أيار 17

   إن أية ملاحقة نقدية لمجلة الثقافة الجديدة على مستوى خطابها البصري لا بد أن تتطلب اشارة الى احتفاء المطبوعات (الصحف والمجلات) بالصورة بمفهومها العام سواء كانت فوتوغرافية (متعينة) أو جمالية (تضمينية) تحمل دلالتها الكامنة المرتبطة بسعة المعنى وآفاق تأويله أو الاقتران بالخفي والمستتر والمسكوت في خطاب المتن. إن هذه القراءة تبدأ بشكل منطقي وعمودي انطلاقاً من الأعلى (الأقدم) نزولاً نحو الأسفل (الأحدث)، من حيث فاعلية الصورة في الأنظمة الشكلية التي بدأت تجتاح التصورات التكوينية وخرائط البناء التصميمي التي أطاحت بالمضامين المباشرة وأقصتها عن فكرة الأولوية، وتقدمتها منذ بداية القرن العشرين وحتى الآن وترجيح فكرة الشكلانية على كل ما يجاورها من بنى أخرى، حيث قلبت التصورات السابقة وحسم الصراع الطويل القائم بين الشكل والمضمون لصالح الشكل في خضم هذه المعطيات المعرفية والعلمية المتراكمة، تجسدت بتقويض سلطة الآخر وتراجعها. وإزاء هذه اللحظة تم اعلان انتصار الصورة التي رافقت الآداب والفنون، ونعتت هذا العصر بعصر الصورة أو عصر الشكلانية تبعاً لهذه الأولوية أو الأسبقية، وكجزء من هذه الفاعلية استطاع فكر ما بعد الحداثة تكريس مفهوم الصورة والتأويل على حضورها داخل بنيته الثقافية بمختلف أنساقها وصولاً الى فنون ما بعد الحداثة وظهورها على المشهد البصري في النصف الثاني من القرن العشرين، وأهمية الصورة فيها على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، واستلهمت فنون هذا العصر الصورة الفوتوغرافية ووضعتها في مقدمة الأهميات الجمالية كما تجلت تلك الفاعلية في الفن الشعبي (pop art) وغيرها من فنون هذه الحقبة الزمنية، واصطبغ الفعل السياسي أيضاً بفعل الصورة التي تجاوزت الخطاب النصوصي في أهميتها وتأثيرها المباشر في الحدث السياسي الراهن.

     وبفعل هذا المعطى الواقعي الذي جاءت به ثقافة العصر والتراكمات القبلية، أخذت الصورة موقعها الحقيقي في كل الخطابات الاعلامية بعيداً عن التفسيرات الجمالية والدلالية التي أحاطت بها، إذ أن أنظمة ثقافية لاذت بأسوارها ومستويات تمثيل سارت بهديها من أجل أن تتبين لنا مدى هذه الفاعلية وتصيرها في الخطاب المرئي. فقد سعت مطبوعات وتحديداً (المجلات) الى ايجاد معادل صوري يتشاكل مع النص اللساني سواء كان على هيئة مقالة أو قصيدة أو أي جنس أدبي أو فني والنفاذ من فجواته للوصول الى تفسيرات جوهرية غائبة عن الحضور المباشر. وليس بالضرورة أن تتوافق الدلالة الصورية (العيانية) مع صورة النص الذهنية، إذ بالامكان أن تكون معادلا صوريا فقط يؤدي مهمة وظيفية، بوصفها استراحات أو فواصل بين فقرات النص يمكن أن تخفف من تركيز العين وجذب الصورة لها، بدلاً من فقدان تتبع النص. بيد أن هذه الصورة ممكن أن تتوافق مع دلالة النص في أماكن أُخرى، كأن تكون متوافقة مع جوهره أو تنجز على أساس النص من خلال سعي الفنان الى ترجمة الصورة الذهنية وتحويلها الى صورة مرئية (عيانية). وفضلاً عن هذا تلجأ المجلات الى توشيح أغلفتها الأولى والأخيرة بمعادل صوري أيضاً وحسب طبيعة هذا المطبوع (المجلة) وقد أصبحت هذه المعالجة التصميمية عرفاً لدى أغلب المجلات، لكنها تختلف في توجهاتها لتوظيف الصورة، إذ ستكون مرة صورة فوتوغرافية متعددة الأغراض والاتجاهات، أو صورة فنية مرسومة، أو مجتلبة من لوحات تنتمي الى اجناسية الرسم، أو هي ترجمة بصرية لنص من النصوص الأدبية، وتوصف في هذه الحالة بأنها عتبات جمالية تلقي بظلالها على قراءة المطبوع وستؤدي في النهاية الى متون جمالية أيضاً من خلال النصوص المرفقة (مقالات، بحوث، منجزات أدبية) وغيرها.

   وتتقصد بعض المجلات إيجادَ مقاربات جمالية بين الأقنعة والمتون، حيث تعد الأغلفة أقنعة لمتون نصية داخلية قادمة على صفحاتها التي يحتويها مخططها الأساسي في ضوء العلاقة الناشئة بين الحدين، ولكنها تختلف في الغلاف الأول عن الثاني، أو في الصور والتخطيطات الداخلية، حين تتخذ كل منها موضوعاً محدداً، وانعدام الثيمة الواحدة في هذه الأقنعة والمعادلات الصورية التي أوجدتها خارطة المجلة في استراتيجيتها الأساسية أو في أعدادها المتفردة، وقد تتغير أحياناً طبقاً لرؤية هيئة التحرير، أو استبدال مصمم بآخر ممكن أن يضع رؤيته التصميمة في حساباته اللاحقة على هيكلية المطبوع.

   وتنفرد مجلة (الثقافة الجديدة) بنسق بصري يسجل اختلافه عن التصورات السابقة في ضوء تم رسمه منذ البداية وبشكل محدد، حيث يكون عددها يحتوي على وحدة متكاملة من حيث المضمون والاقتران الشكلي بين الغلافين الأول والثاني، بعودتهما الى فنان واحد، أو موضوع واحد إذا ما توافرت دراسة أو اشارة في مقال نقدي في المتون الداخلية ويحتفى به من هذه التخصيصات البصرية. وهذا ما دأبت عليه (على الأقل) في معاودة صدورها بعد العام 2003 وحتى الآن في رسم خارطة جديدة للتصورات البصرية وتصدير التجربة التشكيلية العرافية والعناية الاعلامية بها دون غيره في أغلب الأحيان. وفي رصد اصداراتها للسنتين الأخيرتين، بوصفها عينة يمكن اسقاطها على المجتمع الكلي وتمثيلها له، يصلح لأن يكون مصداقاً على نظامها ورؤيتها التي تتحدد فيها. فإنها احتفت في العدد المزدوج 426-427 بالفضاء الصوري للفنان العراقي المغترب (محمود فهمي) بمناسبة اقامة معرضه على قاعة the gallery  في بغداد بعد انقطاع عن الوطن دام سنوات ممثلاً لاسلوبه التعبيري ذاته الذي تعرف فيه، التقطه من بعض زوايا الحياة والاحتفاء بصورة المرأة ضمن مشهد حياتي محدد، بوصفها أحد حدي معادلة الوجود الانساني، وهو يرسمها بصيغة جمالية تنم عن تكريس الطبيعة الاجتماعية في خطابه البصري، حيث مظاهر الرفاهية الطبقية من خلال مشاهده المصورة التي شغلت الغلافين الأمامي والخلفي ضمن معالجات ومضامين مختلفة، على الرغم من وجود المرأة في كليهما، لتسجل لحطة انطباع وتعرف على هذه التجربة الغائبة عن مشهديته الرسومية العراقية إزاء هذا الاغتراب الاضطراري.

     وجرياً وراء تقاليد فنية تم تخصيص غلافي العدد 428 للفنان (منصور البكري) بمناسبة رحيله واستعراض تجربته المتفردة بنزوعها نحو الرسم الكاريكاتيري، ففي الغلاف الأمامي تم تصوير لوحته التي تزدحم فيها الشخوص والعلامات وسط سديم لوني يمازج بين اللونين الأحمر والأصفر، في حين مثل الغلاف الأخير بورتريه لاحدى شخصياته الثقافية التي يرسمها مع مبالغات لونية في المعالجات التقنية والفنية التي تحمل أحياناً مبادئ السخرية واللامعقول وكشف اللامفكربه في البنية الصورية. وبمناسبة اقامة المعرض الشخصي للفنان العراقي المغترب في تونس (علي رضا سعيد) شغلت صور من معروضاته غلافي المجلة الأمامي والخلفي في العدد 429، حيث مثل الأمامي صورة تنتمي الى التعبيرية التجريدية، وهو تكريس لاسلوبه الفني تزدحم فيه العلامات والوجوه داخل السطح التصوري المُشيد. بينما مثل الغلاف الخلفي كتلة لونية تتصارع داخل فضاء اللوحة تشبه بعض الحروف العربية التي حاول أنسنتها وتحويلها الى كتلة بشرية تزدحم داخل الفضاء الحياتي الذي جسده وسط اللوحة، بينما ترك بعض الفضاءات خالية من أي شيء على جوانبها الأُخرى. فيما تم رصد منجز النحات عبدالحميد العابد ليكون المادة الصورية للعدد المزدوج 431- 432 وهو يحمل صورتين لمنحوتتين للشاعر الراحل مظفر النواب في ذكرى رحيله ومناسبة لاستذكاره في المتون والمحتويات النصوصية الداخلية التي أضاءت سيرته الشخصية وتجربته الشعرية بشقيها (الفصيح والعامي)، جسد الغلاف الأمامي بورتريه نصفي من الجبس للشاعر، أما الثانية فكانت عبارة عن تمثال بالحجم الكامل للشاعر النواب نفسه وهو يقرأ قصيدته من على منصة الشعر العالية.

     وخصّص المعادل البَصَري في العدد 433 للفنان (محمد فهمي) في عرض لتجربته باتجاهين مختلفين تجسدت لوحة الغلاف الأمامي بصورة مرسومة للشاعر الجواهري وهو يجلس على أريكة حمراء اللون ويمسك بين أصابعه بسجارته المعهودة وهو ينظر الى الأمام أو المستقبل برؤية تأملية، في حين كانت صورة الغلاف الخلفي تمثل لوحة تجريدية تزدحم فيها الألوان كازدحام صورة حياتنا اليومية، وكأنها تفسير لنظرة الجواهري الذي يريد معرفة ما يفضي إليه مستقبل العراق الذي تنبأ به في أكثر من قصيدة خلال رحلته الشعرية. وفي سياق البحث عن التجارب الابداعية الجديدة والمميزة تم اختيار الفنان العراقي المغترب منذ سنوات في قطر (أحمد البحراني) ليكون ضمن فضاءات الصورة التي يحملها العدد 434 في صورة واقعية تشخيصية في الغلاف الأمامي، وتجريدية في الغلاف الأخير، في مقاربة تجمع بين المنحوتة الأولى التي تمثل وجه من الوجوه الشعبية المألوفة في الأزقة ومنعرجات الطرق وشوارع المدن ومحلاتها، فيما تمثلت اللوحة الأُخرى لعمل نحتي من النحت البارز يمثل مجموعة أقنعة وجماجم مُلصقة على سطح، تشير الى آثار الأسى والقسوة وفعل الزمن عليها، حين يتوالد القناع الواحد الى مجموعة جماجم وأقنعة تمثل ثنائية الحياة والموت وانتهائها الى العدم آخر المطاف. وبتعدد هذا الرصد لصور العتبات البصرية نجد أن العدد 439 حاول الاقتراب من منجز الفنان العراقي (علي آل تاجر) واصطفاء لوحتين من لوحاته للغلافين الأمامي والخلفي للعدد المشار اليه، وهو يحتفي من جانبه بالحياة العراقية الشعبية في ضوء الأزياء التي عكست تلك البيئة وذلك الواقع المعيش. وهكذا فعلت الثقافة الجديدة في العدد 438 مع الفنان (يوسف الناصر) في غلافيها الأول والأخير أيضاً، على الرغم من اختلاف المدرسة والاتجاه التي تنتمي اليه المعروضات الرسومية من واقعية أو تعبيرية تجريدية.

    وحين نشرت مقالاً نقدياً عن الفنان العراقي المغترب في كندا (كريم سعدون) في العدد 436 فإن المجلة خصصت الغلافين الأول والأخير للوحتيه اللتين يحاول فيهما تكريس تجربته إزاء صياغاته التعبيرية التجريدية في ضوء المزاوجة بين العلامة المجردة والتشخيص الرمزي الذي يريد منه تجسيد حركية خطابه وتسديد موجهاته من المشخصن الى المجرد في الظاهرة الذاتية نفسها مع وضوح لبنيات تقشف اللون على سطحه التصويري. وفي العدد 435 جرى تصوير لوحتي (أحمد الشرع) الواقعيتين المأخوذتين من طبيعة العراق و(البادية) تحديداً في ضوء ما تعكسه الأزياء والأسلحة التي يحملها الرعاة أو تلك المرافقة للشخصية البدوية في نزوعها نحو الحماية الذاتية من أجل حياة آمنة ومسالمة.

    وقد يكون العدد 437 مختلفاً عن جميع الأعداد المشار اليها من خلال احتفائه باثنين من كبار الرسامين العراقيين، اللذين اتخذا من الواقعية المعبرة عن حياة العراقيين أساساً في هذا الاصطفاء، إذ كانت جدارية الطيران للفنان (فائق حسن) عنواناً ومفتتحاً بصرياً للعدد المذكور من أجل التذكير بنضال هذا الشعب ونزوعه نحو التحرر، بينما تم اختيار لوحة الفنان (فيصل لعيبي) للغلاف الأخير في ضوء المقاربات التي عمد اليها الفنانان لمعالجة الموضوع الشعبي. فجدارية (فائق حسن) تمثل جموع مُصفقة لثورة 14 تموز 1958 وسط سرب الحمام المُحلق في أعلى اللوحة، التي كان أبطالها من الطبقة الكادحة (البروليتاريا) التي أمعن الفنان (فيصل لعيبي) في رسم شخوصها، وما لوحته هذه الا تمثيل للعامل الذي يرتدي بدلة العمل فوق قميصه، وهو يقرأ جريدة طريق الشعب في لحظة استراحته على طاولة المقهى مع قدح الشاي العراقي، وينظر الى الأمام باتجاه الأفق الذي تتحرك به الجموع داخل ساحة الطيران. ويمثل اختيار هذين العملين التقاطة ذكية ومُعبرة في الوقت نفسه عن هذه المشتركات التي تجمع لوحتين مختلفتين في الانشاء التصوري والفارق الزمني والجيلي الذي يحيط بهما، وكأنهم يعودون في تفسير مضامينهم الى قصيدتي الشاعر (سعدي يوسف) وهو يشير في الأولى الى حمامات ساحة الطيران في أحد مقاطع قصيدته (في ساحة الطيران.. تطير الحمامات)، وفي الأخرى عندما يقول في قصيدة أُخرى (إن تحت البدلة الزرقاء قمصان العشيقة) ومن خلال هذه المقاربة في الماهيات التي تحملها اللوحتان استطاعت المجلة أن توفر المهاد الفكري المقنع في هذا الاصطفاء.

من هنا تظل الرؤية البصرية لمجلة الثقافة الجديدة راسخة منذ بداياتها ورسم ستراتيجيتها الأساسية ضمن خارطة التصورات التي يحملها عنوان المجلة من (فكر علمي وثقافة تقدمية) تخضع له جميع المنشورات والتفسيرات، ومنها التشكيل الذي يبحث في قضايا الوطن والناس والتعبير عنها بصيغ جمالية تتسق مع البناء الاجتماعي والحفر عميقاً في ذلك الفكر وايجاد مثابات فلسفية لتفسير العلاقات الكامنة فيه، ويتبنى هموم الشعب وتطلعاته نحو الحرية والحياة السعيدة الآمنة.