أيار 02
 
الدكتور حسن الجنابي من مواليد 1955، غادر العراق عام 1979 لأسباب سياسية، مهندس أقدم في علم المياه (الهيدرولوجي) سدني/ أستراليا حتى عام 2003. مستشار في وزارة الموارد المائية (2003 - 2008)، مندوب العراق لدى منظمات الأمم المتحدة (منظمة الاغذية والزراعة الدولية/ فاو، وبرنامج الاغذية العالمي/ دبليو أف بي، وصندوق التنمية الزراعية الدولي/ ايفاد) في روما في الأعوام (2009-2014)، وزير الموارد المائية (2016 - 2018)، سفير العراق في تركيا (2019 - 2020).
 
الثقافة الجديدة: تشكل المياه العذبة الصالحة للاستعمال البشري ما يقارب 1 بالمائة من حجم المياه الكلي على الكرة الأرضية. وبحسب منظمة الفاو تستحوذ الزراعة على ما يقارب 70 بالمائة من مجموع استخدامات المياه العذبة، مقابل 20 بالمائة للصناعة و10 بالمائة للشرب والاستعمالات المنزلية. وعاما بعد عام تتزايد الحاجة الى المياه العذبة بسبب ارتفاع عدد السكان العالم وكذلك بسبب التغيرات المناخية. وبالتالي فإن التنافس على المياه العذبة، هذا المورد المحدود، يمكن ان يؤدي الى نزاعات وصراعات قد تهدد استقرار العديد من البلدان.
وفي هذا المجال، يبدو ان بلاد الرافدين تواجه ازمة جدية ومخاطر كبيرة، وربما هي ازمة وجودية. حيث هناك انخفاض حاد ومستمر، وبوتيرة متصاعدة في تدفق المياه، خصوصا من نهري دجلة والفرات وروافدهما، وقلة سقوط الأمطار ما تسبب في تدني يكاد يكون هائلا في مستوى الخزين المائي. حتى البحيرات والمسطحات المائية والاهوار تكاد تتلاشى.
بعيدا عن الضجيج الذي يتسبب به البعض، والمعلومات المتضاربة تارة والمضللة تارة أخرى، نستفسر:
 هل نحن مقبلون فعلا على كارثة؟ ليست زراعية وبيئة فقط بل وإنسانية أيضا... حيث ستمسي بلاد الرافدين بلا رافدين خلال بضعة عقود، كما تقول بعض التقارير؟
وما هو الوضع الحقيقي لتدفق المياه السطحية في العراق من ناحية: حجم الإيرادات المائية، والخزين المائي الاستراتيجي، والعدد الحقيقي للأنهار التي قُطعت عن العراق؟
حسن الجنابي: نعم، الوضع مقلق طبعاً، لأن الطلب على مياه الرافدين في زيادة مستمرة في البلدان الأربعة العراق وسوريا وتركيا وإيران. والزيادة ناتجة عن الحاجات الإقتصادية والزراعية والصناعية وبالطبع المنزلية وهذه ترتبط بالتنمية والزيادة السكانية وغيرها.
المشكلة هي ان العرض (المياه المتكونة في حوض النهر) ثابت في ظل زيادة الطلب. أقول ثابت ليس بمقاييس موسمية او سنوية بل كمعدل على مدى زمني أطول. على سبيل المثال معدل تصريف نهر الفرات على الحدود العراقية السورية يبلع 30 مليار متر مكعب على مدى القرن الماضي (عندما كان الجريان حراًّ أي قبل انشاء السدود التركية والسورية) فمهما زاد الطلب علي مياه الفرات لا يمكن رفع المعدل السنوي الى 50 مليار متر مكعب مثلاً. بالطبع قد يصل التصريف السنوي في سنة فيضانية الى 40 مليارا او أكثر وفي سنة شحيحة الى 10 او 15 مليارا، وهذا لن يغير من المعدل على مدى 100 عام مثلاً.
لتبسيط الأمر يمكن زيادة الكثافة الزراعية في الحوض النهري، أي زيادة الإنتاج الزراعي، ولكن لا يمكن زيادة كمية المياه في الحوض لأنها ثابتة. بالطبع يمكن ادارتها واعادة توزيعها حسب التوقيتات والمواقع وغير ذلك. وعموماً فان كمية المياه على الكرة الأرضية ثابتة لكن كمياتها متغيرة في المكان والزمان بين دولة واخرى او قارة وأخرى.. الخ.
وعلى ذكر نهر الفرات، فقد انحدر معدل ايرادات العراق السنوية على الحدود العراقية - السورية من 30 مليار متر مكعب الى حوالي 15 مليارا، نتيجة لزيادة الطلب والاستهلاك في تركيا وسوريا. قد يكون هناك تأثير طفيف للتغير المناخي أيضاً لكنه لا يقارن بحجم التأثير الناتج عن التدخل البشري وزيادة السيطرة والاستهلاك وغير ذلك.
عموما، لا يوجد شيء اسمه "خزين استراتيجي" للمياه فهو مثل أي مورد او ثروة أخرى تخضع للاستهلاك حسب حاجة المجتمع، والحكمة ليست في الحفاظ على "خزين استراتيجي" بل في الإستخدام المستدام للمورد سواءً كانت مياه سطحية ام جوفية. فلا يجوز استنزاف كميات المياه المتوفرة في البلاد لأن ذلك يؤدي الى كارثة. يجب بالطبع تخزين الزيادات عن الحاجة الى مواسم الشحة او الندرة ولكن هذا لا يسمى "خزين استراتيجي".
أما بخصوص ايران، فإن أغلب الأنهار القادمة منها مسيطر عليها حاليا من قبلها. أي ان جريانها لم يعد طبيعياً وهذه مشكلة كبرى لأن هذه الأنهار متفق بشأنها في السابق بل ومنذ بداية القرن العشرين في بعض الحالات. وكالعادة لم يجر احترام الإتفاقات السابقة وليس من السهل التكهن بمصيرها مستقبلاً.
 
الثقافة الجديدة: يصارع العراقيون منذ سنين التداعيات العميقة لأزمتين متشابكتين، هما: المشكلة الزراعية، والازمة البيئية. وهي تداعيات ذات مضامين وتجليات كبيرة وعلى مختلف الأصعدة: اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. ودون التغاضي عن ان هناك الكثير من الأسباب والمفاعيل والعوامل التي أدت الى هاتين الازمتين المتداخلتين، لكن من الواضح للقاصي والداني ان كلتيهما مرتبطتان ومتداخلتان بشكل لا انفصام له مع ازمة الموارد المائية في البلاد، التي تحدثنا عنها في السؤال السابق. فقد زادت حدة الجفاف في السنوات الاخيرة بسبب ارتفاع درجات الحرارة وقلة الامطار وانخفاض مناسيب نهري دجلة والفرات. وبالتالي أصبح العراق من أكثر البلدان تصحرا وتدهورا في خصوبة أراضيه، فالعراق ـ بحسب المعنين ـ يفقد سنويا 100 ألف دونم من أراضيه الزراعية، والصحاري تشكل الآن ما يقارب 39% من مساحته، وهي في تزايد مستمر.
هل لك ان تستعرض لنا بشيء من التفصيل الأثر الحقيقي لانخفاض كمية الموارد المائية على قضايا الزراعة والبيئة في العراق.. 
 
حسن الجنابي: الزراعة في العراق زراعة اروائية، أي انها تعتمد على الارواء ووفرة المياه بسبب قلة التساقط المطري. وبما ان العراق عرف تاريخياً بغزارة المياه فقد اعتاد السكان ومنذ القدم على التعاطي مع الوفرة كتحصيل حاصل ولم ينتبه المجتمع الى اهمية التقليل من الهدر. بل حتى النشاطات الزراعية السيحية كانت مفيدة لجهة تكوين اراض رطبة ومستنقعات نظيفة اي أهوار موسمية وخاصة في مواسم زراعة الرز في مناطق الفرات الأوسط. ومن الضروري الإنتباه الى ان تأثير النشاط الزراعي قبل خمسين عاما مثلاً وعبر التاريخ الذي سبق تلك الفترة كان ايجابياً على البيئة. فقد كان الغطاء الأخضر واسعاً بما فيه من غابات ونخيل وأشجار مثمرة وغير مثمرة وكانت الفيضانات السنوية في مواسم الربيع تمنح الأرض المزيد من الخصوبة.
مع الزحف البطيء لمنشآت السيطرة الهيدروليكية وتناقص ايرادات العراق، وزيادة وتائر التلوث وضعف او انعدام الوعي البيئي استفحلت ظاهرة التلوث وتفاقمت ممارسات التلويث بما فيها من قبل مؤسسات حكومية يفترض ان تكون أكثر حرصاً على نوعية المياه والبيئة. الى جانب ذلك انتشر استخدام المبيدات والأسمدة الكيماوية الملوثة وضعفت اجهزة تطبيق القانون وانتشرت ممارسات تجريف البساتين اللاقانونية فاستفحلت ظاهرة التصحر وتقلصت المساحات المزروعة، مقابل تمدد وتوسع العشوائيات والمجمعات السكنية الناتجة عن صفقات فاسدة لم تراع فيها القوانين النافذة.
عموماً، فإن القطاع الزراعي العراقي هو قطاع خاسر اقتصادياً ولا يمكن استمراره لولا الدعم الحكومي منذ حوالي 50 سنة. وللإستدراك هنا فإن الدعم الحكومي سلاح ذو حدين. فمن جهة هو مطلوب لحماية فقراء الفلاحين وحتمية التدخل الحكومي لدعمهم، وهذا أمر واجب على الحكومة. ومن جهة أخرى، وهذا ما يظهر غالباً، فإن المستفيدين من الدعم الحكومي هم الوسطاء والسماسرة والملاكين من ذوي العلاقات "المؤثرة" وخاصة في زمن المحاصصة الحزبية والطائفية والمحسوبية وما يرافق ذلك وما نتج عنه من فساد.
 
الثقافة الجديدة: ارتباطا بالسؤال السابق، يبدو ان العراق خسر ما يمكن تسميته "حرب المياه" مع دول الجوار. وهي حرب خسرناها دون أن ندخلها ودون حتى ان تبدأ. حيث يبدو جليا ان ما بذلته الحكومات المتلاحقة من جهود في سبيل ضمان حصة عادلة ومنصفة من الإيرادات المائية ضئيل بصورة تبعث على الاستغراب.
فما زالت دولتا المنبع (تركيا وإيران) تسيطران على الموارد المائية وتحرمان العراق من حصته. فهما لا تلتزمان بالاتفاقيات الدولية ولا الثنائية، ولا تقيمان وزنا للآخر. وتنطلقان من حق مطلق للتصرف بالمياه التي تنبع من أراضيهما، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من سيادتيهما. وذلك دون النظر إلى الحقوق الإنسانية والتاريخية للآخرين. بل وحتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بهم.
ترى، ما هو تقييمك كمختص وكوزير سابق للموارد المائية في العراق وكسفير لدى تركيا للتدابير التي اتبعتها الحكومات العراقية المتلاحقة ومؤسساتها المتخصصة - وعلى وجه التحديد بعد 2003 - في التعامل والتفاوض مع دول المنبع؟
من جهة أخرى، ما هي الآليات الفنية والاجراءات السياسية التي يجب ان تتبعها الحكومة القادمة في تعاملها مع هذا الملف؟
 
حسن الجنابي: مقدمة السؤال فيها اشكالات وافتراضات بحاجة الى تدقيق. أما موضوعة السيادة فقد غادر القانون الدولي هذا الأمر إذ لا سيادة مطلقة على المياه المشتركة والعابرة للحدود. واذا اعتبرت المياه في دولة المنبع جزءا من سيادتها، فهي كذلك جزء من سيادة دولة المصب. الإشكالية الأخرى هي المتعلقة بـ "الحصص". على سبيل المثال لا احد يعرف حالياً ما هي "حصة العراق" التي وردت في السؤال (على الأقل رسمياً). كذلك لا احد يعرف ما هي حصص الآخرين. علماً ان مياه الرافدين وروافدهما برمتها كانت "حصة العراق" عبر التاريخ حتى اواسط السبعينات. لذلك فإن قضية الحصص ستبقى اشكالية لأنها تدخلنا في ارقام قد لا تحصل في الواقع المتغير هيدرولوجياً. أنا شخصياً أفضل النسبة المئوية للتعاون وتقسيم المياه المشتركة لأنها أقرب للعدالة. فمهما كان التصريف الطبيعي للنهر ستكون فيه نسبة محددة للعراق، وهي نسبة لم يتفق بشأنها حتى الآن، كما جرى بين العراق وسوريا بخصوص ما يتم رصده على الحدود التركية السورية حيث اتفق على نسبة 58 بالمائة منها للعراق مقابل 42 بالمائة لسوريا.
لقد حاولت ان أكسب الموقف التركي لهذه المقاربة، واعتقد انني نجحت من حيث المبدأ ثم داهمنا الوقت واستبدلت حكومتنا بحكومة عادل عبد المهدي قبل الإتفاق على النسب واختيار الموقع او المواقع التي يتم فيها رصد التصريف. من المؤسف أن الوزير الذي جاء به عبد المهدي لم يكن بقدر المهمة ولم يكن مدركاً للموضوع، ومعلوماته عن أنهار العراق والروافد والتصاريف والقوانين الدولية والعلاقة المائية مع الجوار ضعيفة جدا ان لم تكن معدومة، وقد اسهمت تصريحاته وأفعاله بتراجع العلاقة المائية الى السلبية. أما الوزير الحالي فخبرته محدودة وتتركز في الجانب التشغيلي اليومي للسدود، وتنقصه الرؤيا المستقبلية الستراتيجية ومتعلقاتها، سواءً ما تعلق منها بادارة المياه المشتركة أم بالقوانين الدولية للمياه أم الالتزامات النابعة من عضوية الإتفاقيات الإطارية الدولية الخاصة بالمناخ (UNFCCC) والتنوع الإحيائي (UNCBD) ومكافحة التصحر (UNCCD) وحماية الأراضي الرطبة (RAMSAR) وغير ذلك.
كذلك لا يوجد في القانون الدولي للمياه شيء يسمى "حقوق تاريخية مكتسبة"، بل أن هناك شيئاً واقعياً وصحيحاً في القانون الدولي هو حماية "الاستخدامات القائمة" وليست التاريخية. فطالما كان هناك استخدام للمياه قائم يجب ان يحترم عند البدء بمشروع جديد. أما الاستخدامات المندثرة فليس لها اعتبار في القانون، إلا بحدود تعلق الأمر بالآثار والتراث الإنساني.
للأسف لم تجر "مفاوضات" بشأن المياه الا بقدر محدود، بمعنى أنها كانت جزءا من مشاورات عامة او على مستوى لقاءات واجتماعات فنية الطابع، ولم ترقَ الى ان تكون مفاوضات. مما يؤسف له ان تركيا لا تدخل "مفاوضات" حول المياه لكنها مستعدة للإنخراط في نقاشات فنية او مشاريع مشتركة او تعاون في مجالات التدريب وتنمية القدرات. وهي كذلك لا تقبل بوجود طرف ثالث بل تدعو الى تعاون ثنائي، وهذا لا بأس به ان كان يؤدي الى اتفاق شامل مثلاً حتى وان كان على مستوى المبادئ، كما حصل عام 1946. وشخصياً لا أجد اي مبرر لتخلي العراق عن الصيغة المثلى للتعاون المائي بين البلدين الواردة في البروتوكول-1 الملحق بـ "معاهدة الصداقة وحسن الجوار" لعام 1946.
وبخصوص إيران يرتبط الملف المائي باتفاقية الجزائر عام 1975 ولم يحصل اي تقدم باتجاه تنفيذ البروتوكول الملحق بالاتفاقية والذي تضمن مبادئ جيدة جدا لقسمة المياه باعتقادي الشخصي. لكن العلاقة الشائكة بين البلدين منذ ذلك التاريخ الى الحاضر تعيق التنفيذ. هناك أيضا أمر ديواني برقم 103 يخص تشكيل لجنة فنية للتفاوض وتثبيت الحدود بما فيها في شط العرب، وهذه اللجنة ما تزال قائمة، ولكن ليست بالفعالية المطلوبة.
 
الثقافة الجديدة: بالتأكيد، وبسبب من طبيعة النزاع وتعنت دول الجوار، ستأخذ إجراءات التفاوض والتعامل مع دول المنبع وقتا طويلا من اجل ضمان الحصول على حصة عادلة من الإيرادات المائية. حتى ذلك الحين، ما زال التحدي الأكبر يتمثل في كيفية إدارة ملفات الزراعة ومياه الشُرب وسط هذا التناقص الحاد في الموارد المائية؟ لم نذكر الصناعة هنا لأنها لا تمثل حجما يعتد به من الاقتصاد العراقي!
وكيف يمكن إدارة ازمة البيئة والتصحر والجفاف من خلال كميات المياه المتوفرة!
بمعنى اخر، ما هي الآليات الضرورية من اجل تعزيز فعالية إدارة المياه؟ خصوصا في ظل اتباع الطرق التقليدية في ري الأراضي الزراعية والتي لا تواكب التطور الحاصل في هذا الميدان، وفي ظل تزايد كبير في أعداد السكان.
ومن جانب اخر، ما هو الدور الذي من الممكن ان يلعبه خزين المياه الجوفية الذي يمتلكه العراق؟ وفي ذات السياق، هل هناك جدوى فنية واقتصادية في الاعتماد على آليات تحلية مياه البحر؟
 
حسن الجنابي: القطاع الزراعي - المائي من القطاعات المتلكئة، والى حد ما غير المجدية اقتصادياً وهو يعتمد كلياً على دعم الدولة منذ نصف قرن. ويبدو أيضاً ان الأمر غير قابل للإصلاح في ظروف عدم الاستقرار السياسي والأمني وما يرتبط بهما من مخاطر اجتماعية كالفقر والبطالة والفساد وانعدام التكافؤ والعدالة الإجتماعية. تزداد شدة المخاطر على النسيج الإجتماعي مع زيادة الهجرة من الارياف الى حواشي المدن وأحيائها البائسة والعشوائية التي تنتشر فيها الأمراض وتنعدم فيها الخدمات تماماً. لا شك في أن مياه الشرب فيها نقص فادح على مستوى العراق في الكمية والنوعية. ولا يبدو ان الحكومات المتعاقبة قدرت حجم المخاطرة في اعتماد مياه الشرب على النظام النهري والإروائي. فلا توجد بدائل في البرامج الحكومية للتقليل من مخاطر الإعتماد على المياه الجارية التي تخضع الى سيطرة كاملة عن طريق السدود والسدات والنواظم، فضلاً عن التجاوز على الحصص بين الدول وعلى المستوى الوطني بين المحافظات. وشخصياً لا أرى بديلاً واقعياً للتخلص من مخاطر النقص الفادح في مياه الشرب، الا عن طريق مشاريع التحلية، وهذه المقاربة مهملة حالياً، وتشير بوصلة الاستثمارات الحكومية خطأً الى بناء المزيد من السدود التي ستبقى فارغة معظم الأوقات في ظل شح الإيرادات.
انا سبق ان دعوت عشرات المرات وعلى جميع المستويات الى ضرورة تحلية مياه البحر او المياه الجوفية إن كانت هناك رغبة حقيقية في معالجة مخاطر المستقبل. ولاحظت ان اموالاً طائلة هدرت في القطاع المائي في غير محلها، وهناك تقصير واضح في هذا الميدان.
 
الثقافة الجديدة: كلمة اخيرة، في العراق يبدو جليا ان الكثير من المشاكل التي تتطلب حلولا ذات أبعاد استراتيجية يتم تعطيلها وتعقيدها لأسباب ومنطلقات سياسية. من قبيل: الوهن والضعف الذي أصاب مؤسسات الدولة ومفاصلها المختلفة؛ الفساد المستشري فيها؛ الصراعات اللا مبدئية، التي تنطلق من مصالح سياسية وحزبية ضيّقة على حساب مصلحة البلاد والصالح العام؛ الصراع على المناصب، ووضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب.. وغيرها الكثير..  
وبكل تأكيد، لعبت الصراعات السياسية، دورا بارزا في إيصال البلد الى وضعه الحالي في قضايا المياه والزراعة والجفاف.
ما هو تعليقك على هذا الموضوع؟ وهل يمكن أن تذكر لنا أبرز الخلاصات والاستنتاجات التي توفرت لديك من خلال عملك كوزير للموارد المائية على مستوى الإنجاز المتحقق والصعوبات التي واجهتك؟ 
حسن الجنابي: رأيي بما ذكرتم في السؤال نشرته في كتابي "الدولة العقيمة" وهو يلخص تجربتي وآرائي بحاضر البلد ومستقبله، وادعو المهتمين للإطلاع على الكتاب. ولكن باختصار أقول بالإضافة الى خراب الدكتاتورية وسلطة البعث السابق، فإن المسؤولية الكبرى تقع على حكم التوافق والمحاصصة التي ادت الى تحويل دور السلطة باتجاه تقسيم المغانم والثروات والعقارات والأراضي والوظائف والإستثمارات وعقود المساطحة (تأجير مرافق الدولة لمدد زمنية تزيد على 50 سنة) وإجازات بناء المولات والأحياء السكنية على محرمات الأنهار وتجريف البساتين وتغيير جنس الأراضي والاستحواذ على الأملاك العامة والساحات الخضراء وما شاكل ذلك من نهب وسرقات وفساد وتزوير تحول معه العراق الى دولة عقيمة. من هنا فان قطاع الموارد المائية ليس استثناءً، وان نظرة سريعة على الوسائل التي صرفت من خلالها الأموال منذ 2003 ستظهر الكثير من المصائب