أيار 18
 
على الرغم من الفترة القصيرة التي تجلت فيها ثورة 14 تموز في الحياة العراقية، الا أنها اسهمت في رسم خرائط المعمار والسكن والفن، وأضحت مخططاتها منهاج عمل لمن يريد أن يستمر في إنجاز أي منها ، والعديد من الشواهد ما زالت ماثلة حتى الآن بعد أكثر من نصف قرن على الاطاحة بوجودها الفعلي، لأنها مصطلح ثورة يصلح لهذا الفعل التغييري، حيث التبدلات الكبيرة في البنيات السياسية والاجتماعية والثقافية بعد نهاية العهد الملكي، الذي جاء أيضا بمجلس الاعمار الذي افادت من رؤاه ثورة تموز 1958 . بيد أن الصدق المنهجي والاخلاص للشعب والوطن دعت قادة الثورة والمتضامنين معها الى البحث عن الجديد في المجالات كافة من أجل توطين هوية عراقية خالصة، ويقف الفن في مقدمة هذه التطلعات، اذا ما عرفنا أن هذه الحقبة تزامنت مع بداية الحداثة في التشكيل العربي والعراقي على وجه الخصوص وبداية التفكير ببنى جديدة يمر من خلالها الفن الى مثابات غير مأهولة، تتجاوز السابق الواقعي والانطباعي الذي كان يمارسه عدد من الريادات الفنية. وهذا السعي نحو الجديد له ظروفه الموضوعية التي أغنت هذا المشهد، منها ايفاد عدد من الفنانين الى كليات الفنون العالمية وتأهيلهم الذي رافق نزعة الحداثة وتكريسها لاتجاهات الفنون، وقد تعاملت الريادة الفنية العراقية مع هذا الموضوع بذكاء، حيث امتدت تطلعاتهم الى الجذور والروافد العراقية القديمة للظهور بمنهج توسطي يتخذ من الحداثة آلية للتنفيذ مع تثوير مرموزات عراقية تحيا داخل الارث العراقي، تم توظيفها داخل العمل الفني على مستوى النحت والرسم.
      في هذا المنعطف التأريخي من حياة العراقيين برزت الحاجة الى رمزية وطنية لترسيخ الواقع الجديد في الأذهان. وبعد استقرار الثورة والاطمئنان على سلامة وضعها في سكة الطريق الصحيح تم تكليف المعماري (رفعة الجادرجي) باقامة ثلاثة نصب في بغداد للاحتفاء بالجمهورية الناشئة، وكان أحدها نصب الحرية أو ما يدعى (نصب الثورة)، ومنذ اللحظة الأولى تبادر الى ذهن (الجادرجي) بأن الفنان (جواد سليم) قائد (جماعة بغداد للفن الحديث) هو من يكون مصمم الجدارية، وهو الذي اجترح قبل ذلك سمات اشتغال للجماعة تتواءم مع الهوية البغدادية، واشترط على أعضائها الالتزام بهذا السياق التصويري. وأشار اليه ان يكتب قصة الشعب العراقي لسردية صورية تحمل رمزيتها تبدأ من اليمين الى اليسار على غرار الكتابة العربية وأن يحمل النص المرئي قصة العراق بأزمنته المختلفة منذ القدم وحتى اليوم، وأن يكون عنوان الجندية مركز العمل وقلبه. وتشير المدونات التاريخية الى أن (جواد سليم) كان يحلم بتجسيد نصب يحمل هذا المضمون منذ بداية خمسينيات القرن العشرين ووضع مخططات اولية له، ولكن زيارة عبدالكريم قاسم الى معهد الفنون الجميلة بكرخ بغداد اسهم في تسريع هذه المهمة التي تزاوجت بها مجموعة رؤى تتقدمها رؤية (الجادرجي وجواد). ويذكر (الجادرجي) أن اسم النصب هو نصب (14 تموز) ، الا أن اسمه اصبح (نصب الحرية) وشاع هذا الاسم بين الناس.
      هذا النصب الذي صمم قاعدته الكونكريتية (الجادرجي) نفسه على هيئة لافتة تحملها الايدي المؤيدة للثورة. ومن دون أدنى شك فإن النصب في هيئته العامة يتسق مع مبادئ الثورة والاشارة اليها، إذ تضمن ارتفاع القاعدة (8) امتار وبعرض (50) مترا، وهو ما يشير بوضوح الى ثورة 14 تموز عام 1958، حيث اقتصرت مفردات النصب أو السطر الكتابي على (14) مفردة تمثل كل منها موضوعا منفردا من حياة العراقيين ونضالهم من أجل الحرية، حين تجتمع كل هذه الموضوعات مع بعضها في قراءة جامعة. وتحاكي الأجزاء الأربعة عشر من نصب الحرية الجداريات الآشورية الحجرية من النحت البارز ليس باسلوب السرد فقط، بل في الرسالة التي تؤكد هيمنة الدولة وانتصاراتها على أعدائها في الداخل والخارج. وفي الوقت نفسه يعبر النصب عن مضمونه بدلالة معاصرة، ويحكي سفر العراقيين البطولي في نيل الحرية ومقارعة الظلم ضمن ملحمة متكاملة يشترك فيها (الرجل والمرأة) والانسان مع الطبيعة، بتواصل الماضي مع المستقبل. إذ يقدم النصب دورة حياة متكاملة، فيها ولادة وموت، واصرار، حزن وغضب وثورة وأمل وظلم وفرح وصبر وتفاؤل. هذا النصب الذي خلا من اللحظوي والتعبوي، الا بما يخص الهوية العراقية، لذلك كتب له البقاء وأضحى ايقونة يجدد الثوار أمامه احتجاجهم على الأنظمة السياسية ، وكأن (جواد) كتب نبوءته الخاصة فيه، لتماثل بعض مشاهده المنحوتة مع مشاهد واقعية حدثت في أزمنة متعاقبة تحت النصب، صوّرتها مخيلة الناس والتقطتها عدسات الكاميرات.
      وعلى مقربة من نصب الحرية من جهة الشرق يصطفي الفنان (خالد الرحال) عام 1961 مكانا في منتصف حديقة الأمة ليصنع نصبا للامومة من الحجر، يصور الأم وهي تقف بشموخ بطيات ثوبها الجميلة، وتنطوي ذراعها على رأسها مع طفلها الذي يقف خلفها ممسكا بذراعها، يتسق مع موضوعات الثورة التي تكرست في القضايا الاجتماعية من خلال التفكير السائد انذاك بين اوساط الفنانين والعودة الى تلك الجذرية الاجتماعية ومعالجتها بفعل التقانات والأساليب التي يعتمدها كل فنان بالتعبير عن فكرته بشكل حسي. بينما صاغ المعماري (رفعة الجادرجي) نصب (الجندي المجهول) في ساحة الفردوس وسط بغداد، ليكون تحفة فنية تزاوج العمارة بالفن، معبرا عن المقاتل مجهول المكان، بفعل الحروب أو معارك الدفاع عن الوطن، وهو تجسيد ذات الفكرة التي جسدها (جواد) في نصب الحرية، وتلك المركزية التي كانت من نصيب المقاتل وهو يفتح قضبان السجن حتى تشرق الشمس على الشعب العراقي في ضوء نضالاته الطويلة. فيما ذهب النحات (ميران السعدي) الى تحقيق ميوله الآيديولوجية في الفن وايمانه بمبادئ ثورة 14 تموز لينجز عمله النحتي (14 تموز) عام 1963 في الساحة المقابلة لمدخل القصر الجمهوري من جهة الجسر المعلق، وهو مصنوع من مادة البرونز على قاعدة خرسانية مكسوة بالرخام، ويمثل (4) أربعة جنود في معركة أحدهم في المعركة يحمل الراية وبندقية واثنان آخران يقومان بحمايته، فيما يمثل الرابع معنى الشهادة ممثلة في تضحيات الجيش العراقي دفاعا عن الوطن.
    بيد أن للرسم والفنون الأخرى حصتها أيضا، حيث كان الفن ـ وإن لم يك مباشرا ـ يقوم بتجسيد الموضوعات الاجتماعية ذاتها والاعلاء من شأن الجندية التي حققت التغيير المنشود الممثل في الثورة الفتية. وفي هذا الصدد كان التسابق نحو حفريات الأثر في الفن بما يعكس طبيعة المرحلة وتحولاتها الجوهرية، اذ جاء الفنان (فائق حسن) من الرسم الى فضاءات النحت والعمل الجداري ليصنع خطابا جماليا مختلفا عما كان ينتجه في أعماله السابقة التي تكرست في الاشتغال الواقعي والذهاب بالواقعة الحديثة والمتخيلة الى مثابات الجمال الخالص، الا أن أبطاله الشعبيين قد يكون له مناظرا في الواقع الفعلي، فذهب الى اختيار مكانيته في الجهة الشرقية من حديقة الأمة، ليشيد جدارية من الموزائيك في ساحة الطيران، تمثل رجالا ونساء يحتفلون بقيام الثورة باطلاق حمامات بيضاء رمزا للسلام، وهي مناجاة وتناص مرئي لقصيدة (سعدي يوسف) التي تدفع الى الموضوع ذاته (تطير الحمامات في ساحة الطيران) حيث الأكف المصفقة للثورة ورجالها الذين صنعوا تاريخا جديدا للحياة العراقية.
     وعلى الرغم من أن أهمية المركز الثقافي (بغداد) وسيادة الأعمال الفنية المهمة فيها لأسباب موضوعية في أغلب الأحيان، تكمن في تواجد الفنانين الذين جاءوا من الهوامش، وتوافر الأكاديميات والمعاهد الفنية فيها، بيد أن هذه الهوامش انتجت ما يماثل تلك الموضوعات من أجل تسجيل اسماء فنانيها في سجل النتاج الفني الذي يلاحق المضمون الاجتماعي او الأهداف التي جاءت بها الثورة، فكانت أعمال مثل مشعل الحرية أو بطولات الجندي العراقي جوهرا في هذا الاشتغال الرمزي، بوصفها مضامين تفرضها اللحظة الراهنة وموحيات الثورة الاجتماعية، على الرغم من بساطة الطرح او التقنيات المستخدمة في هذه الأعمال الفنية، بعضها ما زال ماثلا حتى هذه اللحظة وبعضها الآخر تمت ازالته بحجج مختلفة. ولا يمكن ان نلحق هذه التأثيرات في الأعمال التي تمت ولادتها سنوات الثورة، بل أن المضامين التي استمرت بعد ذلك التاريخ كانت تاخذ من تلك الموحيات الرمزية أو قد يكون فكّر بها منتجو الخطاب، كما حدث في تجربة الفنان (كاظم حيدر) التي رفضتها سلطة بغداد انذاك، وتم عرضها في بيروت عام 1965. هذا الرفض الذي جاء بسبب مضامينها الثورية التي اتخذت من شهادة الامام الحسين وفعله الثوري أساسا في الاشتغال، وتتشظى مرمزاته لتتحول من محليتها الى مفهومها الكوني، وهذا الفهم يتسق مع بعض التجارب الأخرى على مستوى الرسم والنحت والعمل الجداري كما تؤشره فيما بعد أعمال (محمود صبري ، محمد مهر الدين ، فيصل لعيبي، صلاح جياد، رشاد حاتم) وغيرهم الكثير، بما يؤسس لفعل جديد في الفن وينقله من واقعيته الى بعده الرمزي الكامن في دلالة الأثر