أيار 17
الدكتور حيدر سعيد رئيس قسم الأبحاث بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ورئيس تحرير دورية سياسات عربية التي يصدرها المركز. من مواليد مدينة النجف 1970. حصل على الدكتوراه في اللسانيات من الجامعة المستنصرية في بغداد في العام 2001. وكان عنوان أطروحته “الأسس المعرفية للنظرية اللسانية العربية: بحث في الأصول”. أما رسالته للماجستير فقد أنجزها في العام 1996 في اللسانيات من كلية الآداب في جامعة بغداد، وكانت بعنوان “أثر محاضرات دي سوسير في الدراسات العربية الحديثة”.
صدرت له العديد من الكتب والدراسات والأبحاث، من بينها: وضع العلوم الاجتماعية في الجامعات العراقية (تأليف بالاشتراك، بيروت، 2008)، سياسة الرمز: عن نهاية ثقافة الدولة الوطنية في العراق (بيروت، 2009)، الشيعة العرب: الهوية والمواطنة (تحرير، الدوحة/ بيروت، 2019)، وأسهم بثلاثة فصول في الكتاب الذي أصدره المركز العربي تحت عنوان تنظيم الدولة المكنّى داعش (2018)، كما أسهم في تأليف التقرير الوطني لحال التنمية البشرية في العراق لسنتي 2008 و2014. عضو مجلس تحرير مجلة الثقافة الجديدة للأعوام (2004 - 2009).
 
 
الثقافة الجديدة: حلت منذ مدة، في هذا العام الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الدولة العراقية الحديثة. فما زال العديد من المؤرخين والمختصين يربطون بين تاريخ قيام النظام الملكي وتنصيب فيصل الاول ملكا على العراق عام 1921، وبين تاريخ تأسيس الدولة العراقية الحديثة.
وانطلاقا من ان واحدة من اهم خصائص نشوء وتشكل الدولة الحديثة في بلدان الأطراف، والعراق من ضمنها بكل تأكيد، تتمثل بكونها ترتبط بهذا الشكل او ذاك، بهذه الدرجة او تلك، بالاستعمار. وكنت قد أشرت الى ذلك في مقالك المنشور في مجلة (آفاق المستقبل)، الذي جاء تحت (الدولة شر لا بدّ منه: نحو رؤية ما بعد نيوليبرالية)، العدد (3)، 2010. قائلا:”.. على نحو أولي، يبدو أن السياق السياسي الذي أُنشئت فيه الدولةُ الحديثة في المنطقة، التي كانت من نتائج الحركة الكولونيالية الغربية، هو الذي وضعها في هذه المكانة”.
في ذات المقال قدمت أطروحة لافتة، اشرت فيها الى التالي: “كان ثمة اختلاف فلسفي جذري في التعامل مع مسألة (التحديث) بين البريطانيين، الذين أنشأوا الدولةَ العراقية سنة 1921، والأمريكان، الذين وجدوا أنفسَهم أمام مهمة إعادة بناء الدولة سنة 2003، إذ كان البريطانيون يرون أن (الدولة) هي مصدر التحديث، في حين تعامل الأمريكان مع (المجتمع) بوصفه مصدرا له”.
هل لك ان تتوقف امام الإشكالية التي اثارتها اطروحتك هذه بمزيد من التفصيل؟ 
د. حيدر سعيد: أنا أعتقد أن الغزو الأميركي للعراق، في العام 2003، الذي أطاح بنظام صدام حسين، رافقته رؤية نيوليبرالية، بمعنى أن الرؤية الأميركية للانتقال السياسي/ الديمقراطي في العراق (وهي الرؤية الأولى التي وجّهت هذا الانتقال) كانت تتضمن جوهراً نيوليبرالياً.
نعم، كانت هذه الرؤية تتضمن مبادئَ عامة، وعناصر كثيرة، لا ترتبط - بالضرورة - بالنيوليبرالية، يقف في صدارتها تصورُ أن الاستبداد في العراق نشأ بسبب تركز الصلاحيات. ومن ثم، ينبغي أن يتضمن برنامجُ الانتقال توزيعا لهذه الصلاحيات، سواء من خلال نموذج لامركزي، أو من خلال توزيع السلطة بين النخب الممثِّلة للمجموعات الإثنية، وقد أعيد تعريف العراق من كونه دولة - أمة، إلى أن يكون دولة تعبّر عن مجموعة من الهويات الإثنية داخلها. وقد تجسد هذا النموذج فيما يُعرَف في أدبيات العلوم السياسية بـ “الديمقراطية التوافقية”.
غير أن الرؤية الأميركية لا تتوقف عند هذا “الاقتصاد السياسي للاستبداد”، الذي يفسّره بالنموذج المركزي الريعي، بل إنها كانت تصل إلى فكرة أن الدولة، بحد ذاتها، هي مصدر الاستبداد. ومن ثم، ينبغي لضمان انتقال العراق نحو الديمقراطية، الحد من الدولة قدر الإمكان، أو الوصول إلى ما تسميه الأدبياتُ النيوليبرالية “دولةَ الحد الأدنى”. وهذا هو جوهر التصور النيوليبرالي، الذي حكم الرؤية الأميركية لعملية الانتقال. ولذلك، كانت الممارسات الأميركية في العراق ما بعد الغزو غير عابئة بمصير الدولة، وقوتها، وكفاءتها.
أنا لا أتبنى فكرة أن الرؤية الأميركية هي العامل الوحيد الذي تحكم بمسار الانتقال في العراق، وأدرك أن الفاعلين المحليين كان لهم دور كبير وأساسي في مواجهة الرؤية الأميركية، وتحديد مسار الانتقال، من ثم. ومع ذلك، ينبغي القول إن هذه الرؤية كان لها تأثير شديد في عملية إعادة بناء الدولة ما بعد الغزو، في الأقل، في السنوات القليلة التي أعقبت 2003، قبل أن يتغير المسار، من خلال الدور الذي لعبته المؤسسات السياسية العراقية بعد بنائها، وتوجهات الفاعلين السياسيين العراقيين، وتغير الرؤية الأميركية نفسها، في الأقل منذ العام 2006.
كانت الرؤية الأميركية تتضمن أن الحد من الدولة سيفضي إلى تقوية المجتمع. وفي الأدبيات النيوليبرالية تصريح بأن المجتمع متى ما رُفع عنه غطاء الاستبداد، فإنه سيختار الحريةَ والأنظمة التي تعبّر عنها (يُنظَر ملتون فريدمان، مثلًا). وهذا يعني أن المجتمع هو مصدر التحديث (والتحديث السياسي، في الأقل) في هذه الرؤية، بمعنى أن التحديث عملية تبدأ من قاعدة الهرم، وليس من قمته.
وفي تقديري، كانت تجربة العراق ما بعد العام 2003 تحدياً سافراً لهذه الرؤية.
وفي كل الأحوال، تختلف هذه الرؤية - جذرياً - عن رؤية الاحتلال البريطاني للعراق، في الربع الأول من القرن العشرين، التي كانت ترى أن التحديث يبدأ من قمة الهرم، وأن الدولة هي قاطرته، وهي رؤية كانت عامة في ذلك الوقت، ولا سيما إن المنطقة شهدت إنشاء دول ومجتمعات من الصفر (بالمعنى السياسي الحديث). وفي كل هذه التجارب، ومنها العراق، مارست الدولةُ “تحديثًا قسريًا”، يتبنى نموذج الحداثة الغربية، بمعنى أن التحديث كان طريقًا باتجاه واحد: السير نحو تبني نموذج (أو مثال) الحداثة الغربية.
وهنا، أود أن أعترف بأنني لم أنجُ من التأثر بهذه الرؤية النيوليبرالية السالفة، ربما بسبب نزعة أناركية سابقة، هي - بالتأكيد - واحدة من مصادر رؤيتي لدور المثقف الناقد للسلطة باستمرار، ولكن، لأن هذه الرؤية كانت تفتح أفقًا لإمكانية تحرير المجتمع من إسار الدولة.
غير أن مسار الأمور في العراق وضعنا أمام حقيقة أن هذا المثال مثال مجرّد، وأنه أراد أن يركِّب نموذجًا نيوليبرالياً يتخفّف من الدولة، على مجتمع، لا تتشكل ثقافته السياسية على أساس دولتي statist فقط، بل إن الدولة تدخل في تفاصيل المجتمع كلها. هذا فضلًا عن أن العراق لم يتحرر من النموذج الريعي، الذي هو أحد أهم مصادر هذه الحالة الدولتية، وفضلًا عن متطلبات إعادة الإعمار، التي كانت تقتضي دورًا أساسيًّا ومركزياً للدولة.
والمهم، هنا، أن الديناميكية العراقية الداخلية، التي كانت تتعارض بنيويًا مع النموذج النيوليبرالي، كان يزامنها حديث في الولايات المتحدة عن العودة إلى دور متزايد للدولة، إثر الأزمة المالية في العام 2008.
ولذلك، بدا لي - منذ وقت مبكّر - أن الرهان في العراق لا يتمثل في “دولة الحد الأدنى”، بل “الدولة الكفوءة”. وفي هذا السياق، كتبت المقالة التي تفضلتم بالإشارة لها “الدولة شر لا بد منه: نحو رؤية ما بعد نيوليبرالية”.
نعم، النموذج الدولتي/ الريعي المركزي، يحمل معه مخاطره، وليس أقلها إنتاج مجتمع سلبي استهلاكي، تصادر الدولةُ (اقرأ: النظام، أو السلطة، أو الطبقة الحاكمة) خياراتِه السياسية، وهو العائق الأهم أمام التحول الديمقراطي (لا يحضرني، الآن، بلد ريعي، نجحت فيه عملية الانتقال الديمقراطي)، ولكن معالجة هذه المخاطر ودرأها لا يكون بالتخلص من الدولة نهائيًّا.
لقد هيمن على العراق أنموذج “رأسمالية الدولة” (بحسب توصيف عصام الخفاجي للأنموذج الاقتصادي الناشئ منذ الخمسينيات وإلى السبعينيات)، الذي تسيطر فيه الدولة على سائر النشاطات الاقتصادية، وتقدّم الخدمات للمجتمع (في التوظيف، والتعليم، والصحة، وسوى ذلك)، في مقابل مصادرة الحريات المدنية والسياسية، بل إلغاء السياسة. وقد شهد هذا الأنموذج ضعفًا واضحًا في الثمانينيّات والتسعينيات، بسبب أعباء الحرب مع إيران، ثم الحصار الدولي إثر غزو الكويت في العام 1990، غير أن المفارقة أن هذه الدولة الريعية انتقلت، ما بعد 2003، إثر صعوبة تقبلها النموذجَ النيوليبرالي وفشلها في ذلك، إلى جهاز يوزّع العوائد المالية، على قطاع عام مترهل (توسّع حجمُه بثلاثة أضعاف عما كان عليه عشية حرب 2003)، من دون خدمات تقدّمها الدولة. بمعنى أن النموذج الريعي ما بعد 2003 لم يبق هو نفسه النموذج الريعي الذي بلغ ذروته في السبعينيات، غير أن وظيفة الأموال التي تعيد الدولة توزيعها بقيت هي نفسها في النموذج الريعي التقليدي: رشوة المجتمع وشراء خياراته السياسية لصالح الأحزاب الحاكمة.
وبالتأكيد، لم يقيض لهذا النموذج الناشئ الهيمنة أو السيادة والاستمرار، ذلك أنه مرتبط بالعوائد من تصدير النفط، وبسوق النفط العالمية من ثم، فمع أزمة انخفاض أسعار النفط، في العام 2014، أصبح هذا الجهاز/ الدولة غير قادر على دفع المرتبات، لقطاع عام وسّعه عن قصد، بغرض السيطرة على المجتمع. وفي تقديري، أن حركة الاحتجاج الواسعة التي انطلقت في العام 2015 كانت أولَ رد فعل مباشر على أزمة انخفاض أسعار النفط.
في دراسة سابقة عن تطور الحركة الاحتجاجية في العراق، وجدت أنه يمكن صياغة المعادلة الآتية: أن الحركة الاحتجاجية تنشط كلما ضعفت الدولة عن أداء مهماتها (وهي توزيع عوائد الريع، هنا). ومن ثم، تكون الاحتجاجات بمنزلة بحث عن الدولة.
وقد كان هذا المعنى حاضراً في احتجاجات خريف 2019 (التي أسمِّيها “ثورة”). ومع أن هذه الاحتجاجات الأخيرة كانت انعطافة مهمة في الحركة الاحتجاجية، من الطابع المطلبي إلى الطابع السياسي، انعطافة صنعها تراكمُ الفعل الاحتجاجي، فإن البحث عن الدولة ظل أحد أهم معاني هذه الثورة. وهو ما يلخصه شعارُها الأساسي “نريد وطن”، الذي ينفتح على مساحة تأويل واسعة، لكن، بالتأكيد، أحد المعاني الأساسية لهذا الشعار هو “نريد دولة”. والدولة، هنا، ليست فقط “جهاز توزيع الأموال”، بل دولة الخدمات، التي افتقدها العراقيون والعراقيات، بما في ذلك خدمة الأمن، التي عجز النظام الناشئ ما بعد 2003 عن توفيرها، وبما في ذلك كونها الحامل الأساسي للهوية الوطنية، وقد كفّت عن ذلك.
 
الثقافة الجديدة: يقع عدد غير قليل من الباحثين بسذاجة او بحسن نية - مشكوك بأمرها في بعض الأحيان- في فخ الاسقاطات اللاتاريخية واللامنهجية، وذلك من خلال استنساخ فرضيات وتجارب، صيغت في ظل ظروف وملابسات مختلفة، خصوصا في بلدان المركز الرأسمالي، وذلك اعتماداً على ما يشبه القياس بالمثل. خصوصا في قضايا من قبيل الدولة والدولة الراعية، او “سياسات الهوية”.
فمثلا يسعى البعض الى شيطنة الدولة، بمحاولات لا تذكرنا فقط برؤى الفوضوية أو الخيالات الما بعد حداثية، وانما هي ترتبط اساسا بطروحات النيولبرالية التي شرعت تغادر مسرح الخطاب السياسي الغربي غير مأسوف عليها منذ مدة لست بالقصيرة.
بينما يسعى باحثون آخرون، في سبيل إيجاد حلول لمشاكل التعددية الثقافية في بلدانهم، الى النقل الحرفي لفرضيات واطروحات سبكت بالاصل كي تشرعن علميا وعمليا هذا الشكل او ذاك من “سياسات الهوية”. دون ان يدركوا، وهذا أولا، انها منتج صرف لبلدان تمأسست منذ مدة طويلة على قيم المواطنة وعلى دولة القانون. وثانيا، ان القسم الأكبر من هذه السياسات جاء ليمثل حلولا لمآزق سياسية وانتخابية او شعارات انتخابية شعبوية او كردود فعل لهذه الشعارات. 
السؤال المهم هنا هو: كيف يستطيع الباحث المهتم بظواهر مهمة من قبيل الدولة او التعددية الثقافية دراستها وتحليلها دون الوقوع في شراك الاسقاط او الصور النمطية لـ “سياسات الهوية”، او حتى الجوهرانية وغيرها من المغالطات المنهجية؟
 د. حيدر سعيد: أولاً، لنتفق على أن العلوم الاجتماعية والإنسانية، حالها حال الممارسة العلمية على نحو عام، تسعى إلى أن تكون قوانينها كلية، ونظرياتُها عامة، لا تقتصر على بيئة محددة، أو سياق محدد. وهذا هو هدف العلم النهائي، حتى وإن عمل على سياقات محددة، فإنه يسعى (وهذا مسار طويل) إلى أن تتجاوز نظرياتُه هذه السياقات.
بلا شك، الأمرُ أكثر تعقيداً في العلوم الاجتماعية والإنسانية من نظيراتها العلوم الصرفة، أو الطبيعية، ذلك أنها تدرس ظواهرَ مجردة، وقياسُها كمياً ليس بالأمر السهل. ولكن هذا لم يمنعها من أن تسعى إلى أن تطوّر منهجياتها، سواء في الوصول إلى المعطيات، أو بناء الموضوع، أو طرق تحليله. وهذا هو المسعى العام للعلوم الاجتماعية والإنسانية، منذ نشأتها.
وبهذا المنطق، ليس ثمة علم غربي وعلم شرقي. العلم واحد، وهذا ما ينبغي له أن يكون.
غير أن ما يحدث أن بعض نظريات العلوم الاجتماعية تعجز عن تفسير بعض الظواهر. ولا يكون هذا، في الغالب، بسبب خلل في الأداة العلمية نفسها، بل لأن حجم المتغيرات في الظواهر الاجتماعية كبير جداً، وتعجز هذه النظرياتُ عن إدراك ما المتغيرات المحدّدة التي أثّرت في الظاهرة.
ولكن، لا ينبغي لهذا العجز أن يقودنا إلى موقف من العلم نفسه، أو أن نفترض أنه ينبغي لنا أن يكون لنا علمنا الخاص بِنَا.
ما ينبغي لنا القيام به، بوصفنا مشتغلين في العلوم الاجتماعية، ومن موقعنا خارج مراكز الإنتاج النظري العالمي في الغرب، هو دراسة الظواهر الاجتماعية في مناطقنا، من خلال الأطر العلمية العالمية، بوصفنا الأقدر والأكفأ في الوصول إلى المادة والمعطيات، وهذا يشكّل الخطوةَ الأولى في الممارسة العلمية، ثم العودة إلى النظريات العالمية نفسها، لتطويرها من خلال العمل العلمي الذي أنجزناه محليًا.
إن هذا لا ينبغي له أن يتضمن هذا نزعة أصلانية indigenous، تقصر العمل العلمي على أبناء المناطق أنفسهم، بل إنه ينبغي أن يحدث في إطار: 1 - إيمان بعالمية العلم، و2 - أننا منخرطون في هذه العالمية، ولسنا خارجها، ولا ينبغي لنا ذلك، بل ينبغي أن نعمل جدّياً على هذا الانخراط، و3 - الوعي بالحدود العلمية لعملنا، فلا ينبغي أن يكون مادة قابلة للاستعمال السياسي، من أية جهة كانت، ولا سيما مراكز التحليل السياسي Think Tanks، التي تجعل من العمل البحثي أداة لاستخلاص “توصيات سياسية”، وفي سبيل ذلك، تنظر إلى الباحثات والباحثين في العلوم الاجتماعية في المناطق خارج الغرب بوصفهم “وكلاء محليين”، وأخيراً 4 - ينبغي أن يزامن هذا ويوازيه خروج مراكز الإنتاج النظري العلمي في البلدان الغربية من نزعة “المركزية الغربية” وإمكانية تعميم القوانين والنظريات الغربية على العالم أجمع، بغض النظر عن متغيراته، لتؤمن بأن الباحثات والباحثين في العلوم الاجتماعية في البلدان ما خارج الغرب يمكن أن يكونوا شركاء فعليين في بناء عالمية العلم.
أنا أؤمن بأن لنا أسئلتنا الحضارية، التي لا تتشابه ولا تتطابق مع أسئلة الغرب أو الأقاليم الأخرى في العالم، وأن مشروعنا - بوصفنا مثقفين - يجب أن ينطلق من وعي هذه الأسئلة، لا من استيراد أسئلة أجنبية. في نصه الذي يعلق فيه على نص كانط “ما التنوير؟”، يعرّف ميشيل فوكو “التنوير” بأنه “وعي الآنية actuality”، لا قيم عصر التنوير نفسها بالضرورة. ولكنني حذر جدًا من أن ينسحب هذا على فهمنا للعلم، فنتصور أن هناك علوماً وأبستيمولوجيات، لا علماً واحداً وأبستيمولوجيا واحدة.
أتفق تماماً مع مضمون السؤال، بأن هناك مفارقات لاتاريخية، يحدثها “تصدير” بعض النظريات العلمية، من دون التيقن بأنها اكتست - بشكل علمي دقيق - طابعاً كليًّا. ولكنني أعتقد آن هذا لا يتعلق ببنية العلم نفسها، بل بممارسات خارج - علمية، إن صح التعبير.
وأود أن أشير، هنا، إلى حالتين أساسيتين منها:
تتمثل الأولى في النزعة الحتمية، التي تنتجها “المركزية الغربية”، فيجري التعامل مع نتائج نظرية تخص المجتمعات الغربية بوصفها مكونات تفسيرية عامة لموضوعات يحكمها منطق حتمي، ويمكن فهمه من خلال التعامل مع النموذج الغربي بوصفه نموذج هذه الحتمية. وهكذا، جرى افتراض أن الطريقة التي تطورت بها المجتمعات الغربية، كما كشفتها العلوم الاجتماعية الغربية، يمكن أن تصلح لفهم تطور المجتمعات اللاغربية. ومن ذلك، مثلًا، أن التشكل الطبقي في أوروبا في العصور الحديثة هو نفسه ما يمكن أن يتشكل في المجتمعات خارج أوروبا. وقد أحدث هذا ارتباكاً كبيراً في العلوم الاجتماعية التي مورست خارج الغرب.
والحالة الثانية، وهي أكثر خطورة، تتمثل في تحويل بعض التفسيرات النظرية إلى برامج programs قابلة للنقل والتطبيق السياسي. ولعل الإشارة التي يتضمنها السؤال إلى حالة التوافقية مثال شديد الأهمية، هنا. فالتوافقية خرجت من كونها نظرية تستند إلى استقراء التجارب السياسية لبعض المجتمعات متعددة الإثنيات، لتُصمّم من نتائج هذا الاستقراء برامجُ قابلة للنقل. لقد كانت هذه النزعةُ البرامجية حاضرة لدى منظّر التوافقية، عالم السياسة الهولندي آرنت ليبهارت.
يقع هذا النقل في خللين خطيرين: قسر تعريف المجتمعات المراد تطبيق البرنامج عليها بأنها مجتمعات متعددة الإثنيات، كما المجتمعات الغربية التي دُرست، وافتراض أن هذا النقل سيفضي إلى النتائج نفسها التي تحققت في المجتمعات الغربية.
 
الثقافة الجديدة: مع ان الهاجس الطائفي لم يفارق الدول العربية منذ لحظات تشكلها، ولكن معدلات تراكم التوترات بدأت تتصاعد منذ ثمانينات القرن العشرين، لتصل الى اعلى مستوياتها بعد 2003. وصارت بحسب وصف استقيته من احد مقالاتك تمثل “تحديا استراتيجيا” امام هذه الدول.
 في هذا السياق، يبدو أحيانا في خطابك الفكري، وكذلك في كتاباتك أنك تتعامل مع ‘الطائفة‘ وكأنها بنية اجتماعية حقيقية او كينونة موضوعية. وليس على انها منتج او ابتكار لهندسة اجتماعية سياسية، إذا انطلقنا من أفكار ايرك هوبزباوم. أو باعتبارها جماعة متخيلة إذا اخذنا منهجية عزمي بشارة عندما طبق أطروحة بندكت اندرسن عن الامة على ‘الطائفة‘ - كان لك مقالة ممتازة عن هذا الكتاب في دورية عمران: “دراسات الطائفية ما بعد كتاب الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة: الافاق الممكنة”.
بمعنى اخر، تتعامل مع الطائفة أحيانا على أساس كونها بنية وشائجية اصيلة، هوية مطلقة، وليس باعتبارها منتجا مثاليا لـ”سياسات الهوية”، او وعيا زائفا.
هل يمكن لك ان تسلط الضوء بشيء من التفصيل على افكارك ورؤاك بهذا الخصوص؟
وأيضا هل من الممكن واقعيا ان يكون هناك تجريد نظري أكاديمي حيادي، بحيث يضع خطوطا فاصلة وواضحة تفصله عن “سياسات الهوية”؟ أم ستبقى هذه الدراسات جزءا من الدراسات الإنسانية غير المحايدة؟
 د. حيدر سعيد: أظن أن جهودنا في دراسة الظاهرة الطائفية في المشرق لا تزال في بداياتها. هنالك اليوم مشغل كبير لدراسة هذه الظاهرة، يضم باحثات وباحثين من حقول مختلفة، وتوجهات مختلفة، وبلدان مختلفة. ولا أشك في أن هذا المشغل سينتج أدباً مهماً في فهم هذه الظاهرة.
نعم، الطائفية في منطقتنا ليست حديثة، فهي تعود - في بلاد الشام - إلى أواسط القرن التاسع عشر. وفي السبعينيات من القرن العشرين، ظهرت أدبيات عديدة عن الطائفية، عشية وغداة الحرب الأهلية في لبنان، غير أن هذه الأدبيات - في معظمها - كانت تتسم بسمتين عامتين: الأولى أنها كانت ذات طابع هجائي للطائفية، أكثر من كونها مقاربة تحليلية تفسيرية للظاهرة، وكانت بمنزلة نقد للنظام السياسي اللبناني، وللأدبيات المرافقة لنشأته، التي نظّرت للنظام الطائفي بوصفه “صيغة تعايش” في لبنان (ميشال شيحا، كمال يوسف الحاج، . .). والسمة الأخرى أن هذه الأدبيات الهجائية أنتجها اليسارُ اللبناني ومفكروه ومثقفوه (وضاح شرارة، مهدي عامل، مسعود ضاهر، . .)، الذين - بحكم موقعهم الإيديولوجي - قدّموا مقاربة إيديولوجية للطائفية، ترى فيها تعبيراً عن صراع طبقي.
وهنا، ينبغي القول إن هناك أعمالًا أكاديمية تناولت الظاهرة الطائفية (برهان غليون، ولاحقًا أسامة مقدسي، . .)، غير أنها قليلة أولاً، وقد فسّرت مناحي جزئية في الظاهرة، ثانياً، ومن ثم، لم تستطع (وربما لم تستهدف) صياغةَ نظرية عامة عنها.
ولذلك، تتطور الأفكار التي نتداولها عن الطائفية باستمرار، بما أننا في مشغل مستمر لدراستها.
وأنا، كذلك، تطورت أفكاري عن الطائفية، ولا تزال تتطور. في العام 2014، قدّمت دراسة عنوانها “الطائفية السياسية في العراق، إنكاراً واعترافًا” (نُشرت في كتاب المسألة الطائفية وصناعة الأقليات في الوطن العربي، الذي صدر في العام 2017)، افترضت فيها أن الطائفية هي بنتُ الدولة الحديثة، وقد أصبحت هذه الأخيرةُ فضاءَ نزاع على السلطة بين الطوائف (أو النخب التي تمثلها)، بعد أن غيّرت الدولةُ مواقعَها عما كانت عليه قبل الدولة الحديثة.
أنا أمارس تاريخ الأفكار من منظور تاريخاني، أي منظور يضع الأفكار والمفاهيم في طبقاتها التاريخية، ولا يتعامل معها بوصفها جواهرَ مطلقة، أزلية، غير أن كتاب عزمي بشارة في كتابه الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة (2018) نقلَ السؤالَ عن تفسير الطائفية، إلى سؤال عن نشأة “الطائفة” نفسها: لا ينبغي أن نتعامل مع الطوائف بوصفها كيانات أزلية، فأن يكون ثمة أعداد من الأشخاص ممن يتشاركون اعتناق مذهب ديني محدد، لا يعني أنهم يشكلون “طائفة”، تستند إلى الهوية المذهبية التي يتشاركون اعتناقها. الطائفة تنشأ في سياقات تاريخية محددة، وهي تنشأ كما القومية، فيتخيل المنتمي إلى الطائفة أن هناك غيره ممن ينتمون إلى هذه الطائفة نفسها، ويجمعهم معه مصير واحد.
هذه النقلة النظرية لا تغادر فكرةَ أن الطائفية هي بِنتُ الدولة الحديثة، ولكن، ليس من جهة أن هذه الدولة غيّرت مواقع الطوائف وجعلتها في نزاع على السلطة، بل لأنها خلقت بيئة، تصنعت خلالها ديناميكية صناعة الطوائف.
ولعلي، بدءًا من دراستي “شيعة العراق وضغط الهوية الدينية” (2019)، بدأت أقدّم مقاربة جديدة للطائفية (لا أزال أعمل عليها إلى الآن). وقد كان سؤالي الأساسي في هذه الدراسة: لماذا ظل المعرّف الأساسي لشيعة العراق هو الهوية الدينية؟ وما العوامل التي فرضت ذلك؟
وقد لجأت إلى نوع من الحفريات اللغوية في هذا المجال، جعلني أكتشف أن دلالة كلمة “الطائفة” في اللغة العربية تحوّلت - في أواسط القرن التاسع عشر وليس قبل ذلك - من كونها تعني جَمْعاً من الناس، إلى أن تشير إلى “جماعة من الناس يعتقدون مذهباً محدّداً”. هذا ما تكشفه المعاجم العربية الصادرة في ذلك القرن.
وقد استُعمل تعبير “الطائفة”، في البدء، للأقليات الدينية (يُنظَر، مثلًا: دليل المملكة العراقية للعام 1936، الذي لا يشير إلى السنة أو الشيعة بوصفهم من الطوائف العراقية). ولم يكتسب مفهومُ “الطائفية” مدلولَه الراهن إلا حين بدأ يُطلَق على العلاقات السنية - الشيعية، وهو أمر يرتبط ببقايا النظرة إلى التشيع بوصفه مذهب الأقلية، بإزاء معتنقي المذاهب السنية، الذين يمثلون ما يمكن تسميته “الدين العام”، أو “الإسلام العام”. وبكلمة: انتقل تعبير “الطائفية” لوصف العلاقات السنية - الشيعية، مع خروج التشيع من كونه مذهباً أقلوياً في الإسلام، حين شهد اعتناقُ هذا المذهب توسعاً ديموغرافياً كبيراً، جعله ينافس الديموغرافيا السنية، وذلك في لحظتين أساسيتين: اعتناق الدولة الصفوية التشيع مذهباً رسميًّا مطلعَ القرن السادس عشر، وتشيع إيران من ثم، وتوسّع التشيع في العراق في القرن التاسع عشر (تُنظَر أطروحة إسحق نقاش في هذا المجال). هذا التوسع سمح بأن يبدو الإسلام كأنه يضم مذهبين أو طائفتين رئيستين: السنة والشيعة، وهو أمر لا وجود له قبل العصر الحديث، ولا مصاديق عليه في التراث البتة.
في هذا الإطار، بدأت أكتشف أنه ليس من الصحيح افتراض أنه كان هناك تنافس سني - شيعي رافق تشكيل الدولة الحديثة في العراق، فلم تكن هناك طائفة شيعية متشكّلة (بمعنى الجماعة التي يشعر أعضاؤها أن يملكون هوية تجمعهم، كالهوية القومية، وأن هناك مصيرًا واحداً يجمعهم)، ولا طائفة سنية بالأحرى، وليست هناك هوية سياسية شيعية أو سنية. كان الشيعة يتبنون خيارات سياسية متعددة، لم يكن بينها تشيع سياسي، وكذلك السنة.
وفي تقديري، أن الديناميكية التي بدأت بتشكيل طائفة شيعية وهوية سياسية شيعية بدأت مع الخمسينيات. وربما بدأها تيار داخل المؤسسة الدينية الشيعية، جعل “الطائفةَ” استراتيجيةً نقيضة لعملية بناء الأمة. وقد ظلت هذه العملية تنمو، لتشهد انعطافة مهمة مع نهاية الثمانينيّات والتسعينيات، إذ ظهرت سرديات عديدة، أعادت كتابة تاريخ الدولة العراقية الحديثة بوصفه تاريخ تجاذب طائفي، بين أقلية حاكمة وأغلبية محكومة.
يربط بعض الباحثين هذه الانعطافة بانتفاضة 1991، التي كان التجاذبُ حولها طائفياً، بلا شك. وبالفعل، شهد عقد التسعينيات ظهورَ الأدبيات التي تتحدث عن الطائفية في العراق. ولكنني أعد طائفيةَ التسعينيات انفجاراً لديناميكية بدأت من السبعينيات، حين تجمعت مجموعة تطورات: قمع حزب الدعوة الإسلامية وإعدام قادته، ثم الثورة الإسلامية في إيران، وظهور خطاب يتحدث عن هوية سياسية شيعية إقليمية. ولعل من الأمور الدالة، هنا، أن الكتاب الذي بلور الدعوة الشيعية، أعني كتاب حسن العلوي (الشيعة والدولة القومية)، ظهر في العام 1989، أي قبل انتفاضة 1991 بسنتين.
ومع 2003، حدث انعطاف راديكالي، جرى من خلاله تقعيد هذه الطوائف، لتكون بديلاً على مستوى النظام السياسي لنظام الدولة الأمة، بل نستطيع القول إن الهوية السياسية السُنّية بدأت تُصنَع مع هذا التاريخ.
ولذلك، أنا لا أعد النظامَ الطائفي الذي تشكل ما بعد العام 2003، استمراراً أو نتيجة لما عرفه العراق قبل هذا التاريخ، وأُميِّز – من أجل هذا - بين حقلين: حقل سياسات الهوية، وحقل النظام الطائفي. ما شهده العراق قبل 2003 هو نوع من سياسات الهوية، التي تعرفها كل بلدان العالم. والهويات التي يجري تسييسها في العالم ليست هويات دينية وإثنية فقط، بل كذلك هويات مناطقية وجهوية، ولغوية، وجندرية، وما إلى ذلك. في حين أن حقبة ما بعد 2003 أسّست لانتقال من سياسات الهوية إلى بناء النظام السياسي نفسه على أساس هذه الهويات، وتعريف المجتمع من ثم استناداً إليها.
غير أنني أود القول، في ختام الجواب على هذا السؤال، أن ما حدث ليس مشهد النهاية. وما ثورة تشرين 2019 إلا صورة للمقاومة التي يبديها المجتمع لهذا النظام.
 
الثقافة الجديدة: كنت قد وصفت انتفاضة (ثورة) تشرين على صفحات مجلتنا في الندوة التي عقدت لمناسبة ذكرى انطلاقها الأولى وادارها الأستاذ زهير الجزائري، في العدد المزدوج 416 - 417، بأنها: “نمط جديد من الثورات، [وهي] ثورات طويلة، لا تتحقق أهدافها خلال شهر او شهرين، وتنتهي”.
من الملاحظ هنا، ان انتفاضة تشرين وان لم تتمكن من ان تحدث تغييرا ملموسا في النظام السياسي، لكن واحدة من اهم إنجازاتها انها شرعت فعليا في احداث تغييرات ثقافية عميقة في المجتمع. فهي من جهة إعادت الثقة بثقافة الاحتجاج والثورة، اعادت الجماهير فعليا الى الحقل السياسي. ومن جهة ثانية، “ساهمت في غرس العديد من المعاني والسلوكيات الجديدة في الوعي الجمعي والمجتمعي العراقي، واغنت القاموس النضالي بالعديد من المفاهيم والشعارات. بل وأكثر من ذلك، كان أثر الانتفاضة كبيرا الى درجة انها ساهمت في ادراج الكثير من المفردات والدلالات في الخطاب الشفهي و/او المدون. وهذا ما بدا واضحا، من الجمل والكلمات التي أضيفت الى معجم الحديث اليومي الشعبي، والسياسي، وحتى الأكاديمي. ان كل هذا مؤشر مهم على ان الانتفاضة شكلت سرديتها الخاصة، وهي سردية عراقية كبرى لجهة آثارها ومضامينها العميقة”، كما اشّرت ذلك (الثقافة الجديدة) في كلمة العدد 426 - 427.
انطلاقا من اتفاقنا على ان عملية التغيير في العراق هي عملية ذات مسار طويل ومعقد، تجلت وستتجلى بتمظهرات مختلفة، ليس اخرها الانتفاضة. برأيك دكتور حيدر:
هل تستطيع احداث بمثل هذا العمق، بمثل هذا الخيال الجامح الذي تجلت به تشرين، مستقبلا، ان تتجاوز او تتخلص من استحضار الراسب الرمزي التقليدي البحت، عقائديا كان أم طقسيا؟ خصوصا وان هذه الرموز، على الرغم من اختلاف مضامينها، هي علامات مشتركة بين السلطة ونقيضها. وبالتالي، فإن بقاءها هو ديمومة مجازية ورمزية للسلطة على اقل تقدير.
وهل بإمكان الحركة الاحتجاجية ان تبدع رموزها بذاتها في مسارات نضالها؟ وهل من مدى زمني، اجتماعيا كان ام سياسيا لإنجاز هذه المهمة المزدوجة؟
 د. حيدر سعيد: على الرغم من ظهور عدد من الدراسات عن ثورة تشرين 2019، أظن أنها لا تزال مجالاً غنياً للدراسة والبحث الميداني، لفهم عواملها المختلفة والمتنوعة، وصلتها بتاريخ الحركة الاحتجاجية في العراق منذ 2010، وبأنماط الحركات الاجتماعية والاحتجاجات والثورات عبر العالم، وما إلى ذلك من مسائل. ولا تقف الحاجةُ البحثية عند مقدمات الثورة، بل ينبغي - كذلك - دراسة توابعها وتبعاتها، ولا سيما خيارات جيل الثورة وفاعليها في أعقاب توقف الفعل الاحتجاجي العيني.
وأحدُ هذه المباحث ذات الصِّلة بالثورة، دراسة بنيتها الخطابية (ملفوظاتها، وشعاراتها، وبياناتها، وتعبيراتها اللغوية)، وهو مبحث لا يدرس البنيةَ الخطابية للثورة بوصفها تعبيراً انعكاسياً جامداً عنها، بل بوصفها جزءًا من الفعل الثوري، يتشكل منه، ويشكّله أيضاً.
لقد كان واحد من أهم وظائف خطاب الثورة هو منازعة السلطة القائمة على رموزها، التي تؤسّس عليها جزءًا من شرعيتها.
كنت قد قدّمتُ، مؤخراً، ورقة عن كيفية ومعاني توظيف خطاب الثورة للرموز الحسينية، وافترضتُ أن هذه الرموز أصبحت فضاء نزاعياً: رموز يتنازع عليها الثوّار مع مستعمليها ومروّجيها من أصحاب السلطة، ليحاولوا انتزاعَها منهم، ونزعها عنهم، ومن ثم، نزع الشرعية التي أسّسها هؤلاء لأنفسهم من خلالها. ولعل الذروة في هذه المحاولة تتمثل في انتزاع “الحسين” نفسه.
وفي تقديري، كانت إحدى الاستراتيجيات الأساسية للثوّار في هذا المجال هي “تلبّس الحسين”، أي أن يماهي الثوّار أنفُسَهم بالحسين، فيكونهم، ولا يكون رجالَ السلطة. ولحظة التلبّس هذه هي لحظة نزاعية، لا تتوقف عند إثبات التماهي بين الحسين والثوّار، بل إنها تصرّح بنفي أن يكون الحكّامُ الحسينَ. نتذكر الهتاف الشهير الذي تردّد في الثورة “أنا الحسين المِن صدگ [الحقيقي]، أنت منو؟”. كان هذا الهتافُ يعبّر عن نزاع، بين طرفين، أنا وأنت، الضميرين اللذين يحضران نصًّا فيه، وهما يتنازعان على “الحسين”، من يكونه. والحسين الذي يتجسد في الثائر هو الحسين الحقيقي، في حين أن الحسين الذي استعملته السلطة خلال كل تلك السنوات هو حسين مزيّف، جزء من بنيان سلطة الفساد وأداة للهيمنة.
ولذلك، تستدعي هذه الخطوةُ إعادةَ تعريف “الحسين”، بنحوه “الحقيقي”، بحسب الثائر، لا المزيف، الذي صيّرته السلطةُ مجردَ طقس، من دون مضمون أخلاقي. ولذلك، كان من أوائل الهتافات التي رُفعت في الأيام الأولى للثورة: “الحسين مو دگ ولطم/ الحسين ثورة على الظلم”، وهو هتاف تقوم بنيته اللغوية على الاستراتيجية نفسها: النفي، ثم الإثبات (مو [ليس]، هو . .)، التي تستهدف النزع، ثم التلبس، كما تقدم: نفي أن يكون الحسين مجرد طقوس عزاء، بقدر ما أنه ثورة ومطلب عدالة.
وتمضي هذه الاستراتيجيةُ التي يتضمنها خطابُ الثورة أبعدَ من عملية نزع الشرعية عن السلطة القائمة، إلى محاولة نزع الهيمنة الثقافية hegemony، بمفهوم غرامشي، التي فرضتها السلطة، وكانت الرموزُ الحسينية جزءًا منها، إذ حوَّلتها السلطة إلى مجرد طقوس، ينتظم المجتمع من خلالها.
لذلك، فإن محاولة إعادة تعريف “الحسين” من خلال جانبه اللاطقسي، هي محاولة شديدة الأهمية والجذرية، ليتحرر المجتمع من هيمنة السلطة وإخضاعها.
وهنا، تؤسس الثورة بنيتَها الجديدة.
لقد عمل خطابُ الثورة في المجال الرمزي نفسه الذي تتقاسمه السلطة والجمهور، لا فقط لكي لا يبدو ما تريد أن تنجزه الثورةُ غريباً على الجمهور، بل لكي يعيد تعريف هذه البنية الرمزية على نحو جديد، فيسلبها من السلطة، ليبطل وظيفتها التي تستعملها السلطة من أجلها، ويطلقها لاستعمال ووظيفة جديدين. ومن ثم، تهدف هذه المنازعة إلى إحداث قطيعة وتأسيس بنية جديدة.
وأبعد من ذلك، كانت هذه الاستراتيجية (النزع، ثم الاستبدال) عصبَ خطاب الثورة، الذي هدف - في النهاية - إلى استعمال بنية رمزية تتجاوز رمزيات الطائفة، ليؤسس - من ثم - خطاباً جديداً.
وبكل تأكيد، أن استعمال رمزية “الحسين” مسألة فرعية، بإزاء الاستبدالات الأكثر أهمية التي أنجزها خطابُ الثورة، ولا سيما حين استبدل بـ “الطائفة” “الوطنَ”.
 
الثقافة الجديدة: كان لديك أطروحة مثيرة للجدل، من ناحية سياسية على الأقل؛ ففي دراستك التي جاءت تحت عنوان (الأمير ما بعد الحديث) في عام 2011، أكدت على الدور المركزي للمجتمع المدني في عملية التحول نحو الديمقراطية، في العراق. وقد جاءت هذه القراءة نتيجة لملاحظتك للضعف الواضح في عملية تكون النخب السياسية. وحددت عدة مسببات لهذا الضعف: الريع، والطائفية، وأيضا بروز ظاهرة الأحزاب الانتخابية ونهاية الأحزاب الايديولوجية.
 الان، وبعد مضي أكثر من عشر سنوات بقليل، يبدو أنك بدأت بالتراجع عن هذه الفكرة الى حد كبير. خصوصا بعد أن اثبت المجتمع المدني، ولأسباب متعددة، عجزه عن ان ينهض بهذه المهمة، واخفاقه في أن يكون فضاء للمشاركة السياسية، فضلا عن ان يكون بديلًا عن الأحزاب.
فهل من تعليقات إضافية تسلط الضوء من خلالها على اطروحتك ومآلاتها الآن، خصوصا بعد الزخم الكبير لانتفاضة تشرين، واشكالية التنظيم التي برزت فيها؟ 
وهذا يقودنا ايضا الى سؤال جوهري اخر: بغض النظر عن طبيعة الأحزاب في اللحظة الملموسة، انتخابية كانت ام ايديولوجية، فهل يمكن ان يوجد نظام سياسي ديمقراطي دون أحزاب؟ بل هل يمكن ان يوجد حراك في سبيل احداث التحولات السياسية والاجتماعية دون أدوار تلعبها الأحزاب والتنظيمات السياسية؟
د. حيدر سعيد: بلا شك، يلعب المجتمع المدني دوراً محورياً في عملية الانتقال الديمقراطي، ففي حين تقضي النظم السلطوية على المجتمع المدني، جزءًا من مسعاها لإلغاء السياسة، يكون إحياؤه وتفعيله عنصراً حيويًّا في عملية الدمقرطة، والنظم الديمقراطية نفسها.
هذا التصور هو رهان، في الحقيقة، ولكنه رهان قائم على استقراء تجارب الانتقال عبر العالم. ولذلك، يحتل دعمُ المجتمع المدني مكانة أساسية في برامج إعادة بناء الدول الخارجة من نزاعات ونظم سلطوية.
وبالنسبة لي، كان الرهان على المجتمع المدني أكبر مما تؤمّل هذا البرامج. لماذا؟
ليس فقط لأنه صورة من صور تمكين المجتمع بإزاء الدولة، بل لأن المجتمع السياسي - في حالة العراق - يبدو عاجزًا عن أن يكون داعماً للانتقال الديمقراطي، مع تبني العراق النموذج التوافقي، الذي تضعف فيه المعارضة والرقابة، إذ تكون الأطرافُ السياسية جميعاً جزءًا من الائتلاف الحاكم، ومع التحول العميق في البنية الحزبية في العراق: الأحزاب الإيديولوجية التاريخية كفّت عن أن تؤدي دورَها السابق، وظهر بجوارها أنموذج “الأحزاب الانتخابية”، التي تجتمع وتتشكل، لتخوض الانتخابات، وتكون جزءًا من ائتلاف السلطة، من دون رؤية سياسية (إن لم أقل: إيديولوجيا).
هذا الفراغ (الفراغ في المطالبة السياسية، والرقابة على الدولة) يمكن أن يشغله المجتمع المدني. وهذا هو الرهان على المجتمع المدني، الذي ينبغي له أن يكون، لا شكلًا من إدارة المجتمع لنفسه بعيداً عن الدولة، ولا متمحّضًا للخدمات والإغاثة وما إلى ذلك، بل معنيًا بالقضايا السياسية، بالدرجة الأولى. ومن ثم، ينبغي أن يعاد تعريف المجتمع المدني بوصفه عنصراً في المجتمع السياسي.
وما بعد 2003، شهد العراقُ نهضةً في نشاط المجتمع المدني، بعد انقطاع لعقود، فرضه النظام السلطوي، حتى في التجربة النقابية، التي أصبحت ملحقة بفلك الحزب الواحد. وقد حقق هذا المجتمعُ المدني، الناشئ والصاعد، نجاحات لافتة في دعم مسار الانتقال نحو الديمقراطية.
غير أنه لم يستمر على هذه الحال، ولا سيما مع تصاعد الأزمة السياسية في البلاد، منذ العام 2011، التي انتهت بسقوط الموصل بيد تنظيم داعش، لتدخل البلادُ في أجواء حرب، لتحرير الأراضي التي سيطر عليها التنظيم، فلم تكن البيئةُ السياسية ملائمةً أو مساعدة لنمو المجتمع المدني. هذا فضلًا عن انحسار الدعم الدولي له، الذي (ينبغي أن نعترف بأنه) لعب دوراً في نموه، ولكنه انحسر مع تراجع اهتمام الإدارة الأميركية بالعراق والمنطقة مع حقبة الرئيس باراك أوباما (2009 - 2017). غير أن هناك عاملين أساسيين لهذا الضعف، أهم من معطيات البيئة السياسية التي نما فيها: الأول هو تغول السلطة التنفيذية (وهو ناتج طبيعي وحتمي للأنموذج الريعي)، التي نمت واشتدت خلال حقبة رئيس الوزراء نوري المالكي (2006 - 2014)، فأطلقت مسعى لمركزة القرار بيدها، فخاضت نضالاً طويلاً لإخضاع المؤسسات السياسية، ومنها البرلمان والهيئات المستقلة. وقد كان المجتمعُ المدني أحد أهداف هذا المسعى، إذ انتقل الإشراف عليه إلى السلطة التنفيذية، التي اتخذت - بدورها - إجراءات عدة لتقييده والحد من نشاطه. والعامل الآخر هو دخول أحزاب السلطة (ولا سيما الأحزاب الإسلامية) على مجال المجتمع المدني. في دراسة مطوّلة، أنجزتها في العام 2010، بعنوان “الإسلاموية والمجتمع المدني في العراق”، اكتشفت كبرَ حجم منظمات المجتمع المدني المرتبطة بالأحزاب الإسلامية الحاكمة والمؤسسات الدينية النافذة، بشكل مهيكل معلن، أو غير مهيكل ولكنها مدعومة من هذه الأحزاب والمؤسسات، إلى الدرجة التي يمكننا فيها القول إن الجزء الأكبر من ظاهرة المجتمع المدني (كمياً في الأقل) مرتبط بالأحزاب، وبالسلطة من ثم. وقد كان تقديري في ذلك الوقت أن هذه المنظمات هي أداة إيديولوجية بيد هذه الأحزاب، تستهدف من خلالها “أسلمةَ المجتمع”، بعد أن أصبح مشروع “أسلمة الدولة” غيرَ قابل للتطبيق في العراق ما بعد 2003، بسبب ما يفرضه توازن القوى القائم، إلا بشكل تدريجي، وجزئي، وبطيء، وموارب. ومن ثم، يمكن أن توفر “أسلمةُ المجتمع” القاعدةَ لأي مشروع مستقبلي لـ “أسلمة الدولة”.
غير أن هناك مجموعة من المؤشرات المهمة الراهنة، التي يهمني استعراضها هنا، وأنوي الكتابة عنها، ولكنني لم أقم بذلك بعد، فمن جهة، لا يمكن أن يكون ثمة تراجع عن دراسة المجتمع المدني (والرهان عليه كذلك)، وقد بات يندرج في مبحث أساسي تنشغل فيه العلوم الاجتماعية، منذ ثلاثة عقود في أقل التقديرات، ويشمل سائرَ أشكال النشاط الجماعي اللادولتي، ذي الطابع الاجتماعي والسياسي. ومن جهة ثانية، كان من المخرجات المهمة (وغير الملحوظة بعد) لثورة تشرين، هو النهضة الجديدة للمجتمع المدني. وهذا المجتمع المدني الجديد مختلف عن سلفه الذي نشأ بعد العام 2003. كنت قد افترضت أن أحد العوامل الكثيرة التي تفسّر ثورة تشرين هو أنها بحث عن إطار للمشاركة السياسية لجيل الشباب، بعد أن عجز نظام 2003 عن توفير مشاركة سياسية حقيقية، وحصرها بالمشاركة في الانتخابات. وإذا كانت ديناميكيةُ جيل الثورة قد قادته، في أعقاب الثورة، إلى بناء تنظيمات سياسية (وأنا أعد أن أهم مخرج لثورة تشرين سيتمثل في صناعة نخبة سياسية جديدة)، فإن الجزء المخفي (أو غير الظاهر والواضح) من هذه الديناميكية أن جزءًا مهماً من جيل الثورة قد اختار التأطر بالمجتمع المدني. وهذا المجتمعُ المدني الناشئ أكثر وعياً بأهدافه السياسية، بل إنه لا يركّز إلا على الأهداف السياسية، لأنه يعد العملَ المدني الذي انخرط فيه بعد الثورة استكمالًا لها من حيث توقفت.
قد يكون هذا المجتمعُ المدني عتبةً للتحول إلى تنظيمات سياسية، ولكنه - على ما أحسب - سيكون مادة لإعادة صياغة ظاهرة المجتمع المدني والتفكير فيها من جديد.
 
الثقافة الجديدة: من مقالتك الموسومة (ما أصغر الدولة وما أكبر الفكرة- خطوط عن علاقة المثقف بالدولة في العراق 2006)، التي راهنت في سطورها الأخيرة على قدرة المثقف، على اعادة بناء رؤيته للدولة، وأيضا على إعادة صياغة علاقته بها؛ وحتى مثقفك اللادولتي ذو النزعات الثلاث: الرسولية، والنقدية، والفكرية، والذي صغت مفهومه في مادتك التي جاءت تحت عنوان (مولد المثقف اللادولتي – حالة العراق) 2017؛ سنوات طويلة، اجتهدت فيها كثيرا في سعيك لاكتشاف هوية المثقف ووظيفته، وبالتالي في إعادة صياغة تعريفه. خصوصا من ناحية علاقته بالشأن العام.
ترى ما الثابت والمتحول في رؤيتك للمثقف؟ اقصد “حالة العراق” بكل تأكيد؟
 د. حيدر سعيد: أعترف بأن مسألة “المثقف”، وإعادة صياغة مفهومنا عنه، وطبيعة علاقته بالدولة والشأن العام، تشكّل أحدَ المباحث (والهموم) الأساسية لدي، ولا أظن أنها ستتوقف.
ومع أن المثقفين العراقيين (وأنا منهم) لم يكونوا بعيدين عن التنظير العالمي لمفهوم “المثقف” (أنطونيو غرامشي، إدوارد سعيد، وسواهما)، يبدو لي أن السؤال عن دور المثقف، عراقياً، هو وليد لحظة 2003، وليس قبلها، حين قضى النظام السلطوي على كل منافذ المجالين المدني والسياسي، فضلًا عن القيود على حرية التعبير، فيما يمكن تسميته “موت السياسة”. ومن ثم، لم يكن هذا السؤال ممكناً إلا في اللحظة التي سقط فيها هذا النظام، وبدا أن ثمة أفقاً لدور مختلف، كما بدأت القوى المجتمعية المختلفة تتحرك لإعادة صياغة أدوارها.
غير أن عقود الاستبداد الطويلة خلّفت إرثًا ثقيلًا، قيّد حركةَ المثقف، وهو يتجه إلى خوض هذه الأسئلة المؤسِّسة عن دوره وهويته، فمن جهة، ورث المثقفُ تراثًا طويلًا من التبعية للسياسي، فتكوّنُ المثقفِ العراقي لم يكن بمعزل عن المجال الإيديولوجي والحزبي، فنشأ بوصفه عنصراً إيديولوجيًا. وقد قادت هذه الصيغةُ إلى أن ينمو المثقفُ وبيده عقدُ التبعية للسياسي. ومن جهة ثانية، انبنت الثقافةُ العراقية على قَصْرِ تعريف “المثقف” على الفنان والأديب، ومن ثم، عزلت المفكرين والمشتغلين في العلوم الاجتماعية والإنسانية عن هذه الدائرة. وقد انتقدتُ، في إسهام مبكّر (كنايات عن تاريخ ثقافي/ 1997)، ما سمّيتُه “التاريخ الشعري للثقافة العراقية”، ودعوت إلى كتابة تاريخ للفكر العراقي، يدمج الإسهامات المهمة التي تأتي من خارج دائرة الفن والأدب. ولدينا قائمة مهمة وطويلة في هذا المجال.
وإلى جانب الإغلاق التام خلال حقبة البعث، كان هذا العاملان قيدين ثقيلين قيّدا المثقف العراقي، وهو يسعى إلى إعادة فهم وظيفته، حتى بالنسبة للجيل الذي لم يعرف الحياةَ الحزبية (جيلي)، ونشأ من دون علاقة حقيقية بالأحزاب، إلا إن “موت السياسة”، الذي تحدثت عنه، لم يتح له إدراك معنى “التسيّس”، على نحو جدي وفعلي.
ولذلك، كان الانهماك في الكتابة عن “المثقف” ودوره مفتتحًا لنضال طويل، لا يزال مستمراً إلى هذه اللحظة.
وبلا شك، حقّق المثقف العراقي تقدّماً كبيراً في العقدين اللذين أعقبا سقوط الاستبداد. وقد بات مألوفاً أن المثقف هو مكوّن رئيس وحيوي في كل النضال والحراك المستمر عبر هذين العقدين، من أجل القيم المدنية، والعدالة، والحريّة.
وبالنسبة لي، حاولتُ الكتابة - مبكراً - عن حركة الاحتجاج المدني، المتصاعدة منذ العام 2010، بوصفها الطريق الوحيدة لاستعادة المسار نحو الديمقراطية. وفي مقالتي “الاحتجاج المدني والدور التاريخي للمثقفين” (2010)، دعوت إلى ألا يكون المثقف بعيداً عن مجال الاحتجاج المدني، فلا ينبغي لـ “الانخراط في الشأن العام” أن يكون مجردَ فعل خطابي (بيانات، مواقف، مقالات، . .)، بل ينبغي له أن يصل إلى الشكل الأقصى (الاحتجاج السلمي الفعلي)، بما أنه مسار نحو القيم التي يؤمن بها المثقف. ومن ثم، ينبغي إزالة المسافة الفاصلة بين هذين المجالين: الاحتجاج المدني، والمثقف.
وأود أن أضيف، هنا، أنه مهما قيل من نقد في المثقف العراقي وسلبياته، فإنني أعتقد أنه لم ينجر إلى الانقسامات الطائفية والإثنية والدينية، التي نخرت المجتمع، وأنه ظل قريبًا من وعي الهوية الوطنية بوصفها الفضاءَ المشترك الذي يمكن أن يتقاسمه العراقيون والعراقيات، فوق هوياتهم الإثنية والدينية والطائفية، التي نُفخ فيها، لتتغول. لا أنكر أن هناك مثقفين انجرّوا إلى الخطاب الطائفي (وفيهم مثقفون بارزون)، ولكنهم لا يشكلون التيار العام، بأي حال.
ولا ينبغي أن يقتصر الحراك الذي يخوضه المثقف على هذا المران المستمر لوظيفته، بل ينبغي أن ينجز كذلك الأدبيات التصورية عن هذا الفهم الجديد.
وأخيراً، دعوتُ - في إسهام أخير عنونتهُ بـ “العلوم الاجتماعية والتحولات السياسية: أي موقع؟” -، ومن جهة كوني عاملًا داخل حقول هذه العلوم، وانطلاقًا من السؤال الجدي الذي شغل العلوم الاجتماعية في العالم العربي ما بعد ثورات 2011 عما يمكن أن تسهم به في سياق التحولات التي يشهدها المجتمع والسياسة، إلى أن يكون انخراطُ العلوم الاجتماعية بهذه التحولات انخراطًا ملتزماً، يتعدى الفهمَ والتفسير (الوظيفة التقليدية للعلوم الاجتماعية)، ويستعير التزام المثقف.