أيار 02
مقدمة
    أود في البداية أن أشير الى عنوان هذه المادة والمنهج المستخدم فيها، فالإشارة الى عصر التطرف في العنوان قد يذكِّر القارئ بعنوان الكتاب الأخير من رباعية هوبسباوم (عصر التطرف) The age of extremes . وكان هوبسباوم قد كتب قبل ذلك (عصر الثورة) 1789ـ 1848، و(عصر الرأسمال) 1848ـ1875، و(عصر الإمبراطورية) 1875ـ 1914، علما أرى ان التطرف والعنف الملازم له، لم يكن سمة العصر الأخير بل السمة المشتركة للعصور الأربعة.
أما أساس المنهجية فلا يتعدى الفكرة الماركسية التي تؤكد على إمكانية قراءة التاريخ وتحليل فلسفته والنظر اليه بمنظور كلي، وهذا يعني في الظرف الراهن أن ننظر الى العالم بترابطه وكافة تعقيداته، وعدم تصور تواجد مجتمعات منفردة وجزر معزولة في المعمورة.
ان عالم اليوم المليء بالتناقضات والصراعات بحاجة الى بدائل واقعية مبنية على تصورات جديدة تحقق التوجهات لضمان الأمن العالمي والتنمية العالمية عبر تفاعل الحضارات العالمية في مواجهة التخلف والفجوة الحاصلة في التنمية وخطابات التفوق الحضاري وصدام الحضارات.
وفق هذه المنهجية، أشير الى النقاط الاتية:
1ـ قراءة الحرب في غزة وفق منظور هوية المجتمعات المتنازعة والصراعات المحلية والأسباب الداخلية التي تديم أمد النزاعات.
2ـ تجنب النظرة التجريدية لطبيعة النزاع، أو السعي لقراءته وأسباب ديمومته من خلال فصل النزاع عما يجري من تناقضات و صراعات في الشرق الأوسط، سواء ما يتعلق بالخلفية التاريخية للصراع وانشاء الدول المعاصرة في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى والثانية. وما جرى من مستجدات بعد نهاية الحرب الباردة واعلان القطبية الواحدة، وما تلاه من نشوء اقطاب إقليمية منها تركيا وايران وتأثيره على الحرب الأخيرة في غزة، وبالأخص ما يتعلق بدور ايران في المنطقة وتأثيره كقطب إقليمي في كل من لبنان وسوريا واليمن والعراق، إضافة الى صراع ايران مع كل من الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل. وتتكامل هذه اللوحة مع ظهور بدايات الانتقال الى التعددية القطبية وأثر ذلك على طبيعة الصراعات في الشرق الأوسط.
3ـ تجنب البحث في ما يحدث من احداث دامية، بعيداً عما يجري من متغيرات في العالم المعاصر، أو التعامل مع ما ورثه العالم في القرن الحادي والعشرين من مشاكل ونزاعات لم تحسم وفق إرادة الشعوب وبما يخدم السلام والتقدم والتنمية والفوز المشترك للجميع في القرن الماضي.
4ـ متابعة أسباب الحرب ومآلها في غزة بالتزامن مع متغيرات النظام الدولي المعني بطبيعة التفاعل بين الوحدات على أساس عدد القوى المركزية في النظام الدولي، في ما يتعلق بالقطبية الواحدة أو التعددية القطبية، وأثر ذلك على تطبيق مجموعة الضوابط القانونية والعرفية التي تعمل وحدات النظام الدولي وتتفاعل على أساسها وتمثل دستور العلاقات الدولية.
غزة وخلفيات الصراع في المنطقة
أما ما يتعلق بالحرب الأخيرة في غزة من حيث توقيتها وطبيعتها، فلا يمكن النظر لها بشكل مجرد بعيد عن الوضع السياسي العام في المنطقة والصراعات الدولية والإقليمية الجارية فيها. ففي السنوات الأخيرة، لم تتعلق بؤر التوتر في المنطقة بالقضية الفلسطينية فقط. ففي سوريا تدعم ميليشيات حزب الله الإيراني والعراقي واللبناني نظام الأسد، وتقصف الطائرات الإسرائيلية هذه الميليشيات على مرّ السنين، وتشن تركيا حرب الابادة بشكل مستمر في {غرب كردستان} شمال شرق سوريا، بالإضافة إلى هجمات تركيا وإيران في إقليم كردستان العراق. كما أنشأ حزب الله دولته العميقة في لبنان ويقوم بإطلاق الصواريخ بين الحين والآخر على إسرائيل، كما اتهمت الحكومة الإيرانية إسرائيل بالانفجارات التي حدثت في السنوات الأخيرة داخل إيران. وفي السنوات الاخيرة، تم تنفيذ عملية تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعديد من دول الخليج.
عجز المجتمع الدولي عن معالجة الأزمات
ان جملة النقاط الواردة في منهجية تناولنا للموضوع تشير الى عجز المجتمع الدولي عن إدارة الأزمات وتجنب الحروب أو انهائها حال حدوثها. وللتأكيد على هذا الاستنتاج أشير الى ما يأتي:
أولاً/ انتهى القرن العشرون وانتقلت النزاعات والصراعات وبؤر التوتر وأخطرها بقايا الحروب الدائرة فيه والحروب الجديدة الى القرن الحادي والعشرين. وترتبط هذه الحروب بأزمة الرأسمالية المعاصرة وبالأخص سبل النيوليبرالية والاوليكارشيات الحاكمة في المراكز الرأسمالية، والنخب الحاكمة المرتبطة بها أو المناوئة لها في الرأسماليات التابعة لمعالجة أزماتها وإدارة صراعاتها من خلال الحرب.
من جانب آخر ترتبط بعض هذه النزاعات بنضالات الشعوب المناضلة من اجل التحرر والاستقلال الوطني.
شهد العالم من الحرب العالمية الثانية الى عام 2020 أكثر من 285 نزاعاً عسكرياً، منه 122 حربا أهلية، تحولت 83 منها الى حروب بين دول، إضافة الى 35 حربا بين دول، و45 حربا ضد منظمات أجنبية. وضمن هذا السياق تم ادخال الكفاح المسلح للشعوب ضمن الحروب الأهلية، ومنها نضال منظمة التحرير الفلسطينية قبل تأسيس حماس.
ثانياً/ تتسم الحروب الحالية بمتغيرات سياسية وتكنولوجية حيث تستخدم القنابل الذكية وتزداد المخاطر على حياة المدنيين، وتدمير البنية التحتية والبنايات السكنية والمؤسسات الاقتصادية، بحيث تصل الى مديات تدمير مدن بكاملها. فعلى سبيل المثال لنرى ما حصل في أوكرانيا من تدمير للمدن ونزوح للمدنيين، وما جرى ويجري في غزة من قتل وأسر للمدنيين من قبل حماس وقصف المدنيين ومقتل آلاف الشيوخ والأطفال والنساء وتهجيرهم من شمال غزة من قبل القوات الإسرائيلية. كما يجب أن نذكر ما جرى للأيزيديين والأيزيديات بأيدي دولة الخلافة الإسلامية (داعش).
ثالثاً/ لا تستخدم في هذه الحروب القوى التقليدية للدولة، حيث تقوم أمراء الحروب والمليشيات الحزبية والشركات الأمنية بمهام الجيوش النظامية، ومن أمثلة ذلك "فاغنر" في الحرب الروسية ـ الاوكرانية، ميلشيات الحشد الشعبي، ميلشيات المقاومة الإسلامية في المنطقة، حروب الميلشيات في سوريا، الشركات الأمنية، داعش.
رابعاً/ في خضم الحروب الحالية توجد الامكانية العسكرية لمجموعة مسلحة أو لميليشيا قليلة العدد خارج سيطرة الدولة، أن تلعب دور الدولة العميقة، وأن تقوم باحتلال منطقة جغرافية واسعة، (نموذج داعش وتأسيس دولة الخلافة الإسلامية على سبيل المثال).
خامساً/ ان التطور الكبير والخطر في مجال تكنولوجيا السلاح وتجارته جعل بإمكان الحصول على أسلحة متطورة ومدمرة من قبل مجاميع ميلشياتية إرهابية ومتطرفة وإمكانية استخدامه في النزاعات القائمة.
وعلى العموم يمكن القول بأن العالم يعيش منذ القرن العشرين وحتى الآن في ظل الحرب الباردة والحروب "الحارة". وقد شهد العالم في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين حروبا عديدة ونزاعات مسلحة في العراق، سوريا، ليبيا، اليمن، السودان، اثيوبيا، أوكرانيا، إضافة الى مناطق أخرى.
ان جملة النقاط الواردة أعلاه أوجدت حالة إرهاب الدولة المنظم وإرهاب المنظومة السياسية، ووفق هذين المفهومين والنقاط المشارة لها كيف يجري تصنيف جملة من تلك العمليات العسكرية والتكييف القانوني والسياسي لها. وعلى سبيل المثال هجوم حماس في السابع من أكتوبر، ورد الفعل الإسرائيلي والقصف الدامي ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة من قبل الجيش الإسرائيلي، والعمليات العسكرية للعصابات الفاشية في أوكرانيا منذ عام 2014 وكذلك العمليات العسكرية لفاغنر والجيش الروسي، والحرب بين أطراف النزاع ومساهمة القوات الأجنبية وميلشيات الدول الاقليمية في سوريا، إضافة الى إرهاب الدولة المنظم ضد المناوئين وحملات الإبادة ضد المدنيين؟
 
الأسباب الحقيقة لديمومة التوتر والحروب
تثير هذه اللوحة الدامية من النزاعات المسلحة والحروب أسئلة عديدة حول مخاطر استمرارها، وخاصة ونحن نقترب من تجاوز الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، إضافة الى أسئلة تتعلق بالأسباب الكامنة وراء استمرار الحروب والنزاعات المسلحة.
وأرى ان الأسباب الحالية التي تديم بؤر التوتر والحروب هي:
1ـ فشل المجتمع الدولي والمنظمات الدولية الاساسية ومنها الأمم المتحدة في حل النزاعات بشكل سلمي في ظل فقدان آلية فرض الحلول، أو تطبيق المشاريع الدولية التي تدعو الى السلم. فعلى سبيل المثال لم يجر تطبيق قرار الأمم المتحدة منذ عام 1948 حول حل الدولتين، إضافة الى القرارات الدولية الأخرى واتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل.
2ـ تراجع التيارات الفكرية الداعية الى التنوير في ظل إشكاليات الحداثة وتزايد تأثير ونفوذ التيارات الدينية. فبالنسبة للقضية الفلسطينية استطاعت حماس وهي منظمة دينية إسلامية، السيطرة على غزة وطرد السلطة الوطنية الفلسطينية عام 2007، فيما تشهد إسرائيل تعاظم نفوذ التيارات الدينية اليهودية والأحزاب اليمينية في الحكم.
3ـ ضعف قوى اليسار في العالم، وفقدان الرؤية المشتركة في النظر الى المتغيرات واتخاذ الموقف من الاحداث، ما أثر على عدم بلورة حركة سلام عالمية مؤثرة على الرأي العام العالمي والدول والمنظمات الدولية. فرغم الظروف الموضوعية التي تشجع على قيام حركة سلام في أوروبا ضد الحرب في أوكرانيا على سبيل المثال في ظل الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الحرب وتأثير ذلك على بلدان الجنوب والدول الأوروبية، فان مواقف الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمية والأحزاب اليسارية حول الحرب الروسية ـ الأوكرانية تنقسم الى ثلاثة مواقف متباينة، كما تنقسم مواقف الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية الى موقف مؤيد لحل الدولتين، وموقف مناوئ لهذا الحل عبر التأكيد على دولة فلسطينية فقط.
4ـ دور الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في تداول خطاب شعبوي مبني على رفض وإلغاء الآخر، وخاصة إذا كان موضوع البحث في اطار التعبير عن الرأي والموقف السياسي. يأتي تعامل الخطاب العربي بشكل عام في الموقف من المفكر هابرماس وموقفه من الحرب في غزة ونعت موقفه (بسقطة هابرماس) نموذجا في هذا السياق.
5ـ زيادة نفوذ القوى اليمينة في أوروبا. فعلى سبيل المثال استطاعت القوى اليمينية الفوز في الانتخابات في كل من السويد وهولندا والدنمارك وهنغاريا وإيطاليا، بالتزامن مع ظاهرة كره الأجانب والتشدد في قوانين الهجرة.
ان قراءة متأنية للوضع القائم في المراكز الرأسمالية والرأسماليات التابعة في ظل المؤشرات أعلاه، وبسبب غياب السياسات البديلة، خلقت الأجواء المناسبة للقوى اليمينية والفاشية القديمة والقوى التي توظف الدين في العمل السياسي والمنظمات المتطرفة والارهابية، أن تتصدر المشهد السياسي في وقت أصبح القانون الدولي والنظام الدولي الحالي عاجزين عن إيقاف الإرهاب بكل تجلياته واطفاء بؤر التوتر وانهاء النزاعات وإيقاف الحروب.
الأسباب الاقتصادية للأزمة
على العموم يبدو القرن الحادي والعشرون متواجدا في ظل فوضى عالمية عارمة وشاملة، مفتقراً الى آليات واضحة وناجحة لضبط الأزمات وادارتها ومعالجتها.
وبهذا الصدد لا يمكن اغفال العوامل الاقتصادية المسببة لذلك الفوضى، ومنها:
1ـ تزايد الفجوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير.
2ـ الآثار السلبية لأزمة الرأسمالية العالمية على الطبقة الوسطى عالميا التي تدهور وضعها بسبب التخلي عن مفهوم "دولة الرفاه" في أوروبا، وتبعية اقتصاديات دول الشرق الأوسط الريعية للمراكز الرأسمالية. وتستثنى الطبقات الوسطى في كل من الصين واليابان وكوريا الجنوبية من تلك الحالة.
3ـ انبثاق الحركات الاعتراضية والاحتجاجات ضد الوضع القائم في ظل غياب برنامج واقعي بديل لمعالجة الأزمات، قائم على تشخيص ماهية الأزمة وسبل معالجتها، ما وفرت الأرضية المناسبة لإنتاج نازيين جدد وقوى دينية متطرفة وإرهابية.
 
مستجدات موضوعية تفتح آفاقاً للتغيير
ان هذه اللوحة المعقدة والمركبة الشائكة المشارة لها ليست نهاية المطاف، ففي عمق هذه الأزمات والفرز المتوقع للقوى الاجتماعية على صعيد المجتمعات القائمة والمتغيرات في الوضع الدولي، تتواجد وتنخلق فرص جديدة للمواجهة وطرح البديل.
تستند إمكانيات التغيير على قدرة المجتمع من جهة وإمكانية المجتمع الدولي بشكل عام على تصحيح مساراتها متجاوزا السكون والثبات والبحث عن بدائل واقعية تستجيب لما حدث من تغييرات موضوعية على الصعيد العالمي ككل.
ان قراءة واقعية للمستجدات تفتح امام القوى التواقة الى تحقيق تغيير نوعي يتجاوز التبعية ويحقق التنمية والأمن المشترك، آفاقاً نضالية واسعة مبنية على عوامل موضوعية تغتني بتفعيل العوامل الذاتية الكامنة وراء التغيير.
ان قراءة متأنية للمستجدات الموضوعية تدعونا للإشارة الى ما يأتي:
1ـ التوسع المستمر في مشاركة الكيانات الدولية في العولمة بشكل واضح. الأرقام الاتية تشير الى ما يأتي:
ـ حسب احصائيات المؤسسة الاقتصادية السويسرية KOF   كان بعدد الدول التي وصلت الى ما فوق 60 نقطة في مؤشر العولمة، 14 دولة في عام 1970. وقد وصل العدد عام 2021 الى 98 دولة.
ـ ارتفع عدد حالات الدمج بين البنوك من 247 حالة عام 1985 الى 1.316 حالة عام 2020.
ـ تعمل 338 شركة أمريكية كبرى في الصين، منها 90 شركة تبيع كل انتاجها داخل الصين، وهناك 2.400 شركة في الولايات المتحدة الأمريكية يسيطر عليها رأس المال الصيني.
ـ ان 19% من ديون الولايات المتحدة الامريكية هي صينية، وتبلغ 1.17 مليار دولار. ويعمل 2.6 مليون موظف أمريكي في شركات تنتج سلعا للأسواق الصينية.
ـ ينعكس توسع العولمة في ان 60 ألف شركة متعددة الجنسيات لها نصف مليون فرع وتسيطر على نصف التجارة العالمية.
2ـ تؤثر المؤشرات المرتبطة بالعولمة على التوجهات المرتبطة بإدارة العلاقات الدولية في ظل المتغيرات الحاصلة للقوى الاقتصادية المهيمنة والمتغيرات في الهرم السكاني والتمركز الكبير داخل المدن والتطور السريع في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ومشاكل البيئة والمناخ وأزمة الطاقة.
3ـ تشكل العلاقات الدولية في الوقت الحاضر شبكة عنكبوتية بعكس مفهوم "كرة البليارد" في العلاقات الدولية التي تعتمد على مسألة رد الفعل. تحتاج شبكة العلاقات الدولية المعاصرة الى اللعبة اللاصفرية Non zero -sun Gam في العلاقات الدولية التي تستند على التوافق والتناغم بين المصالح، بعكس اللعبة الصفرية Zero sum game التي تستند على ما يكسبه طرف معين يشكل خسارة مساوية للطرف الآخر.
يساهم المنظور اللاصفري في العلاقات الدولية والمتغيرات المتعلقة بالمرحلة الانتقالية نحو اعلان التعددية القطبية بشكل رسمي، وفشل نموذج الليبرالية الجديدة في تحقيق التنمية العالمية وبناء السلام، في وضع عالم اليوم أمام منعطف طرق.
فأمام العالم أن يختار بين الوحدة والتفكك، وبين الانفتاح والمواجهة. وضمن هذه المعادلة الشائكة تتجلى ضرورة الحوكمة في العلاقات الدولية.
4ـ تحتاج الإشكاليات والتحديات الحالية في الوضع الدولي والسياسة الدولية المهيمنة الى صياغة إستراتيجيات عالمية جديدة، تواجه نزعة الهيمنة وسياسة القوة وتعزز تطور النظام الدولي نحو اتجاه أكثر عدلاً وعقلانية.
لقد نجح الحزب الشيوعي الصيني في صياغة مفهوم "مجتمع المصير المشترك للبشرية" وبلورة العلاقة الديالكتيكية بين التنمية العالمية والأمن العالمي ومبادرة الحضارة العالمية عبر التأكيد على جملة من الأمور منها:
ـ ربط مفهوم التنمية الدولية بالتوجه نحو الابتكار والتناسق والفوز المشترك وتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي وتضييق فجوة التنمية، وتحقيق المنفعة المتبادلة.
ـ ممارسة الأمن المشترك من خلال التعاون والاستدامة ونبذ عقلية الحرب الباردة والمجابهة الجماعية والتضحية بأمن الشعوب والدول الأخرى.
ـ التأكيد على حوار الحضارات وتفاعلها، وقد أعلن الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني في 15 آذار 2023 مبادرة الحضارة العالمية التي تؤكد على المساواة والتعلم والاستفادة المتبادلين والحوار والشمول، لتجاوز الجفاء وتصادم الحضارات ومواجهة التفوق الحضاري.  
5ـ ان العصر الجديد والمتغيرات الجديدة يتطلبان فكراً جديداً وسياسة جديدةً تستند على الحوكمة العالمية لفتح آفاق جديدة في السياسة الدولية، من أجل عالم أفضل مبني على الانصاف والعدالة والتوافق والعيش المشترك واحترام التعددية والتعلم من المقابل والتضامن الدولي بين الشعوب واحترام إرادة الشعوب في تقرير مصيرها واختيار طريقها المبني على الارادات الذاتية في تحقيق التنمية والمشاركة في التنمية العالمية.
تساؤلات ومراجعات مطلوبة
في سياق هذا الوضع الدولي المتأزم حالياً، والفشل الواضح في إدارة الازمات ومعالجتها يثير الحرب في غزة ومن خلال طبيعة الأطراف المشاركة فيه وخلفية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، تساؤلات عديدة منها:
1ـ كيف تقيّم حركات التحرر الوطني ممارساتها ونضالاتها، وهل يسمح نهج الكفاح المسلح من أجل التحرر بممارسة عمليات قتل وأسر المدنيين والأطفال والنساء والتعامل معهم كرهائن، أو التجارة بالمخدرات والعمليات الانتحارية؟
وعلى هذا الأساس كيف يتم تكييف طبيعة حماس وطالبان والحركة المسلحة السابقة في كولومبيا؟َ!
2ـ تواجه حركات التحرر الوطنية اختبار الحفاظ على استقلاليتها وعدم الانجرار والدخول الى استقطاب دولي وإقليمي، لتصبح كماشة في الصراعات الدولية والإقليمية، ويتم النظر اليها كونها تخوض حرباً بالوكالة.
3ـ لا يمكن وصف رد الفعل العسكري الإسرائيلي بعد هجمات السابع من أكتوبر سوى تصنيفه في خانة إرهاب الدولة المنظم.
ورغم اختلاف المواقف الدولية والإقليمية، ومواقف الدول والأحزاب السياسية العربية، فإن هذه الحرب تظهر لنا بعض الحقائق، منها: ان القبة الحديدية الإسرائيلية التي من المفترض أن تعرقل الصواريخ الموجهة الى إسرائيل إضافة الى الترسانة العسكرية الاسرائيلية والمعدات المتطورة والأجهزة الأمنية وسياسات الاستيطان والتغيير الديمغرافي، لم تكن باستطاعة كل هذه الأمور من توفير الامن والسلام لإسرائيل، وهذا درس بليغ لكل الحكومات والسلطات التي تتصور بان لديها القدرة على تركيع الشعوب التواقة للتحرر من خلال القمع، واستخدام القوة وسياسات التغيير الديموغرافي.
وفي الوقت نفسه، فإن الخيار العسكري في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لم يسهم في ممارسة الضغط لاختيار بديل التفاوض والسلام او فرضه، والذي يمكن من خلاله إعلان الدولة الفلسطينية، وبالإمكان التركيز على أساليب النضال والمقاومة الجماهيرية الفاعلة مع ايماننا بحق الشعوب كافة في اختيار اشكال النضال الوطني من اجل التحرر وحق تقرير المصير والتأكيد على مراعاة سلامة المدنيين من مختلف الأطراف المتنازعة في حالة التوترات والنزاعات المسلحة.
 اننا نرى بأن الخطوة الأولى والاساسية في تفعيل المقاومة الجماهيرية تبدأ بوحدة الفلسطينيين، أي وحدة القرار الفلسطيني وليس بتقسيم السلطة الوطنية الفلسطينية بين منطقتين، بين الضفة الغربية وغزة، وتقسيم السلطة الفعلية بين فتح وحماس، وعدم إمكانية اجراء الانتخابات وما نجم عنها من شلل في المؤسسات الفلسطينية.
إن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والوضع في منطقة الشرق الأوسط عموما بحاجة إلى مبادرة دولية لإيقاف القتال الدائر الان في غزة وانهاء تبادل الأسرى والمدنيين والتركيز على تطبيق القرارات الدولية وبناء سلام دائم على أساس حل الدولتين. لذا لا يمكن النظر إلى عدالة القضية المشروعة للشعب الفلسطيني وضرورة الحل السلمي لهذه القضية في الدائرة المغلقة للصراع كالذي حدث في غزة، فللفلسطينيين الحق في أن تكون لهم دولتهم الوطنية المستقلة، وللإسرائيليين الحق في العيش بأمان في دولتهم. ومن ناحية أخرى، فإن إثارة الرأي العام في المنطقة ضمن زعيق خطابات الكراهية وفق وعي مشوه، يساهم في اذكاء نار الحرب، وهي ليست السبيل المناسب لدعم الشعب الفلسطيني والتضامن معه لإقامة دولته الوطنية الخاصة والتضامن والدعم لقضية السلام وتعايش الشعوب في منطقة الشرق الاوسط.
إن الطريق إلى السلام والأمن والتنمية والتعايش بين الأمم وشعوب الشرق الاوسط يبدأ باحترام القرار المستقل للشعوب وارادتها الحرة.