وموغل في القدم إلى جانب شعراء العصر الحديث وعلى رأسهم ت . س اليوت، والشاعرة الانكليزية ايديث سيتول، إذ أشار الشاعر إلى تأثره بها بشكل مباشر أو غير مباشر(27)، ويلحظ الناقد ذلك في إشارته إلى قصيدة الشاعر "إلى حسناء القصر"، إذ وجد فيها عبارة الأرض الخراب في البيت التالي:

"فلتنبت الأرض الخراب على سنا النجم الحزين"(28) 

      على أن الأرض الخراب هو عنوان قصيدة للشاعر الانكليزي ت.س اليوت الذي يصفه الناقد بالشاعر الرجعي (29).

      ويغني فيصل لعيبي مقاله النقدي بالعديد من المعلومات المهمة، فيذكر أن السياب أول من قدم "اليوت" إلى الشعراء العرب؛ لأن ترجمة "الأرض اليباب"(30) قد ظهرت بعد مجموعة أساطير بثمانية أعوام تقريباً، التي قدمها كل من الشاعرين أدونيس ويوسف الخال باسم الأرض الخراب. ويضيف أن هذه الترجمة صدرت عن دار مجلة شعر في بيروت عام 1958 ضمن سلسلة ترجمات من الشعر المعاصر(31)، وهناك أربع ترجمات أخرى لهذه القصيدة آخرها ترجمة يوسف اليوسف التي نشرت في مجلة الآداب الأجنبية، السنة الأولى، العدد الرابع، دمشق، نيسان 1975، إضافة إلى ترجمة الدكتور عبد الواحد لؤلؤة(32).

      يعود الناقد للحديث عن تأثر الشاعر السياب بالشاعر اليوت في شعره ليرى أن ملامح ذلك التأثر ظهر على الشاعر السياب في العديد من أعماله الشعرية، إذ أدرك السياب أهمية المعادل الموضوعي لدى اليوت وبنى عليه فهمه للشعر والثقافة(33)، كما لخص الناقد إشارة الشاعر السياب إلى تأثير اليوت الخاص على الشعر العربي المعاصر في أكثر من مكان إذ يقول السياب: "ولابد لنا في هذا المجال، من الإشارة إلى ما كان للشاعر الإنكليزي الكبير ت.س اليوت وخاصة في قصيدته الأرض الخراب من أثر كبير على الشعر الملتزم في الأدب العربي الحديث، الشيوعي منه وغير الشيوعي، والرديء منه والجيد على السواء "(34)، أي الشعر الملتزم بقضايا عصره والمعبر عن همومهم الاجتماعية والسياسية ومواقفهم الوطنية ، لا الشعر الذي يحمل فلسفة الالتزام في الأدب.

      ويبرر الناقد ذلك التأثر بالشاعر اليوت، فيذكر أن السياب وجد نفسه منجذباً إلى اليوت؛ لأنه قريب إلى همومه ويحمل قضية كبيرة مثله ويعيش أزمة مستعصية تعم المجتمع عموماً(35) رغم "الاختلاف النوعي بين أزمة الحضارة الأوربية في ظل التضخم الرأسمالي الذي انتهى بها إلى الحرب والتحلل، وأزمة التخلف الحضاري في ظل القيم الإقطاعية والدكتاتورية العميلة"(36)، فالأسلوب الشعري عند اليوت هو الذي يميزه عن غيره ويضعه في عداد شعراء هذا العصر " يحاول أن ينقل أزمة الإنسان المعاصر وسط المعاني الضائعة "(37).

      أشاد الناقد إشادة كبيرة بالشاعر السياب ويراه مطلعاً على تراث الإنسانية من المصادر المهمة وخاصة الغربية منها، كما وجد الناقد الشاعر يعطي صورة واضحة لمصادر معرفته وأثر بعضها عليه يقول: "وحين أستعرض هذا التاريخ الطويل من التأثر، أجد أبا تمام وأيديث سيتول هما الغالبان"(38).

      وفي ما يخص علاقة السياب بالحزب الشيوعي العراقي يدعي الناقد أن بدر انتمى إلى الحزب الشيوعي في منتصف الأربعينات أي ما بين سنتي 1944- 1945، ويدعي أيضاً أن في أشعار السياب تظهر قيم الشيوعيين والقضايا الاجتماعية(39)، وحين سافر بدر إلى الكويت يذكر الناقد أن علاقته مع الحزب الشيوعي لم تعد كالسابق بسبب ظروف الكويت وظروف العراق، إذ كان الحزب آنذاك يعيش أزمة خانقة وقواه موزعة على أكثر من تنظيم(40)، فضلاً عن طبيعة بدر وحساسيته الكبيرة، إذ أصبح شاعراً رائداً ومبدع الشعر الحر العربي المعاصر، إذ برزت لديه اهتمامات عديدة جعلته أكثر التصاقاً بها، وأضعفت نشاطه السياسي العام، كما أن حياته الاجتماعية استقرت وزادت من مسؤولياته بعد زواجه من إقبال "أم غيلان" عام 1953، كل هذه الأمور أسهمت في تفكك العلاقة بينه وبين الحزب(41).   

      وينقل الناقد أيضاً رأي ناقد آخر وهو يوسف الصائغ ليدعم رأيه النقدي، وذلك في كتاب الشعر الحر في العراق، إذ يقول الصائغ: "إن على الحزبي المنفصل عن حزبه أن يبحث عن أصدقاء جدد، واهتمامات جديدة وأفكار جديدة متجاوزاً صداقاته واهتماماته وذكرياته وأمجاده، وفي ذلك الكثير من العذاب؛ ولهذا فإن التعقيد الأساس الذي يحدث في حالة كهذه هو أن يتجه الخارج عن الحزب إلى حزبه باللوم والنقد إلى حد يصل أحيانا إلى العداء"(42).

      وللناقد فيصل لعيبي رأي يضعه في هامش مقالته يذكر فيه أن تجربة بدر شاكر السياب مع الحزب الشيوعي العراقي ربما تكون درساً للمثقف العراقي والحزب الشيوعي معاً، خاصة ونحن نعيش تجربة مماثلة في المشاكل والهموم والتطلعات(43).   

    ومن مقالات النقد النظري الأخرى مقالة الناقد صلاح نيازي "خطرات عن علي جواد الطاهر"(44). نشرت هذه المقالة في العدد الخاص بالدكتور علي جواد الطاهر بعد وفاته بسنة واحدة، وكانت فرصة مناسبة لاستذكار عطائه النقدي، وإثبات قدرته على ريادة النقد العراقي الحديث، فضلاً عن ثقافته الواسعة وقراءته المستفيضة في كل جريدة ومجلة وإذاعة وتلفزيون واتحاد أدباء، وكانت المقالة في بدئها وصفاً لشخصية الدكتور الطاهر وطريقة تدريسه كما ذكرت أنه كان أستاذاً في جامعة بغداد ـ كلية الآداب(45)، وفي هذه المقالة ذهب الدكتور صلاح نيازي الشاعر والمترجم والناقد العراقي إلى أن الطاهر كان يهتدي في نقده فيما يهتدي إلى نظريتين متناقضتين، الأولى نظرية الناقد الفرنسي جيلمتر الذي كان يدعو إلى قراءة النص وحده دون الالتفات إلى كاتب النص أو تأثير البيئة، أي عليك أن تقرأ النص وكأنه انحدر إليك بلا مؤلف وخلواً من أي تاريخ، والنظرية الثانية هي نظرية الناقد الفرنسي سانت بيف التي تصر على أنه لا يمكن فهم النص أي نص ما لم تتعايش مع مؤلفه سيرة وبيئة وثقافة(46)، وهذا ما طبقه الطاهر عملياً في كتابه "محمود أحمد السيد رائد القصة الحديثة في العراق"، وكذلك في دراسته لحسين مردان، وصالح الجعفري، ولكن عند التدريس الصفي تتبخر النظريتان ويحل مكانهما الذوق والمزاج(47)

      ويطرح الناقد سؤالاً جوهرياً في هذه المقالة وهو أين تكمن قوة الطاهر الفعلية في النقد؟ أم في التحقيق؟ أم في بحوثه الأدبية؟ ويجيب الدكتور صلاح نيازي على هذا السؤال بأن الدكتور الطاهر قد حصل على شيء ثمين نفتقر إليه في العراق ألا وهو المقالة ويدعي نيازي بأن الطاهر من أفضل كتابها(48)، وسر من أسرار عبقريته هو المقالات المجوّدة التي ظهرت بكتابين هما: "مقالات" و"وراء الأفق الأدبي"، وفي هذين الكتابين تكمن شخصية الطاهر الحقيقية، وبهذه الصفة يدعي الناقد أنه أحد أساطين المقالة في العراق(49).

      يقتبس الناقد فوزي كريم مقطعاً من كتاب الدكتور علي جواد الطاهر "من يفرك الصدأ؟" ليدلل فيه على أدبية الدكتور الطاهر في كتاباته النقدية، الأمر الذي يرجح ما ذهب إليه الدكتور صلاح نيازي من آراء نقدية حول الطاهر: "لو كان حسين مردان من قراء الرسالة، وهي مجلة مصرية معروفة في الثلاثينيات، لرأى في المقالات ضرباً يختلف عن الذي رآه وحدد تعريفه له، وجعله طرفاً مناقضاً للشعر، وكان مثله يمكن أن يكون لقمة سائغة من أجل لقمة غير سائغة ولكن وهذا هو المهم هو عند نفسه أكبر مما عند الطامعين فيه، ولا بد أن تحول نفسه دون الدون الذي وقع فيه غيره، ممن يرون أنفسهم أعلى وأفهم وأشعر وأكبر منه"(50).    

      وقد نقلت مجلة الثقافة الجديدة ثبوتيات الدكتور علي جواد الطاهر مع أهم آثاره حسب تسلسلها التاريخي(51).

 

وصيته للقصاص:

      نقلت المجلة وصية الطاهر للأديب القاص أو الذي يريد أن يكون قاصاً عن مجلة المعلم الجديد في نيسان 1958، وقدمت الثقافة الجديدة لهذه الوصية ببعض الأسئلة التي يجيب عليها الطاهر في وصيته وأبرزها: ما القواعد التي يستطيع بها النجاح؟ وهل تكون لهذه الموهبة بعض البوادر في التصرفات اليومية وفي الحديث الاعتيادي؟(52)، وتذكر المجلة جواباً لهذه الأسئلة من وصية الدكتور، وذلك بأن القاص ينبغي أن يقرأ قصصاً عالمية ثبت نجاحها على مر الزمن واختلاف الشعوب، قصصاً أبدعتها عبقريات مرت الأيام وبقيت، ومات النقد وخلدت، قصصاً لم تعد خفية على متذوق وقد جاء خبر دستوفسكي وبلزاك وستندال ودكنز وغيرهم(53)، فحينما يصحب القاص المبتدئ القصة من قصصهم يتشربها وتمتزج بذوقه وحسه ويقف على أسرار فنه عن كثب من غير وسطاء أو دخلاء، أما القواعد والقوانين فهي تجعل من القاص آلة، لذا ينبغي عليه أن يجد الأمثلة الصحيحة ويقرأ الآثار التي حظيت بالخلود(54)

      والشرط الثاني هو السعي لتعلم لغة أجنبية واحدة وهذه اللغة تفتح له أبواب العالم وتطلعه على شؤون النفس الإنسانية، فضلاً عن أنها تتيح للقاص قراءة مجموعة من هذه القصص في لغتها الأصلية(55).  

 

النقد المترجم:

      ظهرت في الثقافة الجديدة مقالات نقدية مترجمة عديدة يمكن إدراجها في حقل المقالات النظرية؛ لأنها حديث عن النظريات أكثر من كونها حديثاً عن تطبيقها على مستوى الشعر أو القصة أو الرواية أو غير ذلك، وتتفق أغلب هذه المقالات مع الرؤية الأيديولوجية التي كانت عليها المجلة ولا زالت(56)، ومن خلال القراءة المستفيضة لتلك المقالات المترجمة يتضح أن بعضها تختلف في دقة ترجمتها إلى اللغة العربية بحسب صعوبة أو سهولة المقالة وقدرة المترجم على الترجمة، وأبرز من ظهر في ترجمة المقالات النقدية في المجلة: خالد السلام، وشاكر خصباك، وجرجيس فتح الله، وسعاد محمد خضر، ومجيد بكتاش، فضلاً عن ترجمات هيئة تحرير الثقافة الجديدة، أما أبرز من ترجمت لهم المقالات النقدية هم: مكسيم غوركي، وانطوان تشيخوف، واراغون، ولوسير كل، والبوي وغيرهم.

      من الدراسات المهمة مقالة ديفيد ماكرشاك ترجمة مصطفى عبود تحمل عنوان "عالم دوستوفسكي في الجريمة والعقاب"(57).

      أرّخ الناقد في مقدمة مقالته لرواية الجريمة والعقاب مشبهاً دوستوفسكي براسكولنيكوف بطل رواية الجريمة والعقاب الذي كان غارقاً في الدين حتى عنقه بحسب توصيف الناقد له، فزعم أن حياته كانت تشابه وصفه لحياة راسكولنكوف في الفصول الافتتاحية لرواية الجريمة والعقاب(58)، وقد كانت مقدمة المقالة تأريخاً لحياة دوستوفسكي في أثناء كتابته لهذه الرواية، فذكر الناقد أنها كتبت في العام 1865 إذ كان دوستوفسكي يمر بأسوأ فترات حياته من الناحية المالية في الوقت الذي أغلقت السلطات الحاكمة مجلته الشهرية المسماة "العهد"، وأراد الناقد أن يبين أن الحياة الفقيرة التي عاشها الأديب وظروفه المالية الصعبة هي الإرهاصات التي دعت دوستوفسكي إلى الشروع بكتابة هذه الرواية(59).

      وبسبب الظروف المالية ذكر الناقد أن دوستوفسكي كان مضطراً لإرسال 108 صفحات مطبوعة إلى مجلة المراسل الروسي التي كان متعاقداً معها، فكان يكتب بعض الروايات من أجل الكسب المادي، الأمر الذي جعله يترك رواية الجريمة والعقاب ثلاثة أسابيع ثم واصل العمل بها وأكملها نهاية العام 1866(60).

      يستعرض الناقد روايتين يلح فيهما الأديب على فكرة العقاب؛ وذلك في معرض حديثه عن الموضوعة الرئيسة التي تدور حولها رواية الجريمة والعقاب(61)، الرواية الأولى هي "الليالي البيضاء" وهي قصة حب عاطفي كتبها دوستوفسكي عام 1848، إذ صادف الناقد المقطع التالي "يقال إن اقتراب العقاب يثير في المجرم شعوراً بندم حقيقي كما يثير في أحيان أخرى تأنيب الضمير في القلوب قساوة، ويقال إن مرد ذلك بصورة رئيسة يعود إلى الخوف"(62)، وفي الرواية الثانية كتبها دوستوفسكي في العام ذاته تحت عنوان "اللص النبيل" يلح على الموضوعة ذاتها مجدداً يقول فيها الراوي "كقاعدة لا يمتلك المجرم أبداً الكثير من قوة الإرادة، كما لا يمكن القول إنه في حالة ذهنية صحية طول الوقت، لذلك سرعان ما تتحول الفكرة المخجلة في عقله إلى عمل شرير، ولكن ما إن تقترف الجريمة حتى يشرع الندم يأكل في قلبه كأفعى، ويموت الرجل ليس بسبب الجريمة التي قام بارتكابها، بل لأنه دمر أفضل ما فيه، هذا الذي ما زال يهبه الحق في أن يسمى كائناً إنسانياً"(63).

      نقلت المقالة رسالة دوستوفسكي إلى أخيه التي رسم فيها لأول مرة الخطوط العامة لحبكة الرواية، يقول فيها: "هل تذكر أني أخبرتك مرة عن رواية كنت قد عزمت على كتابتها على شكل اعترافات ثم قررت أن أتوقف عنها يومذاك لشعوري بأني أفتقد التجربة الكافية لإنجاز مثل هذا العمل؟ الآن قررت أن أبدأ بها على الفور، ستكون قبل كل شيء عملا عاطفيا محركا، كما سأضع فيها عصارة قلبي، لقد كنت مستغرقا أفكر فيها وأنا مستلق على سرير السجن في لحظات من المعاناة الفكرية العميقة والتحليل النفسي"(64)، وختم دوستوفسكي رسالته بصورة تنبؤية قائلا: "إن الاعترافات هذه سترسخ اسمي ككاتب"(65).

وعلى هذا النحو أخذت المخطوطة الأولى للرواية كما دعاها دوستوفسكي شكل قصة اعترافات(66).       عرض الناقد شرح دوستوفسكي لرواية الجريمة والعقاب عن طريق رسالة حفظت الخطوط الأولى لحبكة الرواية، وقد عرضها على مجلة المراسل الروسي(67)، ويبدأ الحديث فيها دوستوفسكي عن الجريمة أولا فيذكر أن هذه الرواية ستكون دراسة نفسية عن الجريمة، كما ستكون في الوقت ذاته رواية عن الحياة المعاصرة، وإذ تسيطر على شاب وهو طالب سابق في جامعة بطرسبرج الأفكار نصف الناضجة، فيقرر أن يقوم بعمل ينقذه على الفور من وضعه اليائس، لذلك يصمم على قتل عجوز مرابية(68)، وهذه العجوز مخلوق غبي، جشع، أصم، مريض، وهي تحطم في الوقت ذاته حياة أختها الصغرى التي تحتفظ بها لديها كخادمة أجيرة، وهذه العجوز مخلوق عديم القيمة تماماً، ويبدو أنه ليس هناك أي مبرر لوجودها(69)، كل هذه الاعتبارات تسيطر على ذهن الشاب تماماً، فيقرر قتل العجوز وسرقة نقودها لكي يتمكن من مد يد المساعدة لأمه التي تعيش في الريف وانقاذ أخته المستخدمة كمربية في بيت أحد ملاك الأراضي الذي يحاول إغواءها، إلى جانب إكمال دراسته في الجامعة بعد ذلك يقرر السفر إلى الخارج وقضاء بقية حياته كمواطن شريف مؤدياً واجبه تجاه الإنسانية من دون أن ينحرف عن طريق الشرف والصواب، واقتنع أن هذا سيكون كفارة عن جريمته، إن كان قتل هذه العجوز الغبية الشريرة التي لا تخدم أي هدف نافع في الحياة يمكن أن يسمى جريمة والتي ستموت في أغلب الاحتمالات خلال بضعة شهور(70)، حيث يفلح الشاب في ارتكاب جريمة القتل بسرعة وبنجاح، لكن القاتل يجد نفسه بغتة وقد حوصر بمشاكل لا تقبل الحل، كما لم يكن يحلم بأحاسيس يمكن أن تبدأ بتعذيبه، فالحقيقة المقدسة والعدالة والقانون هي التي تنتصر في النهاية(71).

      ثم ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن العقاب ، فيذكر الأديب أن القاتل يقرر أن يتقبل عقابه بنفسه من أجل أن يكفر عن جريمته، إلى جانب أن الرواية تلمح إلى أن العقاب الذي يفرضه القانون لا يخيف المجرم بالقدر الذي يتصوره المشرع؛ لأن المجرم نفسه يشعر برغبة في أن ينزل به العقاب(72)،  وقد ختم دوستوفسكي رسالته بأن موضوع روايته مقنع إلى حد ما بسبب ما يجري في الحياة اليومية، كما تعهد بأن تكون روايته ممتعة، أما فيما يتعلق بجدارتها كعمل فني، فذكر أنه يترك للآخرين مهمة الحكم عليها، فضلاً عن قوله بأنها سترسخ اسمه ككاتب(73).

      والجريمة في روايات دوستوفسكي هي بمثابة الإخراج الحياتي للمشكلة الأخلاقية من وجهة نظر دينية، أما العقاب فيعد الشكل الذي يجسد حلها، ولهذا السبب فإن كليهما يمثلان أيضاً الثيمة الأساسية لأعمال دوستوفسكي الإبداعية(74).   

      وبعد حديث المترجم عن بداية دوستوفسكي في الجريمة والعقاب، ذكر أن الأديب أراد إعطاءها مدى أوسع بتوسيع مفهومه الشمولي لشخصية راسكولنيكوف، وذلك عن طريق تعميق الدافع النفسي للجريمة، كما ذكر أن الموضوعة التي أثارت اهتمام دوستوفسكي قبل كل شيء هي ندم راسكولنيكوف عقب اقترافه للجريمة(75)، ثم ذكر الناقد أن هناك موضوعاً آخر شغل دوستوفسكي وقد اتجه إليه اهتمامه، كما سبق له أن مارس تأثيراً واسعاً عليه لسنوات عديدة والذي شغل بعدئذ حيزاً أعظم ثقلاً في تطور شخصية راسكولنيكوف في الرواية المنجزة، وهو الموضوع الثاني أسماه الناقد "بالعقدة النابليونية"(76) لراسكولنيكوف وهو يخاطب سونيا في الفصل الرابع من القسم الخامس قائلا:

- لقد أردت أن أصبح نابليونا لذلك قتلت المرأة العجوز(77).   

      طرح الناقد مشكلة أخرى في عالم دوستوفسكي في الجريمة والعقاب وهي مشكلة "النهلستية" بمعنى العدمية(78) التي هي نوع من الفوضوية ذات طابع علمي كاذب، التي وجدت تعبيرها في الرفض الكلي للمقاييس الأخلاقية والجمالية السائدة وشاعت بين المثقفين الروس في الستينيات من القرن الماضي(79)، كما جعلها تورجنيف الموضوع الرئيس في روايته "الآباء والبنون" والتي نشرت قبل أربع سنوات فقط من صدور "الجريمة والعقاب "(80).   

      وقد تعرضت الرواية إلى حذف فصلين من فصولها؛ لكونهما يحتويان في شكلهما الأصلي على آثار نهلستية، إذ كانت مناهضة للمقاييس الأخلاقية العامة السائدة(81)، وقد استثنى محرر مجلة المراسل الروسي الفصل الرابع من القسم الرابع، وقد كتب دوستوفسكي يقول: "لقد سبب لي تبديل هذا الفصل الكثير من المتاعب واستغرق مني وقتاً يوازي كتابة ثلاثة فصول جديدة على أقل تقدير"(82).  

         إنّ رواية الجريمة والعقاب واحدة من أكثر الروايات في العالم الأدبي شهرة، وكان تأثيرها واسعاً، وهي لم تجعل من دوستوفسكي كاتباً معروفاً في روسيا فقط كما كان قد تنبأ، انما تعدت شهرتها وراء حدود روسيا واقتبست مرة بعد أخرى للمسرح والسينما، والجريمة والعقاب مثل جميع روايات دوستوفسكي الأخرى، هي رواية معاصرة بمعنى أنها تناقش كل المشاكل الملتهبة لعصره، فضلا عن القيمة الشمولية لهذا العمل، إذ يطغى على تلك الرواية العرض الرائع للنموذج الإنساني والقضايا الإنسانية الكبرى على الواقع المعاصر.     

      من المقالات النقدية مقالة بعنوان "حزبية الأدب" لإيفانوف ترجمة مجيد بكتاش(83). نشرت هذه المقالة في ثلاث حلقات في الأعداد 103 و112 و131 من جريدة "طريق الشعب" لسنة 1974(84)، وقد ارتأت هيئة تحرير "الثقافة الجديدة" نشرها مجتمعة ليسهل على المهتمين بقضايا الأدب والفن الرجوع إليها.

      ايفانوف كاتب واقعي مولع بالغوص في أعماق التاريخ الروسي لكشف السمات المميزة للشعب الروسي، وله روايات عدة منها "ذهب التمرد" التي عدّها النقاد من أفضل الروايات الروسية في القرن الحادي والعشرين(85)، قد بدأ ايفانوف مقالته "حزبية الأدب" بحلقة النقد الأولى بوجهة نظر نقدية حول الأدب والفن، إذ يشير إلى أن الأدب يعكس العالم الواقعي بطريقة خاصة حسية ملموسة ويخلق الصور الفنية التي تتميز بالحيوية المدهشة(86)

      وفي إشارته إلى تيار الواقعية يثني الناقد على ممثلي الفن الواقعي العظام ويشيد بهم إشادة كبيرة أمثال شكسبير وغوته وبيتهوفن وتولستوي وبوشكين ودانتي وروفائيل وغيرهم، كما يبين أن حقيقة الحياة في مؤلفاتهم ليست اقتراباً بسيطاً من هذه الحقيقة وليست نقلاً حرفياً لحقائق الواقع وظواهره، وإنما هي تصوير بارع لأهم ما في مظهرها الذاتي الحسي الملموس ولما هو أكثر جوهرية فيه(87)، فضلاً عن أن تيار الواقعية هو الأكثر أمانة في تصوير الطبيعة، والواقعية من دون شك تيار رئيس من تيارات التراثين النقدي والفني في كل من الفنون التشكيلية والأدب(88).   

      ويضيف الناقد أن الأعمال الفنية المصطنعة للسرياليين والتجريديين وسائر العصرانيين المتفسخين، فهي لا تثير إلا إعجاب الجماليين والمقلدين من ذوي الحالة النفسية المحطمة والباحثين عن التسليات الشاذة للكسالى والأثرياء(89). أما الواقعية فهي شعبية تعكس الحقيقة الموضوعية في الحياة بشكل يتفق على الدوام مع مصالح الشعب، وفي هذا يكمن سبب انتصارها وازدهارها الهائل(90).   

      ويعطي الناقد في هذه الحلقة النقدية الأولى تعريفاً وافياً لمصطلح الحزبية الأدبية أنها تعني خدمة الشعب الصادقة، وتساعد الفنان في أن يصبح موجهاً فكرياً، وتجعل العمل الفني داعية للأفكار الطليعية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحياة، على أن لا يخلو ذلك الأدب من الجمال، فهو يتطلب موهبة وعملاً كبيراً ودقيقاً وشديداً وخلاقاً(91).     

      وفي حلقة النقد الثانية يكمل الناقد حديثه عن الأدب الحزبي ويبدأ بالحديث عن قوة تأثير الأدب في خلق الأهداف التربوية، تلك القوة التي استخدمتها الطبقات الحاكمة في المجتمع البرجوازي، لكنها لا تتجرأ أبداً على التحدث صراحة عن تحيز أدبهم وفنهم، وقد تحدث عن هذا لأول مرة مؤسسا الماركسية ماركس وانجلز(92)، فالأدب في ظل البرجوازية هو الذي يعطي صورة شمولية ولامعة عن الطبقة الحاكمة والمجتمع البرجوازي، ويسهم في رسم الخارطة الثقافية للعصر، فيكون الأدب أداة تعبير وسلاحاً ثقافياً وإعلامياً في الوقت ذاته، أما الأديب الواقعي فلا يكون عبداً ولا أسيرا في نقل الواقع، بل يخضع معلومات واقعه لفنه الراقي(93).

      على أنّ مصطلح الواقعية الاشتراكية قد بدأ استعماله في الأدبيات السوفيتية منذ العشرينيات، واستطاعت هذه الواقعية أن تتثبت في الأنواع والأقسام المختلفة للفن السوفيتي بطرائق مختلفة وتوجد لها بالتأكيد قوانين عامة نموذجية لنشوء وتشكيل وتثبيت هذا المنهج الابداعي الجديد، وهذه الواقعية نشأت كوسيلة لإدراك العالم من الطبقة العاملة والفئات الاجتماعية المتداخلة معها(94)، وقد كانت رواية "الأم" لمكسيم غوركي هي المؤلف الأول للواقعية الاشتراكية(95)، وقد استطاع الكثير من الكتاب في روسيا وهم يدافعون عن مصالح الشعب تبني الواقعية الاشتراكية بصورة طبيعية، ويظهر هذا في نتاجات لوي اراغون وبابلو نيرودا وكثيرين غيرهما(96).

      وعن حزبية الأدب أيضا يذكر الناقد مقالة لينين "التنظيم الحزبي والأدب الحزبي" التي أثبتت فيها اثباتا شاملا مبدأ حزبية الأدب، وإنه لأمر هام الإشارة إلى أن مقالة لينين "التنظيم الحزبي والأدب الحزبي"، حيث كتبت في ذروة اشتعال الأحداث الثورية لعام 1905(97)، وينحصر تأثير مقالة لينين في فضحها كلياً للشعار (المنافق) بحسب تعبير الناقد شعار حرية الفنان في المجتمع البرجوازي، وقد أكد لينين أن مبدأ الحزبية يتطلب النظر إلى القضية الأدبية كجزء من قضية النضال العامة من أجل الاشتراكية، وليس كقضية فردية وظيفية يتعين على الأدباء القيام بها(98)، ويرى الناقد أنَّ هذه الحزبية الشيوعية بمغزاها الفكري أصبحت تحدد الاتجاه الفكري لأدب الواقعية الاشتراكية وفنها، كما استطاعت أن تقاوم أكاذيب أولئك المدافعين عن "علم الجمال المجرد"، وكان ذلك نتيجة لتطور الاتجاهات والتقاليد الطليعية لفن العصور السالفة وأدبها، تلك الاتجاهات والتقاليد التي جعلت ابداع الكتاب العظام شعبياً(99)   

      تجلت الكتابة النقدية في هذه المقالة حول الحديث عن التيارات الفكرية والعلاقة بين بعضها وبعضها الآخر، ونقلت الصراع الدائر بين الحزب الشيوعي وبين تيارات البرجوازية والقوى الطليعية والتيارات التي تنادي بحرية الفنان، وفي المقالة تنظير مفصل حول مصطلحها الجديد وهو الحزبية الأدبية، حيث جعله الناقد احتجاجاً على النظم السائدة ليمهد الطريق للإصلاح الاجتماعي والفكري، وينقل حياة الشعب إلى مستقبل آخر يختلف عما كان عليه في السائد القديم، كما جعل تيار الواقعية منهجاً يمثل شعور الأمة بكيانها وإحساس الشعب بذاته وبحقه في حياة كريمة، لأنَّ الواقعية لها ثقل في الحركة الثورية وفي الأدب الثوري، وقد تركت أثراً عميقاً في تطور الأدب السوفيتي وخاصة الأدب الذي كتب في ظل الحروب الأهلية والحروب التي خاضتها روسيا ضد الألمان في الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن الأساس الجمالي للواقعية الذي تمثل في كتابات الأدباء الروس، ونتج عنه كتابات رائعة أظهرت القوة الفنية الهائلة لهذا التيار، الأمر الذي أكسبه شهرة واسعة، وقد ركز الناقد على كتابات غوركي بأنَّه مؤسس واقعية جديدة وهي الواقعية الاشتراكية.

      وغالبا ما يكون الأدب المؤدلج متواضعاً فنياً إلا إذا كان الكاتب متمرداً على قوانين واقعه، فيكون خطابه الأدبي يعكس ثقافته وبيئته ويسهم من خلال منتجه الإبداعي لإزالة الحساسيات، فإذا كان الأديب مؤمناً بهذه الأدلجة فقد تحضر في لحظة إبداعه، وإن لم يكن واثقاً بها فلا قيمة لهذه الكتابة وإن كانت مزيجا من ثقافته وعلومه ومعتقداته.

 

الهوامش

  1. ينظر: صالح هويدي، النقد الأدبي الحديث، قضاياه ومناهجه، ، د. ط، د.ت، ص 29-30.
  2. ينظر: محمد مندور، الأدب وفنونه، دار نهضة مصر، الفجالة، القاهرة، د.ت، ص 165.
  3. ينظر: المصدر نفسه، ص 140.
  4. المصدر نفسه، ص 14.
  5. مجلة الثقافة الجديدة، العدد 203-204 لسنة 1988، ص 117،
  6. ينظر: فيصل لعيبي، "أبو غيلان بدر شاكر السياب"، مجلة الثقافة الجديدة، العدد 203-204 لسنة 1988، ص 117.
  7. خضر المولى، آراء في الشعر والقصة، مطبعة المعرفة، بغداد، 1956، ص 48.
  8. مجلة آفاق عربية، العدد الثاني، السنة العاشرة، بغداد، 1985، ص 137- 158.
  9. ينظر: فيصل لعيبي، ص 118.
  10. ينظر: المصدر نفسه، ص 119.
  11. ينظر: المصدر نفسه، ص 119.
  12. ينظر: المصدر نفسه، ص 119.
  13. ينظر: فيصل لعيبي، وقد ذكر الناقد عنوان المقالة باللغة الفرنسية وهو: Sayyad  ou la vieux Coeur de la mont par luc morin_ as_
  14. ينظر: المصدر نفسه، ص 119، كما ذكر الناقد عنوان مقالة الشاعر نذير عظمة عن الشاعر السياب باللغة الإنكليزية وهو: the tamm ugi moveraent and inkluence of t. s. eliot on bads shakin al _ sayyab .
  15. ينظر: المصدر نفسه، 119.
  16. ينظر: المصدر نفسه، 119.
  17. ينظر: المصدر نفسه، 119.
  18. ينظر: المصدر نفسه، 120
  19. عبد الجبار داود البصري، ساعات بين التراث والمعاصرة، وزارة الثقافة والفنون، بغداد، دار الحرية للطباعة، 1978، ص 16.
  20. ينظر: المصدر نفسه، ص 122.
  21. جبرا إبراهيم جبرا، الرحلة الثامنة، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، 1967، ص 24.
  22. ينظر: فيصل لعيبي، ص 123.
  23. ينظر: المصدر نفسه، ص 123.
  24. ينظر: المصدر نفسه، ص، 121.
  25. ينظر: المصدر نفسه، ص، 121.
  26. ينظر: المصدر نفسه، ص، 121.
  27. ينظر: المصدر نفسه، ص، 121.
  28. بدر شاكر السياب، مجموعة أساطير، مطبعة العربي، 1950، ص 93.
  29. ينظر: فيصل لعيبي، ص 122.
  30. ينظر: المصدر نفسه، ص، 122.
  31. ينظر: المصدر نفسه، ص، 122.
  32. ينظر: المصدر نفسه، ص، 122.
  33. ينظر: المصدر نفسه، ص، 123.
  34. مجموعة مؤلفين، الأدب العربي المعاصر، أعمال مؤتمر روما المنعقد في تشرين الأول عام 1961، منشورات أضواء، د. ت، ص 248.
  35. ينظر: فيصل لعيبي، ص 123.
  36. عبد الجبار عباس، بدر شاكر السياب، منشورات وزارة الإعلام، مطبعة الجمهورية، 1972، ص 115.
  37. لروزينال، شعراء المدرسة الحديثة، ترجمة جميل الحسني، منشورات المكتبة الأهلية، بيروت، 1963، ص 123.
  38. خضر المولى، آراء في الشعر والقصة، مطبعة المعرفة، بغداد 1956، ص 14.
  39. ينظر: فيصل لعيبي، ص 124.
  40. ينظر: المصدر نفسه، ص 128.
  41. ينظر: المصدر نفسه، ص 128.
  42. يوسف الصائغ، الشعر الحر في العراق منذ نشأته حتى عام 1958، مطبعة رمزي، بغداد، 1978، ص 21.
  43. ينظر: فيصل لعيبي، ص 128.
  44. مجلة الثقافة الجديدة، العدد 276 لسنة 1997، ص 116.
  45. ألقيت هذه المقالة في الندوة التي أقيمت في "ديوان الكوفة " بلندن في ذكرى الفقيد ينظر: صلاح نيازي، "خطرات عن علي جواد الطاهر"، مجلة الثقافة الجديدة، العدد 276 لسنة 1997، ص 116.
  46. ينظر: المصدر نفسه، ص 117.
  47. ينظر: المصدر نفسه، ص 118.
  48. ينظر: المصدر نفسه، ص 119.
  49. ينظر: صلاح نيازي، ص 119.
  50. فوزي كريم، "ما أحوجنا إلى منحى الطاهر في الكتابة"، مجلة الثقافة الجديدة، العدد 276 لسنة 1997، ص 123.
  51. ينظر: صلاح نيازي، ص 124-125.
  52. ينظر: وصيته للقصاص، أريد أن أكون قصاصا، مجلة الثقافة الجديدة، العدد 276 لسنة 1997، ص 131.
  53. ينظر: المصدر نفسه، ص 132.
  54. ينظر: المصدر نفسه، ص 132.
  55. ينظر: المصدر نفسه، ص 132.
  56. ينظر على سبيل المثال: اراغون، "هيكو شاعر واقعي"، ترجمة الثقافة الجديدة، العدد الأول، لسنة 1953، ص 89؛ روجيه كارودي، "النظرية المادية في المعرفة"، ترجمة مجلة الثقافة الجديدة، العدد الرابع، لسنة 1958، ص 179.
  57. مجلة الثقافة الجديدة، العدد 57، لسنة 1974 ص 174.
  58. ينظر: ديفيد ماكرشاك، "عالم دوستوفسكي في الجريمة والعقاب"، ترجمة مصطفى عبود، الثقافة الجديدة، العدد 57، لسنة 1974، ص 174.
  59. ينظر: المصدر نفسه، ص 175.
  60. ينظر: المصدر نفسه، ص 176.
  61. ينظر: المصدر نفسه، ص 176.
  62. المصدر نفسه، ص 176.
  63. المصدر نفسه، ص 176.         
  64. المصدر نفسه، ص 176.
  65. المصدر نفسه، ص 176.
  66. ينظر: المصدر نفسه، ص 176.
  67. ينظر: المصدر نفسه، ص 177.
  68. ينظر: المصدر نفسه، ص 177.
  69. ينظر: المصدر نفسه، ص 177.
  70. ينظر: المصدر نفسه، ص 177.
  71. ينظر: ديفيد ماكرشاك، ص 177.
  72. ينظر: المصدر نفسه، ص 178.
  73. ينظر: المصدر نفسه، ص 178.
  74. ينظر: ميخائيل باختين، قضايا الفن الإبداعي عند دوستوفسكي، ترجمة نصيف التكريتي، مراجعة حياة شرارة، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام، ط1، 1986، بغداد، ص 18.
  75. ينظر: ديفيد ماكرشاك، ص 178.
  76. ينظر: المصدر نفسه، ص 178.
  77. المصدر نفسه، ص 178.
  78. المصدر نفسه، ص 180.
  79. ينظر: المصدر نفسه، ص 180.
  80. ينظر: المصدر نفسه، ص 180.
  81. ينظر: المصدر نفسه، ص 179.
  82. المصدر نفسه، ص 179.
  83. مجلة الثقافة الجديدة، العدد 68، لسنة 1974، ص 245.
  84. ينظر: المصدر نفسه، ص 245.
  85. ينظر: "الكسي ايفانوف يعود إلى منابت الأدب الروسي"، صحيفة المدى الثقافي، العدد 2083، لسنة 2011.
  86. ايفانوف، "حزبية الأدب"، ترجمة مجيد بكتاش، مجلة الثقافة الجديدة، العدد 68، لسنة 1974، ص 245 و246.
  87. المصدر نفسه، ص 246.
  88. ينظر: رينيه ويليك، مفاهيم نقدية، ترجمة محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1987، ص 152.
  89. ينظر: ايفانوف، ص 247.
  90. ينظر: المصدر نفسه، ص 248.
  91. ينظر: المصدر نفسه، ص 249 و250.
  92. ينظر: المصدر نفسه، ص 250.
  93. ينظر: محبة حاج معتوق، أثر الرواية الواقعية الغربية في الرواية العربية، ط1، دار الفكر اللبناني للطباعة والنشر، بيروت، 1994، ص 15.
  94. ينظر: غروموف، الواقعية الاشتراكية المنهج والأسلوب، ترجمة، عدنان مدانات، ط1، دار ابن خلدون للطباعة والنشر والتوزيع، مكتبة دليل المناضل، الأردن، 1975، ص 33 و35 و43.
  95. ينظر: المصدر نفسه، ص 50.
  96. ينظر: ايفانوف، ص 255.
  97. ينظر: المصدر نفسه، ص 253.
  98. ينظر: المصدر نفسه، ص 253.
  99. ينظر: المصدر نفسه، ص 254.