أيار 18
 
   هذا المقال ليس بحثا موسعا في موضوع (المثقفون وثورة 14 تموز 1958)، وانما هو مجرد إشارات وجيزة تحاول أن تضيء العناصر الأساسية للموضوع، ونعني، على وجه التحديد، جذور الثقافة التقدمية التي ساعدت في تشكيل ونهوض الثقافة ذات المحتوى الديمقراطي والاتجاه التنويري في العراق الحديث. وهي ثقافة شهدت ازدهارا في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وبشكل خاص في أعقاب ثورة 14 تموز. غير أنها سرعان ما واجهت الانتكاس بعد العام الأول للثورة، وهو الانتكاس الذي بلغ ذروته في انقلاب 8 شباط 1963 الفاشي، وفي كل العقود التي أعقبت ذلك التاريخ وحتى يومنا (مع استثناء محدود لا يخلو من التباسات في فترة أواسط السبعينات).
ولا ريب أن مقاربة موضوعنا تتطلب، من بين أمور أخرى، العودة الى سنوات عشرينات القرن الماضي، حيث بدأت تنبت بذور الثقافة التقدمية التنويرية، مترافقة مع تبلور أولى الملامح الجنينية للطبقة الوسطى في العراق.
    لعلنا، في هذا السياق، أمام سؤال: لماذا شهدت العلاقة بين الثقافة والسياسة نوعا من “ازدهار”، خصوصا في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، حيث ولدت في العراق حركة الشعر الحر، وانتعشت الرواية والقصة والفن التشكيلي وتحققت منجزات ابداعية هامة؟ ولكن لماذا اختلت هذه العلاقة بعد ذلك؟ الاجابة على هذا السؤال يمكن أن تقودنا الى تشخيص جوانب من الأزمة الثقافية، التي بدأت، كما أسلفنا، بعد العام الأول للثورة، واستمرت، بأشكال مختلفة، وبانقطاعات أحيانا، ولكنها ما تزال، في الجوهر، مستمرة، بتجليات متنوعة.
وبوسعنا القول إنه بعد ثورة تموز، على وجه التحديد، لم تكن الدولة تملك أجهزة آيديولوجية تتيح لها الهيمنة الفكرية على المجتمع (وهكذا كان الحال في سنوات العهد الملكي)، فيما كانت الحركة السياسية التقدمية حركة شعبية وجدت في المثقفين المتنورين مناصرين جديين لها، واستطاعت، باستيعابها المزاج الديمقراطي للمثقف (على الرغم من الالتباسات المنهجية والسياسية التي سنشير اليها في موضع آخر من المقال) استثمار مناصرته للحرية والديمقراطية.
ومن العوامل الفاعلة آنذاك أن الدور الذي لعبه قادة سياسيون، وكانوا من المفكرين والمثقفين، والمتابعين الجادين لقضايا الابداع، ساهم في تحفيز المبدعين على الاسهام الفعال في الحركة الاجتماعية (وهو ما تكرر بأنماط مختلفة في فترة أواسط التسعينات).
ومن ناحية أخرى يلاحظ أن فترة تأسيس المنظمات الماركسية والأحزاب الشيوعية، والفترات التي تلتها، وبينها فترة تموز، تميزت بنهوض وطني تحرري ترافق مع اتساع ظواهر التقدم، وقد ترك هذا الوضع آثاره على الحياة الفكرية والثقافية.
ومن المعروف أنه منذ بداية العشرينات في العراق نشطت مجموعة سميت جماعة حسين الرحال، نسبة الى أبرز مؤسسيها، حسين الرحال، وهو من الماركسيين الأوائل، نشطت في الترويج للأفكار الماركسية وللتنوير وتحرر المرأة. وكان صدور صحيفتها الموسومة (الصحيفة) عام 1924 مرحلة هامة في نشاط الجماعة.
    وحتى قبل ظهور جماعة حسين الرحال كانت هناك بذور للفكر التنويري وللشيوعية في العراق. فقد وصلت أنباء ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا 1917 الى العراق، كما هو معروف. ومما له دلالة في هذا الشأن أن تقريرا للاستخبارات البريطانية أشار الى أن أخبار البلاشفة ومنشوراتهم متداولة في العتبات المقدسة. وذكر التقرير أن المجتهد الكبير محمد تقي الشيرازي أصدر فتوى مفادها أنه يجب اعتبار البلاشفة أصدقاء للاسلام. ويمكن القول إن انتشار الأفكار البلشفية كان أحد العوامل التي ساعدت على تأسيس جمعيات وجماعات ذات طابع فكري تنويري ويساري، وإن لم يكن ناضجا، وبين أبرزها، بالطبع، جماعة حسين الرحال كما ذكرنا.
وهناك الكثير من المصادر التي تقدم تفاصيل وحقائق ذات دلالات عميقة في هذه المسألة. غير أن الخوض في هذه التفاصيل والحقائق ليس موضوع بحثنا في هذا المقال، الا بالقدر الذي يؤكد أنها كانت جزءا من الارث الذي استندت اليه الثقافة التقدمية العراقية، وتعززت من خلاله عناصر الثقافة الديمقراطية التي وجدت ملامحها على نحو أوضح وأسطع بعد ثورة تموز 1958. 
    وعندما انبثق الحزب الشيوعي في آذار 1934 كان من بين الوصايا التي صاغها لأعضائه: “كن تقدميا في نظرتك نحو العلم والفن والأدب والثقافة بصورة عامة، ودافع عنها باعتبارها ملك شعبنا وملك الانسانية المتقدمة. واحترم العلماء والفنانين والأدباء دون التفات لقومياتهم وأديانهم”.
وكان دور مؤسس الحزب فهد ورفيقه عضو المكتب السياسي الذي أعدم معه، حسين محمد الشبيبي، مؤثرا. وكانت مساهمات الشبيبي، خصوصا، واعدة في مجال النقد الأدبي من منظور ماركسية تلك الفترة.
   وفي هذا السياق تجدر الاشارة الى صدور مجلة (الثقافة الجديدة) عام 1953 لتصبح، من بين أمور أخرى، دليلا على قدرة الثقافة التقدمية على الازدهار والتأثير. ولا ريب أن إصدار مجلة فكرية ثقافية بهذا المستوى، واستمرار إصدارها لمدة تقرب من سبعين عاما، رغم كل الصعاب والأهوال، هو، بحد ذاته، مأثرة في تاريخ الثقافة العراقية، ومصداق لقدرة هذه الثقافة على ممارسة دورها التنويري.
    لقد كان لكل هذا الارث تأثيره الحاسم على مسار الثقافة الديمقراطية بعد ثورة تموز. ولا غرابة أن كثرة من مثقفي العراق الابداعيين قد خرجوا من معطف الحزب الشيوعي الذي كانت تجربته المميزة في مجال العمل بين المثقفين (وماتزال) تجربة جديرة بالدراسة باعتبارها أسهمت في تشكيل ملامح الثقافة الديمقراطية العراقية المعاصرة.
ولا يقلل من شأن هذا التاريخ المضيء أن الحزب الشيوعي العراقي، شأن الأحزاب الشيوعية الأخرى، ولأسباب موضوعية تتعلق بالفترة التاريخية وسماتها، وبالفهم الميكانيكي للثقافة، عانى من التباسات في الموقف من الثقافة الابداعية، وهو ما سنشير اليه في موضع لاحق من مقالنا.
لقد بات من المعروف أن الانجازات التي حققتها ثورة 14 تموز انجازات كبيرة في سائر الميادين. فقد صدرت قوانين من بين أهمها قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958، وقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، والقانون رقم 80 لسنة 1961 الذي حرر 99.50 في المائة من مناطق امتيازات الشركات النفطية الاحتكارية. وخرج العراق من حلف بغداد ومن منطقة الاسترليني، وتحققت انجازات على صعيد الصحة والتعليم والسكن، وعقدت اتفاقيات اقتصادية وفنية وتجارية مع البلدان “الاشتراكية”، ساعدت على النهوض الصناعي والزراعي، وتعزيز الاستقلال الوطني. ولا ريب أن لهذه الانجازات تأثيرها الكبير على بلورة الاتجاهات التقدمية في ثقافة البلاد من ناحية، وعلى البنية الاجتماعية في المجتمع العراقي.
    لقد كانت فترة ما بعد 14 تموز، في الواقع، فترة توفر عوامل ساعدت على ازدهار الطبقة الوسطى وممارستها دورها التحديثي والتنويري، الذي بدأ يتبلور منذ عشرينات القرن الماضي، وازدادت ملامحه وضوحا في الأربعينات والخمسينات، ارتباطا بعوامل عديدة، بينها اتساع التعليم المجاني، ودخول أفواج جديدة من المتعلمين والخريجين (وبينهم عدد من التقدميين واليساريين والشيوعيين من طلاب البعثات الدراسية الى الخارج) الى صفوف الطبقة الوسطى، واسهامهم في بناء الدولة، وتأثيرهم في تحولات البنية الاجتماعية. غير أن الطابع الريعي للاقتصاد (المتواصل حتى يومنا) كان العائق الأساسي أمام تبلور بنية الطبقة الوسطى وممارستها دورها الاجتماعي والثقافي. والحق أن هذه المسألة الهامة في التاريخ الاجتماعي العراقي بحاجة الى دراسة مستقلة مستفيضة.
    ويمكن القول إنه على الرغم من عدم وضوح الحدود الطبقية في العراق، فان الطبقة الوسطى تتسم بوضوح أكبر من سواها من الطبقات والفئات الاجتماعية. واذا كانت هذه الطبقة قد لعبت دورا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا هاما في الفترة ما بعد 14 تموز، فان وجهة التطور الاجتماعي المعقدة في البلاد، ارتباطا بالاستبداد والحروب وعسكرة المجتمع والاقتصاد الريعي وعواقب هذا الواقع، تركت آثارها السلبية المدمرة على بنيتها ودورها الاجتماعي. وقد برهنت التطورات الفاجعة في التاريخ العراقي الحديث، وخصوصا ابتداء من اندلاع الحرب العراقية الايرانية، وكل الفترات التي تلتها، على هشاشة هذه الطبقة، وبات المشروع التحديثي في مهب الريح.
غير أنه رغم كل الاشكالات والعوائق الاجتماعية والسياسية كان هناك تحول، تجلى عاصفا في بعض الحالات، في الاطار الثقافي بعد ثورة 14 تموز. وقد كان لهذا التحول أن يتواصل ويتعمق لو أن شروطا صحية توفرت لآفاق النهضة الثقافية التي شهدتها البلاد في أعقاب انتصار الثورة. غير أن اعادة الاعتبار للعقلانية والديمقراطية والتنوير، التي كانت سمة الثقافة الديمقراطية التي شرعت بالازدهار، قد انقطعت جراء عوامل عديدة لا ريب ان انتكاسة الثورة ونهوض الاستبداد مجددا كان من بين أبرزها.
لقد لعب المثقفون، وخصوصا شغيلة الفكر والابداع، دورا أساسيا في اشاعة وعي تقدمي أسهم في ترسيخ تقاليد ثقافة ديمقراطية، وسعوا الى الاجابة على أسئلة الواقع الجديد، وهي، في الغالب، ذات طابع بنيوي، بل ووجودي.
    واتسم المشهد الاجتماعي بعد ثورة تموز بمشاركة واضحة ومتسعة للمثقفين الذين تصدروا هذا المشهد. ولعلنا نجد في مشاركتهم الفاعلة في الحركة الاجتماعية، وفي ازدهار نتاجهم الابداعي، وتأسيس منظماتهم المهنية ... ملامح اجابات على بعض أسئلة الثقافة الملحة. ويمكن أن نرصد انعكاس الهموم الحقيقية للناس في الموقف السياسي والاجتماعي للمثقف وابداعه واضاءته للظواهر المتفاعلة في المجتمع. ولم يكن المثقف، الا في حالات نادرة، ذلك الذي يقيم في برج عاجي، ويطل من شرفة منعزلة. ويمكن القول، بالتالي، إن مشاركة المثقفين في الحركة الاجتماعية مثال ساطع على خوضهم الصراع الاجتماعي وتصدرهم مشهد التحولات في سياق ما وفرته الأوضاع الجديدة من عوامل ساعدت على ممارسة مثل هذا الدور التنويري.
     ومن المؤكد أن هذا ارتبط، من بين أمور أخرى، بحقائق الواقع الجديد وبسن تشريعات تقدمية في مجالات الحياة والعمل المختلفة، ضمنت حرية التعبير والفكر والابداع. وكان لتأسيس منظمات للمثقفين دوره لا في الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم حسب، وانما في تعزيز التوجه التقدمي للمجتمع أيضا.
ولسنا نبالغ اذا قلنا إن تأسيس اتحاد الأدباء العراقيين بقيادة الجواهري الكبير ونخبة من ألمع الشخصيات في الثقافة العراقية، بينهم صلاح خالص وذو النون ايوب ومهدي المخزومي وعبد الوهاب البياتي وعلي جواد الطاهر وعبد الله كوران وعبد الملك نوري ... إن هذا كان التجلي الأهم للتحول الثقافي. ويلفت الانتباه هنا أن أعضاء الهيئة الادارية للاتحاد كانوا من الشخصيات الديمقراطية ذات التوجه اليساري. ولهذه الحقيقة مغزاها العميق، وهي التي كانت وراء الانجازات الهامة التي حققها الاتحاد، مثلما كانت وراء الهجوم الذي تعرض له الاتحاد (وسواه من المنظمات الابداعية والمهنية والنقابية) على يد القوى الرجعية واليمينية.
     ويرتبط تأسيس اتحاد الأدباء، بالطبع، بتأسيس المنظمات الأخرى للفنانين والصحفيين، كما للنساء والعمال والفلاحين والطلبة والشباب والفئات الاجتماعية الأخرى. وكان لكل هذه المنظمات دورها الفعال في اشاعة الوعي الاجتماعي والثقافي التقدمي، والتأثير في خلق أجيال من حاملي مشاعل التنوير.
وهكذا فانه من نافل القول إن سمة انخراط النخب الثقافية في الحركة الاجتماعية كانت من بين أبرز سمات الحراك الثقافي بعد ثورة تموز.
     لقد شهدت البلاد في أعقاب الثورة مخاضا عسيرا كشف، من بين حقائق أخرى، أن وجهة التطور الاجتماعي والثقافي لم تحسم بعد، بل لم تتحدد كل ملامحها الواضحة. وقد شهدت هذه الوجهة انتكاسا، وربما انقطاعا بتعبير أدق، في أعقاب العام الأول للثورة، حيث بدأ الهجوم على الثقافة الديمقراطية وممثليها الحقيقيين. ولعل من بين تجليات هذا الهجوم ممارسة السلطة والقوى الرجعية والقومية اليمينية أشكال اضطهاد متنوعة. فقد كانت هناك أعداد كبيرة متزايدة خلف أسوار السجون، واستمرت الملاحقات، واتسعت عمليات الاغتيال، وضاقت حرية التعبير، وانفلتت قوى الردة الاجتماعية. ولم يكن غريبا أن اضطر الجواهري الى مغادرة البلاد في أوائل الستينات، ليعكس هذا الحدث (وسواه الكثير من الأحداث الجسام) مدى اشتداد هجوم الرجعيين من أيتام العهد الملكي والاقطاعيين والرجعيين والقوميين اليمينيين، وسواهم ممن جمعهم الشعار سيئ الصيت: يا أعداء الشيوعية اتحدوا!
ولسنا هنا بحاجة الى ايراد المزيد من الأمثلة على تجليات وعواقب انتكاسة الثورة، فلهذا مقام آخر في مقال سواه. غير أن أحد الاستنتاجات الرئيسية من الانتكاسة هو أن الديمقراطية الحقيقية هي الفضاء الأرحب والشرط الأساس لازدهار الثقافة وصياغة مشروعها النقدي. وبهذا المعنى فان غيابها هو مقدمة لنمط من الاستبداد يحول “الثقافة” الى أداة لتبرير نهج السلطة السياسية وقوى الارتداد في المجتمع، وهو ما تجلى في انقلاب شباط الفاشي وعواقبه التي يصح القول إن آثارها المدمرة مازالت قائمة في مجتمعنا حتى يومنا هذا، وإن بتجليات وأشكال مختلفة، يمكن إجمالها بسيادة ثقافة الانحطاط في المجتمع.
    غير أن التجربة ذاتها، وعلى الرغم من الانتكاس والاستبداد، أثبتت، من ناحية اخرى، أن المثقفين قادرون على المقاومة والدفاع عن القيم الانسانية السامية. فقد لاحظنا أنه كانت هناك محاولات جادة للاحتجاج على الاستبداد، والتعبير بأشكال متنوعة، عن قدرة المثقفين على التصدي لفكر الرجعية والتخلف. وكانت فترة أواخر الستينات، وخصوصا بعد انتكاسة حزيران 1967، دليلا على عودة “الثقافة التقدمية” الى النهوض والمقاومة، وهو ما تجلى في أشكال مختلفة، بينها بالطبع الانجازات الهامة التي حققها “جيل الستينات” من مبدعي الثقافة العراقية (وهذه الفترة بحاجة الى دراسة وتقييم لا يسعنا الخوض بحقائقها في مقالنا الوجيز هذا).
    ومن ناحية أخرى فانه ارتباطا بعودة سلطة البعث ثانية إثر انقلابهم في تموز 1968، اضطرت هذه السلطة الى التعامل مع الواقع بطريقة جديدة في محاولة للاخلال بالتوازن في الساحة الثقافية و”كسب” المثقفين عبر أدوات الاعلام والآيديولوجيا والمال، وبأساليب الترغيب والترهيب، لكن جذور الثقافة التقدمية والديمقراطية كانت أقوى من أن تقتلعها هذه الأساليب. وقد اضطر الحكام الجدد، يومئذ، الى “الانحناء للعاصفة” في سنوات أواسط السبعينات (ومرة أخرى يتعين علينا القول أن تلك السنوات، التي لم تخل من التباسات، بحاجة الى مقالة تقييمية مستقلة). ومن المعروف أن سلطة البعث شنت حملتها الهمجية ضد الثقافة وممثليها الحقيقيين وسائر قوى التقدم أواخر السبعينات، وهي حملة معروقة الحقائق والمرامي والمآلات.
    واذا كان من بين الظواهر والسمات الايجابية للواقع الثقافي بعد الثورة هو ما أشرنا اليه بايجاز من توفر عوامل اشاعة الثقافة التنويرية، ارتباطا بالتحول الاجتماعي الذي أحدثته الثورة، ومشاركة المثقفين الواسعة في الحركة الاجتماعية، ونشوء تقاليد جديدة للحركة الثقافية ذات الاتجاه التقدمي، أي المحتوى الديمقراطي، اذا كانت هذه من بين الظواهر “الايجابية”، فان هناك، بالمقابل، ظواهر تعكس وجود أزمة ثقافية تجلت، من بين سمات أخرى، في السعي الى تغييب دور المثقفين على يد القوى الرجعية واليمينية، وظهور النزعة الدكتاتورية لسلطة عبد الكريم قاسم، وهي من العوامل التي أدت الى الاطاحة بحكمه وتصفية منجزات الثورة والبدء بمسلسل الدمار الذي لم تنته حلقاته حتى يومنا.
فقد بدأت السلطة الحاكمة بعد 14 تموز (وكل سلطة هي، في الجوهر، جهاز قمعي) بما يوحي أنها سلطة “ثورية”، ولكنها سرعان ما كشفت عن حقيقتها بعد عام واحد لا أكثر على الثورة، ونعني الحقيقة القمعية. وبات جليا ذلك الصراع بين ثقافتين: رجعية محافظة وتقدمية مجددة، أي بين موقفين اجتماعيين، ونحن هنا نتحدث عن السلطة السياسية لا عن السلطات الأخرى: سلطة المجتمع أو سلطة التراث مثلا. وكلها سلطات تخشى المثقف لأنها تدرك أن كل نتاج ابداعي في حقل الثقافة له بعد سياسي تغييري. وقد أدركت القوى الرجعية هذه الحقيقة، فوجهت سهامها الى ثقافة التقدم وممثليها الحقيقيين، السياسيين والابداعيين.
ومن ناحية أخرى يمكن القول إن الطبقة الوسطى، وهي حاملة مشعل التنوير وحاضنة مشروع الديمقراطية والمدنية، قد تعرضت الى عمليات “تغييب”. واتضحت ملامح هذا التغييب منذ تصاعد الهجوم على القوى الديمقراطية اواسط عام 1959 وما تلاه. وقد مهد تقلص دور الطبقة الوسطى الى بداية تحول جديد في البنية الاجتماعية، وسيادة لقيم الانحطاط الروحي في المجتمع.
    وفي سياق تشخيص العوائق الموضوعية والذاتية التي جابهت الحركة الثقافية في سنوات تموز يتعين علينا الاعتراف بطائفة من الحقائق. ولعل من بين أهم هذه الحقائق أن الحركة السياسية التقدمية (وكان الحزب الشيوعي قوتها المؤثرة الأعظم) لم تستطع عكس التغيرات الاجتماعية العميقة ونتائجها الفكرية في سياساتها الثقافية على النحو المطلوب المثمر، اذ بقيت، في الغالب، متشبثة بالمواقف التقليدية من الثقافة، والنظرة الأحادية الضيقة التبسيطية للابداع، والاستلقاء على أرائك المرجعيات السياسية والآيديولوجية، والمناهج “الفكرية” السائدة (عالميا) في ذلك الحين، حيث كانت العلاقة مع المبدعين تفتقر الى المنهج العلمي (بالمعنى الماركسي)، وبالتالي الى الأسس العلمية والرؤية الواضحة والانفتاح النقدي، كما كانت تراهن على قوة ارتباط المبدعين بالحزب السياسي في سياق التفسير التبسيطي لأزمة الثقافة، التي هي جزء من الأزمة الاجتماعية والسياسية.
ولا بد من القول إن هذا الواقع كانت له أسبابه الموضوعية متمثلة، بشكل أساس، في سيادة الفكر الماركسي التقليدي وأدوات تحليله القاصرة. وفي هذا السياق كان هناك اختلال في علاقة الثقافي بالسياسي. وتمحور الصراع بشأن العديد من المفاهيم وبينها: التوصيف الاجتماعي للمثقفين، وعلاقة الفن بالآيديولوجيا، والاستقلالية النسبية للابداع، وفهم وظيفة الفن، والموقف التبسيطي من حرية الابداع. ومن المؤكد أن هذه المقولات بحاجة الى تفصيل وتحليل. غير أننا سنكتفي، هنا، في اضاءة واحدة من المقولات الهامة لنقدم صورة للالتباس الذي ساد في فترة تموز (وكذلك في فترات أخرى، بينها حتى فترة أواسط السبعينات التي شهدت فيها الثقافة التقدمية نوعا من الازدهار).
ففي سياق الفهم التبسيطي للابداع تشكل النظرة أحادية الجانب وطريقة الفهم الدوغماتية لمشكلة الحرية، وعدم القدرة على فهم الخاص وراء العام، واكتشاف الطبيعة الخاصة للمقولة وراء المعالجة الفلسفية العامة للمشكلة، ونسيان الديالكتيك عبر عزل الخاص عن العام، وتحويل الملموس المحدد الى مجرد مطلق، تشكل عائقا أمام التحليل. وكما قال ماركس فان على المرء أن لا يتجاهل التنوع من أجل الوحدة. وقد حدد غرامشي اطارا سليما لفهم الابداع بقوله إن “ممارسة الانسان السياسي للضغط باتجاه أن يعبر الفن في زمنه عن عالم ثقافي  معين يعتبر نشاطا سياسيا وليس نقدا فنيا”.
    لقد كان هناك نوع من احتكار الحقيقة. فقد جرى تفسير “الواقعية الاشتراكية”، مثلا، لكي تعني في التطبيق العملي موقفا تبسيطيا من حرية الابداع واستقلاليته النسبية والخلل في فهم وظيفة الفن. والحق أن الواقعية الاشتراكية (التي ظل اليسار يدعو وينظر لها لا في سنوات ثورة تموز حسب، وانما أيضا في سنوات السبعينات) ليست مصطلحا جماليا، وانما هي مصطلح آيديولوجي وسياسي سعى البعض الى قسره ليشكل أسلوب وجوهر الفن. واذا كانت الواقعية الاشتراكية بالنسبة للماركسيين الحقيقيين واحدا من مناهج عديدة في الفن، فانها كانت المنهج الوحيد بالنسبة للماركسية التقليدية.
   وأخيرا لابد من القول إننا نطمح الى أن تقدح اضاءتنا الوجيزة لموضوع العلاقة بين المثقفين وثورة 14 تموز 1958 (وهي بحاجة الى تدقيق وإغناء وتطوير) زناد عقول الباحثين وتحفزهم على الاسهام المعرفي في دراسة هذه التجربة الفريدة