أيار 02
 
مؤرخ ومفكر فلسطيني يساري من مواليد 1950. ولد في دمشق لأب فلسطيني وأم سورية. حاصل على دكتوراه دولة في الآداب والعلوم الإنسانية من جامعة باريس الأولى-/السوربون عام 1982، وكذلك على دكتوراه حلقة ثالثة في التاريخ المعاصر من الجامعة نفسها عام 1977. باحث في «المعهد الفرنسي للشرق الأدنى» في بيروت، وعضو اللجنة الدولية المشرفة على فصلية «أبحاث دولية» في باريس، وعضو لجنة تحرير «دفاتر مجموعة الأبحاث والدراسات حول المغرب العربي والشرق الأوسط» في باريس ايضا.
من مؤلفاته: (الشيوعية والمسألة القومية العربية في فلسطين 1919 - 1948)، بيروت 1981؛ (مقدمة في تاريخ فلسطين الاقتصادي والاجتماعي)، عن دار ابن خلدون، بيروت 1985؛ (البحث عن كيان: دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني 1908 - 1993)، عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، نيقوسيا/دمشق 1995؛ (رهانات النهضة في الفكر العربي)، عن دار المدى، دمشق 2000. ومن إصدارات دار المدى (فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن)، دمشق 2004.  
 
الثقافة الجديدة: منذ عقود والبشرية تواجه تحديات كبيرة. تحديات ذات طبيعة متنوعة سياسية واقتصادية، واجتماعية وبيئية. ويبدو ان الثقة بقدرة البشرية على التعامل مع هذه المعضلات يغلب عليها التشاؤم. هناك رأي ان هذا التشاؤم بإمكانيات الانسان إيجاد حلول حقيقية للتحديات التي تواجه مسيرته - او لا مبالاته تجاهها على اقل تقدير- ربما يعود اساسا الى غياب بديل واضح المعالم. فالبدائل المطروحة حاليا، ليست شمولية، وليست إنسانية جامعة. والكثير منها تمثل سياسات مغلقة على مجتمع او ثقافة محددة، وهي في غالبيتها تمثل هروبا شعبويا او اصوليا الى الامام. ولنأخذ كلمة أصولي بكل معانيها الثقافية والدينية والإثنية.. الخ.
اما الاشتراكية كحل انساني شمولي، فإن أطيافها ما عادت تجول العالم، ومن الجلي ان الاحلاف المقدسة انتصرت. فمن جهة، نجحت هذه الاحلاف في كتم انفاس “الاشتراكية الحقة”. ومن جهة أخرى، نجد ان الدول “الاشتراكية” المتبقية الان اما تصارع لأجل البقاء، او هي ذات “اشتراكية” نستطيع ان ننسب لها ما نشاء من خصائص إلا الاشتراكية. ومن جهة ثالثة، هناك أحزاب وتنظيمات، ما زالت تندب الفردوس المفقود.
بالتأكيد، في العالم الآن هناك العديد من الأحزاب الاشتراكية وحركات اليسار الجذري، التي يتصاعد نشاطها في هذا البلد او ذاك من بلدان المركز الرأسمالي، او في بلدان الأطراف. ومن المهم جدا ان لا نبخس تأثيرها المهم في الكثير من المجالات.
لكن هناك من يرى ان ما يغيب عن مشروعها، ما هو مفقود في استراتيجيتها، ان الاشتراكية لم تعد ذلك المعيار النقدي لبؤس الواقع، لم تعد ذلك البديل الواضح، بل وربما فقدت مكانتها عند الكثير من الأحزاب والحركات والمثقفين بوصفها ذلك الغد الذي سيوّحد البشر.
ما رأيكم بوجهة النظر هذه؟ وهل يمكن ان تتعامل البشرية مع التحديات التي تواجهها بمنطق الرأسمالية مهما تصارعت تياراته؟ وهل ما زالت الاشتراكية كإمكانية تمثل بديلاً عن بربرية الواقع الحالي او أي بربرية أخرى ستنتج عنه كإمكانية مستقبلا؟
هل لك ان تتوقف امام هذه القضية بشيء من التفصيل؟
ماهر الشريف: إن ما أطلقت عليه في سؤالك اسم “بربرية الواقع الحالي”، حيث يعيش 1.2 مليار شخص تحت خط الفقر، ويقتل 8 ملايين رجل وامرأة وطفل كل عام في “حروب صغيرة”، وتنتشر الأمية في مناطق واسعة من العالم، إن هذه “البربرية” ناجمة عن استمرار استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، واستعباد شعب لشعب آخر، والتمييز بين المرأة والرجل، وتدمير الطبيعة؛ وفي ظني، فإن الاشتراكية هي البديل عن هذا “الواقع البربري”، بما يضمن تصفية جميع أشكال اللامساواة الطبقية والقومية والجنسية، أو الحد منها على أقل تقدير، وخصوصاً أن أشكال اللامساواة هذه هي من أصل اجتماعي وليست طبيعية. أما الحاجة إلى هذه الاشتراكية فهي لم تعد تنبع من حتمية تاريخية، كما كنا نعتقد سابقاً، وإنما من حاجة أخلاقية. 
لكننا نلاحظ أن القوى التي تتبنى الاشتراكية ما زالت، منذ سقوط ما سمي بنموذج “الاشتراكية الواقعية”، تواجه حالة من الارتباك الإيديولوجي وتعاني من قصور نظري عند الانتقال من هذا التعريف العام للاشتراكية إلى تحديد ملامح المجتمع الاشتراكي وبلورة استراتيجية كفاحية للنضال من أجل بلوغه، في ضوء التغيّرات التي طرأت على بنية الرأسمالية في العقود الأخيرة، والتحوّل الذي طرأ على الاقتصاد العالمي في ظل العولمة، وهيمنة الاحتكارات الرقمية على الاقتصاد، واندماج رأس المال الصناعي والمالي مع رأس المال الرقمي، وبروز ما أطلق عليه بعض المحللين اسم “الرأسمالية الخوارزمية” باعتبارها مرحلة جديدة من الرأسمالية ظهرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتزامنت مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والبيانات الضخمة ونشر الخوارزميات والتعلم الآلي.
ففي ظل هذه التغيّرات البنيوية، هل يمكن بلوغ هذا المجتمع الاشتراكي على نطاق بلد واحد؟
إن تجارب البناء التي تحمل اسم اشتراكية والتي نشهدها حالياً، لا تزال في مرحلة التجريب، وتطرح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات عن هذا السؤال.
فتجربة الصين الشعبية، على سبيل المثال، التي تبنت مشروع “بناء اشتراكية ذات خصائص صينية” على أساس الجمع بين الاشتراكية والسوق، ما زالت تطرح أسئلة حول ماهية هذه “الاشتراكية”. فبينما قدّر رائد هذه التجربة، الزعيم الراحل دينغ تسياو بينغ، أنه لم يعد هناك إدراك لماهية الاشتراكية، وأن كل ما ينبغي تأكيده هو أن جوهر الاشتراكية يتمثّل في تطوير القوى المنتجة، وتعزيز إمكانات الدولة، والحد من الاستقطاب الاجتماعي والسعي من أجل ضمان رخاء الشعب وازدهاره، من خلال اعتماد طريق يسمح - في بلد شاسع المساحات ويضم أكثر من مليار و400 مليون نسمة - لبعض المناطق ولبعض الفئات الاجتماعية بأن تحقق الرخاء والازدهار قبل غيرها. أكد بعض المفكرين الماركسيين، ومنهم المفكر الراحل سمير أمين، أن الأمر لا يتعلق، في تجربة الصين، بالجمع بين الاشتراكية والسوق بصورة مجردة، وإنما بالجمع بين الاشتراكية والسوق الرأسمالية تحديداً، التي تقوم على الاستغلال، وتشجّع التراكم الخاص، وتضغط على عوامل الإنتاج من أجل خفض التكلفة، وتستنزف الموارد الطبيعية غير المتجددة، ليخلص إلى أن اشتراكية السوق الصينية ما هي في الواقع سوى شكل من الكينزية المتطبعة بطابع صيني، وتمتلك خصائص مشتركة مع ما بات يعرف بالطريق الثالث، وأن الصين تتبع اليوم طريقاً رأسمالياً إلى حد كبير، يهدف إلى بناء الهياكل الأساسية للرأسمالية ومؤسساتها، مع التقليل قدر الإمكان من الاحتكاكات والآلام المصاحبة للتحوّل نحو الرأسمالية.
ومهما يكن، وإذا كان يتوجب على الماركسيين واليساريين العرب المساهمة في هذا النقاش الدائر على صعيد العالم لتحديد ماهية اشتراكية المستقبل وسبل بلوغها، فإن عليهم أن يدركوا، في الوقت نفسه، أن النضال من أجل بلوغ الاشتراكية في الدول العربية لن يكون سوى عبر التصدّي لحل المهمات التي بقيت معلّقة منذ عهد الاستقلال، وفي مقدمها إقامة دولة المواطنة الحديثة، القائمة على فصل الدين عن الدولة، والتي يحل فيها مفهوم المواطن، المستقل بشخصيته، محل مفهوم الرعية، ويكون فيها الولاء للوطن على حساب الولاء للطائفة أو للمذهب أو للمنطقة، ويتساوى فيها الجميع أمام القانون.
 
الثقافة الجديدة: لا نعرف حقيقة من استعار ـ أول مرة ـ مفردة الربيع من القاموس السياسي التاريخي الغربي، وصار تعبير “الربيع العربي” يطلق على الانتفاضات والحركات الاحتجاجية العربية التي اندلعت منذ نهاية عام 2010. وصارت تقرن ان لم تقارن بربيع أوربا الأول (1848) او ربيعها الثاني (1968). المقارنة على الرغم من التشابه الشكلي غير سليمة، كما انها ليست بريئة. فهي لم تحمل في طياتها المعاني الإيجابية فقط، وانما ركزت بوضوح او مواربة على تلك الدلالات السلبية المتشابهة، خصوصا من ناحية النتائج والمآلات. فإذا كانت خلاصة ربيع أوربا الأول بمعظمه باستثناء فرنسا هي توزع الثوريين في المنافي، واذا كان ربيعها الثاني قد انتهى بالعديد من المنتفضين الى أحضان اليمين؛ فإننا شهود عيان على محصلة انتفاضات الربيع العربي بعد أكثر 10 سنوات من اندلاع شرارتها الأولى.
في احد حوارات الثقافة الجديدة قبل مدة، صنفنا في أحد الأسئلة مآلات الربيع العربي وان بصورة تعسفية “الى المسارات الاتية:
انهيار الدولة الحديثة بهذا الشكل او ذاك، وبهذا الحجم او ذاك. غالبا بسبب خواء منظومة مؤسسات الدولة وايضا بسبب التدخلات الخارجية (ليبيا، سوريا، اليمن).
الاسلام السياسي التقليدي المنظم يقطف ثمار الحركة الاحتجاجية، انقلاب مؤسسات الدولة الراسخة على الاسلام السياسي، ثم اعادة تشكيل سلطة فردية شعبوية بدعم من مؤسسة عسكرية راسخة (مصر، الى حد كبير تونس كما بدا مؤخرا).
اصلاحات “رتوش” خارجية لم تمس جوهر المنظومة الحاكمة (المغرب، الجزائر، السعودية)”.
دكتور ماهر، الحيز هنا، لا يسمح لنا الخوض بتفاصيل الاحداث، ولا بتتبع مجرياتها والبحث في أسبابها وتفاعلاتها.. الخ. خصوصا وان مثل هذه القضايا تم اشباعها في مقالات وبحوث سابقة. لكن، ما يمكن ملاحظته في كل الانتفاضات العربية تقريبا، خصوصا عند انطلاقتها المبكرة، هو انشغالها - عن حق وضرورة بالتأكيد - بالداخل، بقضايا الحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. أي بالصراع مع الحكام والدكتاتوريات. وما غاب عنها بصورة تكاد شبه كاملة تقريبا، هو ان أي عملية تغيير حقيقية، ان الثورة، يجب بل تشترط ضرورة إعادة هيكلة علاقة الدولة بالمنظومة الرأسمالية العالمية. بمعنى آخر، انها تستلزم إعادة تضبيط وتنظيم علاقة البلد المعني كجزء من منظومة بلدان الأطراف بالمركز الرأسمالي لصالح جماهير الشعب. ففي النهاية، كان بقاء الحكام والدكتاتوريين، مرتبطا بموقعهم في النظام العالمي، سواء كانوا مقربين ام منبوذين.
نستفسر دكتور ماهر: برأيك ما هي أسباب اختفاء بُعد التحرر الوطني بمعناه هذا لا عن اهداف الانتفاضات العربية بعمومها فحسب وانما غيابه الكبير حتى عن اذهان المثقفين من المنتفضين والثوريين؟ وهل كان للضعف المتأصل منذ فترة ليست بالقصيرة للحركات اليسارية وللأفول المزمن لبديلها دور في ذلك؟ 
ماهر الشريف: لا أعرف أنا أيضاً من هو أول من أطلق على الحراكات الشعبية التي انطلقت في أواخر سنة 2010 تعبير “الربيع العربي” الذي لا أحبذه. وكما ورد في سؤالك، فإن هذه الحراكات التي تصدرتها، عند انطلاقتها، مجموعات شبابية متعلمة، متواصلة مع العالم من خلال تملكها وسائل الاتصال الحديثة، وساهمت المرأة مساهمة فعالة في معظمها، كانت مطالبها التي لخصها شعار “خبز، حرية، كرامة”، مشروعة. بيد أنها سرعان ما هيمنت عليها في بعض الدول العربية حركات “إسلامية” تكفيرية فاقمت الانقسامات الطائفية، ومزقت النسيج الاجتماعي لشعوبها وهددت وحدة كياناتها الدولتية، واستجرت التدخل العسكري الإقليمي والدولي في أحداثها، بينما انتهت، في دول أخرى، إلى إعادة إنتاج النظام القديم بلبوس جديد.
وبغض النظر عن هذا التباين الذي طبع مجرى هذه الحراكات الشعبية، يمكننا أن نستخلص من أحداثها جملة من الاستخلاصات العامة، ومن أهمها: أولاً: إذا كانت هذه الحراكات قد أبرزت الحاجة الملحة إلى التغيير، فإنها بيّنت، في الوقت نفسه، أن الأزمة العامة التي تواجهها بلداننا العربية ليست أزمة نظام سياسي فحسب بل هي أزمة مجتمع كذلك، أزمة نظام تعليم ومناهج تربية، وخصوصاً دينية، أزمة مستقبل شباب يشكلون أكبر نسبة من المجتمعات العربية، ويعانون من الاغتراب الاجتماعي في قلب أوطانهم، أزمة نموذج تنمية قاصر، استند إلى سياسات التحرير الاقتصادي والخصخصة والخضوع لوصفات صندوق النقد الدولي، وشكّل أرضية خصبة لانتشار الفساد والكسب غير المشروع؛ ثانياً: بيّنت هذه الحراكات أن الديمقراطية لا يمكن اختزالها إلى بعدها السياسي، فهي لا تنحصر في التنافس على انتخابات تمثيلية، بل هي نمط من التفكير والسلوك الذي يتخلل نسيج حياة المجتمع بكاملها، كما إنها لا يمكن أن تكون إيديولوجية جديدة وبلسماً شافياً لكل الأدواء العربية؛ ثالثا: لقد تبيّن أن تجربة القوى السياسية التي تلبست لبوس الدين في الحكم غير قابلة للنجاح؛ ففي مصر، على سبيل المثال، تهاوى حكم “الإخوان المسلمين” قبل أن تسقطه الاحتجاجات الشعبية المدعومة من الجيش، نتيجة السياسة التي اتّبعوها خلال سنة من حكمهم، إذ نزعوا إلى الانفراد بالسلطة والاستحواذ على كل مفاصلها، وسعوا إلى إضفاء طابع ديني على أجهزة الدولة كافة، ودخلوا في صراعات مع القضاء ومع الإعلام ومع مؤسسة الشرطة، وحاولوا فرض دستور يتوافق مع فهمهم للإسلام، كما أخفقوا في طرح حلول حقيقية لمشكلات المجتمع السياسية والاقتصادية، الأمر الذي أدّى إلى مفاقمة مشكلات البطالة ونقص الوقود والكهرباء وانعدام الأمن، وسمح للجيش بالعودة إلى تسلم زمام الحكم. وهذا الفشل، إن دلّ على شيء، فهو يدّل على عدم واقعية الدعوة إلى إقامة دولة دينية تستند إلى الشريعة، ويزكّي، في المقابل، الدعوة إلى العلمانية التي لا تعني مناهضة الدين، بل تبيح حرية الاعتقاد والضمير لكل مواطن في المجتمع، وتدعو إلى الابتعاد عن التكفير، وتضمن حرية التفكير والبحث في كل المسائل، وبضمنها المسائل الدينية؛ رابعاً: ما زالت المسألة الوطنية تحتل مكانة مهمة في مشروع التغيير، وإذا كان من عوامل قصور دعاة القومية العربية، الذين وصلوا إلى السلطة، عجزهم عن إدراك حقيقة العلاقة الجدلية بين حرية الوطن وحرية المواطن، فركّزوا على الأولى على حساب الثانية، متجاهلين حقيقة أن المواطن الحر هو ضمانة الوطن الحر، فإن  القائمين على بعض هذه الحراكات عانوا من قصور معكوس عندما ركزوا على حرية المواطن وتجاهلوا حرية الوطن، بل راهنوا، في بعض الحالات، على التدخل الخارجي واستجروه.
 
الثقافة الجديدة: بعد هذه الجولة الواسعة من العام العالمي مرورا بالخاص العربي، نصل الى فلسطين. دكتور ماهر، ترى ما هي الابعاد والآثار التي ترتبت على كل هذه التحولات العالمية والعربية على واقع القضية الفلسطينية وتطور صراعها مع العدو الاسرائيلي؟ وما هو أثرها على اشكال النضال المختلفة؟ مثلا انحسار المقاومة المسلحة شبه الكامل وانطلاق اشكال أخرى من النضال مثل الانتفاضات (انتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى الشعبيتان)، وصولا الى مباحثات اوسلو وما تلاها من مفاوضات. على اعتبار ان المفاوضات جوهريا وبغض النظر عن أي ملابسات او تفاصيل هي في نهاية المطاف شكل من اشكال النضال وهي تكتيك مقبول في ظروف محددة.. ولكن المشكلة ليست هنا بل في ادارة هذه المفاوضات ووضوح الاهداف المطلوب تحقيقها من وراء تلك المفاوضات؟!
أيضا، ما هو أثرها على موازين القوى بين الفصائل الفلسطينية المختلفة خصوصا اليسارية والتقدمية منها؟ وعلى العلاقة في ما بينها، سواء تلك المنتمية لمنظمة التحرير او تلك التي تتموضع خارجها؟ وكذلك، على موازين القوى بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل؟ وموازين القوى داخل اجنحة السلطة نفسها؟
لاحظ دكتور ان قراءنا ينتظرون منكم فرشة واسعة عن تطور الصراع والوضع الفلسطيني خلال العقود الماضية.
ماهر الشريف: لقد راهنت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي خرجت ضعيفة من حرب الخليج الثانية، عندما عقدت “اتفاق أوسلو” مع حكومة رابين- بيريس، على أن الفترة الانتقالية من الحكم الذاتي التي حددها الاتفاق بخمس سنوات ستنتهي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة. بيد أن هذا الرهان سرعان ما خاب ووصلت “عملية السلام” إلى طريق مسدود جراء رفض الحكومات الإسرائيلية الوفاء بالتزاماتها بشأن الانسحاب من المناطق الفلسطينية المحتلة، ومواصلتها عمليات مصادرة الأراضي وبناء وتوسيع المستوطنات وتهويد القدس، وامتناعها عن إطلاق السجناء والمعتقلين الفلسطينيين، وفرضها الإغلاقات على المناطق الفلسطينية، الأمر الذي أدى إلى شلل في حياة الفلسطينيين الاقتصادية وزيادة أعداد الذين يعانون من الفقر والبطالة عما كانوا عليه عشية توقيع “اتفاق أوسلو”، ودعوتها إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين في أماكن إقامتهم الحالية، وإلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وتصفية وكالة الأونروا.
ونتيجة إخفاق “عملية السلام”، وخصوصاً بعد فشل مفاوضات كمب ديفيد في تموز 2000 بين الرئيس ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك التي رعاها الرئيس الأميركي بيل كلينتون، كان من الطبيعي أن تندلع الانتفاضة الثانية في أواخر أيلول 2000، والتي كانت تعبيراً عن خيبة أمل الجمهور الفلسطيني وشعوره بأن التفاوض من دون ممارسة الضغط لن يجدي. وخلافاً للانتفاضة الشعبية الأولى، طغى على هذه الانتفاضة الثانية، ومنذ أسابيعها الأولى، الطابع العسكري الذي اتخذ أبعاداً خطيرة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001  في الولايات المتحدة الأمريكية، وساعد في تمكين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون، بعد إعلان إدارة جورج بوش الابن “الحرب الشاملة على الإرهاب”، من الادعاء بأنه يقف في الخطوط الأمامية لـ  “الحرب على الإرهاب”، ما جعله طليق اليدين ليعيد احتلال المدن الفلسطينية، في آذار 2002، ويفرض حصاراً على مقر رئيس السلطة الوطنية ومنظمة التحرير ياسر عرفات في مدينة رام الله، انتهى باستشهاده في تشرين الثاني 2004.
والواقع، أن فشل “عملية السلام”، الذي غيّر موازين القوى في الساحة الفلسطينية وساعد على تصاعد نفوذ القوى الإسلامية وخصوصاً حركة “حماس”، تزامن مع هيمنة “صهيونية جديدة” على الساحة السياسية في إسرائيل، اتسمت بطابع قومي وديني، وأرادت فرض الاستسلام الكامل على الشعب الفلسطيني، وشنت خمس حروب دموية على قطاع غزة المحاصر، وراحت تشيع أن الصراع مع الفلسطينيين هو صراع وجودي لا حل له، كما تزامن، أو بالأحرى تسبب في اضمحلال حركة السلام الإسرائيلية، وتراجع التأييد للديمقراطية ومؤسساتها في المجتمع الإسرائيلي، وإعلاء شأن الطابع اليهودي للدولة وتهميش مكانة العرب الفلسطينيين في إسرائيل  وإضفاء طابع قانوني على العنصرية الممارسة إزاءهم،  كما دل على ذلك إقرار “قانون أساس: إسرائيل - الدولة القومية للشعب اليهودي” الذي تبناه الكنيست في سنة 2018. وقد استغل حكام إسرائيل السياسات التي انتهجتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، خلال سنوات ولايتها الأربع، لخلق وقائع جديدة تكرس سيطرتها الكاملة على الأرض الفلسطينية، إذ انتقلت الولايات المتحدة الأميركية صراحة، في عهده، من نهج “إدارة الأزمة”، الذي انتهجته الإدارات السابقة منذ التوقيع على “اتفاق أوسلو”، إلى العمل على تصفية أهم مكوّناتها وهي قضية القدس وقضية اللاجئين وقضية التحرر من الاحتلال. ومع أن إدارة الرئيس جو بايدن الجديدة أرادت في الظاهر التمايز عن الإدارة السابقة عبر الانفتاح على الفلسطينيين واستئناف تقديم بعض المساعدات لهم، وأكدت تبنيها اللفظي “حل الدولتين”، إلا انها عادت، في الواقع، إلى نهج “إدارة الأزمة”، وامتنعت عن ممارسة ضغوط جدية على حكام إسرائيل.
ومن ناحية أخرى، فإن فشل “عملية السلام” سلّط الأضواء على عوامل الضعف في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي عوامل نجمت، بصورة رئيسية، عن السياسات التي انتهجتها السلطة الوطنية الفلسطينية التي تشكّلت في سنة 1994، والتي أدت، في المحصلة، إلى انحسار دور منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها المظلة السياسية الجامعة للفلسطينيين وتحوّلها إلى ملحق للسلطة الوطنية، وتهميش دور اللاجئين الفلسطينيين في بلدان الشتات، وتعميق الانقسام بين تجمعات الشعب الفلسطيني الرئيسية الثلاثة، في الشتات، وفي المناطق التي احتلت سنة 1967، وفي المناطق التي احتلت سنة  1948، بحيث صار يبرز وكأن مهمة  التحرر من الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة باتت منفصلة عن مهمة ضمان حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم، وعن مهمة ضمان تمتع العرب الفلسطينيين من مواطني إسرائيل بحقهم في الاعتراف بهم بصفتهم أقلية قومية في وطنهم ومساواتهم بسكان إسرائيل اليهود. بيد أن عامل الضعف الرئيسي في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية ونظامها السياسي تمثّل في الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، الذي نجم عن الخلاف بين حركتَي “فتح” و “حماس”، بعد الانقلاب الذي قامت به هذه الأخيرة في قطاع غزة، والذي طرح تساؤلات حول مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني برمته. ومع أنه بذلت منذ وقوع الانقسام في سنة 2007 محاولات عديدة لإنهائه، إلا أن هذه المحاولات لم تنجح في استعادة وحدة النظام السياسي الفلسطيني، الأمر الذي كرس ثنائية قطبية في الساحة الفلسطينية، وهمّش دور القوى اليسارية التي عجزت عن تحقيق وحدتها وتشكيل قطب ثالث يكسر هذا الاستقطاب الثنائي. وفضلاً عن ذلك كله، ترافق فشل “عملية السلام” مع تكاثر الكوارث العربية، بحيث لم تعد النكبة الفلسطينية هي النكبة العربية الوحيدة، وخصوصاً بعد اندلاع الحراكات الشعبية في عدد من البلدان العربية. وكان من الطبيعي أن يستغل حكام إسرائيل هذه العوامل كلها للإمعان في مشروعهم الرامي إلى القضاء نهائياً على القضية الفلسطينية والترويج لحل “إقليمي”، يقوم على تهميش البعد الفلسطيني في الصراع، وإشاعة فكرة السلام الاقتصادي بحيث يتمّ الانتقال من اعتبار السلام مع الفلسطينيين هو الأساس إلى التركيز على المسار الإقليمي وعلى التطبيع مع الدول العربية.
أما بخصوص الشق الثاني من السؤال، فأنا من الذين يعتقدون أن السجال حول الدولة الفلسطينية المستقلة، إلى جانب إسرائيل، أو الدولة الواحدة، هو سجال لا طائل منه في الظروف الحالية. فالفلسطينيون لا يملكون اليوم شريكاً يصنعون معه ما أسميته في كتاباتي بسلام “العدل الممكن” في ظل توجه إسرائيل ومجتمعها، أكثر فأكثر، نحو مواقع اليمين القومي الديني المتطرف، وسعي حكامها إلى فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني من خلال التعامل مع السلطة الفلسطينية باعتبارها سلطة دائمة محدودة الصلاحيات تسيطر على السكان ولا تفرض سيادتها على الأرض، وتعمل على ضمان “الاستقرار” في المناطق الفلسطينية المحتلة، وتتعاون مع إسرائيل على “تحسين” حياة الفلسطينيين الاقتصادية. وأمام واقع كهذا، ليس أمام الفلسطينيين سوى تصعيد نضالهم وتوفير مقومات صمودهم على أرض وطنهم، آخذين بعين الاعتبار أن المشروع الصهيوني لم ينجح حتى الآن في تحقيق أهدافه الكاملة لأن نصف الشعب الفلسطيني ما زال مقيماً وصامداً فوق أرض فلسطين الانتدابية. ومن البديهي أنه لا يمكن ضمان صمود الفلسطينيين فوق أرضهم من دون تغيير النهج الاقتصادي الذي اعتمد  بعد قيام السلطة الوطنية، والإقرار بأن لا تنمية في ظل استمرار الاحتلال والتبعية، والعودة إلى نهج اقتصاد الصمود، الذي يقوم على الالتزام الجماعي بالأرض والتوجه نحو زرعها وفلاحتها، بما في ذلك  في المناطق المسماة (ج)، الخاضعة إدارياً وأمنياً لإسرائيل بالكامل والتي تشكل نحو 60 في المئة من الضفة الغربية، وإقامة المزيد من التعاونيات الزراعية لسد الاحتياجات المحلية وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وتشجيع الإنتاج الصناعي المحلي ودعم الاستثمارات الصغيرة والمتناهية الصغر والمتوسطة، وفرض المقاطعة الكاملة على البضائع الإسرائيلية، ومطالبة القطاع الخاص بالمساهمة الفعلية في المقاومة من خلال تركيزه على الاستثمار في القطاعات الإنتاجية عوضاً عن الاستثمار في المشاريع الاستهلاكية والعقارات والمؤسسات المالية، وتوظيف أرباحه في الداخل بدلاً من تحويلها إلى  خارج فلسطين، وتوسيع المشاركة المجتمعية في صناعة القرار الاقتصادي. وفضلاً عن توفير مقومات الصمود، لا بدّ من إعادة ترتيب البيت الفلسطيني من خلال إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وتوسيع طابعها التمثيلي وتفعيل دورها؛ فهذه المنظمة لا غنى عنها بالنسبة للشعب الفلسطيني، إذ هي “تمثّل رمزياً الشعب الفلسطيني، لا سكاناً متشرذمين ومنقسمين جغرافياً. ويتطلب إعادة بناء منظمة التحرير تحقيق المصالحة بين حركتَي “فتح” و “حماس” وإنهاء الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وتغيير وظائف السلطة الوطنية، بحيث تتحلل من التزاماتها، وخصوصاً الأمنية والاقتصادية، إزاء “اتفاق أوسلو” وتحصر مهماتها في توفير الخدمات الاجتماعية للمواطنين وتدعيم صمودهم.  
 
الثقافة الجديدة: تعيش الأراضي الفلسطينية المحتلة حالة غليان خلال الاشهر الاخيرة وشهدنا تطور النضال المناهض للاحتلال، واتخذ اشكالا كفاحية متنوعة بما في ذلك الانتقال الى العمل المسلح وهذا الاخير تنوعت اشكاله وتعاظمت روح الاقتحام... كل هذا يهيئ الارضية لحدوث تطورات وانعطافات قد ترتقي الى مستوى الانتفاضة الشعبية وقد تكون بنوعية جديدة.
ما هو تقييمكم دكتورنا العزيز للحراك الجاري اليوم في مختلف الاراضي الفلسطينية المحتلة ومآلاته وماذا سينتج عنه؟
ماهر الشريف: في ظل غياب أفق سياسي، واستمرار حكام إسرائيل في ممارسة سياساتهم الاحتلالية والاستيطانية، تزداد حالة الغليان في الضفة الغربية المحتلة، بحيث باتت الأوضاع الأمنية المتفاقمة واحتمالات تطوّرها تشكّل هاجساً للمسؤولين السياسيين والأمنيين الإسرائيليين. ففضلاً عن أشكال المقاومة الشعبية المتنوعة، التي أثبتت فاعليتها في التصدي للمستوطنين الصهيونيين ولوحدات جيش الاحتلال الإسرائيلي التي تحميهم، وصارت تحظى بتضامن واسع على الصعيد الدولي وحتى من جانب مناهضي الاحتلال داخل إسرائيل نفسها، راحت تبرز في الأشهر الأخيرة ظاهرة إطلاق النار على قوات الجيش الإسرائيلي من جانب شبان مخيمات وقرى وبلدات في الضفة الغربية، وخصوصاً في منطقتَي جنين ونابلس الشماليتين، تتراوح أعمارهم ما بين 17 و 25 عاماً وينتظمون في خلايا محلية ويخوضون، في أحيان كثيرة، معارك حتى الموت كي يثبتوا أن روح المقاومة ما زالت حية.
ويتخوف المسؤولون الإسرائيليون من أن تؤدي ظواهر المقاومة الجديدة هذه إلى تمهيد الطريق أمام انفجار شعبي واسع يتخذ شكل انتفاضة ثالثة، وهم يعتقدون أن أي انتهاك يقوم به غلاة المستوطنين في الحرم القدسي قد يكون بمثابة الشرارة التي تتسبب في هذا الانفجار، ذلك إنه من المسجد الأقصى انطلقت، في أيار 2021، شرارة الهبة الشعبية التي ربطت بين قطاع غزة والقدس والمواطنين العرب في إسرائيل.
ومن جهتي، أعتقد أن الشروط الموضوعية لاندلاع انتفاضة ثالثة متوافرة فعلاً، في ظل التغول الإسرائيلي الذي لا سابق له، وضعف السلطة الفلسطينية والتخلي الرسمي العربي عن النضال الفلسطيني، وهي انتفاضة قد لا تكون في شكلها مثل الانتفاضتين الأولى والثانية، بل من المحتمل أن تتخذ شكل احتجاجات شعبية، وتظاهرات واسعة أمام حواجز الجيش الإسرائيلي وبوابات المستوطنات، تدعو إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ثم تبدع، مع الوقت، أشكال تنظيمها، وتنحو نحو خلق حقائق جديدة ومراكمتها، بما يترك تأثيره داخل إسرائيل، ويفرض على المجتمع الدولي التحرك الجدي.
 
الثقافة الجديدة: بعد اتفاقات كمب ديفيد ومعاهدة وادي عربة، جاءت اتفاقية ابراهام لتنضم البحرين والامارات الى الأردن ومصر من قبله في تطبيع رسمي معلن مع إسرائيل. وأهداف هذه الاتفاقية واضحة: تأمين إسرائيل في شرق أوسط جديد ومن طراز آخر، وتهميش الفلسطينيين شعبا وسلطة وفصائل. وايضا تفكيك أي اصطفاف عربي حتى وان كان شكليا، وكذلك عزل او اضعاف إيران و”محور المقاومة”.
ورغم مرور ما يقارب العقدين على اتفاق اوسلو، لم يتحقق للشعب الفلسطيني إلا النزر اليسر. فلم يتحقق حلم الدولة بعاصمتها القدس وبحدود 1967، ولم تطرح قضية اللاجئين بصورة جدية. ترى، ونحن في 2022، ما الذي بقي في مسار اوسلو 1993 الطويل هذا؟ خصوصا في ظل الظروف الدولية والعربية الحالية وواقع السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير المتفاعل معها؟ ما الذي بقي أساسا من حل الدولتين بحيث عاد الحديث يقوى من جديد حول الحل النقيض: الدولة الواحدة؟
ماهر الشريف: عندما قام الرئيس أنور السادات بزيارة القدس، بعد عشرة أعوام على “لاءات قمة الخرطوم” (لا للصلح، لا للاعتراف، لا للتفاوض)، ثم توصل في العام اللاحق إلى اتفاقيات كمب ديفيد، قاطعت دول الجامعة العربية مصر ونقلت مقرها إلى تونس، لكن بعد قيام قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بتوقيع “اتفاق أوسلو” في سنة 1993، ثم توصل الأردن إلى “اتفاق وادي عربة” في سنة 1994، سارعت بعض الدول العربية في الخليج وفي المغرب العربي إلى افتتاح مكاتب تمثيلية، دبلوماسية وتجارية، في إسرائيل، اضطرت إلى إغلاقها إثر اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سنة 2000.
بيد أن الزمن العربي تغيّر اليوم، والنظام الرسمي العربي أصابه الشلل، والأنظمة العربية، أو بعضها، راحت تتخلى عن القضية الفلسطينية، وتسارع إلى إبرام اتفاقيات سلام مع إسرائيل، كما فعلت كلُ من الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان، وهي اتفاقيات تجاوزت، في بعض الحالات، تطبيع العلاقات الدبلوماسية والتعاون الاقتصادي إلى توقيع اتفاقيات تعاون أمني معها. ويبدو أن هذه الأنظمة العربية صارت ترى في إسرائيل قوة عسكرية وتكنولوجية كبرى في الشرق الأوسط، يمكنها أن تكون حليفاً يُعتمد عليه في مواجهة تهديد “الراديكالية الإسلامية” والنفوذ الإقليمي المتعاظم لإيران، وفي ظل التخوف من انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من المنطقة، وعدم استعدادها للدفاع المباشر عن هذه الأنظمة، وخصوصاً بعد أن امتنعت الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، في أيلول 2019، عن الرد على الهجمات التي استهدفت المنشآت النفطية في العربية السعودية، والتي تمّ اتهام إيران بالوقوف وراءها. ومهما يكن، فإن العديد من المحللين يشككون في قدرة إسرائيل على تأمين الحماية لهذه الأنظمة في حال واجهت فعلياً “خطراً” إيرانياً مباشراً.
وعلى الرغم من أن الأنظمة العربية التي وقعت اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل قد تنكرت لبنود “مبادرة السلام العربية” التي تمّ إقرارها في قمة بيروت في سنة 2002، والتي نصت على أنه لن يكون هناك تطبيع للعلاقات مع إسرائيل قبل انسحابها من جميع الأراضي العربية التي احتلتها في سنة 1967، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، والتوصل إلى حل عادل ومتفق عليه لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، فإن الحقيقة الثابتة التي يتوجب على زعماء إسرائيل إدراكها هي أن السلام الحقيقي لن يُصنع في أبو ظبي ولا في الرباط وإنما على الأرض التي يقيم فوقها الشعب الفلسطيني والتي سيواصل منها نضاله ضد الاحتلال حتى تحقيق أهدافه الوطنية.
 
الثقافة الجديدة: بعيدا عن الشعارات العتيقة والخطط الرومانسية، برأيك ما هي أساليب النضال الملموسة المطلوبة حاليا من قبل التنظيمات والفصائل الفلسطينية اليسارية والتقدمية؟ وما هي آليات التنسيق مع الأحزاب والتنظيمات اليسارية الشقيقية والصديقة بغية تقوية ودعم الاصطفاف الشعبي العربي والإسلامي والعالمي مع الشعب الفلسطيني لانتزاع حقوقه ومطالبه العادلة؟ خصوصا وان هذا الدعم يدب فيه الفتور بين فينة وأخرى، وكما هو حاصل في هذا الوقت؟
ماهر الشريف: أود أن أبدأ هنا من حيث انتهيت في الرد عن سؤالك السابق. فإذا كان بعض الأنظمة العربية قد تنكر للقضية الفلسطينية، فإن هذه القضية لا تزال القضية المركزية في نظر الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية كما تدل على ذلك العديد من استطلاعات الرأي. وحتى في دول الخليج، وعلى الرغم من بروز بعض الأصوات الشاذة، التي رحبت باتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، فإن عددا كبيرا من المثقفين والإعلاميين يرفضون خطوات التطبيع مع إسرائيل، ويعبرون عن عدائهم لسياساتها الاحتلالية والعدوانية، ويحذرون من مخاطر المشروع الصهيوني على دولهم، مؤكدين تضامنهم مع نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه الوطنية. والواقع أنه منذ سنوات، تشهد منطقة الخليج نشاط جمعيات عدة لمقاومة مظاهر التطبيع بين دولها وإسرائيل، وهو نشاط سبق قيام دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين بتطبيع علاقاتهما مع إسرائيل، وكان قد عُقد، ما بين 17 و19 تشرين الثاني 2017، في مدينة الكويت مؤتمر “مقاومة التطبيع في الخليج العربي”، شارك فيه ممثلون عن حركات المقاطعة ومقاومة التطبيع في دول الخليج العربي كافة وعشرات الناشطين. كما كان مواطنون من قطر والكويت والبحرين قد أطلقوا، في سنة 2019، ائتلافاً لمناهضة التطبيع مع إسرائيل ودعم القضية الفلسطينية.
ويتوجب على فصائل منظمة التحرير الفلسطينية الانفتاح على هؤلاء الناشطين وجمعياتهم وتعزيز علاقات التعاون معهم، والابتعاد عن النزعة الخطيرة التي تخلط ما بين مواقف الأنظمة ومواقف الشعوب إزاء القضية الفلسطينية والنضال الوطني الفلسطيني، كما يجب على فصائل المنظمة تعزيز علاقاتها مع القوى الوطنية والديمقراطية في العالم العربي التي لا تزال ترى في سياسات حكام إسرائيل خطراً لا تهدد مستقبل الشعب الفلسطيني وحقوقه فحسب بل تهدد كياناتها الوطنية نفسها، وتنطوي على خطر تفتت النظام الرسمي العربي لصالح نظام شرق أوسطي جديد تكون إسرائيل هي حجر الزاوية فيه. وأود في الختام الإشارة إلى شرطين يساعدان على تعزيز التضامن الشعبي العربي مع نضال الشعب الفلسطيني: أولهما نفخ روح جديدة في منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تستعيد صورتها الحقيقية بصفتها حركة تحرر وطني تواجه استعماراً استيطانياً يتمتع بقدرات كبيرة، وتحتاج في مواجهته إلى تعزيز علاقاتها مع الشعوب العربية وقواها الوطنية والديمقراطية في المقام الأول؛ وثانيهما أن التجربة دلت على أن التضامن الشعبي العربي يتصاعد مع الشعب الفلسطيني عندما تنتفض جماهير هذا الشعب على نطاق واسع كما حدث خلال الانتفاضتين الأولى والثانية.