أيار 17

 

 

مقدمة

    للراحل الكبير صفاء الحافظ عطاء ثرّ في منجزه الفكري المشهود وقد توزعت اهتماماته في البحوث والدراسات على مواضيع مختلفة، إذ كتب في الشأن السياسي مواضيع عدة منها على سبيل المثال: (اللامركزية الإدارية والقومية – الأسس النظرية لهذه المشكلة) و(مفهوم الحكم الذاتي وتطبيقاته في العراق)(1)، وفضلا عن كتاباته السياسية فقد كتب في الاقتصاد ايضا واهم منجز له في هذا الجانب كتابه (القطاع العام وآفاق التطور الاشتراكي في العراق )(2). وبرغم التنوع المعرفي الكبير إلا أن القانون وفروعه المختلفة كان الموضوع الأثير الى نفسه؛ ففي هذا الجانب اصدر كتابه الموسوم النظرية العامة للقانون الاشتراكي وبعض تطبيقاتها التشريعية(3). إذ يعد هذا الكتاب مرجعا مهما لفهم القانون من الوجهة الماركسية. اما على صعيد المقترحات التشريعية فله مساهمات عدة منها مقترحه (المساواة في الارث) إذ طلب حينئذ من الدكتورة نزيهة الدليمي – التي كانت احد اعضاء اللجنة المكلفة بوضع قانون للأحوال الشخصية – ان تعتمد المساواة في الإرث وعلى وفق الاحكام المنصوص عليها في القانون المدني تحت عنوان: (كسب حق التصرف بسبب الوفاة)(4). يضاف الى الجانب البحثي والكتابة فقد كان على قدر ملموس في النشاطات المختلفة المتعلقة بتخصصه وقناعاته، إذ كان ناشطا في عقد اللقاءات وتنظيم الندوات في الشأن القانوني باعتباره أستاذا جامعيا متمرسا، فضلا عن عضويته في مشروع قانون إصلاح النظام القانوني. وقد كان الراحل محط احترام وتبجيل من قبل وزير العدل الأسبق الدكتور منذر الشاوي الذي رشّحه إلى عضوية المشروع المذكور.

كيف نظر الراحل إلى المشروعية – حيث إن المشروعية لديه لا تعني الطاعة العمياء للنص القانوني بل ان الطاعة تحل متى ما افضت تلك النصوص التشريعية الى حماية حقوق المواطنين مع حضور القواعد القانونية المقيدة لسلطة الادارة والحامية لمصالح الاوليغارشية المستغلة والتي يسميها الراحل بـ (القوانين الرجعية)، اذ يرى لزوم التصدي لها والتصدي هنا لا يكتفي بخرق القوانين تلك بل السعي المثابر الى الغائها من خلال كفاح المواطنين وعملهم الدؤوب للوصول لتلك الاهداف. وكمثال على القوانين الرجعية يرى ان القوانين التي شرعها المحتل البريطاني سنة 1932 وهي قانون الاراضي المفوضة بالطابو وقانون الاراضي الممنوحة باللزمة وقانون التسوية التي حولت نمط الانتاج الزراعي من النمط الابوي (شيخ العشيرة) الى نمط جديد في الانتاج والعلاقات الزراعية المفضية الى ترسيخ هيمنة شيخ العشيرة التي قال عنها ابراهيم كبة الراحل انها القوانين التي حولت الواقع الزراعي الى نظام شبه اقطاعي(5).

ومن التشريعات الرجعية التي كانت سائدة حينذاك (نظام دعوى العشائر) الذي شرعه المحتل البريطاني النازع نحو ترسيخ العادات والاعراف العشارية ومنحها صفة القاعدة القانونية لكي يبقى العراق في مرحلة ما قبل الدولة والتي أسهمت في جعل العراقيين غير متساوين امام القانون من خلال انشاء نظامين قضائيين: الاول للعشائر، والثاني للمدن والقصبات، سمي بقانون العقوبات البغدادي. هذه النماذج من القوانين لا تكون محلا للمشروعية بالنسبة له ولا يجوز الاكتفاء بخرقها، بل يجب الغاؤها وهذا ما فعلته  ثورة 14 تموز 1958 اذ وجدت نفسها في مواجهة هذا الارث التشريعي الفاسد الذي يعود بجذوره الى الحقبة العثمانية، فهذا الارث فاقد لشروط واسباب المشروعية، ولا يستحق الاحترام ولا يلزم الدفاع عن نصوصه التي تتعامل مع المواطنين بالسلبية، وهو لا يستحق من الثورة سوى الالغاء، فما كان منها الا واصدرت قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 الذي كاد ومن خلال الواقع التطبيقي له ان يحول الاقطاعي الى مخلوق منقرض، فضلا عن ذلك فان الثورة اقدمت وبشكل حازم على الغاء نظام دعاوى العشائر وضمنت للعراقيين فرصة المساواة امام القانون من خلال خضوعهم لقانون واحد في الريف والمدينة وهو قانون العقوبات البغدادي. بهذه الرؤية نظر الراحل للمشروعية.

رؤيته للواقع والطموح للوضع القضائي

   قرأ الرجل الواقع الفعلي للقضاء والأجهزة التابعة له منذ تأسيس الدولة العراقية ولغاية كتابة موضوعه هذا الذي نشر سنة 1972 في مجلة القضاء الصادرة عن نقابة المحامين(6) وهو يعي تماما ان هذه المؤسسة شكلت على ارث الحقبة العثمانية وحقبة الاحتلال البريطاني، اذ تمكن من ان يضع اصبعه على اماكن الخلل والوهن الذي انابها، مقترحا باقة من الحلول والتوصيات المطلوبة لكي تستقيم العملية القضائية، وتكون ملاذا للمهدورة حقوقهم، ومن خلال مراجعة طروحاته التي مضت عليها مدة زمنية تزيد على النصف قرن وجدنا ان الغالب منها ما زال محتفظا ببريقه وطراوته، صالحا لمعالجة الخلل والوهن المشار اليهما في اعلاه، والممتد الى زمننا هذا، اذ وجدنا من الملائم ان نأتي على بعضها لكي تضاف الى اي برنامج هادف الى التطوير او إصلاح العمل القضائي وعلى الوجه الآتي:

(1) التراخي في حسم المنازعات – الحياة سريعة ولكي يمكن اللحاق بها يتوجب ان نكون بذات سرعتها وبعكسه فنحن نتخلف عنها، والتخلف عن سرعة الحياة يتجلى في العملية القضائية فهي متراخية وبطيئة. ويعود البطء إلى تهالك أجهزتها، فضلا عن العقلية المنتمية لسالف الأزمان بخاصة مع شعور المواطن العادي الباحث عن عون له، فيلجأ الى مباشرة الدعوى بنفسه، تاركا عمله وسبيل رزقه وتراخي مواعيد المرافعات التي تصل إلى سنوات في بعض الأحيان حيث تشكل عبئا مكلفا عليه. وقد اعتبر الراحل ان قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 وقانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 مساهمين في ذلك الوضع القضائي. كل هذا ولّد لدى الفرد شعورا بضعف الثقة بالقضاء، خاصة اذا اقترن ذلك بخرق الإدارة لبعض المبادئ القانونية الأساسية بالتجاوز على صلاحيات القضاء، ما يدفع البعض للجوء الى وسائل بديلة للحصول على حقوقه.

 ولمعالجة هذا الوضع يقترح الراحل مجموعة من المقترحات في سرعة حسم الدعاوى مع قناعته بان نصوص قانون المرافعات هي احد اسباب البطء الحاصل، لذا اقترح الزام صاحب الطلب بملاحقة طلبه لكي لا يطالها البطلان وان يتم إرجاء اليمين الى ما بعد النظر في القضية تمييزا وتنسيق مدد الطعن في الاعتراض والاستئناف والتمييز، إذ اقترح توحيدها وايجاد النصوص القانونية المطلوبة التي تلزم المحاكم وفي الجلسة الاولى بعرض الصلح او اللجوء الى التحكيم قبل الدخول في موضوع الدعوى، واقترح كذلك الغاء الطعن المتعلق بتصحيح القرار التمييزي لكونه من مخلفات العهد العثماني. كما انه يرى ان طريقة عمل القاضي الحالية تشكل عبئا مرهقا عليه، لأنه يباشر الدعوى بنفسه من ألفها الى يائها، من دون مساعدة احد. لذا اقترح وجود جهاز قضائي وسيط يقوم بدراسة الدعاوى وتبويبها وإنجاز المطالعة لتقديمها الى القاضي (اسوة بتجربة الجزائر والتجربة الالمانية). وقد اقترح كذلك اختصار السجلات المعتمدة في المحاكم لان كثرتها وعدم تنظيمها تشكل إرباكا لعمل المحكمة وعمل القاضي على حد السواء، فضلا عن تقوية جهاز موظفي المحاكم ورفع مستواهم المهني والثقافي والقانوني.

(2) الادعاء العام: النظام القانوني للادعاء العام في العراق يعود بجذوره الى نظام الاتهام الفردي الإنجليزي - وان أضاف له المشرع العراق أحكاما جديدة – وتلك قطعا مرجعيته القانونية التأسيسية وهو بهذا التوصيف يختلف عن مهام النيابة العامة المعروفة في مصر وفرنسا التي تعود بجذورها الى نظام التحري والتعقيب اللاتيني. الادعاء العام لدينا لا يقوم بالمهام التحقيقية لان الاخيرة مناطة بقضاة التحقيق؛ إذ أن مهام عمله تنحصر في مراقبة المشروعية الجزائية، خلافا للنائب العام المصري الذي يقوم بالتحقيق منذ وقوع الجريمة متلازما لسير الشكوى حتى صور الحكم فيها وتنفيذه(7). ويرى الراحل ان الادعاء العام جزء هام من النظام القضائي كونه يدافع عن المشروعية وسيادة القانون وفي ضوء المنظومة التشريعية المنظمة لهذا النشاط فانه يرى لزوم اعادة النظر في نظام الادعاء العام بان يكون مستقلا عن الادارة وعن القضاء على حد سواء، وان يعاد النظر بتعيين المدعي العام ونوابه بغية تحقيق استقلاله، فضلا عن توسيع صلاحياته بغية تسهيل مهمته في مراقبة المشروعية بما في ذلك التدخل في حفظ حقوق الخزينة والدفاع عنها في جميع الدعاوى الجزائية والمدنية والانضباطية. كما انه لا يهمل الافكار الواردة من بعض فقهاء القانون وشراحه الهادفة الى اناطة سلطة التحقيق بالادعاء العام وحصرها به، إضافة لمهامه الاخرى، فضلا عما تقدم فإن الراحل اقترح ايضا ان تناط مهام التأديب به حصرا.

(3) انتخاب القضاة: الزمن الذي كتب فيه مقترحاته كان للفكر الاشتراكي حضور لافت حتى بالنسبة للأحزاب ذات النزوع القومي، فضلا عن انه كان معبأ بالمفاهيم الاشتراكية بمرجعيتها الماركسية وقد طرح رؤاه ضمن هذه الاجواء المنحازة اليها، لذا يرى لزوم انتخاب القضاة المباشر من قبل المواطنين بالنسبة للدرجات الدنيا للقضاة، فضلا عن انتخاب المعاونين المساعدين للقضاة من بين ابناء الشعب ولمدة معينة يعودون بعدها الى عملهم الاصلي. اما بالنسبة للدرجات الوسطى والعليا للقضاة فتتم بطريق الانتخاب غير المباشر (السلطة التشريعية). اذ يؤكد ان مشاركة الشعب في القضاء وبالصيغة المبسوطة في اعلاه نابعة من الفكر الماركسي. فوجود الشعب في العملية القضائية يبرر دور المنظمات الجماهيرية اذ تقوم الاخيرة بالحيلولة دون وصول جميع المنازعات الى القضاة من خلال المبادرة الى حل بعضها ان كانت قادرة على ذلك الحل، وبذلك تخفف العبء عن المحاكم وتحول دون تراكم الدعاوى عندها. ومعروف ان التجربة السوفيتية كانت غنية بحل المنازعات بالروح الجماعية داخل المؤسسات والمعامل ومن قبل الشغيلة انفسهم، وفي حالة عدم الاقتناع بقرار الشغيلة يحال الامر الى اللجنة النقابية في المشروع وفي حالة عدم قدرة الاخيرة على ايجاد الحل فلا مناص والحالة هذه من احالتها الى المحاكم.

(4) محاكم الاستئناف: الاستئناف هو الفصل الثالث من الباب الثاني المعنون طرق الطعن في الاحكام من قانون المرافعات المدنية المرقم 83 لسنة 1969 المعدل وبموجبه يجوز للخصوم الطعن بطريق الاستئناف في احكام محاكم البداءة بدرجة اولى في الدعاوى التي تتجاوز قيمتها ألف دينار والاحكام الصادرة منها في قضايا الافلاس وتصفية الشركات (المادة 185 مرافعات مدنية). اذ يرى الراحل ان مرحلة التقاضي هذه (مرحلة الاستئناف) لا موجب لها؛ اذ بالإمكان ان يكون التقاضي بمرحلتين مرحلة محكمة البداءة ومرحلة التمييز بدلا من المراحل الثلاث هذه وللمقترح هذا اسبابه منها I- ان مرحلة الاستئناف تطيل امد الدعوى ولا توصل الحقوق الى اصحابها في المدد الاقل. II- اشغال عدد كبير من القضاة والكوادر الوسطية بأعباء ثقيلة حيث يمكن الاستغناء عنها. III– مادامت محكمة التمييز هي صاحبة الفصل في الدعاوى وهي تمثل اعلى مراحل التقاضي اذ في كثير من الاحيان تنقض الحكم الاستئنافي وتذهب الى ما ذهبت اليه محكمة البداءة ولما كان الامر كذلك فلا موجب لوجود مرحلة التقاضي هذه، وبالإمكان اضافة صلاحيات محكمة الاستئناف الى محكمة التمييز. IV- الاستفادة من قضاة محاكم الاستئناف وكوادر المحكمة المختصة في اعمال قضائية اخرى بخاصة وان السلطة القضائية تشكو دائما من شح القضاة. ومعلوم ان الغالبية المعنية بالشأن القضائي سواء كانوا في الوسط القضائي بخاصة ام الوسط القانوني بعامة مع هذا المقترح وما زال قائما الى يومنا هذا.

(5) ديمقراطية القضاء: تعبير اطلقه الراحل ويقصد به مجانية التقاضي (ان صح التعبير) لكونه يرى ان مجانية التقاضي هي جزء من النظام الديمقراطي المفضي الى العدالة. ولقناعته ان المعوزين والفقراء والفئات المهمشة غير قادرة على تحمل مصاريف ورسوم الدعاوى فضلا عن اتعاب المحاماة اضافة الى غياب المعونة عن طالبي العدالة لذا فهو يقترح تشريع نظام يؤمن لهؤلاء ولوج المحاكم وادراك العدالة حيث أن غياب المقترح او عدم تحقيقه يجعل العدالة مثلومة وعاجزة عن الوصول الى طالبيها من الفئات المذكورة. يلاحظ ان الراحل كتب هذا المقترح سنة 1972 وطرحه على الجهات المعنية آنذاك وكرره في كواليس المناقشات التي جرت لتشريع قانون اصلاح النظام القانوني. ومقارنة مع هذا الطرح وبعد مضي مدة تزيد على الربع قرن نجد ان الرئيس الفرنسي جاك شيراك وعند حلول عام 2000 طلب الاجتماع بكبار القضاة الفرنسيين والمعنيين بشؤون العدالة وفي الاجتماع قال لهم: (الان يحل علينا قرن جديد فاني اتمنى ان يتمكن الفرنسي من الوصول الى العدالة بأقل التكاليف وبأقصر المدد) وطلب من المجتمعين ايجاد السبل اللازمة لتحقيق تلك الامنية(8).

(6) القضاء الاداري والقضاء الدستوري - في بداية سبعينات القرن الماضي وقبله كان القضاء موحدا فمحاكم البداءة تنظر الدعاوى المدنية والدعاوى الادارية والدعاوى التجارية وسواها من الدعاوى الاخرى، اي عدم وجود قضاء اداري اسوة بفرنسا ومصر، ولو ان هناك ملامح بسيطة للقضاء الاداري متمثلا في مجلس انضباط موظفي الدولة، الا ان الملامح تلك لا تسد الطلب الواسع للقضاء الاداري وهذا الهاجس كان محلا لاهتمامات الراحل الذي اقترح لزوم تأسيس مجلس دولة وعدم قبول الوضع الحالي بنظر القضاء الاداري من قبل محاكم البداءة بشكل استثنائي وهو الذي يمقت المحاكم الاستثنائية العديدة في تلك الحقبة، اذ لا بد من النزوع نحو استقرار المحاكم باختصاصاتها كافة، وان الوضع القضائي السائد حينئذ يشكل علامة سلبية للنظام القضائي تحول دون تحقيق العدالة. وبذلك يرى ضرورة التخصص القضائي نظرا لكثرة التشريعات وتشعبها في مجالات الحياة المختلفة فهو يؤكد على اقتراحه لزوم وجود قضاء اداري مستقل.

وقد اضاف ايضا وبالحماس نفسه، لزوم وجود قضاء عال يفتي بدستورية القوانين او الانظمة مع توفير الشروط والامكانات اللازمة لمثل هكذا قضاء، من خلال دراسة علمية رصينة والاستئناس بتجارب المحاكم الدستورية في الدول المؤسسة لها، بما في ذلك تجارب الدول العربية او الدول الاخرى في محيطنا الاقليمي لان الرأي لديه: (ان غياب القضاء الدستوري يفضي الى دكتاتورية المشرع وبالنتيجة يكون المواطن هو الضحية). انّ رؤية واستشراف المستقبل لدى الراحل – في هذا الموضوع - كانت نابعة عن وعي مهني وحرفي صادق اذ بعد اكثر من عشرين سنة على كتابة هذا الموضوع وقع ما كان يخشاه الراحل المتمثل في تعرض القضاء للواقعة التالية: (عرضت على محكمة بداءة الكرخ التي كان يرأسها القاضي دارا نور الدين دعوى يستند فيها المدعي الى قرار لمجلس قيادة الثورة ، وبعد ان اجرت المحكمة تدقيقاتها في موضوع الدعوى وجدت ان قرار مجلس قيادة الثورة الذي يستند اليه المدعي يخالف احكام الدستور المؤقت 1970 اذا، و( اجتهادا) قضت المحكمة بعدم دستورية قرار مجلس قيادة الثورة موضوع الدعوى. امام هذا الموقف القضائي حكم على قاضي المحكمة بالحبس وأودع سجن ابي غريب. ولم يستجب المشرع العراقي لراي الراحل الا بصدور دستور 2005 المؤسس للمحكمة الاتحادية العليا.

(7) التحكيم: ان توسع قطاع الدولة وتعدد المؤسسات الاقتصادية والفنية افضى الى خلافات عدة بين الاطراف المتعاقدة سواء كان بين قطاعات الدولة او مع القطاع الخاص وهذه الخلافات تتعلق بسرعة انجاز البنية التحتية وتنفيذها ضمن المدة المحددة لها، وهذا الوضع يستلزم نظاما قانونيا وبقواعد قانونية ذات صفة تكتيكية تفضي الى سرعة حسم النزاعات بالسرعة المطلوبة ومن دون الولوج في دهاليز المحاكم ومواعيدها المتراخية التي قد تؤخر المواعيد المحددة بالعقود. من هنا اعتمدت الغالب من الدول نظام (التحكيم) باعتباره رديفا للقضاء في تحقيق العدالة، لكنه يساعد على حسم النزاعات بالسرعة التي تتطلبها تلك المشاريع، لذا فان العقود المتعلقة بهذا النشاط يوجب ان تتضمن بندا يلزم أطراف العقد باللجوء الى التحكيم في المنازعات والالتزام بما فصل به قرار التحكيم الذي يكون واجب التنفيذ. وإذا لم تتضمن العقود تلك بندا للتحكيم فبالإمكان طلبه اذا عرض النزاع على القضاء العادي. اطلع الراحل على احكام التحكيم الواردة في قانون المرافعات المدنية (المادة 251 وما بعدها) ووجد ان التحكيم جوازي، كما العقود المتضمنة شرط التحكيم اذا رفع النزاع الى القضاء العادي دون المرور بالتحكيم عد شرط التحكيم لاغيا. اما اذا طلب التحكيم من القاضي المرفوعة امامه الدعوى فانه يعد الدعوى متأخرة لحين تقديم المحكمين تقريرهم. كما بيّن القانون طريقة تعيين المحكمين واشترط ان يكون عددهم وترا، ويفصل المحكمون في النزاع استنادا لعقد التحكيم او شرطه الوارد في العقود الاخرى ويصدر قرارهم بالأكثرية. يجوز للمحكمة ان تصدق على قرار التحكيم او تبطله كلا او بعضا ولها ان تعيده للمحكمين في الحالتين المذكورتين؛ اذ وجد الراحل ان التحكيم في قانون المرافعات المدنية واجراءات التقاضي في المحكمة لا تلبي الغاية من اللجوء الى التحكيم وهي سرعة حسم النزاع لذا فهو غير ميال الى النصوص القانونية المختصة بالتحكيم والتي تضمنها قانون المرافعات المدنية واقترح بديلا يعتمد سرعة الحسم من خلال الزامية قرار المحكمين. هذا المطلب ما زال قائما لم يتغير وبذلك تعد دعوة الراحل قائمة الى يومنا هذا.

(8) التنفيذ: ان الاحكام القضائية التي تصدرها المحاكم المدنية وكذلك الاحكام التي تصدرها محاكم الاحوال الشخصية لا تكون لها قيمة ما لم يتم تنفيذها لدى دوائر التنفيذ المختصة بغية ايصال الحقوق المثبتة في تلك الاحكام الى مستحقيها. معلوم ان الشكوى من دوائر التنفيذ مستمرة منذ ذلك الوقت الذي كتب فيه الراحل عن اصلاح الاجهزة القضائية الى يومنا هذا، ولكثرة الشكاوى من دوائر التنفيذ حتى قيل بان دوائر التنفيذ كانت وما زالت (مقبرة الاحكام). لذا فهو  يطلب العودة الى المقترحات التي توصلت اليها وزارة العدل المتعلقة بدوائر التنفيذ والمركونة في الرفوف العالية. كما طلب التوسع في مفهوم السندات القابلة للتنفيذ من اجل سرعة وصول الحقوق الى اصحابها اولا وتخفيف العبء الثقيل عن المحاكم ثانيا؛ اذ يقترح لزوم قبول تنفيذ المبالغ الصغيرة المترتبة في ذمته ودعوته للحضور للتنفيذ فان اقر بالدفع فبها ونعمة اذ تمكن الدائن من الوصول الى دينه من دون الولوج الى المحاكم ومواعيدها المتراخية، فضلا عما تقدم فانه يقترح على المحاكم ان تتولى تنفيذ قراراتها وتراقب صحة تنفيذها مدنيا وجزائيا، وان تأخذ دوائر التنفيذ على عاتقها متابعة الاحكام المناط تنفيذها بها من المراجعة الاولى لطالب التنفيذ ودون اشغاله بالمراجعات المتكررة والمملة، فضلا عن غلق السبل التي يلجأ اليها البعض عن طريق التحايل او التواطؤ للتهرب من الالتزامات والديون واجبة الاداء. ولا تنسى مقترحاته تلك الوصول الى احدث النظم المالية والحسابية من اجل تحسين كفاءة واداء الاجراءات التنفيذية وتفعيل وسائل المراقبة والمحاسبة في هذا النشاط، فضلا عما هو موجود فعلا من الرقابة القضائية.

(9) المحامون: القاضي والادعاء العام والمحامي يشكلون وحدة تفضي الى كشف جوانب القضية المعروضة امام القضاء بغية الوصول الى العدالة. لأطراف الدعوى الاستعانة بمحام وتوجب بعض النصوص القانونية انتداب المحامي لغير القادر على دفع الاتعاب. يبدو ان الراحل غير متحمس للصفة الشخصية التي تربط المحامي بموكله، اي ان لا يتقمص شخصية موكله لقناعته بان دور المحامي يجب ان يعبأ بروح خدمة المجتمع لا روح خدمة موكله الذي يدفع مالا اكثر، وهذا التوجه نابع من رؤيته الاشتراكية للسلطة القضائية، فالمحامي كان في الدول الاشتراكية لا يعد خصما لممثل الادعاء العام فكلاهما امام القاضي للمساهمة في كشف الحقيقة، وان المحامي هناك اذا اقتنع بان موكله مذنب فعليه ان لا يخفي ذلك على المحكمة، والراحل هنا يدفعنا الى القول بان المحامي الذي يخفي حقيقة موكله كونه مذنبا فان ذلك الاخفاء يندرج تحت احكام التستر على جريمة التي لا يجوز للمحامي فعلها، وكذلك يلوم المحامي الذي يسعى جاهدا الى إظهار الجريمة وكأنها اقل خطرا، فالمحامي من حيث المبدأ هو مساعد للقضاء في الحرص على المشروعية، هذا من جهة، واما من جهة اخرى فالانتساب الى سلك المحاماة يفرض عليه ان يكون مؤهلا علميا وعمليا وثقافيا للقيام بتلك المهمة وهو لا ينكر ان مهنة المحاماة تواجه صعوبات كثيرة وبغية مواجهة الصعوبات وتذليلها يصار الى: 1- التأكيد على الجوانب العلمية والعملية واعطائها الاولوية على الجوانب النظرية والافتراضية. 2- ادخال مواد دراسية جديدة تتماشى من التطورات والتبدلات التشريعية. 3- تشجيع روح البحث والتحقيق والدراسة والمناقشة المنطقية وتنمية افكار الجرأة وحسن الدفاع. 4- اعادة ترتيب المواد التدريسية حسب الاهمية والتعامل اليومي في المحاكم.