أيار 02
 
 
الأستاذ الدكتور علي عباس مراد، مواليد بغداد 1955. حاصل على شهادة البكالوريوس من كلية القانون والسياسة/ فرع السياسة ـ جامعة بغداد عام 1977، وشهادة الماجستير من كلية القانون والسياسة/ فرع السياسة جامعة بغداد عام 1981، وشهادة الدكتوراه من كلية العلوم السياسية جامعة بغداد عام 1990 في تخصص الفكر السياسي. درّسَ المواد السياسية والفلسفية في جامعات بغداد، والكوفة، وبنغازي (قاريونس سابقا) في ليبيا. ويعمل حاليا تدريسيا في فرع العلوم السياسية في معهد العلمين للدراسات العليا في النجف الأشرف. أصدر العديد من المؤلفات التي أغنت مكتبة الفكر السياسي من بينها: الطبقات والصراع الطبقي في الأيديولوجية العربية الثورية، جدلية الدين والسياسة في الفلسفة الإسلامية: دولة الشريعة عند ابن سينا، الأمن والأمن القومي.. مقاربات نظرية، الهندسة الاجتماعية.. صناعة الإنسان والمواطن، القديس والقيصر.. الفكر السياسي في المسيحية من عصر التبشير إلى عصر الإصلاح.
له تحت الطبع الآن كتاب (المفكر والأمير.. تحولات الفكر السياسي الغربي الحديث من نظرية الأصل الإلهي للسلطة إلى نظرية الأصل الإنساني للسلطة).
 
 
الثقافة الجديدة: في البدء لنتطرق إلى الجانب النظري لمسألة الهوية الجمعية في وقتنا الحاضر، وأعني هنا في العقود الأخيرة من القرن العشرين والربع الأول من القرن الحادي والعشرين.
كخلفية فكرية للموضوع، يمكن أن استعير تصنيف أوموت أوزكيريملي الثلاثي لنظريات الأمة والقومية، والذي ورد في كتابه المعنون "نظريات القومية: مقدمة نقدية"، في تصنيف المقاربات النظرية لإشكالية الهويات الجمعية. دون أن ادّعي أنني أتوافق تماما لا مع التصنيف ولا مع الاستعارة، مع ذلك، أرى أن الاستعارة هنا ليست تعسفية، ففي النهاية الأمة والقومية يمثلان أحد تجليات الهوية الجمعية، وإن كانت تجليا متميزا، من الناحية السياسية على اقل تقدير.
بحسب تصنيف أوزكيريملي، فإن القسم الأول من المقاربات النظرية، يرى أن الهوية الجمعية مكون طبيعي ومتأصل جوهريا عند البشر، وهو مكون بديهي وأزلي وثابت، وهذه غالبا ما تمثل وجهة نظر حاملي الانتماءات الهوياتية، وممثليهم الأيديولوجيين والسياسيين.
القسم الثاني من المقاربات، يرى أن الهوية الجمعية، مع تعبيراتها الثقافية والسياسية، وربما حتى أساسها الاجتماعي، هو في نهاية المطاف منتج حديث، وهذه المقاربات لا ترى فقط أن الانتماء بتجلياته المتنوعة حديث، بل إن الكينونة الهوياتية ذاتها حديثة ومبتكرة وربما متخيلة أساسا.
القسم الأخير من المقاربات، يرى أن الكثير من الهويات الجمعية المعاصرة، وإن كانت ظواهر معاصرة أساسا، فإنها تشتمل بكل تأكيد على بذور وأصول قديمة، خصوصا في مجالات الثقافة والتراث والتقاليد.
 دكتور علي، كيف تنظر الى الهويات الجمعية المعاصرة، سواء كانت جمعية أم فرعية؟ وهنا نحتاج إلى مساحة رحبة من الأفكار والأطروحات.
 
 د.علي عباس مراد: أوجه التحية أولاً لهيئة تحرير مجلة (الثقافة الجديدة)، وأشكرها على إتاحتها لي هذه الفرصة لخوض حوار فكري جاد، كانت من رواده منذ صدورها، وما تزال كذلك في زمن تراجعت فيه الاهتمامات الفكرية أمام الاهتمامات المعيشية، وانشغل أغلب الناس بالتكالب على المكاسب حتى غير الشرعية منها، بل وقبل الشرعية وأكثر منها. واتمنى للمجلة البقاء صامدة ومصرة على نهجها هذا على الرغم مما يشهده الهم والاهتمام الثقافي الجاد من تراجع وانحسار كبيرين ومؤسفين.
وأوجه التحية ثانيا للقراء الكرام الذين أرجو أن يحتملوا ثقل دم هذا النوع من الحوارات الفكرية المزدحمة بكثير من الموضوعات والمصطلحات المتخصصة.
 
مسألة الهويات كانت وما تزال.. مسألة طبيعية
    وأود أن أبدأ بالقول إن مسألة الهويات كانت وما تزال تبدو لي مسألة طبيعية، بل وحتى بديهية، ولعل طبيعتها أو بداهتها ترتبط عندي بفكرتين أوضحتهما بتوسع في كتابي (الهندسة الاجتماعية):
الفكرة الأولى، إن الإنسان ليس فقط كائنا عاقلا، بل وكائنا اجتماعيا أيضا، وأنه يولد وهو لا يمتلك شيئاً من الصفات والخصائص الإنسانية، ولا يعرف شيئا عن وسائل وأساليب التواصل مع الأسرة الصغيرة (الأب والأم والأخوة والأخوات) ولا الكبيرة (الفخذ والعشيرة والشعب)، لكنه يولد أيضا وهو يمتلك أمرين أساسيين أوليين فقط هما: الشكل والهيكل الجسماني المادي، والقدرة العقلية والجسدية على التعلم والاكتساب المعرفي والسلوكي، فإذا نشأ في بيئة إنسانية، وتعلم منها واكتسب شيئا من تلك الصفات والخصائص والوسائل والأساليب، لاحظ بداهة وتلقائيا تشابهه مع أفراد بيئته في الصفات الجسمانية الموروثة أولا، ثم ملاحظته أيضا وتاليا تشابهه معهم في السلوكيات المجتمعية المكتسبة، ومن ثم، حدد كل فرد ماهيته الفردية (هويته الشخصية)، وحدد كل مجتمع ماهيته الجماعية (الهوية الاجتماعية)، بدلالة هذا التشابه والاشتراك مع الآخرين في الموروثات الجينية والمكتسبات الثقافية والسلوكية.
اما الفكرة الثانية، إن الفلاسفة القدماء في الشرق والغرب، وجهوا للإنسان ومنذ وقت مبكر من التاريخ الحضاري، دعوة قالوا له فيها (اعرف نفسك)، وهي دعوة مزدوجة من حيث هي:
أولا: دعوة للإنسان للمعرفة بوصفها ضرورة لازمة له بوصفه كائنا عاقلا، يحتاج إلى المعرفة لتحديد متطلبات الحفاظ على الحياة ووسائل وأساليب تلبيتها وضمان استمرارها.
ثانيا: دعوة للإنسان للمعرفة بوصفها ضرورة لازمة لتحديد طبيعة وخصائص الذات الفردية أو الجماعية، أي معرفة (الهوية) التي تختصر معناها عباراتُ (من أنا؟) و (من نحن؟).
ولا أجد شرا ظاهرا ولا سوءا كامناً في سؤال الإنسان لنفسه (من أنا؟ أو من نحن؟) ولا في إجابته على هذا السؤال (أنا فلان، أو نحن الفلانيون، بدلالة كذا من الموروثات الجينية المادية والمكتسبات الثقافية والسلوكية المشتركة بيننا)، ولا ينطوي الشكل الأول والمجرد من الغايات والمقاصد لهذه الإجابة لا على نزعة سلبية ولا روح عدوانية ضد الآخرين، فلكل إنسان واقعياً وفعليا، موروثاته ومكتسباته المميزة التي يدركها بفعل إدراكه التدريجي لتشابه موروثاته الجينية ومكتسباته الثقافية والسلوكية مع جماعته الأولية التي يولد ويتربى فيها، بقدر ما يدرك تدريجيا أيضا اختلافها مع موروثات ومكتسبات الجماعات الأخرى. فإذا حدث وانطوت إجابة الإنسان، فردا أم جماعة، على سؤال (من أنا؟ أو من نحن؟)، على أية نزعة سلبية أو روح عدوانية ضد الآخر المختلف، فردا كان أم جماعة، فإنها ليست نزعة طبيعية ولا روح موروثة، ولا أوصت بها عقيدة سوية، ولا دعا إليها دين صحيح، بل هي مكتسب ثقافي لاحق من البيئة الاجتماعية، بفعل عوامل يتقدمها عامل التلقين والتعلم من الآخرين أنها نزعة وروح يتوجب على الإنسان التحلي بها، وتعلل بعلل متنوعة تتراوح بين العقائد الفكرية والمصالح الاجتماعية والاقتصادية والطموحات السياسية.
ولكني أود هنا أن أعود إلى ما أشرتم إليه في سؤالكم بشأن تصنيفات أوزكيريملي للمقاربات النظرية لإشكالية الهويات الجمعية، وأقول إن الظواهر الاجتماعية ذات الطبيعة الممتدة جغرافيا والمتواصلة زمنيا، لا يمكن تفسيرها بعامل منفرد ولا تصنيفها بمقاربة واحدة. وعليه، فإن عيش الإنسان في وسط اجتماعي، صغير أو كبير، بسيط أو معقد، وحتى في حالتي الأنموذجين الافتراضيين لعيش الفرد ونشأته في مجتمع له طبيعة مختلفة عن طبيعته مثل عيش (طرزان في مجتمع الغوريلات) كما حكى مؤلف القصة الأمريكي (إدغار رايس بوروس1875-1950م)، أو عيش (ماوكلي في مجتمع الذئاب) كما حكى مؤلف القصة الانكليزي (روديارد كيبلنغ1865-1936م)، يفرض على هذا الفرد بشكل تلقائي وحتمي، أن يقارن نفسه مع أفراد هذا المجتمع، ويلاحظ بحكم هذه المقارنة، أوجه التشابه والاختلاف بينه وبينهم، وبدلالة أحدهما سيختار هويته بوصفه منتميا إلى هذه الجماعة أو دخيلا عليها، ومن ثم تصرفه بدلالة هذا التحديد الهوياتي ووفقا له، فإما أن يختار تأكيد انتمائه إلى مجتمعه وتماهيه معها، أو يختار تأكيد اختلافه معها تمهيدا لانفصاله عنها. وأذكر نفسي والقارئ العزيز، أن الفيلسوف اليوناني القديم (أكزنوفان أو أكزنوفانيز، حوالي 600 ق م) قد لاحظ منذ وقت مبكر أن الجماعات المختلفة عن بعضها في موروثاتها الجينية ومكتسباتها الثقافية، وبقدر ما تلاحظ هذا الاختلاف وتشعر به، فإنها تحرص أيضا على تجسيده حتى في تصورها لأقدس ما لديها (المعتقدات الإلهية)، فقال عن ذلك: "لم يوجد في العالم كله، ولن يوجد فيه، إنسان ذو علم أكيد عن الآلهة...فالآدميون يتصورون أن الآلهة يولدون، ويلبسون الثياب، وأن لهم أصواتاً وصوراً كأصوات الآدميين وصورهم. ولو كان للثيرانِ والآسادِ أيدٍ مثلنا، وكان في وسعها أن ترسم وتصنع صوراً كما يفعل الآدميون، لرسمت لآلهتها صوراً وصنعت لها تماثيل على صورتها هي؛ ولو استطاعت الخيل لصورت آلهتها في صورتها، ولصورت الثيران آلهتها في صورة الثيران، والأحباش يصورون آلهتهم سوداً فطس الأنوف؛ والتراقيون يصورون آلهتهم زرق العيون حمر الشعر".
الأمة والقومية بوصفهما تجليين للهوية الجمعية... ولكن!
أما ما وردت الإشارة إليه في المقاربات التي ذكرها أوزكيريملي بشأن (الأمة والقومية)، بوصفهما تجليين للهوية الجمعية، فهما وصفان صحيحان تماما، لكنهما ناقصان، لأنهما يحتاجان إلى استكمالهما بتحديدات أخرى أيضا:
- مكانية باعتبارهما تجليين أوربيين.
- زمانية باعتبارهما تجليين حديثين (القرن السادس عشر1500-1600م).
- موضوعية باعتبارهما تجليين عرقيين - لغويين (العرق واللغة الجرمانيان = الألمانيان، العرق واللغة الغاليان = الفرنسيان، العرق واللغة الايبيريان = الاسبانيان).
- سببية باعتبارهما تجليين سياسيين، يتعلقان برغبة حكام الممالك الغربية في عصري النهضة والحداثة في الاستقلال بممالكهم عن الأشكال الثلاثة الأخرى للسلطة في أوربا آنذاك وهي (سلطة الإقطاعيات المحلية، سلطة الإمبراطورية الرومانية المقدسة العالمية، سلطة البابوية الكاثوليكية الكونية).
وكان الارتباط الأول للجماعات الاجتماعية، قائما على أساس القرابة النسبية (العرق أو الأصل)، سواء أكانت قرابة حقيقيةً أم افتراضيةً، استناداً إلى الاعتقاد الشائع بأن كل جماعة تكونت في الأصل والابتداء من توالد وانشطار أسرة واحدة. ويعكس هذا الاعتقاد ما تسمى (شجرة الأنساب) التي تظهر فيها الجماعة وأجيالها المتعاقبة في صورة شجرة ذات جذر واحد، وجذع تتفرع منه أغصان، ملاحظين أن موجات التحرك البشري بالغزو والهجرة، كانت عاملا أساسيا في اختلاط الجماعات القرابية، مما تتعذر معه البرهنة على صحة فرضية النقاء العرقي الكامل والدائم لأية جماعة بشرية وعدم اختلاطها بالجماعات الأخرى، باستثناء الجماعات المتعذر عليها عمليا الاختلاط بغيرها (سكان الجزر المنعزلة)، أو التي تحرّم الزواج الداخلي، مما يفرض على رجالها ونسائها التزاوج مع أعضاء الجماعات الأخرى. وإذا كان الارتباط القرابي بين أفراد الجماعة الاجتماعية، ارتباطا موضوعيا فعليا في المراحل الأولى لنشأتها، ولأي سبب كان، فإن هذا الارتباط، يفقد بمرور الوقت أساسه الموضوعي الفعلي، ويكتسب تدريجيا طبيعة ذاتية افتراضية (تخيلية)، يرسخها المجتمع بأساليب مختلفة، تعوضها عن افتقارها المتزايد للأسس الموضوعية.
    وإذ اعتقد أن الارتباط القومي بين كل الجماعات البشرية، يظهر عبر التاريخ في ثلاثة مستويات وجودية تطورية متعاقبة، كل منها يحوي الذي يسبقه ويستند إليه وهي:
 
المستوى الوجودي الشعوري للارتباط القومي:
ويعكس ويعبر عن إحساس كل جماعة اجتماعية بذاتها (هويتها، شخصيتها) وتحديدها لنفسها بــ (الذات/ نحن) وتحديدها لغيرها بــ (الآخر/ هم)، وهو مستوى وجودي تشترك في امتلاكه الجماعات القديمة والحديثة، البدائية والمتحضرة، الصغيرة والكبيرة، ما دامت كل منها مدركة لوحدتها الذاتية واختلافها عن الجماعات الأخرى، وحريصة على عدم فقدان وحدتها ولا اختلافها، ورافضة للاندماج والتماهي في جماعات أخرى. ويترتب على هذا الشعور، وجود فضاءين اجتماعيين وثقافيين، فضاء (الذات/ النحن) الذي تنتمي إليه الجماعة، وفضاء (الآخر/ هم) الذي تنتمي إليه الجماعات الأخرى. ويمنح هذا للمستوى الوجودي الشعوري للارتباط القومي بعدين:
* بُعد الشعور بالوحدة مع الجماعة التي ننتمي إليها ونتشابه معها في موروثاتنا ومكتسباتنا (الذات/ نحن).
* بُعد الشعور بالاختلاف عن الجماعة التي لا ننتمي إليها ونختلف معها في موروثاتنا ومكتسباتنا (الآخر/هم).
المستوى الوجودي الفكري للارتباط القومي:
ويعكس ويعبر عن تقدم بعض الجماعات الاجتماعية خطوة إلى الأمام على طريق الارتباط القومي، بما يوصلها إلى ما بعد المستوى الوجودي الشعوري لتضيف إليه أيضا استخدام بعض أفرادها المتاحَ لهم من الوسائل والأساليب الفكرية الأدبية والفنية والقدرات والخبرات البحثية المنهجية، لإنتاج أعمال يعبرون بها عن وحدة جماعتهم القومية، وتأكيد هويتها وشخصيتها المميزتين، وإعلاء قيمها والدفاع عن مصالحها الجماعية. وإذا كانت كل الجماعات الإنسانية، تشترك في امتلاك المستوى الوجودي الأول الشعوري للارتباط القومي، فان ظروفا خاصة، تمكن بعض هذه الجماعات من امتلاك المستوى الوجودي الثاني الفكري للارتباط القومي، منها بلوغ درجة من التقدم والتعقيد الحضاري، تسمح لها بخلق وتطوير واستخدام وسائل وأساليب التعبير الفكري عن هذا المستوى، الشعر أو القصة أو الرسم أو النحت أو البحث المنهجي، لتؤكد بها ارتباطها القومي، وتدافع عنه، وترد على مخالفيها ومعارضيها.
المستوى الوجودي السياسي للارتباط القومي:
ويعكس ويعبر عن تقدم بعض الجماعات الاجتماعية التي بلغت سابقا المستوى الوجودي الفكري، خطوة أخرى إلى الأمام على طريق الارتباط القومي، لتضيف إلى ما تمتلكه سابقا من المستويين الوجوديين الشعوري والفكري، مستوى آخر للارتباط الوجودي القومي، أكثر عمقاً وتطوراً وتعقيداً، ويتمثل في مطالبة هذه الجماعات بالحقوق الأساسية الثلاثة السياسية - القانونية التي تعتقد أن من حق كل جماعة قومية المطالبة بها وهي:
- حق الجماعة القومية (الأمّة) في تقرير مصيرها.
- حق الجماعة القومية (الأمّة) في إقامة دولتها القومية المستقلة الموحدة.
- حق الجماعة القومية (الأمّة) في السيادة الكاملة على إقليمها وفي دولتها.
ويعني ذلك: إنّ القومية (المستوى الوجودي الشعوري للانتماء إلى جماعة محددة، ذات هوية مستقلة ومميزة تؤمن بها وتدافع عنها)، مستوى وجودي عرفته وامتلكته كل الجماعات البشرية، ولكن بعضها فقط تقدم خطوة نحو معرفة وامتلاك المستوى الوجودي الفكري للارتباط القومي، وقبل ظهوره في أوربا بقرون كثيرة. ثم تقدم بعض هذا البعض من الجماعات القومية (الامم) خطوة أخرى نحو امتلاك المستوى الوجودي السياسي. ويعني ذلك، خطأ الرأي القائل باختصاص أوربا الحديثة وانفرادها بنشأة كل مستويات الظاهرة القومية بكل مستوياتها، بقدر ما يعني بالمقابل أن قوميات (أمم) أوربا كانت فقط، أول من عرفت وامتلكت المستوى الوجودي السياسي للارتباط القومي، ثم انتقلت الرغبة في امتلاك هذا المستوى إلى شعوب العالم غير الأوربية، سواء رغبة في التشبه بأوربا وحذو حذوها، أو رغبة في امتلاك ما منح القوة لأوربا، للتمكن من التصدي لسياساتها الاستعمارية التوسعية. ومن ثم، فإن الظروف التاريخية والعوامل الاجتماعية الداخلية والخارجية مجتمعة ومتفاعلة، هي التي حكمت وتحكم في النهاية، نوعية المستوى الوجودي للارتباط القومي الذي تبلغه كل قومية، ومدى استعدادها أو عجزها عن الانتقال إلى المستوى الذي يليه، من غير أن يجعل ذلك بعض القوميات أرقى من بعضها، أو أكثر قدرة وتفوقاً.
ولكن لا بدّ من الإقرار هنا بثلاث وقائع مهمة تتعلق بالمسألة القومية في العصر الحديث وهي:
* إن الجماعات القومية في أوربا الغربية، سبقت غيرها من الجماعات القومية في عصري النهضة والحداثة إلى امتلاك المستوى الوجودي السياسي للارتباط القومي، بطبيعته الكلية الشاملة للمستويين الآخرين الشعوري والفكري، بتأثير مجموعة من العوامل والخصائص الموضوعية العامة، التي امتاز بها هذان العصران.
* إن سبق الجماعات القومية في أوربا الغربية، غيرها من الجماعات القومية في عصري النهضة والحداثة إلى امتلاك المستوى الوجودي السياسي للارتباط القومي، اقترن بتغير نظام ونمط الإنتاج الاقتصادي فيها من نمط الإنتاج الإقطاعي إلى الرأسمالي، التجاري (الماركنتيلي) أولا، ثم الصناعي - التجاري تالياً.
* إن تغير نظام ونمط الإنتاج الاقتصادي في الجماعات القومية في أوربا الغربية، وقبل غيرها من الأمم في عصري النهضة والحداثة، من نمط الإنتاج الإقطاعي إلى الرأسمالي، التجاري (الماركنتيلي) أولا، ثم الصناعي - التجاري تالياً، اقترن بتزايد قوتها، ما شجعها على تبني سياسات التوسع والنهب الاستعماري التي لفتت الأنظار إلى دور النظرية والوحدة القومية في قوة المجتمعات والحكومات.
 
وبقدر تعلق الأمر بهذه الوقائع الثلاث، فإن ملاحظة الفلسفة السياسية الماركسية لها، وإدراكها للاقتران الواسع والعميق بينها، يبدو لي أنه كان العامل الأساس الذي دفعها، وهي الابنة الشرعية للبيئة الأوربية الغربية، إلى ربط النزعة القومية بالرأسمالية وسياساتها الاستعمارية، وجعلها تتخذ منهما موقفا سلبيا، وليس دافعها إلى ذلك طبيعة سلبية كامنة في النزعة القومية بحد ذاتها. واعتقد أن ذلك يقتضي من الشعوب التي عانت من سياسات التوسع والنهب الاستعماري الأوربية، إعادة قراءة الماركسية، واستخلاص نتائج ودروس مختلفة منها عن المسألة القومية وكيفية فهمها والتعامل معها والاستفادة منها، بقدر ما تحتاج أيضا إلى إعادة قراءة الماركسية، واستخلاص نتائج ودروس مختلفة منها عن المسألة الدينية التي لطالما تم تشويهها وعرضها عكس ما كان مقصودا بها عند ماركس وانجلز وحتى لينين وباقي المفكرين الماركسيين. ولعل مما عبر عن إعادة قراءة الماركسية في عقد السبعينيات من القرن الماضي، تبني العديد من الأحزاب الشيوعية الأوربية، التوجه المعروف بــ(الأورو شيوعية)، التي كانت من جهة توجها جمع بين تمسك هذه الأحزاب بماركسيتها، ومراعاتها للخصائص واحتياجات مجتمعاتها، وتقليل انحيازها لأفكار وسياسات الحزب الشيوعي السوفيتي، وكانت من جهة ثانية تعبيرا عن تأثرها بأفكار المناضلين الشيوعيين البولندية - الألمانية (روزا لوكسمبورغ1871-1919م)، والايطالي (انطونيو غرامشي1891-1937م)، والتجربة النضالية للحركة الشيوعية النمساوية، والنتائج الفكرية والعملية للتجربة الشيوعية الصينية.
 
الثقافة الجديدة: منطلقين من فرضية نتخذها مسلمة في النقاش، وهي أن المنظومة الرأسمالية العالمية ما زالت، كبنية، تتشكل من بلدان مركز وبلدان أطراف أو بلدان تابعة؛
هل يمكن أن تُجمل لقرائنا أهم الاختلافات بين الهويات الجمعية ووظائفها في بلدان المركز وبلدان الأطراف، والاختلافات بين انساق الفعل الاجتماعي التي تؤدي إلى إنتاج أو إعادة إنتاج وتشكيل الهويات الجمعية بين هاتين المجموعتين من البلدان.
وفي هذا الصدد أيضا، هل هناك مميزات إضافية لهذا الفعل الاجتماعي في البلدان الريعية مثل العراق؟
 
د. علي عباس مراد: في ضوء ما تقدم قوله، أود أن أشير أولا إلى أن بلدان المركز وبفعل تقدمها العام والشامل، تتمتع بقدر فائق من القدرة والفاعلية والتأثير، بقدر ما أن بلدان الأطراف وبفعل تخلفها وفساد حكوماتها وحكامها، تعاني من قدر فائق معكوس من ضعف إن لم يكن انعدام القدرة والانفعال والتأثر، وآخر وأخطر تأثيرات بلدان المركز على بلدان الأطراف هي (العولمة) التي لا حول لبلدان الأطراف حتى الآن ولا قوة على مواجهتها، ولا بديل لديها مؤهل للحلول محلها، خصوصا وأن الماكينة الإعلامية الجبارة لبلدان المركز كثفت جهودها منذ أكثر من نصف قرن لتلقين بلدان الأطراف فكرة تخلف هوياتها وعدوانيتها، وعدم جدارتها بالتمسك بها، بل لعلها مبعث للخجل وسوء السمعة بما يستدعي التخلي عنها، أو على الأقل إخفاءها والتستر عليها.
وزاد الأمر سوءا وارتباكا على بلدان الأطراف، أن مشكلة الهوية، وكما سبق وقلت في كتابي (مشكلات إعادة بناء الدولة في البلدان العربية.. حالة العراق 2003 - 2018)، اتسعت وتعمقت في العقد الأخير من القرن العشرين والعقود الثلاثة الأولى من القرن الحادي والعشرين، لتغدو مشكلة إنسانية عامة، تعاني منها العديد من الدول الحديثة النشأة، بل وحتى بعض الدول الغربية القديمة النشأة وذات الهويات الراسخة، فقد لاحظ المفكر اللبناني - الفرنسي (أمين معلوف) في كتابه (الهويات القاتلة) أن أوربا وهي على أعتاب القرن الحادي والعشرين (وأكثر منها في الماضي، تُسائل نفسها عن هويتها.. غير واثقة بالأجوبة)، وعلل ذلك بانتقال الدول الغربية، بعد انتهاء المجابهة بين المعسكرين الشرقي والغربي (من عالم كانت فيه الانشطارات أيديولوجية بالدرجة الأولى.. إلى عالم باتت فيه الانشطارات هووية بالدرجة الأولى.. فراح كل واحد ينادي بانتماءاته في وجه الآخرين، ويُكفِّرُ ويحشد أهله، ويؤبلِسُ أعداءه)، وأن ذلك الانتقال، اقترن أيضاً بانقلاب جذري في طبيعة مشكلة الهوية، انقلابا استجلب (عواقب مدمرة على كوكبنا بمجمله، لكن هذا الدمار لم يبلغ في أي مكان القدر الذي بلغه في المحيط الثقافي العربي - الإسلامي) الذي باتت فيه هوية هذا المحيط متهمة صدقا أو كذبا، حقا أو باطلا بالإرهاب، ما جعلها هوية لا يخشى أصحابها من التصريح بها فحسب، بل ويخجلون منها أيضا. وقال عالم الاجتماع الفرنسي (الان تورين 1925 - ؟؟)، في كتابه (براديغما جديدة لفهم عالم اليوم)، إن من العواقب العالمية الأخرى لتغير طبيعة مشكلة الهوية، الانتقال من مرحلة (الهويات الجماعية) إلى مرحلة (الذات الفاعلة الشخصية)، نتيجة لثلاث مقدمات هي:
- إن المجتمعات المعاصرة تشهد تحولات عميقة ودرامية بفعل أحداث 11 سبتمبر2001.
- إن المجتمعات المعاصرة تتفتت إلى جماعات حتى غدت مجتمعات (مدمَّرَة، متشرذمة، مقلوبة رأسا على عقب)، فهل نعيش اليوم (عودة إلى الجماعات المنغلقة على ذاتها).
- إن المجتمعات المعاصرة تشهد تقهقر المطالب الاجتماعية بل وحتى أفولها، وتزايد المطالب الثقافية وتصاعدها، سواء بشكل طائفي، أو بشكل دعوة إلى ذات فاعلة شخصية، ومطالبة بحقوق ثقافية، فبعد أن كنا نتحدث عن (فاعلين اجتماعيين) و(حركات اجتماعية)، بتنا نتحدث عن (ذوات فاعلة شخصية) و (حركات ثقافية).
أصول مشكلة الهوية الوطنية في العراق.. الحاجة الى مقاربة أعمق
إن التغيرات الطارئة حديثاً على طبيعة ومحركات مشكلة الهوية، وتباين الدعوات إليها أو ضدها، لا يُخفيان حقيقة أن الهوية كانت وستبقى جوهر الوساوس الإنسانية، ومن منظور حالة الهوية في العراق، فإنها لا تعاني من هذه التغيرات فحسب، بل وتعاني أيضا وأصلا من مشكلة الاتفاق على طبيعة هذه الهوية، نتيجة أسباب يمكن تحديد أهمها في:
- إن الدولة العراقية واقع اجتماعي – جغرافي - سياسي حديث، لا يتجاوز عمرها بدايات العقد الثاني من القرن العشرين.
- إن الدولة العراقية واقع جغرافي واجتماعي وحضاري حديث، لا يتطابق تماما لا مع الواقع الجغرافي لإقليم العراق القديم، ولا مع تكوينه الاجتماعي وطابعه الحضاري.
- إن الدولة العراقية كواقع جغرافي اجتماعي - سياسي حديث، تأسست في ركنها الإنساني على الشعب العراقي الذي لم يكن له وجود سابق عليها، ولم يتشكَّلَ عملياً إلا بفعل بريطاني غائي مقصود، لتجميع جماعات اجتماعية ذات انتماءات قومية ودينية ومذهبية متنوعة، لا يجمعها جامع مشترك، سوى تابعيتها السابقة للدولة العثمانية، واستقرارها في ثلاث ولايات عثمانية متجاورة موجودة على الإقليم الجغرافي التاريخي المعروف تاريخيا باسم (عراق)، دفعت المصالح ببريطانيا إلى جمعها، وتشكيل كيان سياسي جديد منها.
ولكن حداثة تكوين الدولة العراقية، وتعدد وتنوع مكوناتها المجتمعية، ليست مشكلة في حد ذاتها، ولا هي بالأمر الاستثنائي الخاص بالعراق وحده دون غيره، فكثير من الدول حديث النشأة، ومعظمها إن لم يكن كلها، ذات طبيعة متعددة ومتنوعة اجتماعيا بهذا الشكل والقدر أو ذاك. ولكن واقع العديد من الدول التي تقترن فيها حداثة التكوين مع تعدد وتنوع المكونات المجتمعية، بما في ذلك الدولة العراقية، يبين أنها غالبا ما تعاني نتيجة لذلك التعايش والتفاعل من مشكلتين:
المشكلة الأولى: مشكلة غلبة عوامل الاختلاف والتنافر بين المكونات المجتمعية المتنوعة للدولة على عوامل التجانس والتلاحم بينها، بما يجعلها دولا ذات مجتمعات ضعيفة الاندماج، إن لم تكن عديمة الاندماج كليا.
المشكلة الثانية: مشكلة فشل السياسات الحكومية والمحاولات المجتمعية المدنية لإدارة علاقات التعايش والتفاعل بين المكونات المجتمعية المتنوعة بما يهدد الاندماج المجتمعي الوطني، ومن ثم يضعف شرعية نظام الحكم وحتى الدولة أحيانا، ويهدد استقرار النظام والدولة وحتى استمرارهما.
وإذ تأسست الدولة العراقية الأولى في العصر الحديث، بفعل إرادي خارجي، فقد عانى ذلك التأسيس ولواحقه من مشكلات كثيرة، عملت على تغليب الهويات المجتمعية الفئوية ما دون الدولة (المنطقة، القبيلة، المذهب)، أو ما فوق الدولة (القومية، الدين، الطبقة)، على الهوية الوطنية العراقية الموَحَّدَة والموَحِّدَة، وترسيخ المختَلَفات التي تفرق وتجزئ مكونات المجتمع العراقي على حساب المشتَرَكات التي تجمع وتوحد هذه المكونات. وتشمل تلك المشكلات:
  1. تعيين الحدود الراهنة للدولة العراقية وفقا لمصلحة بريطانيا في المقام الأول.
  2. تأسيس الدولة العراقية على يد نخب جلها غير عراقي المولد.
  3. إن الأسس الاقتصادية - الاجتماعية في العراق لم تكن ملائمة لبناء واسع وعميق لطبقة الوسطى التي تعد الأساس لبناء هوية وطنية.
  4. إن الأسس الاقتصادية - الاجتماعية في العراق الملائمة لبناء الطبقة الوسطى، كانت هشة وسريعة العطب والاندثار.
  5. إن قيادات الجماعات والهويات الفئوية ما دون وما فوق الدولة في العراق، بقيت ذات حضور وأدوار فاعلة حتى بعد البدء ببناء الدولة، وكان أهمها (الإقطاعيين وشيوخ القبائل ورجال الدين).
  6. إن أيا مما جرى تسويقه بين العراقيين من الصور المتنوعة للأيديولوجيات الشمولية القومية والطبقية والدينية (= ما فوق الدولتية)، حلت عندهم محل الهويات المجتمعية العراقية الأخرى، وعملت على تذويبها، لتسعى كل منها لإقامة دولة تكون جزءا من كيان اكبر عابر للوطنية يحتويها (أمة عربية، طبقة عمالية، ملة إسلامية، مذهب شيعي أو سني).
  7. إن التهميش والإقصاء اللذين عانت منهما بعض المكونات المجتمعية العراقية منذ عام 1921 وما بعده، كان فعلا غير قصدي في البدء، لأن بريطانيا لم تعارض مشاركة تلك المكونات في عملية بناء الدولة، لكنه أصبح فعلا قصديا في ما بعد في سياسة بعض النظم السياسية العراقية، ولو بدرجات وأشكال متفاوتة، واكتسب خصوصية وتكثيفا واضحين بعد عام 1980 ولأسباب متعددة ومتنوعة.
 
"المظلوميات" بين حركة الواقع والتوظيف السياسي
 وتقتضي الموضوعية والأنصاف قولين في هذا الشأن:
القول الأول: إن سياسات التهميش والإقصاء التي اتبعها النظام الملكي في العراق ضد مكونات اجتماعية عراقية معينة، كانت في جانب منها، رد فعل على المواقف السلبية التي اتخذتها تلك المكونات ليس منه فحسب، بل وحتى من مشروع بناء الدولة العراقية بكامله، ومن علاقة هذه الدولة بحليفتها بريطانيا.
القول الثاني: إن سياسات التهميش والإقصاء التي اتبعتها بعض النظم السياسية الجمهورية في العراق ضد مكونات اجتماعية عراقية معينة، وظفتها تلك المكونات في معارضتها السياسية، بعضها تحت مسمى (المظلومية المذهبية-الشيعة) وبعضها تحت مسمى (المظلومية القومية-الأكراد) و(المظلومية الدينية-الأرمن)، لكن الشخصيات والأحزاب والكتل السياسية لتلك المكونات، لم تكن ذكية بقدر كاف لتعيد توظيفها بعد وصولها إلى السلطة عام 2003م في إعادة بناء الدولة العراقية على أسس صحيحة وراسخة، بقدر ما وظفتها للمطالبة بسياسات (التعويض عن المظلومية) و(تقاضي الأجر عن المعارضة)، بشكل تجاوز حدود المبالغة بكثير، وخرج تماما وكليا على قواعد المساواة في الحقوق الوطنية.
وإذا كان من المفترض أن تقترن ولادة أية دولة، أو على الأقل تنتهي تلك الولادة، بالإجابة على السؤال مركزي عن هوية الهوية الوطنية الجامعة لمكوناتها المجتمعية؟ فالظاهر أن مؤسسي الدولة العراقية الحديثة عام 1921م، ومَن حكمها بعدهم وصولا إلى عام 2022، فشلوا جميعا، بنسب متفاوتة ولأسباب متباينة، في الإجابة عن هذا السؤال. ويتأكد ذلك بأن حال الدولة العراقية انتهى بعد سقوط النظام السابق عام 2003، وعلى حد قول (حميد فاضل حسن) في دراسته (الهوية العراقية وبناء الدولة): بأن عادت، وكما بدأت في مطلع القرن العشرين، لا بلداً موحداً، ولا شعباً متجانساً، ولا مجتمعاً متكاملاً ينضوي تحت هوية وطنية واحدة. وكان الملك (فيصل الأول) (رحمه الله)، قد تنبه باكرا إلى غياب الهوية العراقية، ونبّه عليه في المذكرة التي كتبها في آذار 1932، وقبل وفاته بأشهر قليلة ونقلها عنه (عبد الكريم الأزري = الأذري) في كتابه (مشكلة الحكم في العراق من فيصل الأول إلى صدام) وقال فيها:
  1. إن البلاد العراقية من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية ذلك هو الوحدة الفكرية والمليّة والدينية، فهي والحالة هذه مبعثرة القوى منقسمة على بعضها.
  2. إن العراق فيه أفكار ومنازع متباينة جداً، تستوجب رد الفعل (الشبان المتجددون بمن فيهم رجال الحكومة، المتعصبون، السنة، الشيعة، الكرد، الأقليات غير المسلمة، العشائر، الشيوخ، السواد الأعظم الجاهل المستعد لقبول كل فكرة سيئة بدون مناقشة أو محاكمة).
  3. إن العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني، وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً أكثريته جاهلة، بينه أشخاص ذوو مطامع شخصية، يسوقونه للتخلي عنها بدعوى أنها ليس من عنصرهم، وأكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصرياً إلى نفس الحكومة، إلا أن الاضطهاد الذي كان يلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يُمكّنهم من الاشتراك في الحكم، وعدم التمرن عليه، فتح خندقاً عميقاً بين الشعب العربي المنقسم إلى هذين المذهبين، إضافة إلى أقليات مسيحية، وكتل كبيرة، غيرها من العشائر، كردية وشيعية وسنية...تجاه هذه الكتل البشرية، المختلفة المطامع والمشارب، المملوءة بالدسائس، حكومة مشكلة من شبان مندفعين، أكثرهم متهمون بأنهم سنيون أو غير متدينين أو أنهم عرب.
واتفق عالم الاجتماع العراقي الراحل (على الوردي 1913 - 1995م) مع الملك (فيصل الأول) (رحمه الله) في هذا الخصوص، حين وصف أهل العراق في كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج5) بأنهم: (لم يعرفوا قبل نشوء الدولة العراقية شيئاً من المفاهيم السياسية الحديثة مثل الوطنية، بل كان جل ما يشغل بالهم الإحساس الديني المتمثل بقضايا التعصب المذهبي)، ونضيف إلى ذلك أيضا، الإحساس بقضايا التعصب القومي بعد قيام هذه الدولة.
الولاء للهويات الفرعية دون الوطنية في العراق، هو إرث تاريخي سلبي، عجزت الحكومات العراقية المتعاقبة عن التخلص منه.
 ويؤسس ذلك للاستنتاج بأن الولاء للهويات الفرعية دون الوطنية في العراق، ليس شيئاً مستجداً أو مستحدثا، بل هو إرث تاريخي سلبي، عجزت الحكومات العراقية المتعاقبة عن التخلص منه ببناء هوية وانتماء وطنيين جديدين، بعد أن فشلت هذه الحكومات في صناعة هوية وطنية جامعة بديلة للهويات القومية والدينية والمذهبية والقبلية والمناطقية، وعجزت عن نقل مجتمعها من المستوى التقليدي المنظم تقليديا إلى المستوى الحديث المنظم سياسيا في إطار الدولة. ولكن لا بد من الاحتماء هنا، بل وحتى التشبث بالواقعية والموضوعية، بالقول إن لا غرابة ولا عيب في أن تنتمي الجماعات التي تكونت منها الدولة العراقية إلى هوياتها الجماعية ما دون الوطنية (القبلية، المناطقية)، أو ما فوق الوطنية (الطبقية، القومية، الدينية، المذهبية)، لأن من الطبيعي أن لا ينتمي الإنسان إلى هوية غير موجودة ولا معروفة ولا مقبولة بالنسبة له أصلا. ويعني ذلك:
- إن مشكلة الهوية الوطنية في العراق مشكلة طبيعية بل وحتمية.
- إن مشكلة الهوية الوطنية في العراق مشكلة حديثة النشأة.
- إن مشكلة الهوية الوطنية في العراق مشكلة سياسية أولا وأساسا.
فنشأة الدولة العراقية بعد أن لم يكن لها وجود سابق، كانت تتطلب نشأة موازية لهوية وطنية عراقية، تتبناها حكومة هذه الدولة، وتعيد على أساسها هندسة وصناعة أفكار وسلوكيات مكوناتها المجتمعية، تصنع من هذه المكونات (الشعب العراقي)، وهو ما كان يجب أن يكون عليه المشروع الأول للدولة والحكومة العراقيتين، بعد مشروع صناعة هذه الدولة. ولعل خير من يعبر عن هذا المعنى ويوجزه، ما نقله المفكر الانكليزي الماركسي (إريك هوبزباوم1917 - 2012م) في كتابه (الأمم والنزعة القومية منذ عام 1780) من قول أحد رموز الحركة القومية الايطالية (ماسيمو دازيغليو)، مخاطبا النواب الذين حضروا الجلسة الأولى لبرلمان المملكة الايطالية بعد إعلان توحيدها: (لقد صنعنا إيطاليا، والآن علينا أن نصنع الايطاليين)، وقول (كولونا) أحد رموز الحركة القومية البولندية: (إن الدولة هي التي تصنع الشعب، وليس الشعب هو الذي يصنع الدولة).
ويقودنا هذا إلى ملاحظة أنه، وعلى الرغم من أن (بناء الدولة وبناء الأمة عمليتان مترابطتان ومتكاملتان)، ولكن عاملي طبيعة المجتمع والعلاقات الاجتماعية السائدة فيه، هما اللذان يحددان أي العمليتين تكون الأولى. وتراوح تفسير العلاقة بين هاتين العمليتين المترابطتين والمتكاملتين في التاريخ السياسي الحديث بين نظريين:
- النظرية المؤسسية القائلة: إن الدولة هي التي تتولى مهمة بناء الشعب/ الأمة.
- النظرية التعاقدية القائلة: إن الشعب/ الأمة هو الذي يتولى مهمة بناء الدولة.
والنظرية المؤسسية هي النظرية الأقرب إلى الحالة العراقية من النظرية التعاقدية، وهو ما يتطابق والقولين السابقين للايطالي (دازيغليو) والبولندي (كولونا)، لأن الشعب العراقي، كأحد أركان ومقومات الدولة العراقية الحديثة التكوين، لم يبدأ بالتشكل فعليا، إلا بعد تكوينها، جامعا في إطاره قوميات وأديانا ومذاهب متعددة ومتنوعة، لم يكن لها من جامع سياسي قبل ذلك سوى انتمائها إلى إحدى الولايات العثمانية الثلاث (بغداد والموصل والبصرة) التي تكونت منها الدولة العراقية بفعل بريطاني خارجي غائي، ومن الطبيعي، بل والحتمي، في مثل هذه الحالة، ألّا يكون هناك وجود قبل تكوين الدولة العراقية، لا لشعب عراقي ولا لهوية وطنية عراقية موحدة ومحددة الملامح، وهو ما يجعل أول وأهم مهمات ومسؤوليات الحكومات المتعاقبة في هذه الدولة، هي مهمة ومسؤولية بناء/ صناعة شعبها عبر بناء/ صناعة هويته وهوية دولته الوطنية.
وحيث إن الدولة العراقية من النوع الذي تصنع الدولة فيه الشعب/ الأمة، عبر صناعة هويته وهوية دولته الوطنية الموحَدَة والموحِدَة، فإن النتائج العملية لسياسات الحكومات العراقية المتعاقبة بين الأعوام 1921 - 2023م، تبين فشلها كلها وحتى الآن في صناعة هذه الهوية، لأنها فشلت أصلا في تحديد طبيعة الهوية الوطنية العراقية التي ترغب في صناعتها، وما حاولت صنعه منها، لم يحظ بقبوله والاتفاق العام عليه. وكانت معاناة هذه الأنظمة من الفشل المتكرر والدائم في صناعة هوية وطنية عراقية واحدة وموحِدَة، تقوم على مبادئ المواطنة والمساواة اللازمة والمؤهلة لتحقيق وترسيخ الاندماج الوطني، السبب في فشلها أيضا في احتواء الاختلافات بين المكونات المجتمعية العراقية وهوياتها الفرعية. ويكاد يكون من المسلمات اليوم. أن هذا الفشل المشترك والمتكرر للحكومات العراقية المتعاقبة كلها في بناء الهوية الوطنية الجامعة، يعود إلى حكمها للعراق وإدارتها لشؤونه بأسلوب لا يعترف كثيرا بالتعددية الثقافية ولا يراعي متطلباتها تماما، لتتفاقم تلك المشكلة ويتسع نطاقها وتزداد حدتها حتى تبلغ ذروتها في العقدين الأخيرين من القرن العشرين بعد أن امتزجت تدريجيا مع المشكلات الأخرى للتنمية في العراق (المشاركة والشرعية والاندماج والتغلغل والتوزيع)، لتساهم كل مشكلة منها في تعقيد المشكلات الأخرى وتوسيع نطاقها وزيادة حدتها وتوترها.
لقد كانت القوى السياسية العراقية، محتارة دائما في خياراتها بين أربع هويات متنافسة، إن لم تكن متناقضة، هي:
- الهوية الوطنية العراقية.
- الهوية القومية العربية.
- الهوية الطبقية الاقتصادية.
- الهوية الدينية الإسلامية العامة ثم الدينية - المذهبية الخاصة الشيعية أو السنية.
وكان من شأن اختيار أي من هذه الهويات، أن يُحدث مشكلات سياسية ومجتمعية، داخلية وخارجية، إقليمية وحتى دولية، بحكم اصطدامه باختيارات الهوية وتفضيلاتها لدى مكونات عراقية و/أو أطراف إقليمية أو دولية أخرى، تعارض ذلك الاختيار، وتخشى من آثاره السلبية على مصالحها وأهدافها وسياستها في العراق والمنطقة والعالم. وإذ اكتسبت المراوحة الفكرية - السياسية بين هذه الهويات، وبمرور الوقت، بعدا ومستوى حكوميا، سمح لكل هوية بالتعبير عن نفسها في صورة سياسات حكومية، فقد باتت الولاءات المجتمعية في العراق منقسمة على أربعة مشاريع للهوية هي:
- مشروع الهوية الوطنية.
- مشروع الهوية القومية.
- مشروع الهوية الطبقية.
- مشروع الهوية الدينية - المذهبية.
ساهمت تأثيراتها في إحداث خلط مفاهيمي وبرامجي لدى النخب الفكرية والحزبية والمكونات المجتمعية في العراق، تسبب في فقدانها، ومن ثم فقدان الدولة العراقية، للهوية الوطنية الموحدة والمستقرة في الإنشاء والتكوين والدور والوظيفة، فأضر ذلك بدوره ببنية هذه الدولة وفعلها الخارجي، وأفقدها وضوح الانتماء ورسوخ التأسيس والبقاء، لتنشطر الذات والهوية الوطنية العراقية وتفقد وحدة الثوابت والأهداف والسياسات.
ولعل من السمات المميزة لمشكلة الهوية الوطنية في العراق، ارتباطها ليس فقط بالعوامل الاجتماعية والسياسية التاريخية الداخلية، بل وارتباطها أيضا بالعوامل الخارجية بفعل تدخل القوى الإقليمية والدولية في الشأن العراقي لأسباب وأهداف مختلفة، وظهر ذلك التدخل بأجلى صورهِ بعد عام 2003 في محاولاتها المكشوفة لتوظيف الهويات الفرعية للمكونات المجتمعية العراقية في تطبيق سياسة (فرّق تسد)، حيث توزعت خيارات التأييد والمعارضة التي تبنتها تلك القوى الخارجية بين أربعة مواقف:
- موقف التركيز على الهويات الفرعية (المذهبية) عند أجزاء من النسيج المجتمعي العراقي (العرب السنة والعرب الشيعة)، والتغاضي دائما عن هوياتها القومية العربية.
- موقف التركيز على الهوية (القومية) عند أجزاء من النسيج المجتمعي العراقي (الكرد، التركمان)، والتغاضي دائما عن هوياتها الأخرى (الدينية الإسلامية والمذهبية السنية والشيعية).
- موقف التركيز على الهويات (الدينية) عند أجزاء من النسيج المجتمعي العراقي (الصابئة، الأيزيديين، الشبك، الكاكائيين)، والتغاضي دائما عن هويتها الوطنية العراقية الواحِدة الموحِدَة الجامعة.
- موقف التركيز على الهويات (القومية - الدينية) عند أجزاء أخرى من النسيج المجتمعي العراقي (المسيحيين الكلدوآشوريين، الأرمن)، والتغاضي دائما عن هويتها الوطنية العراقية الواحِدة الموحِدَة الجامعة.
وينطوي هذا التصنيف والتوزيع المركب (القومي والديني والمذهبي)، الخارجي والطارئ، على مشكلات إجرائية تتمثل في:
- مشكلة التجاهل المتعمد للطابع القومي للمكون المجتمعي العراقي الأعلى نسبة سكانيا (العراقيين العرب)، وتقسيم هذا المكون بدلا من ذلك على هويتين طائفيتين مذهبيتين (عربية - شيعية وعربية - سنيّة).
- مشكلة التأكيد المتعمد على الطابع القومي للمكونين الاجتماعيين العراقيين الآخرين الأقل عددا، (العراقيين الكرد والعراقيين التركمان)، كل منهما منفردا بذاته، على الرغم من كونهما أيضا مكونين إسلاميين، ينقسمان مذهبيا وبشكل طبيعي إلى (كرد وتركمان شيعة وكرد وتركمان سنة)، حالهم في ذلك حال العراقيين العرب المسلمين.
 
    وإذ يستوجب ذلك التساؤل عن أسباب تصنيف القوى الإقليمية والدولية للعرب مذهبيا، وتصنيفها للعراقيين الكرد والتركمان قوميا، وتعاملها معهم على أساس ذلك؟ فإن أهم تفسير، هو واقع المكون العراقي العربي، بوصفه المكون الاجتماعي الأكبر عددا، مما يتطلب تجزئته طائفيا لإضعاف دوره في تفاعلات وتوازنات الحياة الاجتماعية والسياسية العراقية الجديدة وتحالفاتها ومساوماتها. وتتحمل جزءا كبيرا من مسؤولية هذه التجزئة، وتحولها إلى واقع سائد ومقبول، الشخصيات والأحزاب والكتل العراقية العربية (الشيعية و السنية) التي تصدت للاشتراك في العملية السياسية، بفعل قبولهم بذلك، وتناسيهم لأسباب مصلحية شخصية، لم تعد خافية على أحد، ليس مسألة الهوية القومية العربية التي تجمعهم، بل وحتى مسألة الهوية الوطنية العراقية وشروطها الجامعة، وتفضيلَ كل طرف منهم، المراهنة رهانا مزدوجا على إضعاف الطرف العراقي العربي الآخر (العربي الشيعي يرغب في إضعاف العربي السني والعربي السني يرغب في إضعاف العربي الشيعي)، بحرمانه من جزء من مكونه القومي العربي والوطني العراقي. ويمكن الاستدلال على ذلك بما كان يزعمه الساسة العراقيون من العرب الشيعة والكرد عن قوة وعمق التحالف الشيعي - الكردي، الذي طالما وصفه الطرفان بأنه تحالف استراتيجي، وحيث إن غالبية العراقيين الكرد من المسلمين السنة، فسيكون هذا التحالف بينهم وبين العراقيين العرب الشيعة، وبشكل تلقائي وضمني، تحالفا شيعيا - سنيا، ومن ثم، فسيكون من المستغرب قبول العرب الشيعة بتحالف استراتيجي مع مكون اجتماعي عراقي مختلف عنهم مرتين: قوميا (عرب و كرد) ومذهبيا (شيعة و سنية)، وتعذر قبولهم بتحالف استراتيجي مثله مع مكون اجتماعي عراقي آخر، يتفقون معه قوميا (عرب)، لكنهم يختلفون معه مذهبيا (سنة). ولعل أقل ما يقال عن هذا التحالف الاستراتيجي العراقي الشيعي - الكردي المزعوم، هو أن العلاقة المتوترة دائما بين طرفيه، وخصوصا منذ  عام 2017م، أثبتت أنه ليس تحالفا قائما على وحدة الهوية الوطنية، ولا حتى تحالفا إستراتيجيا راسخا، يستهدف مصلحة العراق وخيره، إن لم تكن تلك العلاقة قد أثبت أنه عكس ذلك تماما.
وكانت مراهنة العراقيين العرب المسلمين (الشيعة والسُنّة) على تناسي وحدة هوياتهم الثلاث المتماثلة والمشتركة بينهم: (الهوية الوطنية العراقية) و(الهوية القومية العربية) و(الهوية الدينية الإسلامية)، وتذكّرهم هويتهم المذهبية المختلفة فقط (الشيعية والسنية)، مراهنة غبية وخاطئة في مقدماتها، وخاسرة ومضرة في نتائجها بالعراقيين جميعا (عربا وكردا وتركمانا مسلمين شيعة وسنة، ومسيحيين كلدوآشوريين وأرمن، وصابئة وأيزيديين وشبك وكاكائيين) وبجميع المقاييس:
- لأن هذه المراهنة الغبية والخاطئة والخاسرة والمضرة انعكست سلبيا على الهوية الوطنية العراقية بتقديمها الانتماء والولاء للهوية الطائفية المذهبية الجزئية على الانتماء والولاء للهوية الوطنية العراقية الكلية.
- لأن هذه المراهنة الغبية الخاطئة والخاسرة والمضرة دفعت كل طرف طائفي (قومي أو ديني أو مذهبي)، للبحث عن حلفاء خارجيين من قوميته أو دينه أو مذهبه، فانفتحت أبواب العراق واسعة أمام التدخلات الإقليمية والدولية، بحجة حماية حقوق الإنسان عامة، أو حماية حقوق هذه الطائفة أو تلك خاصة.
- لأن هذه المراهنة الغبية الخاطئة والخاسرة والمضرة أنتجت دستورا دائما، قيل في قدحه أكثر مما قيل في مدحه، ومشكلاته أكثر من منجزاته، ونقده عند واضعيه مقارب لنقده عند معارضيه.
- لأن هذه المراهنة الغبية الخاطئة والخاسرة والمضرة أنتجت دستورا معيبا في أكثر من موضع، وأنتج هذا الدستور بدوره نظاما ديمقراطيا توافقيا، ليس متوافقا أبدا، بل متواقف دائما، لأن كل طرف فيه يعمل على عرقلة كل مسعى وجهد للأطراف الأخرى، خصوصا إذا كان مسعى يحقق مصلحة وطنية عليا، حتى بات هذا النظام نظام المتواقف اللا متوافق، يعاني مشكلات ثقيلة وكبيرة، جعلت تغييره جذريا وكلي المطلب الوطني العام والمشترك، ولكن غير القابل للتنفيذ حتى الآن.
- لأن هذه المراهنة الغبية الخاطئة والخاسرة والمضرة أنتجت دستورا معيبا في أكثر من موضع، وأنتج بدوره نظاما ديمقراطيا توافقيا، ليس متوافقا بل متواقف، فنتجت عن ذلك كله عملية سياسية تقوم على محاصصة مركبة: قومية - عرقية ودينية - مذهبية، تدعي الشخصيات والقوى والكتل السياسية العراقية كلها رفضها لها، وتزعم معارضتها لاستمرارها، لكنها جميعا تعمل في ظلها، وتربح منها، وتتمسك بها وتعمل على استمرارها بأشكال وذرائع مختلفة.
- لأن هذه المراهنة الغبية الخاطئة والخاسرة والمضرة أنتجت عمليات واسعة للقتل والاختطاف والتهجير على الهوية القومية أو الدينية أو المذهبية، طالت غالبية العراقيين الذين لا يعرفون حتى الآن كيف بدأت ولا من هم وراءها، ولماذا استهدفتهم، ولماذا لا تتوقف، ولماذا تتصاعد كلما تصاعدت خلافات الأطراف المشاركة في العملية السياسية؟
- لأن هذه المراهنة الغبية الخاطئة والخاسرة والمضرة أنتجت بإجماع الآراء حكومات ضعيفة وفاشلة وفاسدة، تسببت سياساتها العقيمة سنة 2014 في خروج أكثر من ثلث مناطق العراق من سلطة الدولة ووقوعها تحت سيطرة التنظيمات الإرهابية، وتهجير ونزوح أكثر من ثلاثة ملايين عراقي من مناطق سكناهم.
- لأن هذه المراهنة الغبية الخاطئة والخاسرة والمضرة أنتجت فسادا واسعا وعميقا ومستشريا، وهو ما استدعى ظهور دعوات للإصلاح ومطالب بمحاربة الفساد ومعالجة الفشل، بدأت منذ عام 2011 في محافظات (ديالى وصلاح الدين والأنبار والموصل)، وتسبب عجز الحكومة عن الاستجابة لها وتلبية مطالبها في ارتفاع حدتها حتى تحولت في ليلة 1 أيار 2016 إلى احتجاجات وتظاهرات، أجمعت غالبية الشخصيات والقوى والكتل السياسية، على وصفها بأنها (ضيَّعَت هيبة الدولة)، وهي الهيبة التي يبدو أن من يتحدثون عن ضياعها، ويتباكون عليها، نسوا أو تناسوا أنها هيبة سبق وضاعت من قبل بسبب العمليات الإرهابية وعمليات القتل والخطف والتهجير القسري على الهوية والنزوح، وأخيرا بسبب السياسات الحكومية الفاشلة، واستشراء الفساد الذي لم ينكره أحد منهم، بقدر ما لم يفعل أحد منهم شيئا حقيقيا للتصدي له وإيقافه عند حده، وأخيرا ضاعت هذه الهيبة بسبب ما لا يمكن أن يصدقه عاقل من تمكن جماعة مسلحة صغيرة وذات تسليح خفيف ومتوسط من السيطرة عام 2014 على ثلاث محافظات عراقية كاملة، تحميها فرق عسكرية كاملة ذات تسليح ثقيل، ولم تتم هزيمة داعش وطرده منها وتحريرها إلا في تموز 2017، أي بعد ثلاث سنوات، جرت فيها عمليات عسكرية دائمة وموسعة، قدم فيها العراقيون تضحيات بشرية جسيمة، وشارك فيها إلى جانبهم تحالف دولي شكلته وقادته الولايات المتحدة الأمريكية وشاركتها فيه الدول الكبرى وعشرات أخرى غيرها. ثم عادت هذه الاحتجاجات لتتكرر في محافظة البصرة في 3 أيلول/ سبتمبر 2018، وتبعتها احتجاجات في محافظات وسطى وجنوبية أخرى (ميسان ، المثنى ، ذي قار ، القادسية)، تصدت لها بالقوة القسرية المفرطة، حكومة تصف نفسها وتقدمها لمواطنيها وللعالم بأنها حكومة ديمقراطية منتخبة، حلت محل حكومة استبداد دكتاتورية قمعية، لتنتهي هذه المسيرة الاحتجاجية السلمية بانتفاضة تشرين 2019 التي ما زالت مستمرة، ولكن قوى عديدة داخلية وخارجية تعمل على إفراغها من محتواها ومنعها من تحقيق أهدافها.
إن المساعي المكثفة والمتكررة لغالبية الشخصيات والقوى السياسية المشاركة في العملية السياسية، والعديد من الأطراف الإقليمية والدولية، للعب على الطابع الطائفي القومي والديني ومن ثم المذهبي للهويات المجتمعية العراقية، لا يبدو أمرا طارئا ولا صدفة عابرة، لأن هذه المساعي تبتغي تحقيق جملة أهداف، تَكَشَّفَ منها حتى الآن وبدلالة النتائج المتحققة على الأرض:
الهدف الأول: خلق صراعات داخلية بين الهويات القومية والدينية والمذهبية والثقافية في العراق، تُبعد الأنظار عن ضرورات توحيد الصف الوطني العراقي لمقاومة القوى الدولية المحتلة ومن بعدها القوى الإقليمية، الساعية للتدخل في الشأن العراقي الداخلي، إن لم تكن الأخيرة قد بدأت تتطلع للسيطرة الكاملة والمباشرة على العراق.
الهدف الثاني: خلق صراعات داخلية بين الهويات القومية والدينية والمذهبية والثقافية في العراق، تُبعد الأنظار عن صراعات الشخصيات والأحزاب والكتل السياسية على المكاسب والمغانم السلطوية، وعن فشلها طوال عقدين كاملين في تحقيق منجز واحد حقيقي يُذكر على مستوى الأمن أو الاستقرار أو الخدمات، وتبديدها ونهبها للموارد النفطية الهائلة، وبالشكل الذي جعل الدولة العراقية في النهاية، وبانعقاد الإجماع، دولة فاشلة وفاسدة بلا نظير ولا حتى في جمهوريات الموز اللاتينية.
الهدف الثالث: خلق صراعات داخلية بين الهويات القومية والدينية والمذهبية والثقافية في العراق، تُبعد الأنظار عن العلاقة التكاملية والتكافلية بين مثلث مشكلات (المحاصصة والفساد والإرهاب)، بوصفها مشكلات تولّد إحداها الأخرى وتتقوى بقوتها وتنتشر بانتشارها، ولعل أخطر ما في مشكلة الإرهاب، أنها وفرت الظروف المناسبة لنشوء مشكلتي المحاصصة والفساد واستمرارهما واتساعهما، وكانت وما زالت تحميهما من الكشف والمحاسبة والمعاقبة بذريعة عدم ملاءمة الظروف الأمنية لذلك، فضلا عما يفتحه الإرهاب أمامهما من أبواب ومنافذ واسعة لابتلاع ميزانيات حكومية سنوية كاملة وهائلة ولسنوات عديدة قادمة، من دون تحقيق أي منجز ايجابي فعلي لا يُلمس ولا حتى يُذكر.
الهدف الرابع: خلق صراعات داخلية بين الهويات القومية والدينية والمذهبية والثقافية في العراق، تُبعد الأنظار عن المشكلات التي تعطل التجربة الديمقراطية في العراق، وتعيق نجاحها، وتمنع انتقالها إلى دول أخرى، وخصوصا المجاورة منها، عبر تحميل هذه التجربة مسؤولية التردي في الوضع الأمني وانعدام الخدمات على قاعدة غياب الهوية الوطنية الموَحَّدَة والموَحِّدة وصراع الهويات الفرعية المجزأة.
الهدف الخامس: خلق صراعات داخلية بين الهويات القومية والدينية والمذهبية والثقافية في العراق، تُبعد الأنظار عن الظروف والعوامل السلبية التي تدفع هذه الهويات دفعا للاعتقاد بحاجتها لحماية نفسها بالتحالف مع هذه القوة الخارجية أو تلك، بما يوفر ذرائع كافية لتدخل تلك القوى في الشأن العراقي، وهو ما سيحقق في النهاية مصالح هذه القوى على حساب المصالح الوطنية العراقية.
حلول مشكلة الهوية الوطنية في العراق
   إذا كان ثمة من حلول لمشكلة الهوية الوطنية في العراق، أو في أي مجتمع آخر، فإن أول ما يقال عنها، إن مشكلة ضعف أو حتى غياب الهوية الوطنية الجامعة الموَحَدَة الموحِدَة، لا يجعل منها مشكلة أزلية، لأن دروس التاريخ تعلمنا أن الهويات المتعارضة والولاءات المتقاطعة يمكن أن تتعايش، بل وأن الجماعات البشرية يمكن أن تغير هوياتها جزئيا أو كليا. ولكن أي شيء من ذلك لا يحدث تلقائيا ولا فوريا، وحدوثه لا يزيل حتما وبالضرورة، ولا يستدعي أصلا، إزالة الهويات المجتمعية الأصلية لهذه الجماعات، والتي تمثل بالنسبة لحامليها جزءا من شعور عام وعقائد موروثة ودوافع تحددهم كمجموعات بشرية. وفي العادة، فإن تناغم وانسجام الهويات الفرعية المتعددة والمتنوعة، بل وحتى المختلفة، والتعايش السلمي الايجابي بينها في إطار هوية حاضنة أم (الهوية الوطنية العراقية مثلا)، يتطلب توفر شروط ومقتضيات أهمها:
- إقرار الهوية الوطنية الأم الحاضنة بحق الوجود لكل الهويات الفرعية في إطارها، والاعتراف لها بحقوقها وحرياتها، وشرعية ضمانها دستوريا وقانونيا.
- إقرار كل هوية فرعية للهوية الوطنية الأم والهويات الأخرى المختلفة عنها بحق الوجود والاعتراف لها بحقوقها وحرياتها، وشرعية ضمانها دستوريا وقانونيا.
- إدراك الهويات الفرعية كلها، واتفاقها على الحاجات والمصالح والأهداف المشتركة بينها في إطار الهوية الوطنية الأم الحاضنة، وعلى أن الانتماء لهذه الهوية والتفاعل الايجابي في إطارها هو شرط تلبية تلك الاحتياجات وضمان المصالح وتحقيق الأهداف.
- إدراك كل الهويات الفرعية واتفاقها على التهديدات والمخاطر المشتركة التي تواجهها في إطار الهوية الوطنية الأم الحاضنة، وأن الانتماء لهذه الهوية والتفاعل الايجابي في إطارها، شرط مواجهتها والتصدي لها.
وإذا كان اعتراف الهويات المتنوعة لبعضها بحق الوجود، واحترام وضمان الحقوق والحريات، هو القاسم المشترك بين هذه الشروط كلها، فذلك راجع إلى عجز الإنسان عن تحقيق الاتصال الحر والفاعل والايجابي بهويته في ظروف التهميش والإقصاء، مما يتسبب أيضا في عجزه عن تحقيق الاتصال الحر والفاعل والايجابي بالهويات الأخرى، فإن لم يتصالح الإنسان مع ذاته فكيف يتصالح مع غيره، لأن فهمه هويته وارتباطه بها إيجابيا، شرط لازم لفهمه للآخر وارتباطه به إيجابيا، بما يؤسس لتفاعله وتعايشه معه سلميا، بعيدا عن نزعات التعصب والاستبداد.
ولا بد من تكرار التأكيد هنا على حقيقتين أساسيتين:
الحقيقة الأولى: إن الهوية السياسية الوطنية الكلية العامة في أية دولة (الهوية الوطنية العراقية الموَحَدة الموحِدَة مثلا)، لا تولد عفويا أو تنشأ تلقائيا، بل تُصنع صناعة كما تُصنع الدول التي تنتمي إليها هذه الهوية وترتبط بها وتعبر عنها، وإن ولد شيء من عناصر وملامح هذه الهوية ونما بشكل عفوي وتلقائي، فسيكون محدودا وغير مكتمل بما يجعله في النهاية، محتاجا للتصنيع وإعادة التصنيع والإنتاج على الدوام.
الحقيقة الثانية: إن صناعة الهوية السياسية الوطنية الكلية العامة في أية دولة (الهوية الوطنية العراقية الموَحَدة الموحِدة)، لا تستدعي حتما إلغاء واقع تعدد الهويات الطائفية الفرعية وتنوعها في تلك الدولة، ولا تستوجب بالضرورة إلغاء التمييز بين تلك الهويات من جهة، ولا بينها وبين الهوية الوطنية العامة الموَحَدة الموَحِدة من جهة ثانية، بل أن تلك الصناعة تمهد في حقيقتها وتؤسس للإقرار بوجود الهويات المجتمعية الفرعية الخاصة، وضمان حقوقها وحرياتها دون تهميش ولا إقصاء ولا إلغاء على قاعدة اعتراف الهوية السياسية الوطنية العامة بهذه الهويات واحتضانها لها.
وبقدر تعلق الأمر بالنظام الفدرالي في العراق، فإن على الشخصيات والقوى السياسية والمجتمعية ذات التوجهات الوطنية الحقيقية، والراغبة فعلا في حل إشكالية الهوية الوطنية في هذه الدولة، أن تباشر الدعوة إلى، والعمل على، تبني فكرة أو مقولة (الفدرالية الثقافية) التي تسمح وفي آن واحد بالانتماء من جهة إلى هوية وطنية عراقية فدرالية موحَّدَة وموحِّدَة، وبالاعتراف من جهة ثانية بالتعددية الثقافية المعبرة عن تعدد وتنوع وحرية الثقافات الخاصة في إطار الهوية الوطنية العراقية الفدرالية الواحدة. ولعل أهم شروط الاتفاق المجتمعي العراقي على هذه الهوية الوطنية التي تجمع في وقت واحد بين الاعتراف بالهويات العراقية الفرعية الخاصة كلها، واحترام وجودها وتميزها، وضمان حرياتها وحقوقها هي:
  1. شرط قدرة الهوية العراقية الوطنية الفدرالية الجامعة على تحقيق المصالحة الفعلية مع نفسها أولا ومع الهويات العراقية الفرعية التي تحتضنها ثانيا على قاعدة الاعتراف بشرعية وجود هذه الهويات وتوفير الضمانات الدستورية والقانونية النظرية والعملية لتحقيق المساواة بينها في الحقوق والواجبات.
  2. شرط قدرة الهوية العراقية الوطنية الفدرالية الجامعة على احتضان الهويات العراقية الفرعية عبر التطبيق الفعلي لما يمكن تسميتها:
معادلة (ت م2):
تطمين مخاوف الهويات العراقية الفرعية
+
تأمين مصالح الهويات العراقية الفرعية
=
بناء الهوية العراقية الوطنية الفدرالية الجامعة
 
ويجد هذا علته وتفسيره في أن قدرة الهوية الوطنية الفدرالية الجامعة على تطمين مخاوف الهويات العراقية الفرعية أولا، ثم تأمين مصالح الهويات العراقية الفرعية ثانيا، هو ما يجعل التكامل والتعايش السلمي الايجابي بين هذه الهويات طبيعيا، بل ويكاد يكون تلقائيا. ولا يمكن أن تتوافر هذه الشروط إلا إذا تحققت أولا المصالحة في العراق مع الذات عبر تحديد الهوية، ومع الآخر عبر القبول بتنوع واختلاف الهويات الوطنية الفرعية، والذي يجب ألا يكون بالضرورة سببا للخلاف، وهي المصالحة التي لا يبدو أن شيئا فعليا منها تحقق حتى الآن نتيجة التقاطعات الجذرية والحادة بين ثوابت وأهداف وأساليب عمل الأطراف السياسية العراقية، واستمرارها في التحريض والتعبئة والعمل ضد بعضها ضمن هويات فرعية متنوعة الأشكال والخصائص وبعيدة كل البعد عن الهوية الوطنية العراقية الفدرالية الجامعة الواحدة الموَحِدة.
إن ما يجب فهمه وإدراكه بشكل واضح وعميق في آن واحد، هو:
إن الهوية انتماء في الابتداء والانتهاء،
والانتماء ولاء، والولاء التزام،
والالتزام مسؤولية عن خيارات فكرية وعملية في الإيمان بماذا ولماذا؟
والعمل من أجل من وماذا وعلى حساب من وكيف؟
 
لذلك، فإن توجّه وتوجيه انتماءات الأفراد والجماعات في الوطن الواحد إلى هويات طائفية جزئية أو فرعية (قومية أو طبقية أو دينية أو مذهبية أو قبلية أو جهوية أو فئوية.. الخ)، ستكون نتيجته الطبيعة، جعل مشكلة الهوية، أصلاً أولاً وسبباً مؤَسِساً لمشكلات أخرى تنشأ عنها، وتتفاقم بتفاقمها، وتتعقد بتعقدها، وتستمر باستمرارها، ولكنها أيضا، يمكن أن تزول بزوالها. فإذا اقترن ضعف، إن لم نقل غياب، الهوية الوطنية في العراق في حاله الراهن، بتوجهات الحكومة الاتحادية وحكومات الإقليم والمحافظات، كل منها لزيادة صلاحيات ومواردها، وليس مسؤولياتها وخدماتها، على حساب صلاحيات وموارد الحكومات الأخرى، فستكون النهاية الحتمية لذلك، هي قيام نظام وسط بين الدولة التسلطية والفوضى يسميه أحد الباحثين نظام (الفوضى المنظمة Chaotic Order)، الذي لا تفرض فيه الدولة سلطتها وسيطرتها على أجزائها مباشرة، بل تفرضها عليها عبر النخب المحلية، فلا تعود هذه الدولة لا هي دولة مركزية ولا حتى دولة اتحادية، بل دولة تكتلية أو تجمعيّة أو تراكمية، يعيش مواطنوها استقرارا هشا وقلقا، مشروطا دائما ومرهونا باتفاق المصالح بين النخب الحاكمة في المركز والنخب الحاكمة المحلية المستعدة دائما للتمرد كلما امتنعت، أو حتى تأخرت، نخب المركز عن تلبية مطالبها، بقدر ما يعيش هؤلاء المواطنون أيضا خاضعين لسلطتين في آن واحد بدل سلطة واحدة، وفي ظروف بات الإجماع منعقدا فيها على فساد السلطة، فسيستبدلون مشكلة استبداد معلن بمشكلة استبدادين غير معلنين، ومصيبة فساد واحد بمصيبة فسادين.
 
الثقافة الجديدة: لا يمكن تحليل قضايا تَشكل وإعادة تشكل الهويات الجمعية في العراق الحديث، ومن بينها الهوية الوطنية، إلا تاريخيا. فمن ناحية، نستطيع القول إن تشكل الهوية الوطنية العراقية الجامعة كان محصلة للسيرورات والنضالات الوطنية الكبرى، بالتوازي مع دفع الهويات الفرعية الأخرى إلى الخلف نسبيا. فمع ثورة العشرين، ظهرت إرهاصات نشوء هذه الهوية الوطنية، ومعها بوادر أولية لكن واضحة للمشاعر وللمفاهيم الحديثة حول الانتماء والاستقلال الوطنيان، ثم تطورت هذه الهوية وبرزت معالمها وترسخت أسسها مع النضالات الوطنية التي خاضتها الجماهير في العقود الطويلة منذ تأسيس الدولة العراقية. ولا يغيب عن البال هنا المقارنة بين النضالات في حقبة النظام الملكي والتي توجت بثورة 14 تموز الوطنية، وبين الحركات الاحتجاجية بعد 2011 والتي توجت بانتفاضة تشرين 2019، وهذا ما يمكن أن نسميه عملية "إبداع الهوية الوطنية من أسفل"، وهي عملية غير ناجزة إلى حد كبير. ومن ناحية أخرى، نجد أن جميع السلطات التي مرت في تاريخ العراق تقريبا، انتهجت سياسات استهدفت بها إحكام قبضتها وسيطرتها على عمليات إنتاج وإعادة تشكيل هويات جمعية اجتماعية وسياسية، بل وحتى إنتاج هوية وطنية مطبوعة بملامح خاصة، استنادا إلى أساليب ووسائل "الهندسة الاجتماعية"، سواء تلك التي ذكرتها في كتابك الموسوم "الهندسة الاجتماعية.. صناعة الإنسان والمواطن"، أو التي ذكرها هوبزباوم في كتابه "ابتكار التقاليد". وهذا ما نستطيع أن ندعوه "اختلاق الهويات من اعلى".
هل تتفق مع الطرح السابق؟ وهل هناك، على المستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية صراع على هوية/ هويات المجتمع، وعلى هوية الدولة؟ صراع يعكس أساسا صراعا اجتماعيا؟ وان تمظهراته التي تبدو ساكنة نسبيا هي محصلة موازين قواه الفعلية؟ وهل من ملاحظات تعبر عن رؤيتك لعمليات تكون الهويات الجمعية خصوصا الوطنية في العراق الحديث والعوامل المؤثرة في تشكلها؟
 
د. علي عباس مراد: أولا، لا أحبذ التمييز بين وصف العمليتين وصفين مختلفين (اختلاق) و (إبداع)، فأما كلاهما اختلاق أو كلاهما إبداع، أو كلاهما (صناعة أو إنتاج) للمساواة بينهما في الوصف، وعدم توظيف الاختلاف غائياً وبشكل غير مباشر، للانتقاص من واحدة وإعلاء شأن الأخرى.
ثانيا، اعتقد أن أسلوب التفكير السائد في مجتمعاتنا، يجعلنا نرى الظواهر والأشياء بالطريقة التي نرغب فيها وليس بالطريقة التي هي عليها فعليا، ففكرة أن السلطات التي مرت في تاريخ العراق، انتهجت كلها وليس تقريبا سياسات لإحكام قبضتها وسيطرتها على المجتمع عبر عمليات إنتاج وإعادة تشكيل هويات جمعية اجتماعية وسياسية، بل وحتى إنتاج هوية وطنية مطبوعة بملامح خاصة، استنادا إلى أساليب ووسائل متفاوتة القوة والفاعلية لممارسة (الهندسة الاجتماعية)، و (ابتكار التقاليد) إحدى أهم وسائلها وأساليبها، فكرة صحيحة تماما، لكنها فكرة غير منصفة، لأنها توحي للقارئ بأنها تنطبق على تاريخ العراق فقط، وكأن حكوماته هي الوحيدة في العالم التي شرّعَت وطبقت مثل هذه السياسات، بينما يبين الواقع أنها فكرة عامة تنطبق على كل المجتمعات قديما وحديثا، سوى أن أسبابها وأهدافها ووسائلها وأساليبها ودرجة فاعليتها، ومستوى علنيتها ووضوحها أو سريتها وخفاءها، تختلف من عصر وبلد ونظام حكم إلى آخر، فالأنظمة: الدينية والعلمانية، الملكية والجمهورية، الرأسمالية والاشتراكية، الاستبدادية والديمقراطية، كلها مارست وتمارس سياسات (اختلاق الهوية الوطنية من الأعلى)، وتحاول تكييفها مع الأسس الفعلية أو الافتراضية (المتخيلة) للهوية الموجودة في العقل المجتمعي الجمعي، أو في جزء واسع منه، والتي تسمونها (إبداع الهوية الوطنية من الأسفل). ويعني هذا، أن أكثر الأنظمة السياسية اهتماما بهذه الصناعة، وأشدها تركيزا عليها، وأوضحها تبنيا وممارسة لها، هي الأنظمة ذات الطبيعة والأسس الفكرية مثل: الايطالي الفاشي والألماني النازي والسوفيتي والصيني الشيوعيين والأمريكي الرأسمالي، وهو ما ينطبق أيضا على السعودية وإيران بقدر واحد، مثلما ينطبق على كل الأنظمة الأخرى، فلماذا توحي صيغة السؤال بأن تبني وممارسة سياسات صناعة الهوية، جريمة وحشية، وأن المتهم الأول، بل ولعله الوحيد أيضا هي الأنظمة السياسية في العراق، النظام الملكي والنظم الجمهورية المتعاقبة بعده كلها ودون أي استثناء.
ثالثا، إن عمل أي مجتمع أو نظام حكم، أو عملهما بشكل مشترك، لصناعة وإنتاج هوية وطنية موحدة من الأعلى أو الأسفل، أو من الاتجاهين معا، أمر لا يحتاج إلى تبرير ولا حتى تعليل، فكل المجتمعات وأنظمة الحكم في العالم، قديما وحديثا ومستقبلا، ترغب في وتعمل على إنتاج هوية وطنية مشتركة، لأن وحدة الهوية عند أفراد المجتمع تؤسس عندهم لوحدة الأفكار التي تؤسس بدورها عندهم لوحدة الأهداف، ووحدتا الأفكار والأهداف عند أصحاب الهوية الواحدة، تؤسسان بدورهما وتاليا عندهم لوحدة التوجهات والمواقف والسلوكيات، وهو ما تعمل الوسائل والأساليب والمؤسسات المجتمعية والحكومية المسؤولة عن صناعة (إنتاج) الهوية على جعله دافعا لأصحاب الهوية الواحدة للعمل الجاد والكثيف، بل وحتى التضحية بالمال والأهل والنفس من أجل هذه الهوية ومعتقداتها وأهدافها، وهذا أقصى ما تريده كل المجتمعات والأنظمة وتسعى إلى تحقيقه، واعتقد أنكم والقراء الأعزاء، تعرفون جيدا الشعارات التي كانت الشعوب وجيوشها تقاتل تحتها ومن أجلها في الحرب العالمية الثانية، والمعبرة بشكل واضح ومباشر وصريح عن وحدة الهوية الوطنية ومعتقداتها وأهدافها لديهم ولدى حكوماتهم: فالألمان كانوا يقاتلون من أجل عظمة ألمانيا واستعادة مجد الجنس الآري، والايطاليون كانوا يقاتلون من أجل عظمة ايطاليا واستعادة مجدها الإمبراطوري، والسوفيت كانوا يقاتلون من أجل (الأم روسيا) أو (ارض الأم الروسية)، والأمريكيون كانوا يقاتلون من أجل (الحرية) أو (الحلم أو أسلوب الحياة الأمريكي). 
الصراع على هويات المجتمع والدولة في العراق بعد 2003، هو صراع بين القوى المشاركة في العملية السياسية، وهي تتكالب على المناصب والمكاسب والغنائم.
رابعا، اعتقد أن الصراع على هويات المجتمع والدولة في العراق، وبكل مستوياته ومظاهره، ليس صراعا اجتماعيا، بل هو كلي تماما، صراع بين القوى المشاركة في "العملية السياسية"، والتي تتكالب على المناصب والمكاسب والغنائم، وليس في ذلك شيء من الوطنية أو الحرص على وحدة المجتمع ومصالحه. ومن ثم، فقد عملت لتنفيذ سياسات الاحتلال الأمريكي، الأطراف العراقية السياسية - الطائفية التي جاءت معه من الخارج وساعدته على تنفيذ مخططاته، وكان أول وأهم ما ساعدته على تنفيذه من تلك المخططات، إضعاف بل وتغييب (الهوية الوطنية في العراق)، والذي تسبب لاحقا في خلق المشكلات الخمس الأساسية الأخرى التي عانى منها العراق منذ 2003 وحتى اليوم: (الإرهاب، والديمقراطية التوافقية الفاشلة، والمصالحة الوطنية المزعومة، والمحاصصة، والفساد)، ثم شاركتها العديد من الأطراف العراقية الداخلية، بعد أن أدركت مقدار ما يمكن أن تضمنه لها هذه المشاركة من المناصب والمكاسب والغنائم، وهو ما كان يتطلب منها المشاركة أيضا في تنفيذ المخططات الدولية والإقليمية والمحلية لتضييع الهوية الوطنية العراقية الواحدة، والاستعاضة عنها بخلق هويات قومية ودينية ومذهبية وثقافية، وإدخالها في مشكلات وصراعات تبقي العراق مفككا وضعيفا، ليسهل على من يشاء منهم نهب ثرواته، بل وحتى استيلاء جيران السوء على أراضيه ومياهه.
خامسا، إن أوضح دليل على الأضرار الناتجة عن سياسات طمس الهوية الوطنية في العراق وخلق هويات فرعية بعد عام 2003، أن المشكلات التي كان شباب محافظات (ديالى وصلاح الدين والأنبار ونينوى) أول من بادر للانتفاض والاحتجاج عليها، هي نفسها المشكلات التي انتفض واحتج عليها لاحقا شباب محافظات الوسط والجنوب، لكن الأثر السلبي لتلك السياسات، تجلى في امتناع شباب الوسط والجنوب من التضامن في الأولى مع إخوانهم شباب (ديالى وصلاح الدين والأنبار والموصل)، بقدر امتناع شباب المحافظات الأخيرة من التضامن في الثانية مع أخوانهم شباب محافظات الوسط والجنوب، وكان الامتناع وما زال في الحالتين موقفا ليس غير محمود فقط، بل وموقفا يفتقر تاما للذكاء وحسن إدارة الصراعات مع السلطة، لتكون نتائجه سلبية عليهم وعلى العراق كله.
وإذ بات مؤكدا للجميع، من يؤيدون النظام السياسي الذي قام في العراق بعد عام 2003:
* إن هذا النظام السياسي يتبنى الديمقراطية "التوافقية" المتأسسة على (المحاصصة).
* إن جوهر وروح (المحاصصة) هو الطائفية.
* إن المحاصصة مشروطة بصناعة الهويات التي تتعارض مع الهوية الوطنية، وتعمل على تغييبها.
* إن تغييب الهوية الوطنية، لا يعرقل ويشوه تطبيق الديمقراطية فحسب، بل ويمنع تطبيقها كليا.
* إن الغياب المزدوج للهوية الوطنية والديمقراطية الفعلية، يمنع بناء نظام سياسي مدني ديمقراطي.
فسيكون مستغربا استمرار، بل وإصرار، بعض الأطراف السياسية وحتى المجتمعية، في وصف النظام السياسي في العراق بالديمقراطي، ولا بد لهؤلاء من مراجعة أنفسهم، وملاحظة ما يعاني منه هذا النظام من مشكلات حتى بعد محاولة إنعاشه وترقيعه بجعل ديمقراطيته "توافقية"، لأن أغلب ما فيها تحول فعليا، وكما قلت قبل أكثر من عقد من الزمن، من "(التوافق" بين القوى المشاركة في العملية السياسية إلى "التواقف" بين هذه القوى على كل ما يندرج في نطاق السياسات والمصالح الوطنية، ولم يبق فيها من "التوافق" إلا شيء واحد، هو توافق أطراف هذا النظام على استمرار الطائفية والمحاصصة والفساد ونهب ثروات العراق، وتدمير ليس حاضره ومستقبله فحسب، بل وحتى ماضيه أيضا، لكي لا يبقى له أو فيه ما تتمسك به أجياله وتبني عليه هويتها الوطنية وأهدافها ومصالحها التي تعمل من أجل تحقيقها وحمايتها.
 
الثقافة الجديدة: يبدو فعلا أن بعض المشاكل لها أس لغوي، فاللغة في بعض الأحيان، بصورة عفوية أو مقصودة، تربك وتشوش معاني بعض المصطلحات والمفاهيم، ومن بين هذه المفاهيم مفهوما "المواطنة" و"الوطنية" في اللغة العربية. فكلاهما في النهاية مشتقان من الجذر "وطن"، وبينما تكاد أسس المواطنة تكون واضحة، من ناحية كونها في نهاية المطاف الحقوق والواجبات التي تترتب على المواطن بوصفه فردا ينتمي اجتماعيا وقانونيا إلى بلد ما، وبالتالي ترتبط بسيادة القانون على جميع الأفراد بالتساوي بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الانحدار الطبقي.. الخ. يفتقر مفهوم الوطنية إلى مثل هذا الوضوح، باستثناء قضايا حب الوطن الأم والانتماء له، بل ويكتسي في الكثير من الأحيان العديد من المعاني والمحمولات السياسية، ويختزن في الغالب تنوعا واسعا من بقايا المخيال الجمعي الشعبي المنتخب عفويا أو قصديا، بل وحتى المختلق أيضا. والوطنية أيضا تركيبة معقدة من المشاعر والانفعالات يمكن استغلالها، سواء بصورة إيجابية أو سلبية، من القائمين على السلطة أو مناوئيهم.. فالمزاج الوطني يمكن أن يتأثر بسهولة بأحداث تبدو بعيدة عن السياسة من قبيل مباراة كرة قدم، بينما يمكن أن يبقى خامدا في حالات الكوارث الوطنية!    
ترى دكتور علي، كيف يمكن في دولة مثل العراق، وهو دولة ريعية بامتياز، وعانت ما عانته خصوصا في السنوات الأربعين المنصرمة؛ كيف يمكن العمل على بناء هوية وطنية حديثة، قائمة على أسس المواطنة الجلية، هوية وطنية جامعة تتلاءم مع متطلبات وتحديات القرن الحادي والعشرين. لكن دون أن تتغافل نهائيا عن شخصيتها المميزة وعن تاريخها وموروثها التقدميين والحضاريين؟ ما هي إمكانيات وحدود بناء هوية وطنية حديثة، في ظل دولة ريعية
 
د. علي عباس مراد: أولا: أود البدء من تعريف (الدولة الريعية) بأنها: "الدولة التي تستمد كل أو جزءا كبيرا من إيراداتها الوطنية بتأجير أو بيع الموارد المحلية لعملاء خارجيين، واستخدم هذا المصطلح منذ القرن العشرين للإشارة إلى الدول الغنية بالموارد الطبيعية مثل النفط والغاز، والسلطة الحاكمة فيها تستولي على هذا المصدر وتحتكر استخراجه وتوزيعه وبيعه، ولكنه يشمل دولاً غنية بالأدوات المالية مثل العملة الاحتياطية، أو الموارد الإستراتيجية مثل القواعد العسكرية. وبذلك، فإن أبرز خصائص الدولة الريعية:
- اعتماد موارد الدولة بشكل أساس على بيع الموارد المحلية للخارج.
- افتقار اقتصاد الدولة إلى قطاعات إنتاجية محلية مولدة للموارد.
- صغر نسبة السكان المشاركين في القطاعات الإنتاجية المحلية المولدة للموارد.
- الحكومة هي المستفيد الأول من البيع الخارجي للموارد المحلية".
وهو تعريف لواقع حال، ولا أرى فيه شيئا سلبيا، إلا إذا اقترن هذا الوصف بحالتين تنطبقان على العراق تماما وكليا وهما:
* حالة قابلية الموارد الريعية المولدة للإيرادات المالية للنضوب أو انخفاض الأسعار بحيث لا تعود قادرة على سد نفقات الدولة.
* حالة إصرار الحكومة المالكة لحق التصرف بالموارد الريعية على التفريط بإيراداتها المالية، والامتناع عن توظيفها لتنويع مصادر الموارد المالية الأخرى لها.
ويتجلى ذلك في معاناة العراق من أزمة انخفاض أسعار البترول، وأنه على الرغم من مرور أكثر من عقدين على قيام النظام الجديد في العراق، ونقده للنظام السابق بتهم كثيرة منها تهمة التفريط في موارد البلاد وعدم الاهتمام بخلق أو تطوير قطاعات الإنتاج غير الريعي، فالسمة الغالبة على النظام الجديد ليس التفريط بالموارد الريعية، وعدم اهتمامه بخلق أو تطوير قطاعات الإنتاج غير الريعي، بل الاعتراف الرسمي المتكرر بالفساد المتمثل في نهب هذه الموارد بشكل متزايد ومتسارع، وعدم التصدي للرؤوس الحقيقية لهذا الفساد، بل واتخاذ قرارات تشجع عليه بالعفو عن الفاسدين مقابل تسديد جزء من المبالغ المأخوذة بغير وجه حق، أو الاكتفاء بسجنهم دون إلزامهم برد الأموال المتحصلة لهم من فسادهم.
ثانيا: لقد قال السيد المسيح (ع) بحق (مِكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ)، فجمع بذلك بين متطلبات الحياتين الروحية (كلمة الله) والمادية (الخبز)، ولكنها كانت بالتأكيد تحتاج إلى استكمالها وبحق أيضا بعبارة (ولكن الإنسان لا يحيى بدون الخبز)، وينطبق ذلك تماما وبقوة على مسألة بناء الهوية الوطنية، ففي ظل ارتفاع الأسعار العالمية للمنتج الريعي النفطي، توافرت للدولة موارد أكثر من كافية ليس فقط لامتلاك واستخدام الوسائل والأساليب المعنوية اللازمة لبناء هوية وطنية عراقية واحدة والإيمان بها والاستعداد للتضحية من أجلها وهو ما يعادل العامل الروحي (كلمة الله)، بل وأيضا لتوفير الظروف الحياتية المادية الكريمة (العمل، السكن، الغذاء، النقل، التعليم، الرعاية الصحية = الخبز) لحاملي هذه الهوية، وهو ما يعادل العامل المادي (الخبز)، لأن هذا العامل هو الذي يجعل أصحاب هذه الهوية الواحدة، يُشعرون بالاقتران الفعلي والعملي الكافي بين القيمة المعنوية لهويتهم وبين القيمة المادية لهذه الهوية فحسب، بل وتؤكد هذه القيمة وتضاعفها بتوفيرها لهم الظروف الحياتية الكريمة في مجالات الحياة كلها، ليس بما يدعوهم فقط، بل ويجبرهم على التمسك بهذه الهوية والتضحية من أجلها، بدل الاستعداد للتضحية بها في أول فرصة تتاح لهم. واعتقد أن خير دليل على ذلك، موجة الهجرة التي اجتاحت قبل وقت قصير، أوساط الشباب العراقي وقبلهم ومعهم الشباب السوري واللبناني والمصري والتونسي والجزائري والمغربي، ودفعتهم للتخلي عن انتماءاتهم الوطنية، مقارنة بتمسك بل تشبث شباب دول الخليج العربية بانتماءاتهم وبلدانهم التي يعيشون فيها ظروفا حياتية مادية إيجابية لا تقاس بسلبية الظروف الحياتية المادية التي يعيشها نظراؤهم في هذه البلدان. إن البحث عن بلد آخر وجنسية أخرى للإنتماء وتوفير متطلبات العيش الكريم، لا يخل ولا يضعف حتما شعور الانتماء للهوية الوطنية والبلد الأم، ولكنه يضعف هذا الشعور تدريجيا إن لم يكن عند الجيل الأول من المهاجرين، فسيضعفه بالتأكيد عند الأجيال اللاحقة التي قد لا تحس به أصلا. وهذا ما يطرح التساؤل عن السبب الذي يجعل الساسة وحتى بعض رجال الدين، يستشهدون بأحاديث ومقولات الإمام علي (ع) بمناسبة ودون مناسبة، لكنهم جميعا يتجاهلون مقولته الصادقة والعميقة: "الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن"، فالفقر يُشعر الإنسان بفقدان القيمة والمكانة في كل مكان يعاني فيه الحاجة والغربة وعدم الانتماء حتى وطنه الذي قد يصل به الأمر حد كرهه والاستعداد للتفريط به، أما الغنى فيُشعر الإنسان بقيمته ومكانته في كل مكان يتمتع فيه بالاكتفاء والانتماء حتى في غربته، بما يجعله يحس بالانتماء إليها، بل وحتى الاستعداد للتمسك بها والحرص عليها. ولا بد أن نتذكر هنا أن تحسن وسائل الاتصال ونقل المعلومات، سهّلا اطلاع الفرد على الظروف الحياتية لكل المجتمعات، ومن ثم مقارنة الجيدة منها بظروفه السيئة، بل البائسة في العراق، مما يسهل عليه أمر الهجرة والتخلي ليس عن قيم معنوية يتعلمها ويكتسبها اكتسابا كالهوية والمواطنة وحب الوطن، بل والتخلي حتى عن مشاعر فطرية أصيلة فيه كحب الأب والأم والأخوة والأخوات والتمسك بالأسرة والاستعداد لحمايتها وتحمل مسؤوليتها.
 
شروط إنتاج وإعادة إنتاج هوية وطنية عراقية جامعة في ظل تحديات القرن الحادي والعشرين وبقدر تعلق الأمر بمسألة: كيفية إنتاج وإعادة إنتاج هوية وطنية عراقية جامعة، تتلاءم مع متطلبات وتحديات القرن الحادي والعشرين، دون التغافل عن الشخصية الوطنية العراقية المميزة وتاريخها وموروثها التقدميين والحضاريين، فإن ذلك مشروط بأمرين أساسيين:
 
الأمر الأول: اتفاق العراقيين جميعا، أو غالبيتهم، على شخصية عراقية واحدة ذات خصائص مميزة وأسس تاريخية موروثة، واشتراكهم جميعا في جهود إنتاجها وإعادة إنتاجها بشكل مستمر ومتواصل، لضمان إنتاج أجيال وطنية متعاقبة، تمتلك هذه الشخصية وتحافظ عليها وتؤسس عليها هويتها الوطنية. ولا اعتقد أن هذا متوافر في عراق ما بعد 2003 الذي يعاني من سعي القوى المشاركة في العملية السياسية على نقله من فكرة (المجتمع) إلى فكرة (المكونات)، ومن فكرة (الوحدة الوطنية) إلى فكرة (المحاصصة الطائفية) وما أدى إليه هذا المسعى من الانقسام الهوياتي-القيمي بين المكونات المجتمعية، مما تسببت في ضياع الهوية الوطنية التي كانت تظهر سابقا في اتفاق العراقيين على تمييز أنفسهم بأنهم (عراقيون أولا وأساسا.. ثم يتفرعون بعد ذلك ضمنها إما قوميا على عرب وكرد وتركمان وكلدوآشوريين وأرمن، أو دينيا على مسلمين ومسيحيين وايزيديين وصابئة وشبك وكاكائيين)، لكن كثيرا منهم للأسف، لم يعودوا يرون أنفسهم كذلك بعد 2003، بل يرون أنفسهم (أولا وأساسا شيعة، سنة، كردا، تركمانا، مسيحيين، أيزيديين...الخ)، أما هويتهم الوطنية العراقية الموحدة، فتراجعت وراء هوياتهم الفرعية، أو حتى غابت وانعدمت، ولذلك أسباب كثيرة لسنا في معرض الحديث عنها ولكننا نتحدث عن المتطلبات الأساسية لصناعة الهوية الوطنية.
الأمر الثاني: وجود سلطة سياسية واحدة ذات رؤية واحدة للشخصية الوطنية العراقية التي تؤسس للهوية الوطنية العراقية الواحدة، ورغبة واحدة في إنتاج وإعادة إنتاج هذه الشخصية والهوية بشكل مستمر ومتواصل لإنتاج أجيال وطنية متعاقبة، تمتلك هذه الشخصية والهوية وتتمسك بها وتحافظ عليها. ولا اعتقد أن مثل هذه السلطة موجودة في ظل الانقسام السياسي العراقي بعد عام 2003 على سلطة اتحادية وسلطة إقليم، وانقسام كل من السلطتين داخليا على قوى لا اتفاق بينها إلا على تحقيق كل منها لمصالحها حتى ولو على حساب مصلحة العراق والعراقيين جميعا اليوم وغدا، واهم المسائل الخلافية بين هذه القوى، هي مسألة الشخصية والهوية الوطنيتين اللتين تراها كل منها من زاويتها الخاصة التي أصبحت عند بعضها تخليا عن هذه الشخصية والهوية لصالح التبعية لشخصيات وهويات خارجية.
وفي ظل غياب هذه الشروط.. فلا اعتقد أن هناك أي احتمال أن تبقى للعراقيين، وفي حدود وقت منظور، شخصية وهوية وطنية واحدة، أو تتاح لهم الفرصة للعمل جميعا بشكل مشترك على إنتاج وإعادة إنتاج هذه الشخصية والهوية وترسيخها والدفاع عنها اليوم وغدا على الرغم من توافر المادة الأولية اللازمة لإنتاج هذه الشخصية والهوية الوطنية العراقية. واعتقد أن أحد أسباب التصدي القمعي للاحتجاجات الشبابية، هو الخوف من تأسيسها لمثل هذه الهوية التي تهدد في النهاية استمرار أحزاب المحاصصة في ممارسة الفساد والإفساد اللذين يزدادان كل يوم اتساعا وعمقا.
 
الثقافة الجديدة: إلحاقا بالسؤال السابق، ارتفعت في العقود الأخيرة، أعداد المهاجرين إلى الخارج من بلدان الأطراف، لظروف معروفة لا يتسع المجال هنا للحديث عنها. وقد اكتسب قسم غير قليل منهم جنسية بلدان الإقامة، بينما يقاتل غالبية المتبقين للحصول عليها، كي يؤمنوا لهم ولعوائلهم الحقوق والمكتسبات التي يتمتع بها مواطنو تلك البلدان والمهاجرون العراقيون ليسوا استثناء من ذلك. وهنا تبرز إشكالية عميقة عند الكثيرين من هؤلاء. تتجسد بالصراع بين انتماءين: الانتماء الأول، هو انتماء وطني هوياتي وثقافي بالبلد الأم، مع ما يرافق ذلك من انشغالات نفسية وفكرية وحتى سياسية بمشاكله. أما الثاني، فهو انتماء مواطنة ببلد الإقامة، انتماء للحقوق التي يوفروها لمواطنيه، والواجبات التي يلزمهم بها. بالتأكيد، هذه الإشكالية تبرز على أشدّها عند المهاجرين الجدد والحاصلين على الجنسية مؤخرا. وهي ضعيفة عند من ترعرعوا هناك أساسا. كيف تنظر لإشكالية الانتماء المزدوج هذه؟ خصوصا وأن أحد تجلياتها في العراق يتمثل بقضية الجنسية المزدوجة للعراقيين.
 
د. علي عباس مراد: لا بد أن نلاحظ أن الانتماء إلى وطن قديم أو جديد، كلاهما انتماء مكتسب، يولَدُ عند الفرد ويتسع ويتعمق تدريجيا بتوافر الشروط الايجابية المشجعة على ذلك، أو يذوي ويضمحل تدريجيا أيضا بتوافر الشروط السلبية الدافعة إلى ذلك، ومن ثم، فليس من المستحيل ولا حتى الصعب التوفيق بين أداء الواجبات بين الحالتين، ولكن هذا التوفيق يحتاج لملاحظة الفارق بينهما، فأية جنسية، وطنية كانت أم أجنبية، تضمن قانونيا تمتع الحاصل عليها بحقوق بقدر ما تلزمه قانونيا بأداء واجبات مقابلها، ولكن وجوده في البلد الأجنبي يجعله أكثر خضوعا لواجباته القانونية نحوه ونحو جنسيته من خضوعه لواجباته القانونية نحو وطنه وجنسيته الأم.. وهذا ما يجعل مسألة الموقف من البلد الأم وهويته، مسألة شعور فردي وطني وإحساس ذاتي بالهوية، يمكن أن يبلغ ذروته بالتخلي عمليا عن الجنسية المكتسبة والعودة إلى الوطن الأم عندما يمر بظروف حرجة، ويمكن أن يكون أقل من ذلك بدعمه ماديا وأدبيا. وأذكر أن أستاذنا الراحل (د. وميض عمر نظمي) (رحمه الله)، قام بجهود شخصية كبيرة أيام الحصار لجمع بعض ما كان يحتاجه العراق من الضرورات الحياتية (الأدوية وحليب الأطفال)، وكان حصوله عليها بفضل تبرعات كان يقدمها عدد كبير من العراقيين المقيمين في الخارج، ومعهم عرب من بلدان أخرى وحتى أجانب أصحاب مواقف إنسانية، وتشرفت وبعض الزملاء بالتعرف على هذه الجهود وأدركنا حجمها وثقل مسؤوليتها عندما دعانا لمشاركته في جانب منها بتولي مسؤولية التوزيع المباشر لما كان يجمعه ويجلبه من الخارج على من يتعذر عليهم الحصول عليه في كل المحافظات العراقية دون استثناء، واعتقد أن تبرع هؤلاء العراقيين دليل على إمكانية الجمع بين الإقامة في بلد أجنبي أو حتى حمل جنسيته واستمرار الشعور بالانتماء للهوية الوطنية.
تبقى مسألة أخيرة كثيرا ما طرحت بعد عام 2003م، وهي مسألة إشغال المناصب العليا في الدولة من العراقيين الحاملين لجنسيات أخرى (مزدوجي الجنسية)، والتي اعتقد أنها مسألة قانونية محض، وليست مسألة عاطفية أو أخلاقية، ولا تعكس اعتقادا بعدم شعورهم بالانتماء الوطني أو احترامهم لمسؤولياتهم وحفاظهم عليها وأدائهم لالتزاماتها، لأن هناك آخرين من أبناء هذا البلد الحاملين لجنسيته، لكنهم لا يشعرون مثلهم بهذا الانتماء ولا يحترمون هذه المسؤولية. ويتمثل هذا السبب القانوني في أن بمقدور الحكومة اتهام شاغلي المناصب العليا من حاملي الجنسية الوطنية ومحاكمتهم ومعاقبتهم بعد ثبوت الهم عليهم، بل وحتى مطالبة الدول الأخرى بتسليمهم في حال لجوئهم إليها، أما شاغلو المناصب العليا من (مزدوجي الجنسية)، فإنها لا تستطيع فعل الشيء نفسه معهم، لأن حكومات البلدان الأخرى التي يحملون جنسياتها يمكنها عدم تسليمهم في حال عودتهم إليها، أو تمنع محاكمتهم أمام محاكم غير محاكمها، وهي حماية قانونية تساعد على ارتكاب الجرم وممارسة الفساد، وتحمي من عواقبهما، لأنها تُشعر حائزها بالأمن إذا ارتكب جرما أو مارس فسادا بعودته إلى ذلك البلد، بل وحتى الاحتماء بها من المساءلة القانونية في وطنه الأم. وقد ظهر ذلك جليا فيما تتناقله وسائل الإعلام ووسائل الاتصال عن عودة عدد من المسؤولين المتهمين بالفساد إلى البلدان التي سبق وهاجروا إليها وحصلوا على جنسيتها أو جواز سفرها أو الإقامة فيها، وبقائهم فيها انتظارا لتسوية مشكلاتهم مع بلدانهم الأصلية، أو حتى عدم تسويتها، فالأمر ليس مهما كثيرا بالنسبة لمن جمعوا من فسادهم غنائم تكفيهم بل وتزيد على حاجتهم، وتوفر لهم جنسياتهم الأجنبية ملاذات آمنة تحميهم من عواقب ذلك الفساد، فما حاجتهم للعراق وما يهمهم حتى لو هدم على رؤوس أهله؟؟؟ وأكرر أن العذر في هذا الرأي قانوني وليس أخلاقيا أبدا، ولا اعتقد أن العراق قد أصبح عقيما فلم يُنجب مؤهلين لتولي مناصبه العليا غير حملة الجنسيات الأجنبية، فإن قيل ذلك، فهو عذر أقبح من ذنب، لأن تعليله الوحيد هو مكافأة هؤلاء على ما يصفونه بــ"الجهاد في سبيل الله أو النضال في سبيل الوطن"!، ولم نسمع في تاريخ الإنسانية أن المجاهدين جاهدوا طمعا في ربح أو أملا في منصب، مكافأة لهم على جهادهم في سبيل آخرتهم أو أوطانهم.