كانون1/ديسمبر 05
   
          استهوتني المناطق المشتركة بين السياسة والثقافة 
 
 
 
    هذا اللقاء هو رحلةً ممتدةً مع المناضل والكاتب (فواز طرابلسي). عاش أبرز أحداث قرننا العربي بجسده وكتب عنها وهو فيها. لم يصادف فواز تجاربه في لبنان واليمن وظفار والجزائر والعراق، إنما ذهب إليها وكان حاضراً في المنعطفات التاريخية. كان قيادياً فاعلاً في الحرب الأهلية اللبنانية. لكنه يتوقف في مراجعة نقدية للتجربة. المقابلة مع فواز متعة: رحلة في الأمكنة، رحلة في التاريخ، وغور في الثقافة. 
 
- وانا أتتبع سيرتك رأيت أن المناضل والمفكر يسيران معاً. تقول إنك نشأت مع الثورات وثرت مع الثوار، أية ثورات بالتحديد كانت الانعطافة، كيف انعكست على فكرك وممارستك؟
 
فواز: لم أميّز في حياتي بين الالتزام الحزبي والنضال السياسي من جهة، والكتابة والإنتاج الفكري والثقافي من جهة ثانية. بالعكس استهوتني على الدوام المناطق المشتركة بين السياسة والثقافة. بل كيفية ترجمة السياسة الى ادب وفن. درست في مدرسة بريطانية خاصة في جبل لبنان وكنت ميّالا الى الأدب والرسم. لكن اختلط عندنا التمرّد على سلطة الادارة مع التمرّد على الاستعمار البريطاني. وكان الحدث المؤسس في وعيي الوطني هو العدوان الثلاثي على السويس 1956. بادرت مع زملاء الى تأسيس مجموعة طلابية ناصرية وساعدنا للتثقيف زملاء سابقون انتظموا في حركة القوميين العرب. عند الانتقال الى الجامعة لم التزم بالحركة لخلافي مع الحركيين حول مسألة الاشتراكية. كنت متأثرا بالثورة الجزائرية والاشتراكية محورية في تفكيري. لكني جئت الى اليسار أيضا من اشعار ناظم حكمت وبول ايلوار وبابلو نيرودا وفريدريكو غارثيا لوركا والجواهري ومحمود درويش وعبد الوهاب البياتي، ومن مسرح بريشت وكتابات جون برجر في الادب والفن، الخ. خلال الدراسة في بريطانيا، تجذّر وعيي الاشتراكي بعد انفصال الجمهورية العربية المتحدة العام 1961 واكتشاف الترابط بين الانتماء الاجتماعي والمسألة الوطنية والقومية. كنت انوي دراسة الرسم والفن التشكيلي. التزمت في جناح يساري في حزب البعث ونشطت بالدرجة الاولى في تنظيم العمال اليمنيين في مدن الشمال الصناعية وفي العمل لانشاء نقابة لهم. اكتشفت الماركسية فتخلّيت عن دراسة الرسم، وقررت دراسة السياسة والاقتصاد. حالت أسباب عائلية دون الشروع بدراستي الجامعية مع انني كنت مقبولا في كلية الاقتصاد بجامعة لندن. عند عودتي الى لبنان، تعرضّت لعقوبة تجميد في الفرع اللبناني من البعث لاتصالي بمنشقّين مؤيدين لجناح أكرم الحوراني. استأنفت العضوية العام 1963 وتحمّلت مسؤوليات قصيرة في الجامعة الأميركية وفي قيادة مدينة بيروت. لم تطل بي الإقامة حتى فصلت العام 1965 مع مجموعة من الطلاب لإصدارنا بيانا يدين قمع النظام البعثي العراقي للشيوعيين والحرب ضد الاكراد.
 
 
تصنيع التجربة
 
  • عشت تجارب مهمة، لم تكن لبنان الساحة الوحيدة، إنما توزعت تجربتك على بلدان عديدة، اليمن، ظفار، الجزائر. عكست هذه التجارب ونقدك لها في شهادة لك تحدثت عن أعمال سميتها «تصنيع التجربة» هل لك أن تفصل لنا عمليةً التصنيع هذه لمهماتك الكتابية؟
 
فواز: اعتبر التجارب التي خضتها مواد خاما تحتاج الى تحويلها الى منتج نهائي عن طريق سردها وتحليلها وتقييمها وتسليمها للقراء قابلة للاستخدام. وافرّق هنا بين استخدام تجارب نضالية بما هي خلفية او مادة لانتاج عمل روائي او فني، وبين المعنى المبيّن أعلاه. وارى في ذلك الحد الأدنى من المسؤولية التي تقع علينا، نحن مناضلي جيل الستينات، تجاه الأجيال الجديدة. بدأتُ تلك المجموعة من المؤلفات بـ«صورة الفتى بالأحمر، ايام في السلم والحرب» (1997) وتضم «ظفار في زمن الثورة» (2003)، «جنوب اليمن في حكم اليسار» (2015) وفي السياق ذاته يأتي كتاب «وعود عدن. رحلات يمانية» (2001) وانا الآن في طور كتابة الجزء الثاني من «صورة الفتى بالأحمر» بعنوان «زمن اليسار الجديد» عن تجربتي في مجموعة «لبنان الاشتراكي» و«منظمة العمل الشيوعي في لبنان». وقد نشرت أيضا شهادتين لرفيقين من قادة اليسار: سلسلة حوارات أجريتها مع القيادي في الحزب الشيوعي اللبناني جورج البطل؛ والإشراف على تحرير ونشر مقابلة الأكاديمية الأميركية ليزا ودين مع القيادي في الحزب الاشتراكي اليمني، جارالله عمر.
 
الكتابةً وسط الحرب
 
- المتتبع لنتاجاتك يلاحظ تنوعاً عجيباً، وأحياناً بعيداً عن السياسة، مرة أدهشني اهتمامك بالدبكة اللبنانية بالتحديد، هل تعتبر هذه استراحات خارج العمل السياسي؟
 
فواز: لم اعتبرها استراحات. وإن يكن بعض الكتابات نتج عن البطالة السياسية خلال فترة الحرب، عندما انتقل النضال الى صعيده العسكري وبسبب حدود القدرة على التنقل بسبب القصف.
منتصف الثمانينات، غادرت الى باريس لاتمام دراستي الجامعية وكتابة أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، وكنت قد تخليت عن الدراسة الجامعية مرتين في الخمسينات والثمانينات لأسباب يمكن وصفها بنضالية. من تجربة الحرب، كتبت يوميات حصار بيروت في صيف 1982 بعنوان "عن أمل لا شفاء منه" (1984). وفي "غيرنيكا - بيروت" (1987) رويت قصة الحرب الأهلية الإسبانية (1936 - 1939) لجمهور خارج للتوّ من الحرب الأهلية اللبنانية. ودرست في الآن ذاته إنتاج بيكاسو الفني خلال تلك الفترة، ونظرت إلى جداريته بعينين عاشتا حربا أهلية، وأقمت في الفصل الأخير مقابلة بين صور من بيروت في الحرب وشخوص من الجدارية، الخ. وفي منتصف الثمانينات أيضا، غادرت العمل الحزبي بعد خمسة عشر عاما من تحمّل المسؤولية القيادية والتفرّغ للعمل الحزبي. لما عدت لتكملة دراستي الجامعية في باريس وكتابة أطروحة لنيل الدكتوراه، قررت الانتقال من العلوم السياسية إلى التأريخ على اعتباره علم العلوم ولاستشعاري الحاجة للمساهمة في تحرير تاريخ لبنان والمنطقة من الروايات الاستشراقية والعديد من الخرافات المحلية. كان العقد من الزمن الذي أمضيته في فرنسا فترة خصبة من التحصيل والبحث والكتابة. ومعظم كتاباتي هي من نتاج تلك المرحلة. عند عودتي، وقد نلت شهادة الدكتوراه عن أطروحة الدكتوراه عن الصراعات الطائفية والاجتماعية في لبنان الحديث، درّست العلوم السياسية ومادة تاريخ لبنان والمنطقة في "الجامعة اللبنانية الاميركية" واكتشفت مدى فضول جيل ما بعد الحرب لمعرفة الحرب والتعرّف الى تاريخ بلدهم. كان «كتاب تاريخ لبنان الحديث» (2007) مساهمة في تلبية تلك الحاجة. احتلت الحرب الاهلية نصف صفحاته تقريبا وافردت فصلا كاملا لفترة النضالات الاجتماعية 1964 - 1974. وانا سعيد لكونه تحول الى كتاب مرجعي. ومن نتاج أبحاث الحقبة الباريسية نشرت «صلات بلا وصل. ميشال شيحا والأيديولوجية اللبنانية» (1998) و«يا قمر مشغرة: المحسوبية، الاقتصاد والتوازن الطائفي في بلدة بقاعية» (2004) و«الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان» (2016). يضاف لها عدد من مجموعات لمقالات وأبحاث كثيرة منها نشرت في جريدة «السفير» حيث كنت انشر عمودا سياسيا خلال عدة سنوات. العناوين تدلّ على المضامين. اذكر هذه المؤلفات حتى لا يقتصر الأمر على المؤلفات ذات الطابع الأدبي والفني. وخلال الشغل على تاريخ لبنان والمنطقة تكونت لدي نبذ ومعلومات ووقائع كثيرة عن العلاقات بين أوروبا والمشرق خلال القرن التاسع عشر. شكّلت هذه مادة كتابي «حرير وحديد. من جبل لبنان إلى قناة السويس» (2017). انطلق فيه من اهتمام قديم باقتصاد الحرير في جبل لبنان ودور النساء فيه. السرد التاريخي أقرب إلى الحوليات حيث المصائر الفردية لعدد من الأشخاص تتشابك في الصراعات الاجتماعية والنزاعات الأهلية مطلع التدخل الاستعماري الغربي المباشر في المشرق العربي. وأبرز هذه الشخصيات: الأرستقراطية البريطانية ليدي هستر ستانهوب، تعلن نفسها ملكة على البدو في تدمر وتسكن جبل لبنان بانتظار عودة المسيح؛ المهندس الفرنسي فردينان دي لسيبس، صاحب مشروع حفر قناة السويس؛ بروسبير آنفانتان، زعيم السان سيمونيين، اتباع المذهب الاشتراكي المثالي، والأمير عبد القادر الجزائري، يخرج من الاعتقال الفرنسي ليستقر في دمشق. النهضوي العظيم والمجهول (احمد فارس الشدياق) يجوب المتوسط من بيروت عبر القاهرة، يدرس في الازهر، ويشهر اسلامه في تونس ويترجم الكتاب المقدّس في لندن، ويكتب رائعته «الساق على الساق» في باريس ليستقر في إسطنبول ويصدر صحيفة «الجوائب» اولى الصحف العربية في السلطنة؛ وفيه أيضا عن العاميات الشعبية في جبل لبنان ومشاريع تهجير فلاحين موارنة للمساهمة في الاستيطان في الجزائر، وكتابات كارل ماركس الصحافية عن مشاريع نابليون الثالث لاستعمار سورية وعلى السياسة البريطانية تجاه السلطنة العثمانية، الخ.
قاد «حرير وحديد» بسهولة الى الشغل على «سايكس – بيكو - بلفور: ما وراء الخرائط» (2018) وهي قراءة تاريخية تنقيحية للنظرة السائدة إلى الاتفاقيتين التأسيسيتين لكيانات المشرق العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى. بها أعيد وضع الحدثين في زمانهما عشية الحرب العالمية الاولى والمنافسة البريطانية - الفرنسية على استعمار المنطقة، فيما يتعدّى النظرة الخرائطية الاختزالية عن تقسيم المنطقة، وما بني عليها من خرافات تاريخية. هي دراسة تاريخية تعيد الاعتبار الى الاتفاقية الاولى بما هي تعهد بريطاني - فرنسي بدعم قيام "دولة عربية مستقلة بقيادة زعيم عربي" مقابل اعلان الشريف حسين الثورة على العثمانيين. وهو وعد نكثت به الدولتان بعد ثلاث سنوات عندما دعمت بريطانيا احتلال فرنسا لسورية. وأعيد الاعتبار لـ"اعلان بلفور" بما ان غرضه الأول كان مقدمة وحجة لاحتلال الجيش البريطاني لفلسطين (وقد احتل الجنرال اللمبي القدس بعد شهر واحد من صدوره) وفصلها عن سائر سورية التي تطالب بها فرنسا بهدف انهاء ما ورد في "سايكس بيكو" عن إدارة دولية (بريطانية – فرنسية - روسية) في فلسطين. والغرض حماية الضفة الشرقية من قناة السويس. وقد استخدم الوعد بدولة يهودية لسلب سكان فلسطين الحق في تقرير المصير والحقوق السياسية، أي الحق في الاستقلال وانشاء دولة وطنية وادارة الحياة السياسية لبلدهم واقتصار حقوقهم على الحقوق الدينية والمدنية.
 
الثقافة الشعبية
 
سؤالك عن دراسة رقصة الدبكة. كنت دائما مولعًا بالثقافة الشعبية، وزاد اقتناعي بأهمية دراستها لما قرأت صفحات ثمينة عنها عند غرامشي بما هي دالة على كيفية عيش أبناء الفئات الشعبية في الارياف خصوصا حياتهم وفكرهم من خلال الامثال والحكم، والروايات والشخصيات والابطال الشعبيين، والرقص، والمناسبات، والاحتفالات الدينية وغير الدينية الخ. وطابع الثقافة الشعبية متناقض فيه عناصر رضوخ واستكانة مثل ما فيها عناصر تمرّد وثورة. نأتي الى دراسة رقصة الدبكة، هي من نتاج الشغل على كتابي «مسرح فيروز والرحابنة: الغريب، الكنز والاعجوبة» (2007) والكتاب قراءة في المسرحيات الغنائية للأخوين رحباني، بطولة فيروز، تروي بالقص الشعبي ربع قرن من حياة لبنان بين دورتين من الاقتتال الأهلي 1958و1975-90. تولّد عن تلك الدراسة عدد من المقالات في الثقافة الشعبية، جمعتُها واعدت نشر البحث عن الدبكة في "إن كان بدّك تعشق» (2004) حيث درستُ الامثال الشعبية من منظار كونها فلسفة كاملة في النظر الى الحياة وما وراءها، وفي تدبّر الامر فيها بناء على تناقل التجارب المتعلقة بتربية المواشي والزراعة وما ارتبط بهما من أدوار وطقوس. بالمناسبة، نشرت صيغة أولى من دراسة الدبكة في مجلة اتحاد الكتاب العراقيين. ورقصة الدبكة، كما تعلم، رقصة مشتركة بين شعوب المشرق، وتقترب من رقصات تركيا واليونان وبلاد البلقان، وفيها تعبّر الحركات على طقوس استنزال المطر، والتحدي للأرض، وتطلّب ان يشبّ الزرع، وهي أيضا طقس لاعادة انتاج التضامن الجماعي للعشيرة او القرية، مثلما ان الدبكة أخيرا رقصة التغاوي بين رجال ونساء، الخ.
 
- هل فكرت بالرواية كشكل قادر على جمع التاريخ مع التجربة الشخصية؟
 
فواز: الشعر والمسرح أقرب اليّ من الرواية. لم يخطر ببالي كتابة رواية ولست أجد نفسي مؤهلا لذلك. مع إنني مقتنع بأن الرواية هي النوع الادبي الأفضل للتعبير عن الصراعات الاجتماعية. لكن نمط السرد الذي أمارسه هو السرد التاريخي. والمؤرخ راو. وفي ذلك بعض التعويض.
 
 
عنف الحرب الأهلية
 
- في عمل غريب وجديد من نوعه قرأت جدارية بيكاسو بعين من عاش وشارك في حرب أهلية في بلده لبنان. كيف تنظر للعنف الذي يسم الحرب الأهلية، مستنكر، مبرر، ناتج عرضي. نظرتك للحرب الأهلية في لبنان، هل خضعت لمراجعة شخصية، كيف؟
 
فواز: اول ما يجب تداركه ليس العنف في الحروب الاهلية بل الحروب الاهلية ذاتها. راجعت تجربة الحرب الاهلية في لبنان كما خاضها اليسار والحركة الوطنية اللبنانية على أكثر من وجه. حمل اليسار وأطراف الحركة الوطنية السلاح ابتداء من العام 1973 دفاعا عن حق المقاومة الفلسطينية في الوجود والعمل في لبنان في وجه حملات الجيش وميليشيا حزب الكتائب ضد الفدائيين والمخيمات. بدأ حزب الكتائب يتسلّح منذ العام 1969. الخطأ الذي ارتبكه اليسار والحركة الوطنية خطآن: الاول هو التصوّر بامكان تحقيق الحسم العسكري على الطرف الآخر وفرض برنامجه في الغاء الطائفية السياسية والديمقراطية. والثاني هو توّهم تلقي دعم عربي على اعتبار انه يخوض معركة العروبة ضد الانعزالية. تدخلت العروبة من خلال الاجازة التي منحتها الإدارة الاميركية للنظام السوري والتواطؤ الإسرائيلي بإدخال جيشه الى لبنان لمنع انتصار الحركة الوطنية والقاء القبض على المقاومة الفلسطينية. التوسيع والتفصيل في كتابي الذي يصدر في الخريف بعنوان «زمن اليسار الجديد». عارضت واعارض تركيز منظمات المجتمع المدني على الذاكرة كوسيلة من وسائل المعارضة السياسية او كوصفة في حل النزاعات، على اعتبار ان تذكّر اعمال العنف يعصم عن تكراره. لم يعصم تذكّر حرب 1860 عن تكرار حوادث 1958 ولا منعت ذاكرة صيف ذلك العام عن 15 سنة من العنف الأهلي خلال الأعوام 1975 - 1989 اؤثر التاريخ على الذاكرة. الذاكرة تتجمّد في لحظة معينة من الماضي. في حين ان التاريخ سائل ومتسائل. على ان هذا لا يقلل من أهمية الذاكرة. في جدل الذاكرة والنسيان ذاته، اقترح ان ما ينبغي ان ننساه هو العنف، والنسيان فعل ارادي. ليس يعني الغفران بالضرورة ولا وقف المحاسبة. واشدد على ان ما ينبغي ان نتذكّره هو أسباب الحرب، ومسارها والعوامل التي دعت الى وقف القتال ونهاية الحرب. ومن ثم استخلاص دروس الحرب.
خرجت من مراجعتي للحروب الاهلية بعدة خلاصات اكررها في ما يأتي:
أولا، لا يمكن فرض الإصلاح بالقوة وبالسلاح ولو كان في صالح من يُفرض عليهم. في المجتمعات ذات الانقسامات العمودية الفاعلة، يؤدي فرض الإصلاح بالسلاح الى النتيجة العكسية بزيادة التحام من يفرض عليها الإصلاح فرضا وبالاقتتال الأهلي والاستنجاد بالخارج.
ثانيا، تستدعي الحروب الأهلية التدخل الخارجي العسكري غالبا ما يُفقِد الطرفين الداخليين السيطرة على مسار الحرب كما على مصيرهما. والكاسب الأكبر هو الخارج.
ثالثا، يردّ النزاع العسكري البشر الى الانتماءات والولاءات الاولية - الى العائلة والطائفة والإثنية - على حساب اطر الانتماء والتضامن الاشمل والأكثر توحيدا وحداثة.
رابعا، ترفع الحروب منسوب التديّن بل انها تنتج انماطا من التديّن أكثر تطرّفًا من أنماط تسييس الأديان، أصولية وجهادية وتكفيرية، تسوّغ القتل باسم الدين.
خامسا، لا يوجد غالب ومغلوب في الحروب الاهلية. كلاهما خاسران. قد تتفاوت الخسائر فقط. خذ امثلة الثورات التي انقلبت الى حروب أهلية وانتصرت مثل ثورة أكتوبر الروسية. لقد حوّرت الحرب مظاهر عديدة من الثورة ومن مسارها. واعظم الخسائر هي حيث تنتهي الحرب الاهلية بلا غالب ولا مغلوب، فيكون الجميع مغلوبين.
سادسا، أفدح الأخطاء هو الظن بأن نهاية الحروب الاهلية تعني العودة الى أوضاع طبيعية، او أوضاع ما قبل الحرب، مرحلة ما بعد الحرب هي مرحلة دفع فواتير الحرب لفترة طويلة على كافة الصعد.
ومع ذلك، لا أزال اعتقد بحق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال في المقاومة بكافة الوسائل بما فيها السلاح، وفي اعلاء حق الشعب الفلسطيني في ممارسة هذا الحق من اجل تقرير مصيره كشعب. عدا عن هذا الاستثناء، والحالات التي تشبهه، سوف اسعى بالكلمة والفعل في دفع كل اشكال النضال الشعبية الى فرض مطالبها بالقوة الشعبية، ومنع وصولها الى الدرجة التي تنقلب بها الى محاولات حل النزاعات بواسطة العنف المسلّح.
لم اكتفِ بدراسة الحروب ودروسها، استخدمت أساليب متعددة للتعبير عنها او التأمل فيها. عدت الى الموضوع في كتابي الأخير «دم الاخوين. العنف في الحروب الاهلية» (2019) ويضم مجموعة مقالات عن مسرح هاينر موللر الشيوعي الالماني، وفن كاثي كولفتس التشكيلي، وعن مسرحية لمحمد الماغوط بعنوان «العصفور الاحدب»، وفيلم عن حصار ساراييفو، وعن ملصقات الحرب اللبنانية؛ واستخدام الطيران الحربي ضد المدنيين وكانت بدايته في بلادنا ومن أوائل استخداماته، كما تعلم، على يد البريطانيين ضد انتفاضة الفرات الاوسط في العراق، و"الرقابة البوليسية" البريطانية لضبط قبائل اليمن الجنوبي؛ وقصف الطيران الفرنسي دمشق خلال الانتفاضة الوطنية العام 1925، الخ.
 
اليسار والمرجعية
 
- تقول في واحد من لقاءاتك بأنه بعد انهيار المنظومة الاشتراكية لم يعد هناك يسار واحد وانت تشدّد هنا على أنه لا وجود ليسار واحد وقد انتهى عهد احتكار المرجعية. كيف برأيك توزع اليسار، وكيف تشكلت تحالفاته الجديدة؟
 
فواز: لم اؤمن مرة بمرجعية واحدة. في كل الأحوال التنظيم الذي كنت أنتمي إليه – منظمة العمل الشيوعي في لبنان - كان ممنوعا من الصرف في القواعد السوفييتية. لم يوجد يسار واحد في اي مرة. اللهم إلا عند الذين آمنوا بوحدانية المرجع السوفييتي. اود تسجيل عدد من النقاط عن مرحلة ما بعد الحرب الباردة:
 
أولا، ثمة مفارقة فكرية تتعلق بانهيار الاتحاد السوفييتي هي انه ترافق مع انطلاقة حيوية متجددة للفكر والاجتهاد الماركسيين في العالم الاقتصادي والجامعي والفكري عموما. اما على المستوى السياسي فنشهد نمو اجنحة لا تتردد في تسمية أنفسها اشتراكية في الحزب الديمقراطي الاميركي والعمال البريطاني وتحالف يساري عريض في فرنسا وحركات تسلمت الحكم او شاركت فيه في اليونان واسبانيا، وامثالها في اميركا اللاتينية. وقد لعب الانهيار المالي عام 2008 وخيبة الامل بالنيوليبرالية دورا كبيرا في ذلك. وهذا امر معبّر. وهو دليل على ان الماركسية لا غنى عنها لدراسة وفهم وتفسير عالمنا المعاصر.
ثانيا، شكل اليسار الشيوعي و"اليسار الجديد"، على ما بينهما من تباين في النشأة والاجتهاد، الجناح اليساري في حركة التحرر الوطني العربية. لعب اليسار، تحت شعار الثورة الوطنية الديمقراطية دورين: الاول، تمثيل الجناح الأكثر جذرية في العداء للكولونيالية والامبريالية. ولكنه ترافق مع دور مؤجل في النضال الاشتراكي: دعم برجوازيات وطنية افتراضية من اجل بناء اقتصاد انتاجي مستقل يولد طبقة عاملة تسمح لليسار بأن يلعب أخيرا دوره الأصلي في الصراع بين رأس المال والعمل. اما الدور الثاني، فهو دور استبدالي، أدّاه اليسار في غياب احزاب ديمقراطية بحيث مثّل المطالب والحريات الديمقراطية، وقد أسهم في بلورة حساسيته لتلك المطالب معارضتُه لقيم وثقافة المجتمع البطريركي القديم، ودوره في الحركة النقابية والحزبية، الأكثر تطلّبًا الى الحق في التعبير والتظاهر والاضراب والتنظيم والتشريع، وقد اسهمت في هذا كله نشأته في كنف أقليات هي الأكثر حاجة الى الحرية والمساواة في وجه طغيان الأغلبية، وإن يكن تجاوز ان اليسار حدود وقيود تلك النشأة في معظم الحالات.
لكن هذا المكوّن الديمقراطي في اليسار كان متفارقًا مع العقيدة ومع نموذج الحكم الذي يستلهمه اليسار. فالعقيدة تنعت الديمقراطية بالبرجوازية وتدينها بناء على نقد لينين للانظمة الديمقراطية الغربية باسم ديمقراطية مجلسية مباشرة (السوفييتات) لم تعمّر طويلا. لكن يجب اخذ هذا الربط بين البرجوازية والديمقراطية بطريقة نقدية أصلا. فقد تولّدت حالات مضّخمة من الإعجاب بالبرجوازية بما هي قوة حضارة وتنوير وتوحيد وطني مأخوذة - على طريقة "لا تقربوا الصلاة..." - من القسم الاول في «البيان الشيوعي» اقل ما يقال انها لم تكن لها تلك الصفات المضخمة تاريخياً. ذلك أن التجربة التاريخية في البلدان الغربية تقدم الدليل على ان القوى الاجتماعية والسياسية قبل الرأسمالية كان لها الدور الأبرز في التوحيد الوطني (خصوصا في بريطانيا، وألمانيا وإيطاليا) وفي التمثيل السياسي للبرجوازية لمدة طويلة. الأهم ان ثورات الجماهير الشعبية، والقوى العمالية خصوصا، وانتفاضاتها وحركاتها السياسية والنقابية هي التي فرضت ذلك التراكم من الإنجازات الذي أنتج النظام الجمهوري الديموقراطي. وعلى امتداد اكثر من قرن، كانت تلك القوى "ترفس البرجوازية على قفاها"، لتتحرك باتجاه الحرية والمساواة السياسية، حسب تعبير غرامشي. والحصيلة ان تمثّل اليسار بالنظام السوفييتي أفقده الكثير من المصداقية في مطالبته بالديمقراطية، خصوصا ان الأنظمة القومية العسكرية العربية الحاكمة تقتدي هي ذاتها بنموذج الحكم السوفييتي.
مهما يكن، في صلة وثيقة بدوره كقوة ديمقراطية، شكل اليسار تيارا في الحداثة العلمانية العربية عبّر عن نفسه بنوع خاص في كثافة الحضور في التيار الحديث والتجديدي في الأدب والمسرح والفنون التشكيلية. وهذا وجه من أوجه حضور اليسار في حياتنا العربية لا يؤتى على ذكره كثيرا.
 
وإن احتواء اليسار هذه المكوّنات – الوطنية، الديمقراطية، الحداثة – هو ما يعرّف انتماء أعضائه الأساسي (ولا يتعارض مع الانتماء الثانوي منها وهو العداء للرأسمالية والتوق للاشتراكية). لكنه يفسّر برأيي الى ابعد حد الانشقاقات وحالة التفكك التي عصفت باليسار جراء الانهيار السوفييتي. إذ ان الكسر الأكبر في اليسار تمّ عند هذين المكوّنين: تيار يعطي الأولوية في العداء للامبريالية – ووجهه الأبرز الانضواء في معسكر "الممانعة" بزعامة النظامين الإيراني والسوري، من جهة، وتيار ليبرالي - اكثر مما هو ديمقراطي - يغيّب دور الولايات المتحدة بما هي قوة سيطرة واستغلال، وهي في أوج انفرادها بالسيطرة على العالم، من جهة أخرى.
ثالثا. اليسار هو ابن مرحلة تاريخية منقضية بوجهيها - الحرب بين المعسكرين وبين حركات التحرر الوطني العربية والعالمية. فوجود مسألة وطنية وقومية عربية، (فلسطين والوحدة العربية) لا يلغي حقيقة ان المنطقة قد غلب عليها مجتمعة نمط جديد وشامل من الرأسمالية هو النيوليبرالية، لقد ازداد الصراع الفكري حدّة وشمولا بعد نهاية الحرب الباردة، لا العكس. وفي ظل اكذوبة "نهاية الايديولوجيات" يخاض هذا الصراع على الصعيد الكوني بوسائل غير مسبوقة لفرض رؤية واحدة على العالم قوامها عبادة السوق ويدها الخفّية المدعومة بالقبضة الحديد الأميركية وبإغراءات مجتمع الاستهلاك واملاءات المؤسسات المالية والتنموية الدولية، وبنزعة ثقافوية تعرّف وتقسّم المجموعات البشرية بناء على جواهر قوامها اللغة والدين بما هي "حضارات" او "ثقافات" و"وهويات". هذا صراع يخاض في منطقتنا من طرف واحد، الى حد بعيد، وقد فعل فعله في الاختراق والغلبة في صفوف اليسار.
رابعا، التحدي الآن هو تحدي إعادة التأسيس وهذا يعني قيام تعاقد جديد بين مكونات اليسار على رؤية مميزة للمرحلة التاريخية الجديدة، ويعني أيضا ان يعيد تموضعه بما هو قوة مناهضة للرأسمالية ويعيد بناء قواعده الاجتماعية بالانفتاح على كافة القوى المستغلة والمتضررة من الرأسمالية، بما فيها قطاعات واسعة من الطبقات المتوسطة، والحركة النسوية وسائر الفئات المستغلّة والفقيرة والمهمشة - والسعي لتمثيلها. وابتكار أساليب تنظيم ونضال جديدة وبناء تدريجي لقواه. وأولى المهمات خوض الصراع الفكري ضد النيوليبرالية، وما يصدر عن ثالوث البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وعن المؤسسات الاقتصادية والتنموية الدولية، والنضال بنوع خاص ضد ايديولوجيا "المجتمع المدني" والنزعة الثقافوية وسياسة الهويات.
هذا تحدٍ بمستوى تاريخي. يرتفع اليساريون الى مستوى الرد عليه، او يحل آخرون محلّهم.
التمثيل الشعبي، والتمثيل العمالي والنطق باسم الفقراء والمهمشّين ليس مهمة مطوّبة لليساريين. ولا فراغ في التمثيل السياسي والفكري للأكثرية الشعبية خصوصا في حالات الازمة والانهيار التي تشهده المنطقة.
 
 
الماركسية كمرجع
 
-  الماركسية، كما أرى ما زالت تشكل لك مرجعاً؟ بأي معنى وكيف؟
 
فواز: التراث الماركسي هو مرجعي الاول بروافده المتعددة والمتنوّعة وليس الأوحد. وعندما أقول مرجعي الفكري الاول اقصد نقطة الانطلاق الرئيسة في الجهد النظري لا نهاية المطاف. إضافة الى منهج المادية التاريخية، الماركسية هي في وجه أساسي منها نظرية المعرفة النقدية للرأسمالية، وهي قائمة ما دامت الرأسمالية قائمة. والصراع مستمر بينهما. وانني امثّل على الصراع ببطلين من ابطال الاغريق لن تنتهي المبارزة بينهما الا بموت الاثنين.
استرشد بما اسميه «الماركسية العملية» أي ما يمكن استنسابه من التراث الماركسي، بكل موارده ومدارسه وتياراته، من مفاهيم وتجارب لانتاج معارف عن السلطة والاقتصاد والمجتمع في لبنان وبلداننا العربية. لست من دعاة العودة الى ماركس والمفكرين الاوائل، ادعو الى عدم التخلّي عنهم باسم تأويلات لاحقة. ولست استبعد في هذا الجهد ما قد نتج من جديد في العلوم الاجتماعية والإنسانية. بورديو مثلا يفيد جدا في التفكير بالطبقات المتوسطة والارتقاء الاجتماعي عن طريق رأس المال الاجتماعي والثقافي، كما يفيد في اشكال التمييز والتمايز الناجمة عن التوزيع المتفاوت لتلك الرساميل والمداخيل والثروات، وهو ناقد شديد للنيوليبرالية. وحريّ بمن يستعير من فيبر عن المجتمع قبل الرأسمالي ان يستنير بشغله الأهم عن الطبقة والمرتبة والحزب. وبدلا من احياء الوجه الكولونيالي العتيق للانثروبولوجيا، باسم نهاية السرديات الكبرى، وادغامه بالفصاحة اللغوية، يمكن الاسترشاد بمحاولات الربط بين البنيوية والماركسية عند غودلييه، وبين القبيلة والعرق في التحليل المادي التاريخي والطبقي للمجتمعات عند فارلرستين، الخ.
وهذه ابرز الأوجه في الماركسية التي استرشد بها.
1-النظرة الجدلية الى الرأسمالية، بما هي طاقة تغيير جبارة وطاقة تدمير جبارة في آن معا. من هنا يأتي الفكرة التي تقول انه بفضل الرأسمالية والتطور العلمي والاقتصادي، بات العالم قادرا على ان ينتج ما يفي بالحاجات الضرورية لجميع سكانه. ولكنه في ظل سيادة السوق ومبدأ الإنتاج من اجل الربح، لا لسدّ الحاجات، وأيضا بسبب قيود الملكية الفردية، لا يزال عالمنا يعرف المجاعات، وتنامي الفوارق بين القارات، وبين المداخيل والثروات والموارد داخل كل بلد. وقد بلغ هذا التناقض ذروته الفاضحة في العصر النيوليبرالي حيث يملك 62 من أثرى الاثرياء ما يزيد عما يملكه ثلاثة مليارات من البشر.
ويفيد هنا اخذ بعض المستجدات بالحسبان.
- تعدد أدوات الظلم والتمييز الاجتماعيين. اضيف لها استغلال اليد العاملة الوافدة، والعمل غير الرسمي. والاستغلال موجود في الريع والفائدة والسوق (الاحتكارات والتحكّم)، والظلم الاجتماعي في السكن والصحة والاستشفاء، وفي تفاوت فرص الوصول الى الموارد والى خدمات الدولة، الخ. ويوجد تمييز في فرص العمل، والارتقاء الاجتماعي من خلال آليات عديدة ليس اقلها شأنا التفاوت في حيازة رأس المال الثقافي، ورأس المال الاجتماعي، ورأس المال السياسي (الارتباط بعلاقات محسوبية تجاه حزب او زعيم).
 - تفاقم ظاهرة دور السلطة في انتاج مصالح اقتصادية حيث شهدت العقود الاخيرة ظاهرتين متناقضتين: دور مباشر لرجال الاعمال في السلطة السياسية، من جهة، والاستخدام المتزايد للسلطة وللعنف (الحروب والحروب الاهلية مثلا) في انتاج مصالح اقتصادية جديدة. امامك امثلة فاقعة من العراق وسورية ولبنان حتى لا نتحدث عن ظاهرة الاوليغارك في روسيا وبلدان أوروبا الشرقية.
2- التناقض بين الفرد والمجتمع مقولة خصبة واساسية في الماركسية، تقدّم الدليل على كيفية تجاوز قطبي المعادلة السائدة: إما سحق المجتمع للأفراد في المذاهب القومية والشمولية وإما الفردانية الليبرالية الواهمة بأنه يمكن للأفراد ان يولدوا وينموا خارج العلاقات المجتمعية واحكامها او بالضد منها. وذلك بتأكيد مقولة ان الفرد يولد كعلاقة اجتماعية وان تحرر الفرد رهن بتحرر المجتمع، او بالمستوى الذي بلغه ذلك التحرر.
3- الديمقراطية ثورة بذاتها وانجاز تاريخي بذاته، تحقق المساواة السياسية والقانونية بين مواطنين في الدولة. وكما اشرت أعلاه، لم تأت الديمقراطية تاريخيا على يد البرجوازية، على عكس ما يروج له ليبراليون وماركسيون معًا. نشأت وتراكمت وهيمنت بواسطة الثورات والحركات الشعبية ضد الرأسمالية وانتهت الى مساومة تاريخية شرعّت الحرية والمساواة السياسية والقانونية في الدولة، وكرّست في المقابل وحمت اللامساواة في المجتمع المنقسم الى طبقات والى اشكال مختلفة من التراتب والتمييز. وهذا التناقض بين المساواة في الدولة وعدم المساواة في المجتمع ينخر المساواة في الدولة بتقييد الحريات والحقوق السياسية والقانونية واخضاعها لسلطة المال. والمال قوة وسلطة. وقد تصور ماركس وانجلز ان يكون حل هذا التناقض هو الانتقال من الديمقراطية السياسية والقانونية الى الديمقراطية الاجتماعية، التي هي الاسم الآخر للمساواة الاجتماعية، أي الاشتراكية.
4- في المادية التاريخية، يمكن الانطلاق من الرفيق ابن خلدون في قوله "إن اختلاف الأجيال في احوالهم انما هو باختلاف نحلتهم من المعاش". وقد أضاف ماركس الى انتاج المعاش "انتاج الحياة الحقيقية" أي دور المرأة في التاريخ. وفي ابرز تطويراتها باتت المادية التاريخية تتخطى التحديد الاقتصادي، أي تفسير الحياة والمجتمع والسلطة وفق مبدأ تفسير وتسيير واحد. بل يزداد الاهتمام لدى الماركسيين بما يسمّى "التحديد المضاعف" الذي يجدل الاجتماعي والسياسي والثقافي في دراسة الرأسمالية. وكم هو معبّر ان نُقاد المادية التاريخية المعاصرين، الذين يرفضون أحادية العامل الاقتصادي في تفسير الحياة والتاريخ وكعامل مسيّر لحركتهما، وبينهم عدد لا بأس به من الشيوعيين والماركسيين السابقين، ينتهون في معظمهم الى الاخذ بالتحديد السياسي، أي القول بمبدأ تفسير وتسيير اوحد للحياة والتاريخ هو السياسة، وهي نظرية تقع في مجملها في أسر الليبرالية الجديدة.
 
التوحش النيوليبرالي
 
5- على عكس ما ينسب الى الماركسية من تتابع حتمي وخطّي لأنماط الإنتاج، ابان أنجلز في تاريخ للإمبراطورية الرومانية كيف يمكن لنمط انتاج ان يدمّر نفسه بنفسه دون ان يفضي الى نمط انتاج جديد وتشكيلة اجتماعية أرقى. ومن هنا الخيار التاريخي الفاجع الذي أطلقه مع ماركس وانجلر، واستعادته روزا لوكسمبرغ: "الاشتراكية او الهمجية!" وأحسب اننا نقارب هذه الاخيرة في عهد التوحش النيوليبرالي. بالإضافة الى ذلك أخطأتْ كثير من محاولات التنبؤ لدى الماركسيين. وهي تفقد كل مصداقية عندما تدّعي ما يزيد على رصد وجهات ومسارات. وهذا نقيض فكر المراهنات. لا توقّع الا النضال. 
6- الصراع بين الطبقات. كل المجتمعات منقسمة الى طبقات تتعايش - ولو بنسب متفاوتة - مع مراتب وتكوينات أخرى مثل القوميات والأعراق والإثنيات والمذاهب الدينية والأقليات وسواها. ويصدق القول ان البلدان الصناعية المتقدمة بلدان ذات تراكيب طبقية، فيما سائر القارات الثلاث هي مجتمعات منقسمة طبقيا. وثمة تناقضان فاعلان في البنية المجتمعية هما التناقض بين الريف والمدينة والتناقض بين العمل الذهني والعمل اليدوي.
الصراع الطبقي دائم. هو سرّي او مكشوف، جزئي او شامل، دفاعي او هجومي، سلمي او على درجات معينة من القوة والعنف والصراع ليس يختصر الصراعات السياسية والاجتماعية، لكنه قائم وفاعل ومتفاوت القوة والقدرة والاثر، يتدخل فيها جميعا ويتقاطع معها ويتغذى منها. وغالبا ما يمارَس الصراع الطبقي من فوق لتحت أكثر مما يمارس من تحت لفوق. صدق الاميركي وارن بوفيت، رابع أغنى اغنياء العالم؛ اذ قال انه لا يعترف بوجود "حرب طبقية"، وحسب، بل يؤكد ان طبقته، طبقة الأغنياء، هم الذين يخوضون تلك الحرب وينتصرون فيها. ومن يرد مثالا عينيا راهنا عن حرب طبقية تشنها طبقة حاكمة بمكونيها الاقتصادي والسياسي، فليتابع سطو الاوليغارشية اللبنانية على أموال اللبنانيين وعلى حياتهم ومستوى معيشتهم، وعلى استغلال العمالة الوافدة، ومستقبلهم في الازمة متعددة الاوجه المستمرة منذ العام 2019. وفي حين عادة ما تعمل الطبقات الحاكمة على دعم تدخل صندوق النقد الدولي في بلادها، تعرقل الاوليغارشية اللبنانية تدخله في حل الازمة المالية وإعادة رسملة القطاع المصرفي، في الآن ذاته الذي تطبّق فيه سياسات التقشف التي يطالب بها صندوق النقد، قبل عقد الاتفاق معه.
 
الماركسية والدين
 
7- النظرة الى الدين والتديّن. تتجاوز الماركسية النظرة العقلانية التنويرية المجرّدة القائمة على معادلة "ظلمات الجهل يبددها نورُ العِلم". تثير حاجة البشر الى الدين، حاجة المقهورين الى العزاء والى تحمّل العوز والقهر والألم ("لا تهملني لا تنساني، يا شمس المساكين" – تصلّي فيروز). تعترف الماركسية بهذا الوجه من الدين وتؤكد التناقض القائم في كل الديانات: انها تفرض الاستكانة بل الامتثال، قدر ما تحرّض على الثورة على الظلم والاستغلال. ثم انها تحوي اقوى وابلغ تسويغ للعنف والقتل مثلما تحوي أعظم الدوافع للتضحية والغيرية والتضامن الانساني.
لا يكفي الحديث عن ضرورة التنوير في الدين، الحاجة ملحة للتثوير. وهؤلاء هم بعض الثوار المعاصرين: فقه التحرير في اميركا اللاتينية، محمد محمود طه السوداني وعلي شريعتي الايراني.
8- نظرية التغيير واساليبه. المهتمّون الجدّيون بالتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي لا يمكنهم الاستغناء عما تحويه الماركسية من تراث زاخر في نظريات وتجارب الثورة والتحرر الوطني والاجتماعي والتوحيد القومي والتغيير السياسي والاجتماعي والحركات الاجتماعية والتجارب النقابية والتعاونية. وانني ادعو ثوار 2011 الى قراءة اعمال لينين بما هي مخزون فكر وتجارب لعلم وفن السياسة الثورية.
9- الحرية والمساواة. أخيرا وليس آخرا تثير الماركسية الإشكالية الوجودية الكبرى للاجتماع البشري، إشكالية العلاقة بين الحرية والمساواة، وإن تكن قد غلّبت في الممارسة السعي الى الثانية على حساب الاولى. للماركسية مقاربتها الانسانية اللامعة لمفهوم الحرية بما هي تحرر الانسان من الضرورة. على ان كامل زخمها وقوتها كامنان في حضور الحرية، في المساواة، والعكس بالعكس، والتقاطع والتشابك والانفصال بينهما.
 
الربيع العربي؟
 
- ثورات (الربيع العربي)، هل تسميها ثورات، كيف نظرت إليها، ولماذا آلت إلى ما آلت إليه؟
 
فواز: التسمية ليست مهمّة. من حيث النوايا، أرادت تلك الحركات ان تسمّي نفسها ثورات، بمعنى تضخيم أهميتها قياسا الى حركات شعبية او مجتمعية أخرى. يمكن اعتبارها ثورات بمعنى انها حركات شعبية هدفها المعلن اسقاط الانظمة الحاكمة بواسطة الضغط والقوة – قوة العدد اقل. ومنعا للبحث غير المتناهي في هذا الامر، يطلق على حركات شعبية تسمية "ثورة" بعد نجاحها في التحويل الجذري لنظام سياسي – اقتصادي - اجتماعي قائم. لا وهي جارية. وقد اختلط الأمر كثيرا بحيث كانت الثورات تنم عن رغبة في القيام بالثورة، واعتبار كل تسمية عداها كأنها دونها منزلة عبّر عنها شعار "ثورة ثورة، مو حراك". ولم تسلم الثورات من تضخيم الاهمية في الاعلام العربي (قناة الجزيرة القطرية مثلا) او الغربي.
الأكيد اننا امام ظواهر جديدة في عالم جديد. بعض نقاط الاستدلال:
- الدور الخارجي الاميركي المحكوم باستراتيجية الحرب الكونية ضد الإرهاب. جرى تغييبه في الكثير من الاحيان. اعتمدت الولايات المتحدة ودول الخليج سياسة واضحة تجاه الانتفاضات: استبدال الرجل الاول في السلطة لإنقاذ السلطة والنظام، والحفاظ على الامر الواقع الإقليمي وفي أساسه اتفاقيات السلام مع إسرائيل، ومن ثم اجراء انتخابات نيابية كان واضحا انها ستسمح بوصول "الاسلام المعتدل" الى السلطة. نجحت هذه الصيغة من الثورة المضادة سلميا عندما دعم الجيش عملية الانتقال في مصر وتونس. وانتكس نحو العنف عندما انكسر الجيش واندلع الاقتتال الأهلي في ليبيا (دون تجاهل دور التدخل الخارجي الأطلسي) واليمن وسورية.
- يجرى تصوير الانتفاضات بالاقتصار على مكونها المدني، أي العلماني الخجول المسمّى "مدنيا" في الساحات، في تجاهل وزن ودور المكوّن الإسلامي بشقّه الاخواني. وهو الانشقاق الذي سوف يلازمها في مصر وتونس وسورية والعراق واليمن. ما اود قوله ان ما نسميه ثورات انطوى على قوى معارضة وعلى قوى مضادة لها خارجية وسلطوية محلية وجهادية.
- في البداية استهواني الشعار الجامع -عيش/ عمل، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية – وفسّرته على انه يشكل رؤية شاملة في تشخيص أسباب الثورة – تقلص فرص العمل، الاستبداد، الفروق الاجتماعية، امتهان الفرد، الخ. وأهدافها في آن معا. لكن تبيّن ان ذلك الشعار المركزي بلا وظيفة، ولا حتى وظيفة تعبوية. ولم يتدخل في تفسير أسباب قيام الثورات ولا هو أوحى للثوار بمطالب محددة ولا خدم في تقييم مسار الثورات ومآلها.
تبيّن ان الثورات، وإن تكن تحمل ردود فعل ضد هذا الادغام الطاغي بين الاستبداد والنيوليبرالية، اخذت تعبر عن نفسها من داخل المناخ النيوليبرالي وايديولوجيا المجتمع المدني. وبعضها مقولات ومفاهيم وأساليب عمل اختبرت في انقلابات أوروبا الشرقية وأريد لها ان تطبق على المنطقة العربية على اعتبارها المتأخرة في اللحاق بموجة "الديمقراطية العالمية الرابعة" لعالم ما بعد الحرب الباردة وهيمنة القطب الاوحد. فغلبت شيطنة الدولة وشعارات العداء للسلطوية وللفساد، على حساب منوعات أخرى من الاستبداد والتمييز والاستغلال والفروقات الطبقية والمناطقية، والتهميش والتفاوت في الفرص العمل والتعليم والارتقاء الاجتماعي، وفي الوصول الى الموارد وخدمات الدولة، الخ.
- ومن المناخ ذاته كانت نزعة رفض التنظيم والنفور من الأحزاب، بالتماهي بينها وبين السلطات او باعتبارها فاشلة. ومن حقوق الانسان، جرى الاقتصار على حقوق الانسان والحريات بصيغتها الفردية والشخصية مع اغفال شبه تام للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
- في أساليب العمل، غلبت وحدانية "احتلال المكان" تقريبا على اعتباره استعادة لـ"الفضاء العام" في وجه السلطة (ميدان التحرير، القاهرة، شارع بورقيبة، تونس، ساحة التغيير، صنعاء، ساحة الشهداء، بيروت، ميدان القيادة العامة، الخرطوم، ساحة الساعة في حمص، الخ) وثمة مقدار من السذاجة في شعار -"نحن ننتزع ولا نطالب" عبّر خير تعبير رفض كل مطالب وشعارات واجراءات مرحلية او جزئية.
- لا يكفي الحديث عن ان ما ينقص تلك الحركات الاحتجاجية كان التنظيم. يجب الاعتراف على الأقل بمشكلة التنظيم لتدارك إمكانية معالجتها. ثمة جوّ ثقيل متعدد الاسباب لدى الجيل الجديد ينفر من الأحزاب بعامة ومعها فكرة العمل المنظّم وبنوع خاص جدل الأغلبية والأكثرية، والتراتب والانتخاب.
والمفارقة، ان هذا النفور تقابله سهولة الانضواء والانتظام في منظمات المجتمع المدني ذات القيادات المعيّنة ذاتيا وفاقدة الممارسة الديمقراطية في داخلها. ومن أوجه تلك النزعة ابتكار اشكال من التنظيم منها التشاركية او التنظيمات الافقية الرافضة للتراتب والانتخاب والتي تنفجر عندما تضطر الى اتخاد قرار لا يحظى بالاجماع. وتضاعف من رفض التنظيم نعرة فردية من بنات المنوّعات الآناركية في الليبرالية، عبّرت عنها شعارات "ثورة بعشرة ملايين قائد"، في مصر و"انا القائد" في لبنان.
ما أود قوله إن مسألة التنظيم ليست مسألة تقنية. عنوانها الأساس: بناء القوى المادية للتغيير. التنظيم بناء على ماذا؟ ومن اجل ماذا؟ لنكتفي هنا بأن استعداد الافراد للانضواء في تنظيم متراتب وقائم على المبدأ الانتخابي وجدل الاكثرية والأقلية شرطه الاول انهم قد تعاقدوا اصلا على حد ادنى من الأهداف المشتركة والوسائل النضالية، ومن ثم على عدد من القواعد التنظيمية بما فيها طبعا قواعد تداول السلطة الحزبية والمحاسبة.
للذين ينعون فشل الأحزاب اليسارية لي جواب بسيط: أسسوا أحزابا لكم. فلتتفتح ألف زهرة وزهرة. ولتنشأ عشرات الأحزاب من مختلف المذاهب والاهداف. منها حاليا اكثر من 150 في العراق على ما اعلم. ولما كان معظم المعادين للاحزاب من اعضاء منظمات المجتمع المدني، فليشرحوا لنا هل ان منظمات المجتمع المدني هي التي تحقق التغيير في بلدان المنشأ ام هي الأحزاب السياسية؟
 
اختم على ثلاث مسائل للمتابعة:
  • مقولتا الفشل والسقوط في وصف ما جرى لا تفيدان الا في تجاهل ما حصل او نشر الاحباط. وما حصل ان وزن الحركات الشعبية وضغطها كانا من الضخامة والخطورة على الانظمة القائمة بحيث وجهت بردّات متعددة القوى تكرّس مدى خطورتها: خارجية وسلطوية واهلية (التنظيمات الإسلامية والجهادية) أشرت اليها أعلاه.
المهم دراسة ما تحقق في كل حالة على حدة. الردّة ضدها خارجية، سلطوية واهلية (التنظيمات الإسلامية والجهادية) عدلّت في الحكم بواسطة عزل الرئيس وإجراء انتخابات نيابية كان التوقع الذي صحّ ان يأتي في اعقابها الإسلام المعتدل وضمان حدود المنطقة والاتفاقات مع اسرائيل (مصر وتونس). وقد تقهقر ذلك الى انتاج سلطة استبدادية فردية معتمدة على القوات المسلّحة والأمنية في الحالتين. وفي حالات أخرى، انقسمت القوات المسلحة واندلعت حروب أهلية (اليمن، سورية). الى جانب التدخل الخارجي، وتزامن ذلك مع صعود قوة وعمليات الحركات الجهادية.
لا يوجد شيء يسمّى "العودة الى أوضاع ما قبل الثورات". تولدت أوضاع جديدة ينبغي البدء منها وهي تحتاج الى مسح واستيعاب. وإن تجديد الفعل نحو التغيير الجذري يبدأ من اللحظة الراهنة: من نحن؟ اين نحن؟ ومن اين نبدأ؟
 
  • موضوع العنف بات برأيي أبرز موضوع في التغيير لسبب نعرفه ونستسهله: الانظمة العربية بالجملة أنظمة عسكرية وليس هذا وحسب وانما تملك أيضا جيوشا وميليشيات خاصة تردف الجيش النظامي تأمينا لولاء القوات المسلّحة للنظام او تنافسه على السلطة. وهذه وتلك هي الخنادق الأخيرة في الدفاع عن الانظمة القائمة. لم يكتف حزب الله في لبنان بإخراج جمهوره من انتفاضة 17 تشرين والاعتداء في اكثر من مناسبة على المعتصمين في الساحات. وتولى ولا يزال الهجوم عليها. والجيوش ودورها حاضران في الثورات بالنتيجتين المذكورتين أعلاه.
ثمة استثناء هو انفراد الثورة السودانية، في الموجة الثانية من الثورات، في طرح شعار الحكم المدني في وجه الحكم العسكري. ونجحت في فرض تقاسم الحكم بين ممثلين عن الثورة والقيادات العسكرية. امكن تحقيق ذلك بناء على امرين: الاول، وجود حياة حزبية عريقة في السودان، بما فيها حزب شيوعي وأحزاب تقليدية معارضة ذات قواعد شعبية، وقواعد عمالية وشعبية فاعلية ليست مختزلة بالنقابات، وطبقات وسطى ذات نقابات مهنية قوية وفاعلة سياسيا، اضيف اليها العام 2019 وحدات عمل شعبي قاعدي، على مستوى رفيع من التنظيم، مثل لجان التنسيق ولجان المقاومة. وأما الأمر الثاني فهو وجود تاريخ عريق للحركة الشعبية في السودان في اسقاط انقلابات عسكرية بواسطة النضال والضغط الشعبيين.
طبعا، استبقى هذه الدرس دون ان أتجاهل ان السودان لم يعفِ من النزاع الفاجع الذي نشهده حالتين بين قوتي الانقلاب على الحكم المدني: الجيش وقوات الدعم السريع.
 
  1. خلال الثورات، وقعت الحركة المدنية بين خصمين: السلطة والحركات الإسلامية. وقد انحازت في حالة سورية ولو لفترة الى الطرف الإسلامي المسلّح، وفي حالتي مصر وتونس الى الحكم الفردي العسكري او المدعوم من الجيش، وانشقت في ليبيا واليمن بين التنظيمات المسلحة، ولا تزال صامدة الى هذا الحد او ذلك بين الجيش وقوات الدعم السريع في السودان.
التناقض المدني/ الإسلامي هو أحد ابرز الظواهر السلبية في الحركة الشعبية. والأخطر انه يعبّر عن نفسه الى حد ما في انشقاق بين فئات واسعة من الطبقات المتوسطة والمتعلمة، تميل اكثر فاكثر الى الجواب على آثار النيوليبرالية وثقافوية بوصفات... نيوليبرالية وثقافوية، من جهة، وعالم العمل والفئات الأخرى من الطبقات المتوسطة والمهمشة والفقيرة، تقاوم الخراب العاصف بحياتها بواسطة الدين، من جهة اخرى.
مهما يكن، اعتقد ان المعنيين بالتغيير بواسطة القوى الشعبية ونضالاتها لا يمكنهم إلا ان يعطوا الأولوية للنضال ضد السلطات القائمة وان تكون المنافسة على كسب الناس هي الوجه الأساسي للتعاطي مع الحركات الإسلامية، وهذا ليس يستبعد علاقات تعاون موضعي مع قوى إسلامية حول مواضيع محددة (شرط التخلي عن صيغة "التحالف" السقيمة، فاقدة المعنى).
ليست هذه المهمة مهمة سهلة، اعرف ذلك، لكنها ليست مهمة مستحيلة. فمثلما نجحت قوى إسلامية، متعددة، في كسب فئات واسعة من الجماهير التي كانت في بيئة اليسار كذلك يمكن لتلك الجماهير، او لأجيال جديدة منها، ان تعود الى الانحياز يسارا شريطة اعتماد سياسات تجمع المخيّلة والمعرفة الدقيقة للأوضاع العامة في البلاد، والمرونة والشعارات الصائبة، ووسائل الدعاية والتحريض المناسبة.
 
 
 
التجربة العراقية
 
- سؤال أخير، بين تجاربك زيارة استطلاع سياسي للعراق في الستينات، التقيت خلالها بيساريين وشخصيات أدبية. ماذا أعطتك التجربة العراقية التي تواصلت في بيروت؟
 
فواز: للعراق مكان خاص في وعيي وفكري ومشاعري وصداقاتي. البداية من عدد من زملاء الدراسة والرفاق العراقيين في مانشستر بانكلترا في الستينات. كانت الزيارة التي تتحدث عنها في وسط الستينات بدعوة من الصديق قيس السامرائي وهي تجربة فريدة وغنيّة تعرّفت خلالها إلى الشخصية الديمقراطية الجذابة (كامل الجادرجي)، وإلى مناضلين في الحزب الشيوعي العراقي، والى مناضلين اكراد وتعرفّت خصوصا إلى الوسط الثقافي والفني الزاخر حينها. وكان العراق حاضرا في دراستي في الجامعة الاميركية ببيروت، وقد حظيت بأستاذ استثنائي في شخص (حنا بطاطو) الذي كان يعلّم ماركس والثورة البلشفية، وقد ترك عليّ هذا المترّهب للعلم اثرا كبيرا في تكوني الماركسي والاكاديمي. اختارني بطاطو مساعداً له وقد رافقته عن قرب في جهده الجبار خلال كتابة مرجعه الكبير عن الطبقات القديمة والحزب الشيوعي والأحزاب السياسية في العراق. 
وقد شاركت باكرا في دعم نضال الشعب العراقي ضد دكتاتورية صدام حسين والبعث، ودعم حق الشعب الكردي في تقرير المصير بما في ذلك على صفحات مجلة «الحرية» الأسبوعية عندما بدأت المشاركة في تحريرها. في السبعينات، زرت العراق ضمن وفود من الحركة الوطنية اللبنانية، وتضمنت الزيارات لقاءات مع الرفاق في الحزب الشيوعي العراقي خلال فترة التحالف مع البعث، وكنّا نطّلع خلالها على مشكلات التحالف المختلّ بين الحزبين. وفي احدى تلك الزيارات ارتأى (صدام حسين) ان يلتقي بالشيوعييَن المشاركين في وفد الحركة الوطنية اللبنانية، واختارني انا ونديم عبد الصمد. خلال تلك الجلسة سمعنا منه شرحا في "الستراتيج" عن "المدى الحيوي" للعراق الذي عيّنه على انه سورية شمالا، يسعى الى التغيير فيها بدعم انقلاب عسكري، والعربية السعودية جنوبا، التي قال عنها انها تفرّط بنفطها ما يؤهل العراق لان يتحول الى اول صاحب احتياط نفط في العالم، والقوة المهيمنة على الخليج. تذكرت طويلا ذلك الحديث عندما احتل الجيش العراقي الكويت. عام 2000 لبّيت دعوة من الصديق فخري كريم لزيارة كردستان العراق في عداد وفد من المثقفين التقدميين العرب لإعادة وصل العلاقات العربية - الكردية بعد ما تعرّضت له من تأزم وتقطّع بعد حرب الخليج الاولى. زرنا أربيل والسليمانية والتقينا القيادات في المنطقتين وقيادة الحزب الشيوعي. وبلاد الرافدين حاضرة دوما عندي في الادب والفن: السياب، والبياتي، والجواهري، ونازك الملائكة، وسعدي يوسف، ورشدي العامل، وصادق الصائغ، ومظفّر النوّاب، وآخرون. وفي الفن التشكيلي جواد سليم، وشاكر حسن آل سعيد، وفائق حسن، وفائق حسين (صديق أيام الشباب الذي فقدت اثره بعد ان غادر الى اسبانيا) ورافع الناصري وضياء العزاوي، وفي العمارة رفعت الجادرجي ومعاذ الالوسي، وفي الغناء ناظم الغزالي وسليمة مراد ويوسف عمر وجعفر حسن و"فرقة الطريق" وغيرهم. واذكر من الرفيقات والرفاق العراقيين ممن شاركنا الأسابيع والاشهر التي لا تنسى خلال الغزو الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت في صيف 1982: فخري كريم، سعدي يوسف، فالح عبد الجبار، صادق الصائغ، زهير الجزائري، سعاد الجزائري، عصام الخفاجي، وغيرهم.