أيار 17
مقدمة
مع سقوط حائط برلين في التسعينيات، وانتشار ثقافة العولمة والترويج لها من خلال تأثير الفضاء المفتوح لوسائل الإعلام، تزايد الجدل حول ضرورة اندماج الثقافات المتعددة في ثقافة موحدة هي ثقافة العولمة التي تمثل بالنسبة لأنصار هذا الرأي الضمان للنمو الاقتصادي، والرخاء الاجتماعي في مقابل مطالبة الكثيرين بضرورة الحفاظ على الثقافات القومية والدفاع عن خصوصيات تلك الثقافات وضرورة التصدي لأنصار العولمة، لأن العولمة من وجهة نظرهم تؤدي لإضعاف الثقافات القومية، وإضعاف دورها في دعم مقومات التماسك الاجتماعي.
وتعاني الثقافة العربية مع الثورة المعرفية والتكنولوجية والاتصالية ومنتجاتها عديدا من الإشكاليات، لذلك يسعى هذا المقال عبر السطور الآتية إلى تحليل مفهومي الثقافة والعولمة، وانعكاسات العولمة على الثقافة العربية، وتحديد كيفية تطوير الثقافة العربية في مواجهة العولمة.
 
ظاهرة العولمة
بدأ استخدام مصطلح العولمة في النصف الأخير من القرن العشرين، ويشير قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية، الى أن أول استخدام لمصطلح العولمة كان عام (1961) كبديل لمصطلح الأممية، وما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية. ويشير إلى حدوث تحولات كبرى على مستوى البشرية في مختلف المجالات(1).
وتسعى العولمة من خلال آلياتها المختلفة لتشمل كافة الأنشطة الإنسانية الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية، والثقافية. إنّ "هذه المتغيرات تدعونا إلى النظر والتمعن في مسألة هامة وحيوية هي مسألة الثقافة؛ فقد حاولت العولمة تجنيس ثقافات العالم، وطمس خصوصياتها".(2)  
ويواكب التعدد والتنوع الثقافي الانفتاح المتطور على مكاسب العلوم الإنسانية ومآثرها الكبرى، ولا شك في أن دعم المكتسبات الثقافية والعمل على تطوير دورها في دعم التنمية الشاملة، يتطلب مزيدا من مأسسة الظواهر الثقافية ودعمها.
 
مفهوم الثقافة
تعبرُ الثّقافة عموماً عن الخصائص الحضاريّة والفكريّة التي تتميّز بها أمّة ما، وتتعدد تعريفات الثقافة، ومعانيها، فلا يوجد إجماع أو اتفاق حول تعريفها، برغم ما بين هذه التعريفات من عناصر متشابهة، ويتعامل معها الكثيرون دون تحديد دقيق معناها بشكل دقيق مما يترتب عليه إشكاليات أخرى. ولكن يمكن القول بشكل عام أنها ذلك النسيج المركب والمتشابك من القيم والمعتقدات والأفكار والجوانب المادية التي تشكل حياة المجتمع.
وتتمثل الثقافة الإنسانية في كل الخصائص التي تميّز الكائن البشري عن سواه، وتجعل منه فرداً ينتمي إلى العائلة الإنسانية، ويقدم إسهاماً جوهرياً في دعم مسيرتها على هذه الأرض، وعناصر الثقافة لدى الشعوب الحية تظل في حالة نمو متصل وتطور دائم لمسايرة الظروف الحياتية المستجدة. كما إن الثقافة ليست مجرد موروث رمزي وسلوكي، أو مجرد تجليات مرتبطة بالذاكرة أو بالفنون، بل إنها تجاوزت ذلك في ضوء الإنجازات التي تحققت نتيجة تبلور مجتمعات المعرفة وتطور تقنيات المعلومات، وتكنولوجيا الاتصال مما فتح آفاقاً لا حدود لها، وساهم في ابتكار فضاءات أخرى للثقافة تفوق ما ألفناه في العقود السابقة، إضافة إلى تبلور نظرات في الاقتصاد والسياسة وفي دراسة المجتمع تعطي للبعد الثقافي ولتطور أنماط الوعي داخل المجتمع أهمية قصوى في بناء التطلعات السياسية والاستراتيجيات الاقتصادية وبناء تنمية المجتمع. فقد صارت العناية بالبعد الثقافي داخل بعض حقول المعرفة مسألة ملحة؛ حيث لا تنمية في الوعي السياسي الديمقراطي، مثلاً، من دون ثقافة سياسية جديدة، ولا إمكان لتحقيق النمو الاقتصادي من دون حد أدنى من القيم الثقافية المرتبطة بالتصورات والمبادئ المستمدة من التاريخ والمجتمع. لقد انتهى الزمن الذي كان يُنظر فيه إلى الثقافة كنشاط فرعي مكمل للفكر ومغذٍ للوجدان، إنها تندرج اليوم ضمن الخطوط الكبرى للتوافق في السياسة والاقتصاد داخل المجتمع.
والمؤكد اليوم، أن الثقافة تتميز بأنها عبارة عن نتاج متعولم تتبارى في إنتاجه شركات عابرة للقارات، حيث تجرى عمليات تنميط تهدف إلى قولبة الأذواق وتوحيدها، وانحيازًا لأنماط من الإنتاج تتوخى أسواقًا اكبر، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى تنميط التعليم والثقافة، فقد ترتب على كل ما سبق، بروز نزعات ثقافية مناهضة لآليات التنميط الثقافي، وتنتشر دعاوى الانتصار للهويات الثقافية المحلية المتعددة، الأمر الذى أعاد موضوعات الخصوصية والاستثناء مقابل الوحدة والتماثل(3).  
انعكاسات العولمة على الثقافة العربية
"عانى العالم العربي العديد من الإشكاليات، والتي جاءت نتاجًا للأزمة القائمة في مجال الثقافة والفكر، فسيادة مظاهر العنف والتعصب والكراهية، وشيوع الأنماط اللاعقلانية في التفكير، وشيوع قيم الاستهلاك، وغياب ثقافة المواطنة وقيمها تمثل بعض مظاهر الأزمة الراهنة. بل إن مصطلح "الثقافة العربية" يحمل في طياته الكثير من الغموض، ويثير حوله العديد من التساؤلات حول ماهية تلك الثقافة وخصائصها ومضامينها"(4).
 وعلى الرغم من الجهود التي شهدها المجال الثقافي العربي من مساعٍ لتطويره كمياً وكيفياً، وجهود نشر التعليم، والتوسع في إنشاء الجامعات، ومؤسسات التعليم، وتطور الوسائط التكنولوجية، وتطور ثقافة الصورة وثقافة الوسائط الاجتماعية الجديدة، والتي صارت تشكل اليوم رافدًا من روافد التنوع الثقافي في مختلف تجلياته؛ لكن على الجانب الآخر، "تعاني الثقافة العربية عديدًا من الإشكاليات، ولعل أبرزها إخفاقنا في وضع برامج تعليمية مستقبلية تناسب أبناءنا، وتتفق مع خصائصهم وسمات العصر، فقد صارت عقولهم أكبر من البرامج التعليمية التقليدية، التي وضعها السابقون من الآباء والأجداد، لدرجة أن الصغار اكتشفوا ذلك، وأخذوا ينسحبون من تلك البرامج، وحولوا مواد الدراسة، التي وضعها الكبار، من مخزون عقلي يساهم في توسيع الإدراك، إلى مخزون لفظي وحفظي، فصارت العلوم أناشيدَ غايتها النهائية إرضاءَ الآباء، وليس ارتياد المستقبل"(5).
 تعيش الثقافة العربية في الوقت الراهن مأزقاً حاداً يكمن في عجزها عن مواكبة التحولات العالمية المتمثلة في تطور تكنولوجيا الاتصالات وثورة المعلومات الهائلة في العالم، فالتكنولوجيا صارت وسيلة هامة وأساسية في نقل وتوزيع وانتشار الثقافة ومصادرها، فضلاً عمّا تعانيه الثقافة العربية من  مظاهر التلوث، ويتمثل في خضوعُ الثقافات في العالم العربي للاحتكارات التجارية والمالية، بحيث صارت الثقافة، وهي رمز السيادة والسلطة، تابعا تجاريا، تخضع وتقاس بنواتجها المادية الاحتكارية، وانتشرت المؤلفات المتدنية أو المنعدمة القيمةٍ الفكرية. وهرب المبدعون والمخترعون من أجواء التلوث العقلي في العالم العربي، وضعفت حركة الترجمة إلى أو من العربية، فقد قلت أعداد المؤلفات المترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية في كل العالم العرب، وإن كان هناك قدر من الجهود المبذولة في بعض الدول والمؤسسات.
تطوير الثقافة العربية في مواجهة العولمة:
لا شك في أن المساهمة في تطوير الثقافة ومؤسساتها تتطلب إنجاز ثورة مطلوبة في مجالي التربية والتعليم، ثورة تقوم على الحرية والتحرر، ويكون بإمكانها تكسير قيود الموروث التي تقف حائلاً دون انخراط الناشئة في مجتمعنا، وتمثل قيم العصر الذي يؤطر وجودنا ويصنع شروط حياتنا؛ "فلم يعد أحد يجادل اليوم في أهمية الثقافة في المجتمع، وقد ساهمت أدبيات المجتمع الدولي وتقاريره عن التنمية والمعرفة الصادرة في العقدين الأخيرين، في إبراز الأدوار التي تمارسها الثقافة في تعزيز مجالات التنمية الإنسانية". (6)  
 ولقد لعب توسيع مجالات الاهتمام بالشأن الثقافي دورا كبيرا في تعميق درجات الحرية والتحرر. وإذا كان تطوير المشهد الثقافي العربي يتطلب مزيداً من المأسسة فإنه يقتضي أيضاً مزيدا من توسيع الحريات، وتحصين المكاسب والمنجزات، ويستدعي إيجاد الوسائل التي تسهم في خلق الفضاءات المناسبة لإنتاج وإرسال وتعميم الثقافة والمنتج الثقافي بين مختلف الفئات الاجتماعية.
 فلا ينبغي الاكتفاء بإلقاء اللوم على العولمة وثقافتها المنتشرة بصفة خاصة عبر الإنترنت والفضائيات وتحميلها مسؤولية ما يحدث في المجتمعات العربية وفي أوساط الشباب العربي من غزو ثقافي نوعي مكثف، لأن الأمر يتطلب دراسة الظاهرة بصورة موضوعية والبحث عن بدائل وقائية للتخفيف من حدة الظاهرة، وتحويل بعض مكوناتها إلى عناصر إيجابية وممارسة ثقافة النقد والتغيير والمراجعة. (7)  
 إنّ معركة الإصلاح الثقافي تتطلب مزيداً من تقوية دعائم الفكر التاريخي، والتاريخ المقارن، وتاريخ العقائد والثقافات، حيث تساعد معطيات هذا التاريخ في تنمية مهارة تنسيب الأحكام والتصورات الإطلاقية المهيمنة على ثقافاتنا وآليات تفكيرنا.
 وتتطلب عملية إنجاز تحول ثقافي جذري في فكرنا جهودا متواصلة في مجال استيعاب نتائج الثورات المعرفية التي تبلورت في الفكر المعاصر، وفى نفس الوقت تطوير جهود الترجمة، وتطوير منظومات التربية والتعليم، وتشجيع البحث العلمي، وتوسيع مجالات ودوائر الاستفادة من نتائجه وآفاقه في المعرفة والمجتمع والاقتصاد.
 والفرق كبير بين أن نتردد أو نتقاعس أو نتوقف عند استهلاك المعرفة الجديدة والمتجددة، وبين أن نسعى وأن نقتحم مطالب تلك الثورات المعرفية لبناء مجتمع جديد تسهم فيه عمليات التعليم والتعلم بتكوين القوة البشرية المنتجة والمبدعة. (8)  
 ولا بدّ من التركيز على ترسيخ قيم الحداثة في فكرنا، ومواجهة دعاوى تيارات التكفير والعنف في ثقافتنا ومجتمعنا، وإطلاق المواجهات النقدية الأكثر حسماً وصرامة، والكشف عن غرابة التصورات والأفكار المرتبطة بهذه التيارات، وهو الأمر الذي يتيح لنا بناء الثقافة المبدعة.
إن الثقافة العربية مثلها في ذلك مثل مختلف الإنتاجات البشرية حمّالة لأوجه لا حصر لها، وهى قابلة لأكثر من صيغة من صيغ الاستثمار الخلاق والمبدع، ومن ثم فعلينا التصدي للفهم المحافظ المغلق للثقافة التراثية وهيمنته على العقول والضمائر في مجتمعنا، وصور التغييب ضد الأشكال الثقافية الجديدة، وضد المبادئ الذى تحملها في سياق تطور المنتج الثقافي الإنساني في التاريخ. فنحن في حاجة إلى المواجهة لنتمكن من الانخراط في عملية ثقافة جديدة ومجتمع جديد.(9)
ولو نظرنا إلى اليابان، مثلا، فإن ملامح النهضة الثقافية والتعليمية للإنسان الياباني، يقف وراءها فكرٌ تعليمي يساهم في تشغيل العقل، والإلمام بالمعارف والعلوم المتطورة، ومتابعة البحوث والتجارب التربوية وتوظيف نتائجها تعليميًا وثقافيًا، ولذلك نهضت اليابان ولم تتأثر بزمن العولمة، لأنها استطاعت أن تقدم لسوق العمل الكوادر البشرية المؤهلة للتعامل مع البعد التقني، فالتعليم هو الذي يحقق مقومات النهوض، والعلم تراكم معرفي، والثقافة استمرار ووعي حر. فنحن في حاجة إلى تعليم يؤسس لفكر ثقافي، فالتربية بآلياتها ووسائطها المختلفة يقع عليها دور كبير في تكوين شخصية الإنسان العربي وثقافته، وكل أمة تنشد صنع التقدم هي التي تحقق من تعليمها وثقافتها قوة. لذلك نحن في حاجة ملحة إلى التفكير في كيفية بناء ثقافة الإنسان العربي بإنتاج ثقافة تدعو للتأمل والإبداع والتفكير والفهم والتحليل والنقد. وليكن شعارنا التعليمي هو تعلم كلّ ما هو عالمي مبدع ليكون في خدمة كل ما هو وطني أصيل.
 لا شك في إنّ هناك حاجة إلى العمل على خلق ثقافة عربية عامة مدنية وحديثة تصلح كإطار عام يجتمع حوله جميع من يعيش في العالم العربي، بشرط أن تبنى هذه الثقافة على قيم إنسانية بعيدة عن مظاهر التعصب والعنصرية، وتتجاوز الثقافات التقليدية السائدة. وكل ذلك ممكن حدوثه بشرط توفر الإرادة والرغبة الحقيقية في التحديث الفكري والثقافي والتخلي عما لا يتفق مع العصر، وتبني العلم والمعرفة والعقلانية كأسس للمجتمعات العربية، والتحول إلى مجتمعات منتجة، بدلاً من بقاء المجتمعات العربية كمجتمعات مستهلكة لأفكار ومنتجات الآخرين المادية والفكرية، وهذا التحول سيؤدي إلى خلق ثقافة مدنية حديثة ذات طابع إنساني، أي من نتاج الإنسان لا من نتاج الطبيعة. وهذه الثقافة لا بد أن يتخللها مظاهر ثقافة المواطنة والقانون والحفاظ على حقوق الإنسان العربي والدفاع عنها، وإشاعة قيم الحرية المختلفة التي تمهد للتطوير الذي لا يقف عند حد ما.
 نحن في أمس الحاجة إلى تبنى ثقافة المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان استجابة لمتطلبات التحرير والتنمية والتحديث. وضرورة العمل على تنمية بعض القيم مثل الإيمان بأهمية العلم كقيمة، والاهتمام بالتفكير العلمي، وأهمية استخدام العلم الاستخدام الأمثل، وخاصة في إطار التعامل مع البيئة والعمل على حمايتها، والإيمان بقدرة العلم على الانتقال بالشباب وبمجتمعهم من التخلف إلى التقدم، وتقدير قيمة الوقت وقيم النظام والتنظيم والتخطيط السليم وتحمل المسؤولية في إدارة شؤون الحياة ومجالاتها، بدءاً من محيط الأسرة إلى موقع العمل إلى المشاركة في الحياة العامة، فضلاً عن الإيمان بقيم المواطنة والحرية وحقوق الإنسان، لأنها تمثل البيئة السليمة لتحقيق التقدم والتحديث لمجتمعاتنا العربية.
الهوامش                          
1- مايكل ديننج، الثقافة في عصر العوالم الثلاثة، ترجمة أسامة الغزولي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2013، ص 33.
2 - نبيل علي، الثقافة العربية وعصر المعلومات، سلسلة عالم المعرفة، ع (276). المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2003، ص 43.
3- كمال عبد اللطيف، "الثقافة حرية وتنمية"، مجلة العربي، العدد 710، 2018، ص 25.
4 - خالد صلاح حنفي، بضع كلمات في الثقافة، نشرة أفق، عدد (135)، مؤسسة الفكر العربي، بيروت، 2022، ص 1.
5 - إيمان المومنى، "وقفة بين الثقافة والعولمة"، صحيفة الشرق، 21/7/2016.
6 - عبد اللطيف، ص 25.
7 - عبد الرازق الداوي، في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات: حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2013، ص 172.
8 - حامد عمار، المرشد الأمين لتعليم البنات والبنين في القرن الحادي والعشرين، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2015، ص 222.
9 - الداوي، ص 17.