أيار 14

 

 رغم قدراتها الدعائية الهائلة، والتي وصلت مؤخراً لهيمنة الولايات المتحدة وحدها على 65 في المائة من مؤسسات الإعلام في الارض، لم تتمكن قوى الإستغلال والعبودية من الإنتصار على قوى الحرية والتقدم، ذات الإمكانيات الدعائية المتواضعة، لأسباب، لعل من ابرزها، وضوح اهداف الأخيرة وتماسك مفرداتها وصدق تعابيرها، وتبنيها هموم الناس، واهتمامها بتوعيتهم وتعبئتهم لانتزاع حقوقهم.

وجراء القسوة التي اتسم بها الصراع طيلة قرنين من الكفاح، لم يكتف اليسار بتفنيد الحرب الاعلامية والثقافية التي تشن ضده فقط، بل وايضا في الدفاع عن القيم التقدمية لمجتمعاته وتعبئة مفكريها ومبدعيها ومثقفيها العضويين، وتمتين وحدتهم والتعريف بنتاجاتهم وتعزيز صلتهم بالشعب، وتبني برامج التطور الاقتصادي وتمكين البشر من اشتراطات آدميتهم المتمثلة بالحرية والعدالة الاجتماعية، إضافة الى العمل لاجهاض برامج اليمين، التي تحاول انسنة العنف وتكريس التجهيل وتبرير القمع والتخلف.

 

ولادة ووأد

  وكان من البديهي أن تكون لليسار في العراق، وطليعته الشيوعية بالذات، سياسة ثقافية ودعائية متميزة، تركزت في برامج التنوير والتحديث الاجتماعي، وفي صياغة التجديد الثقافي، فكريا وعملياً. ولهذا اقام الرواد ومنذ النشأة، تجمعات فكرية واسعة، لعب الشيوعيون فيها دوراً مباشراً او تحفيزياً، مقّدرين عالياً التنوع الفكري والقومي والثقافي لأعضائها في اطار وحدتهم. وكان من أبرز تلك التجمعات، التجمع الذي أسس مجلة "الثقافة الجديدة"، التي نحتفي بعيدها السبعين هذا العام، والذي ضم تنوعا كبيرا تمثل بصاحب امتيازها مهدي الرحيم، ومديرها المسؤول خالد طه النجم، وبأعضائها خالدة السعيدي، صلاح خالص، صفاء الحافظ، إبراهيم كبة، فيصل السامر، عبد الملك نوري، محمود صبري، عبد الرزاق عبد الواحد، يوسف العاني وغيرهم (1). ولم تستطع "ديمقراطية" العهد الملكي تحمل صدور اكثر من عددين من هذه المجلة، فعمدت لسحب الامتياز، قبل أن يجد أصحابها حلاً مؤقتا في اصدار العدد الثالث عبر استخدام رخصة مجلة للنائب عبد الرزاق الشيخلي باسم (أدب الحياة). لكن فاضل الجمالي، كان له رأي آخر، فقرر الغاء هذه الرخصة ايضاً، ووأد العدد الرابع.

 

تواصل وتحدٍ

  وبعد انتصار تموز 1958 بثلاثة اسابيع، عادت المجلة للصدور، مقاومة مخالب القمع واضطهاد حرية التعبير والفكر، والتي تمكنت ـ للأسف ـ من اسكاتها في 6 آب 1961. وبعد ثمانية اعوام، عاودت المجلة الصدور للمرة الثالثة ولعشر سنوات قبل أن يُّسكتها العفالقة في اوائل عام 1979، فتنتقل للصدور في المنفى، حتى سقوطهم المدوي في 2003، حين عادت لأحضان الوطن من جديد (2).

كتبت المجلة في افتتاحية العدد الأول، في اصدارها الثالث، نيسان العام 1969، تحت عنوان (الثقافة الجديدة تعود الى المعركة) تقول: حين ظهرت (الثقافة الجديدة) لأول مرة في عام 1953، أعلنت بأنها مجلة الفكر العلمي والثقافة التقدمية، محددة بذلك موقفها الصريح الواضح في المعرفة الثقافية، والذي يقوم على ركنين أساسيين: العلم والتقدم، فهي من ناحية ضد التزييف الفكري والمواقف اللاعلمية، ضد تشويه الحقائق الموضوعية التي نؤمن بوجودها ايماناً كاملاً، ضد تشويه الواقع التاريخي والمعاصر لخدمة اغراض الطبقات المستغلة والمنتفعة، وهي من ناحية أخرى الى جانب الشعب وطبقاته الكادحة في معركته الضارية من أجل حريته وتقدمه وسعادته ورفاهه (3). ولا بد ونحن نقرأ هذه الكلمات، ان نتذكر بأنها نُشرت في زمن كانت فيه الأشلاء البشرية من بقايا اجسام المعذّبين في (قصر النهاية) تنز دماً في نهر (الخر)، وكانت مخالب العفالقة تنهش كل مختلف معها، لتحقق شعارهم البائس (جئنا لنبقى)، وذلك كي نقّدر حجم الصمود الباسل والتحدي الذي لا يلين، التي اتسمت به المجلة على مدى تاريخها المشرق.

 

تحليل أولي لمسيرة المجلة

  وبغية ان تُقرن هذه القراءة السريعة للأعوام السبعين من عمر المجلة ببعض الدلائل العملية، تمت دراسة عينة عشوائية من 40 عدد من أعداد المجلة (4)، صدرت في فترات مختلفة (الخمسينات، السبعينات، التسعينات، وما بعد 2003)، والتي احتوت على 859 مادة رئيسية، جرى تصنيفها حسب الجدول رقم 1 الى أبواب مختلفة، كما خضعت لتحليل إحصائي باستخدام برنامج (MINTIB 18). 

 

ومن أجل وضع تقييم أولي لمدى تمتع دراسات المجلة، بالرصانة العلمية، تم اختيار عشوائي لمئة دراسة من بين مواد باب (مقالات ودراسات) والتي وجدت في العينة، وجرى تحديد مدى استيفائها لشروط البحث العلمي، على خمسة أسس:

  • هل الدراسة أصيلة أم مترجمة أو سبق نشرها؟
  • هل كانت أهداف البحث واضحة؟
  • هل كانت المناقشة واضحة للقارئ وخدمت أهداف البحث؟
  • هل استفاد الكاتب من المصادر التي أوردها؟
  • الدرجة العلمية للكاتب.

ومن نافل القول الإشارة الى ان التقييم لم يشمل المضمون العلمي التخصصي للدراسة، لأن ذلك، كما هو معروف، يحتاج لمتخصصين في كل دراسة شملها التقييم، على حدة.

 

باب دراسات ومقالات

يرينا الشكل رقم 1، عدد المواد المنشورة في باب (دراسات ومقالات) والذي بلغ 409 مواد، أي بنسبة 47.5 في المائة من مجموع المواد المنشورة في اعداد هذه العينة. ومثلت المقالات السياسية نسبة 29 في المائة (126 مادة)، والفكرية نسبة 25 في المائة (103 مادة) والاقتصادية نسبة 10 في المائة (42 مادة) من مجموع المواد المنشورة في هذا الباب. وكانت هناك فروق معنوية بينها، حيث تفوقت المقالات السياسية على مثيلتها الفكرية والتي تفوقت بدورها هي الأخرى على المقالات الاقتصادية (شكل رقم 2).

لم تكن هناك فروق معنوية بين الدراسات الخاصة بالتعليم و الزراعة و العمارة و القانون و المجتمع المدني، والتي تراوحت نسبها بين 2.5 - 4.5 في المائة، وبين الدراسات الخاصة بالقضية القومية، النفط، المياه، البيئة والتي تراوحت نسبها بين 1.5 و 2.5 في المائة، والدراسات الخاصة بالصحة وحقوق الإنسان والعلوم الحديثة والتي بلغت نسبها 0.5 – 1.2 في المائة (شكل رقم 2). وغابت عن أعداد العينة للأسف الدراسات الخاصة بالصناعة والسياحة وبهموم الطلبة والشباب.

 

 

وتكشف مراجعة المواد المنشورة في هذا الباب عن القضايا المهمة التي اعتمدتها المجلة، وفي مقدمتها الدفاع العنيد عن الحرية، باعتبارها قيمة إنسانية مطلقة، لا يمكن أن تتحقق بدونها أية تنمية أو تقدم، وعن إدراكها العميق للعلاقة الجدلية بين شعارها العتيد (فكر علمي، ثقافة تقدمية) وبين الحرية، التي يشكل نموها وازدهارها شرطاً لتحقق الشعار، فيما يفتح تطوير شكله وأدواته، المدى للوصول الى مستوى أرقى لحرية البشر.

كما مثلت مقالات ودراسات العينة، خاصة في حقلي الفكر والسياسة، فضاءً مفّعماً بالمعرفة والاختلاف الخّلاق، ومشغلاً لإعمال العقل في الواقع وما يطرحه من متغيرات وأفكار ورؤى ومفاهيم، بعيداً عن الجمود العقائدي، وحرصاً على التجديد، وإن بمستويات متفاوتة.

كما جسّدت العديد من الدراسات والأبحاث العلمية الرصينة التي نُشرت في كل ميادين المعرفة، وخاصة العملية منها، برامج متكاملة لتطوير هذه الميادين على الصعيد الوطني، كالاقتصاد والزراعة والنفط والمياه و التعليم والصحة وغيرها. كما شكّلت الدراسات، أمثلة مشرقة عن صراع المجلة ضد كل أشكال التخلف، ومن اجل تنمية وعي الناس، حد فهم الخطاب الثوري التغييري والمنّظم لكفاحهم من أجل نيل حقوقهم المستلبة وتحقيق تطور متنام في العدالة الاجتماعية.

 

الرصانة العلمية

وبغية التعرف إلى مدى توفر مستلزمات البحث العلمي في الدراسات التي نشرتها المجلة، تم جرد اسماء كتّاب الدراسات في اعداد العينة العشوائية، وأظهرت النتائج، قيام 225 كاتبا بنشر مادة واحدة فقط، و 23 كاتبا بمادتين و10 كتّاب بثلاث مواد و5 كتّاب بأربع مواد، و3 كتّاب بخمس أو تسع مواد، وكاتبين بست أو سبع أو عشر مواد. أي أن نسبة المساهمين بمادة واحدة فاقت 55 في المائة من الكتّاب، فيما لم تتجاوز نسبة المشاركين بمواد عديدة 1 – 5 في المائة. ويمكن من خلال ذلك الاستنتاج بسعة دائرة المهتمين بالنشر في المجلة، وتنوع اختصاصاتهم وحقول البحث المنهمكين فيها. كما يدل ذلك ايضاً على انفتاح المجلة على أطياف واسعة من الباحثين، العراقيين بشكل خاص، وعدم اقتصار تعاونها على نخبة محددة من الكتّاب (شكل رقم 3). 

  

وأظهرت القراءة بأن معظم البحوث التي تمت قراءتها، كانت اصيلة بنسب فاقت 85 في المائة، ماعدا بحثين في العلوم الحديثة حصلا على 70 في المائة (جدول رقم 2). وتجاوزت نسب الدراسات التي كانت واضحة الأهداف وتوفرت على مناقشة وافية حاجز 80 في المائة، ماعدا بعض الدراسات في التراث والعلوم الحديثة، التي لم تحقق أكثر من 70 في المائة. وتمت ملاحظة بعض الضعف في استخدام المصادر (أحيانا خلت بعض الدراسات من الإشارة اليها)، مما قلل من تقييمها بسبب ذلك، ليصل الى 60 في المائة، كما في بعض الدراسات الفكرية والسياسية والخاصة بهموم التربية والتعليم والقضية القومية (جدول رقم 2).

ويمكن الإشارة بشكل عام الى ان جميع الدراسات التي تم تقييمها، توفرت فيها مستلزمات البحث العلمي، فنالت 80 في المائة، ماعدا تلك المتعلقة بالتراث والعلوم الحديثة والقضية القومية والتي نالت دون ذلك (بين 70 و 74 في المائة). كما يمكن الاستنتاج بأن أفضل هذه الدراسات كانت دراسات العمارة والاقتصاد والصحة والمياه، تلتها في المرتبة الثانية دراسات زراعية وبيئية وأخرى تتعلق بالنفط والتعليم والقانون.

وعلى ضوء الدرجة العلمية، وُجد أن 70 من الكتّاب كانوا من حملة الدكتوراه (أي بنسبة 70 في المائة) و 12 كاتباً من حملة الماجستير (أي بنسبة 12 في المائة) والباقين من حملة الشهادة الجامعية أو غيرها، اي بنسبة 18 في المائة (جدول رقم 2). كما بلغت نسبة الكتّاب، ممن كتبوا في تخصصاتهم العلمية المباشرة، 65 في المائة.

  

باب أدب وفن

في أعداد العينة، نشرت المجلة 450 مادة في باب (أدب وفن)، أي ما نسبته 52.5 في المائة من مجموع المواد المنشورة، وبفرق معنوي قدرة 5 في المائة عن عدد المواد المنشورة في باقي الأبواب مجتمعة (الشكل رقم 1).

ومثلت المقالات (بما فيها النقدية) وعددها 185 مقالاً نسبة 40 في المائة من مواد الباب، تلتها القصائد والتي بلغ عددها 121 قصيدة أي بنسبة 26 في المائة. وكان للقصص مكانة متميزة، حيث تم نشر 88 قصة أي بنسبة 19 في المائة. وأظهرت الأرقام فروقاً معنوية بين هذه الميادين الثلاثة، حيث تفوق عدد المقالات والنقود على عدد القصائد، التي تفوقت أعدادها هي الأخرى على عدد القصص. أما باقي ميادين الإبداع، فكانت هناك 28 مادة عن الفنون التشكيلية (بنسبة 6 في المائة) و21 مادة عن المسرح (بنسبة 5 في المائة)، دون أن يكون هناك فرق معنوي بين عدد المواد المنشورة في هذين الحقلين. وافتقرت المجلة، لاهتمام جيد بالسينما، فلم تنشر سوى 5 مواد عنها في هذه العينة (أي بنسبة 1 في المائة) (الشكل رقم 4).

  

إن الاستنتاج الأول الذي يمكن التوصل اليه من متابعة مواد هذا الباب، هو تمّكن المجلة من تحقيق هدفها في ان تكون صوت الثقافة التقدمية، وذلك لنجاحها في الاهتمام بالثقافة الوطنية والدفاع عنها ونشر النتاجات الإبداعية وتبني هموم المبدعين، وهو ما يعكسه هذا الثراء في باب (أدب وفن) سواءً في تنوع المواد واختلاف مشارب وأجيال ولغات كتّابها، واستقطابها لمئات الأقلام، من كبار مبدعي العراق، وتحولها لمدرسة مهمة، تتلمذ فيها الكثيرون وتخرج من معطفها المئات، ممن هم اليوم نجوماً زاهية في سماء الثقافة العراقية.

ويمكننا أن نستنتج أيضا نجاح المجلة في أن تكون جزءاً فاعلاً من قوة تغيير اجتماعي، على الصعيدين الثقافي والاخلاقي، حيث ترينا العينة قدرة المجلة على التعريف بالمدارس الفكرية الحداثوية بمختلف ميادين الإبداع، وتطوير الذائقة الفنية للجمهور. كما ترينا، كيف افضى تمسكها بنشر الثقافة الثورية والمثل الانسانية، ليس الى تبوؤها مكانة متميزة وطنياً وعربياً فحسب، بل وفي المساهمة الفاعلة في مواجهة العصبية القومية والطائفية وإعلاء شأن الهوية الوطنية الجامعة، وتأهيل قرائها ثقافياً، ليكونوا فاعلين في برامج التنمية والتحول الديمقراطي، قدر فاعليتهم في رفض الاستبداد السياسي والاجتماعي والديني، وتمثل قيم الحداثة في السلوك والعمل، واحترام التنوع.

 

مقترحات

لقد مثّلت دراسات المجلة مشروعاً واعداً لوضع برامج خاصة بالتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للعراق. كما نجحت في التعبير عن هويتها الفكرية التقدمية والوطنية. ورغم ان هذا المشروع قد حقق إنجازات مهمة وقطع خطوات جيدة على هذا الطريق، إلا ان هناك حاجة ماسة لتعزيز ذلك، ربما عبر المقترحات الآتية:

  1. مواصلة التفاعل المتميز مع جميع الحقول الإبداعية، وعدم الاقتصار على الشعر والقصة، وتخصيص ملفات لإبداع الشباب، والاهتمام بثقافة القوميات الاخرى المكونة للشعب، كالكرد والتركمان وغيرهما.
  2. اقامة المزيد من طاولات الحوار والملتقيات الفكرية، حول المشاكل التي تعترض تقدم البلاد، واستقطاب الباحثين، من مختلف الاتجاهات، والتعامل الديمقراطي والمقترن بالتفاعل الجاد معهم.
  3. تدقيق أفضل للدراسات المنشورة، وضمان الاشتراطات البحثية في اغلب ما يتم نشره (وضوح الأهداف، رصانة المناقشة، الدقة في استخدام المصادر)، والقيام بنشر المواد التي تفتقد هذه الإشتراطات في باب اخر غير باب دراسات.
  4. الاهتمام ببعض الملفات التي غابت او كادت تغيب عن المجلة، كالدراسات المتعلقة بالصناعة والسياحة وبهموم الشباب والطلبة.

   

  الهوامش

  1. صفاء الحافظ، "قصة اصدار المجلة"، الثقافة الجديدة، العدد 361، 2013، ص 10-16.
  2. عبد المنعم الأعسم، من "العصبة" الى "طريق الشعب"، بغداد، دار الرواد، 2011، ص 28،54، 68.
  3. صلاح خالص، "الثقافة الجديدة تعود الى المعركة"، نيسان 1969، ص 3
  4. الأعداد التي شملتها العينة العشوائية هي (1 و1 مكرر نيسان 1969، 2، 7، 9، 47، 62، 96، 285، 278، 336،439، 340، 437، 283، 310، 434، 284، 318، 325، 436، 329، 407، 343، 404، 346، 350، 435، 349، 352، 353، 355، 356، 361، 368، 371، 429، 430، 431، 438).