أيار 18
تمهيد:
أحدث النظام الجمهوري الذي جاءت به ثورة 14/تموز/1958 تغييراً جوهريًا على انماط السياسات الاقتصادية القديمة التي ارساها النظام الملكي السابق. فالموديل القياسي الملكي للتنمية الاقتصادية الذي اعتمده مجلس الاعمار خلال الأعوام 1953 - 1958 (كمجلس للتنمية) كان قد تولى وظيفة التصرف بالعوائد الريعية النفطية التي جاءت بها اتفاقية مناصفة الارباح بين حكومة العهد الملكي وشركات النفط الاجنبية، في العام 1952. حيث تم توجيه الانفاق الاستثماري الحكومي باتجاهين: اولهما، استدامة نظام السوق وتقوية القطاع الخاص. وثانيهما، ضمان نظام التملك الاقطاعي في اراضي العراق الزراعية.
اذ منح، الموديل القياسي الملكي في التنمية، الاولوية للمصالح الزراعية المرتبطة بالنظام الاقطاعي وتحديدا مشاريع الري ومشاريع السيطرة على الفيضانات، فضلًا عن مشاريع النقل والاتصالات والاسكان.
وعلى الرغم من استمرار السياسة الاقتصادية الجديدة في العهد الجمهوري اتباع الموديل الاقتصادي القياسي للتنمية الا انها كانت بنمط ملكية وتوجه مختلف. حيث سخرت نفقات اساسية من عوائد النفط لاستثمارها في قطاعي النقل والاتصالات دون ان تغفل في فلسفتها العامة الانفاق العاجل على تحديث القوات المسلحة كجزء من الفكر اللوجستي الذي كانت تتعايش عليه المؤسسة العسكرية التي قادت الثورة. كما تؤشر الكاتبة الامريكية فيبي مار في كتابها “تاريخ العراق الحديث” الطبعة الثالثة. حيث اشارت الى  ان الثورة التي قادت الى القضاء  على النظام الملكي قد جاءت  بفريق استشاري عالي المستوى ومتقدم  في  تأسيس  الموديل القياسي الجمهوري للتنمية متأثرا بالنماذج الاقتصادية الاشتراكية والتوجه نحو تشييد هياكل مؤسسية ومناهج عديدة حملت ذلك الطابع الاشتراكي نفسه: “كالتخطيط الاقتصادي المركزي والتصدي للتأثير الاقتصادي الخارجي ولاسيما في نظام فك ربط العملة الوطنية بالعملة الاجنبية والتحول من نظام الاسترليني الصارم القديم الى نظام دولاري اكثر مرونة عالميا، وكذلك الوقوف بوجه شركات النفط الاجنبية التي استحوذت بامتيازاتها على الجغرافية  الاقتصادية لنفط العراق، دونما اغفال مسالة الاصلاح الزراعي  وتصفية النفوذ الاقطاعي”.
ففي العام 1961 تظهر الدراسات المتعلقة بتاريخ الاقتصاد السياسي للعراق، ان الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم قد قاد عجلة البلاد نحو تخطي التدخل الاجنبي في القطاع النفطي الذي كانت تهيمن عليه المصالح النفطية العالمية الكبرى وعلى راسها المصالح البريطانية التي تمثلها شركة نفط العراق. اذ جاء القانون رقم 80 الذي صادر او امّم قرابة %99.5 من مناطق امتياز شركة نفط العراق، بعد ان قيد عمليات شركة نفط العراق في مواقع انتاجها وقتذاك. كما عدّ قانون الاصلاح الزراعي (قانون رقم 30 لسنة 1958) أحد اهم التدابير التي بدأتها السياسة الاقتصادية الجديدة للثورة، اذ كان قانون الإصلاح الزراعي مشروعاً طموحاً يهدف الى تفكيك النظام الاقطاعي الملكي القديم لملكية الارض والتصرف بها وبما يمكن من اعادة توزيع الاراضي على الفلاحين، في وقت كانت ارياف العراق تضم أكثر من ثلثي سكان البلاد. وبهذا عبرت ثورة 14 تموز 1958 المجيدة كما يقول سلام كبة في مقاله الموسوم: ثورة تموز والاتفاقية الاقتصادية مع الاتحاد السوفييتي! - الحوار المتمدن/ حزيران 2010 “عن السفر العظيم والجبار لشعبنا في تثبيت استقلاله السياسي والاقتصادي وما قدمه من تضحيات وشهداء لبناء مجتمع قائم على الرخاء والرفاهية والعدل الاجتماعي والنهوض السليم المعافى للبناء المؤسساتي المدني. اذ عكس البيان الاول الصادر في 14 تموز 1958، الطبيعة الوطنية والديمقراطية للثورة. ان الحكم يجب أن يعهد الى حكومة تنبثق من الشعب وتعمل بوحي منه، وهذا لا يتم الا بتأليف جمهورية شعبية تتمسك بالوحدة العراقية الكاملة”. وبعدها توالت التشريعات التقدمية “كالدستور المؤقت، وقانون رقم (80) لسنة 1961 الذي حدد مناطق الاستثمار لشركات النفط الاحتكارية، وقانون الاصلاح الزراعي لتصفية الاقطاع رقم (30) لسنة 1958، وقانون الأحوال الشخصية رقم (188) لسنة 1959.
كما حلت وزارة التخطيط في العهد الجمهوري محل مجلس الاعمار في العهد الملكي ليلتحم القرار الاقتصادي والسياسة الاقتصادية في مظلة تخطيط علوية هي: (مجلس التخطيط للجمهورية الفتية).
 
بُناة السياسة الاقتصادية للثورة – تأملات وذكريات
في مبنى وزارة الدفاع عقد مجلس وزراء الثورة اجتماعه الاول برئاسة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم الذي نُصب رئيسا للوزراء يوم ذاك. حيث التأم الجناح الوزاري المدني بالجناح العسكري الذي لازم تراتبيته بشدة امام القوى المدنية الوطنية التي شغلت مناصب وزارية كقوى جماهرية محركة للثورة وغطاء ديمومتها الفاعل. وقد حدثني استاذي الجليل المفكر الراحل “ابراهيم كبة” عن بعض اسرار اجتماع اليوم الاول الذي شغل الراحل فيه منصب وزير الاقتصاد ليمثل يومها الجماهير الكادحة صانعة تاريخ الثورة وخالقة الحضارة العراقية وقاعدة الديمقراطية الحقة والمنفذة لسنن المجتمع وبانية عالم الغد في ارض عالمها الحرية والسلام في بلاد ما بين النهرين قائلاً: “ان التيار القومي قد دخل مجلس الوزراء بجناحيه العسكري والمدني وهو يحمل بذور المعارضة والانقسام تحت تأثير الموجة الناصرية العامة وقت ذاك. وكانت البداية السالبة لتشتعل الساحة السياسية بصراع ادى في نهايته الى غدر الثورة وطعنها من ظهرها ذلك منذُ انسحاب التيار القومي في الاسابيع القليلة من اجتماعات مجلس الوزراء وعموم العمل الوطني المشترك. الا ان الثورة وديمومة نضالها منذ اليوم الاول تطلب اعتماد جدول اعمال ينصرف الى التصدي لقضايا اساسية ثلاث: اولاهما، مكافحة الفساد وثانيتها، اشاعة الخدمات والمنافع العامة ونشرهما بين صفوف الفقراء والطبقات المسحوقة والثالثة، البحث عن انموذج بديل للتنمية يسهم في تنويع الاقتصاد الوطني والتخفيف من ظاهرتي الفقر والبطالة. ولم تمض الا ايام قليلة وبدأ التطبيق الفعلي لمكافحة الفساد وباتجاهين اولهما تنفيذ قانون تطهير جهاز موظفي الدولة من المرتشين او ممن أثرى على حساب المال العام، والاخر هو اشاعة المساءلة المالية لتطال الموظفين الحكوميين كافة تحت مبدأ: من اين لك هذا؟ يوم كشف اولئك الموظفون الحكوميون مصالحهم وذممهم المالية كافة امام الجهات المختصة فبعد أشهر قليلة من انبثاق ثورة تموز 1958اخذ الزعيم عبد الكريم قاسم مصطحباً في سيارته رئيس مجلس النواب الياباني الذي زار يوم ذاك العراق رسمياً وهو يحمل في جعبته سؤالاً واحدا هو: لماذا قمتم بثورة 14 تموز 1958؟ وهو السؤال الذي فاجأ فيه الضيف الياباني الزائر الزعيم قاسم اثناء تسلقهما ادراج مبنى وزارة الدفاع بصحبة الدكتور محمود على الداود .فما كان من الزعيم الا ان طلب من الضيف الياباني ان يجلس الى جانبه في تلك الحافلة (الخاكية اللون) وتوجها سوية الى منطقة (خلف السدة) في جانب الرصافة من شرق بغداد يوم كانت تعج بعشرات الالاف من الاكواخ تناظرها منطقة اخرى اكثر سوءاً في جانب الكرخ تسمى (الشاكرية) حيث تنعدم فيها هي الاخرى ابسط متطلبات الحياة الانسانية وتزدحم بالآلاف المؤلفة من سكان العراق من اصول فلاحية اتوا غالبيتهم هرباً من قبضة الاقطاع وظلمه من مناطق جنوب شرق العراق. وعلى الرغم من ذلك حملت الجماهير الفقيرة سيارة الزعيم عبد الكريم قاسم وضيفه الياباني على الاكتاف وهي تهتف بحياة الثورة وزعيمها. التفت الضيف الياباني الى الزعيم قاسم وسأله من هم هؤلاء اجابه انهم فقراء الشعب العراقي الذين جاءت الثورة من اجلهم. ومن هنا فهم الضيف الرسمي الياباني رسالة ثورة تموز وكيف ستنطلق حكومة 14 تموز ببرنامجها الوطني الشامل في مكافحة الفقر وكيف ستنهض بهوامش المدن وعشوائياتها وتحويلها الى نواة مدنية خالية من الظلم والتخلف والتهميش الاقتصادي والاجتماعي وجعل اولئك الفقراء كقوة حضرية منتجة مندمجة بمجتمع المدنية. إذ اُطلق يومها مشروع بناء مدينتي الثورة/ الصدر في جانب الرصافة والشعلة في جانب الكرخ واشاعة الحركة الاسكانية وتشييد البنى التحتية في العاصمة بغداد وعموم العراق.
لم يستطع الانموذج القياسي الملكي للتنمية الذي تبناه مجلس الاعمار في فلسفته الانمائية ان يخلص العراق من تكاثر ونمو العقدة الريعية التي تعاظمت منذ اتفاقية تقسيم عوائد النفط في العام 1952 مناصفة بين شركات النفط الاحتكارية والحكومة الملكية للعراق. فالأنموذج القياسي او النمطي للتنمية الذي استخدمته الملكية لدفع عجلة التنمية وتمويل لوازمها بعوائد النفط العالية جاءت بالتركيز على الاستثمار الواسع في البنية التحتية الزراعية لمشاريع تطوير وارواء الاقطاعيات وتحولها نحو استخدام التكنولوجيا الزراعية الكثيفة في رقع جغرافية كثيفة السكان لتتسع حينها رقعة البطالة في قوة العمل الريفية مع اتساع الزراعة الرأسمالية في نظام بات شبه اقطاعي مزيجا بالرأسمالية الزراعية. وعلى الرغم من اهمية التحول التقني الزراعي الا انها قادت اجتماعياً الى تحرير مئات الالوف من العائلات الزراعية وقواها الفلاحية الكادحة من قبضة الاقطاع وأدت ايضاً الى التسريع في التحول التكنولوجي في الزراعة الذي اخذ طابعاً شبه رأسمالي هذه المرة، ليقابله قطاع نفطي كثيف التكنولوجيا محدود جداً في استخدام العمل الفائض ومهيمن في الوقت نفسه على الناتج المحلي الاجمالي من دون تنوع تكنولوجي في الصناعة التحويلية وخلق بروليتاريا عمالية واسعة، ما اسهمت في تضييق درجة التنوع الاقتصادي وتعظيم القوة العاملة الهامشية حول المدن في اقتصاد ضعيف في توفير دواليب الصناعة ومنتج للبطالة في الوقت نفسه فقطاع الانتاج النفطي العالي التكنولوجيا في مجال الاستخراج كان بمثابة البديل التلقائي للنهوض في القطاع التكنولوجي ولكنه احادي ملازم لإلغاء اهمية توليد الصناعة التحويلية. اذ اصطدم عرض العمل غير المحدود المتدفق بكثافة من الارياف، قليل الخبرة والتعليم (وهو يبحث عن هامش من الريع النفطي بعد ان فقد سكان الارياف هامش ريعهم الزراعي الضئيل من نظام الاقطاع الزراعي) ليتولوا الهجرة والعيش في هوامش عشوائية حول المدن الكبيرة. اذ تمركز المهاجرون او النازحون الجدد بالآلاف كتجمعات بشرية وهم يبحثون عن هوية اقتصادية جديدة ريعية للعمل، مدعمة بنفقات عوائد النفط التي اخذت تسربها الموازنات الحكومية لدعم وسيلة عيشها وتجسدها اضطرارا تقديم اعمال يدوية هامشية وفي حركة هجرة صعودية ومسلسل نزوح قوامه مغادرة الالاف باستمرار لارياف جنوب ووسط العراق صعوداً الى اعالي الانهر والبحث عن هوية عمالية هامشية جديدة وبتدفق انساني سار على عكس جريان رافدي دجلة والفرات. وهكذا اصطدم عرض العمل الفلاحي المهاجر الهارب غير المحدود صوب هوامش المدن وعشوائياتها، تاركاً خلفه قوى شبه اقطاعية اتسمت بالتحول البطيء نحو تشييد اطر بدائية من الرأسمالية الزراعية، ما جعلت من الطبقة العاملة الجديدة المتمركزة في هوامش المدن بمثابة فائض عمل شديد الخطورة واداة للتغيير الاقتصادي والسياسي المقبل للبلاد. فكانت النتيجة النهائية هي تردي مستوى المعيشة بسبب تردي الانتاجية بين شكلين من القطاعات الاقتصادية: احدهما، قطاعات منتجة مولدة للدخل شديدة الحداثة التكنولوجية في قطاع الاستخراج النفطي. والاخرى، هي القطاعات التقليدية الخدمية الواطئة التكنولوجية ضعيفة القيمة المضافة والقليلة الاجر والدخل واختلافها الشديد وتباينها في توليد التراكم الرأسمالي الذاتي، ما ولدت تدهوراً في مسارات النمو الاقتصادي وما لازمها من تدهور في فرص العيش. فالقوة العمالية الجديدة المهمشة حول المدن وحراكها الاجتماعي من جانب واشتداد التركز الرأسمالي الزراعي بميوله شبه الاقطاعية من جانب اخر قادا بلا شك وباتجاهين مختلفين الى التعجيل في ثورة 1958، وتمكين الطبقة الوسطى المدنية والعسكرية المنظمة سياسياً بقوتها الذاتية والموضوعية وزخم فعلها المؤثر كمادة دافعة للتعجيل في انهيار النظام الاجتماعي السياسي الذي آزره في الوقت نفسه انهيار متسارع في متلازمة المنظومة الاقتصادية الزراعية الملكية (شبه الرأسمالية - شبه الاقطاعية) والتجارية الكمبرادورية ذات الجذور الريعية الهشة.
حدثني المفكر الراحل ابراهيم كبة وزير الاقتصاد للجمهورية الاولى يوم انبثاقها ان مشكلة البطالة والخيار التكنولوجي الصناعي كانت من اولى ركائز البرنامج الاقتصادي لثورة تموز منذ الاجتماع الاول. اذ أدركت قيادة الثورة أن تبني انموذج الدفعة القوية في التنمية وتولي اشاعة النمو المتوازن في مفاصل الاقتصاد كافة، يعني ان السير بالاستثمارات بحزم متعاقبة صغيرة لا يوصل الاقتصاد الوطني الى مرحلة الانطلاق وبلوغ النمو الذاتي المستدام ويؤدي الى ضياع الموارد الاستثمارية. وقد آزرت قيادة ثورة تموز فكرة ان الناتج الحدي الاجتماعي للاستثمار لمجموعة النشاطات الصناعية يحقق معدل نمو في الاقتصاد يفوق الناتج الحدي الفردي. وهنا بدأ دور الدولة في تعظيم البنية التحتية الكلية كونها المقدمة الاساسية لتحريك النشاط الانتاجي الصناعي المؤسس لتنويع الاقتصاد ورفع كفايته. فالنمو في البنية التحتية بمقدار واحد في المئة سنوياُ يؤدي الى نمو في الناتج المحلي الاجمالي بمقدار واحد ونصف بالمئة سنويا. وهنا تصبح المشاريع رابحة جميعاً ليس بمعنى الربح الفردي وانما بمعنى الربح الاجتماعي بسبب أثر العامل الخارجي الموجب في رفع كفاية الانتاج الذي هنا يولده الاستثمار في البنية التحتية او ما يسمى براس المال الاجتماعي العلوي. وفي إطار السير ببرنامج الدفعة القوية لثورة 14 تموز 1958 تبنت قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم برنامجاً مكثفاُ في الاستثمار في مجال كهربة العراق والاستثمار في الصناعة التحويلية وتوليد قطاع عام صناعي متقدم للتغلب على عقبات التنمية وامتصاص البطالة والنمو في قوة العمل الصناعية واشاعة الرفاهية بتحسين دخل الفرد السنوي. وهكذا خلص الاجتماع الاول لوزارة الجمهورية الاولى بعد ان تبنت برنامج وزير الاقتصاد المفكر ابراهيم كبة والسير فوراً في تطبيق برنامج الدفعة القوية القائم على تكثيف الاستثمارات وعلى وفق مسار النمو الذاتي وهو مسار باتجاه التوازن كما ذكرنا تتلازم فيه المدخرات والطلب والانتاج في إطار تبادلي معتمد عالي الكفاءة غير قابل للتجزئة ومُعظم في الوقت نفسه للوفورات الخارجية التي تقلل من متوسط كلفة الانتاج ما بين الصناعات. فكانت بداية الانطلاق بالقرض الصناعي الميسر الذي قدمه الاتحاد السوفياتي السابق والذي زاد على 150 مليون دولار لإقامة ما يزيد على 70 منشأة صناعية منتجة امتدت بين صناعة الاقطان والنسيج وانتهت بصناعة المعدات الميكانيكية والكهربائية لتُشكل دالة الانتاج الصناعي الحكومي وولادة الجيل الجديد من البروليتاريا العمالية الصناعية العراقية داخل الكيان المصنعي الحكومي. بهذا عبر انموذج الدفعة الصناعية القوية للوزير والمفكر الراحل ابراهيم كبة عن القدرة على تحريك الاقتصاد الوطني بدواليب تكنولوجية مؤثرة في تجاوز معضلة التكنولوجيا الثنائية الكثيفة في القطاع النفطي والزراعي كما كان عليه الانموذج القياسي الملكي للتنمية، لإحداث توازن في قضيتي رفع مستوى المعيشة والتشغيل الدائم لعرض العمل غير المحدود الذي ظل الريف يدفع به من حين لآخر. وهنا أمسى التراكم الرأسمالي في الصناعة التحويلية رديفاً للتكنولوجيا وتنوع قطاعات استخداماتها التي استطاعت ان تتفادى قضية التكنولوجيا الثنائية للموديل القياسي الملكي القاصر (بين النفط والزراعة) لتتبنى الموديل التكنولوجي الثلاثي وهو النفط والزراعة والصناعة وهو انموذج التوازن في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للجمهورية الاولى. ومن دون ان ننسى قانوني الارض ومصادرة ريعهما لمصلحة الشعب العراقي وهما القانون رقم80 لسنة 1961 وقانون تعيين مناطق الاستثمار لشركات النفط وهو القانون الذي امم اراضي الاستثمار النفطي وسحبها كلياً من ايدي شركات النفط الاحتكارية الاجنبية باستثناء دائرة عملياتها. كما سبقه تشريع قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 المعدل والذي امم هو الاخر الملكيات الكبيرة وفتتها لمصلحة فقراء الريف وفلاحيه ووضع حدا للسلطة المستبدة لشبه الاقطاع.
مُنظرو الموديل الاقتصادي للثورة: جدليات وذكريات اكاديمية!
أولا، دخل قاعة الدرس رجل باسم الوجه ممشوق القامة ذو بنيان مستقيم، يكسو البياض نصف شعره الاسود ويرتدي بدلة زرقاء غامقة وربطة عنق انيقة، تقدم في مسيره بهدوء حتى مثُل امامنا نحن طلبة الماجستير في العلوم الاقتصادية بجامعة بغداد ليعتلي منصة الدرس، يومها كانت هي المحاضرة الاولى التي استطاع فيها هذا العالم الجليل (استاذ مادة التنمية الاقتصادية) ان يمتص اضطرابنا ومشاغلنا وبهدوء بالغ والتي غلفتها تصوراتنا وانفعالاتنا عن سُحب الحرب واعمدة الدخان والتحام الجيوش في خضم حرب، كان مسرحها ضفتي قناة السويس وشبه جزيرة سيناء وأعالي الجولان، انها حرب اكتوبر 1973. فطقوس الدرس الاول وميدانه اختلف في معطياته عن ساحة الحرب وميدانها، ذلك على الرغم من انهما يجتمعان في مبادئ الدفاع عن الوجود ولكنهما يفترقان في نوعية المسار وبلوغ الاهداف. انه ميدان المعرفة الاول لنا نحن طلبة ذلك العالم الجليل الراحل الدكتور محمد سلمان حسن، يوم ابتدأ الدرس وهو جالس على كرسيه وبساقيه المشتبكتين ويرسل بشهيقه علماً ويبعث في زفيره دراية واحساسا في حركة الحوار والفكر التي بدأت تصب على الرغم من مرارتها في مسار الامل والبحث عن المستقبل الاقتصادي للعراق. حدثنا الراحل يومها بمقدمة رائعة عن طبيعة الاقتصاد العراقي والثنائية القطاعية فيه قبل ان يتصدى الى نظريات التنمية ونماذج النمو الاقتصادي وعلى وفق المنهج المعتمد. فهو مازال يتطلع الى بناء اقتصاد حقيقي فاعل للعراق ولكن بعين اكاديمية حذرة. وقبل ان تنتهي محاضرته الاستهلالية الاولى وزع علينا الراحل نسخة شخصية من مؤلف قام هو بنقله الى العربية وحمل عنوانا كان نصه: سياسة الاعمار في العراق. ومؤلفه خبير الاعمار توماس بالوك الذي استقدمته الحكومة العراقية في عقود سابقة لرسم معالم سياسة اعمار البلاد. أدهشني وقتها الاهداء الذي وضعه الراحل محمد سلمان حسن في مقدمة المؤلف المذكور بطبعته العربية والذي خص فيه رئيس وزراء العراق الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، وذلك بعد مرور عشر سنوات على الانقلاب العسكري الدموي الذي اطاح بزعيم الجمهورية الاولى في 8 شباط 1963 ولم يتردد يومها العلامة محمد سلمان حسن من أن يرتب ذلك الاهداء اي مأخذ سياسي او خوف ازاء السلطة في كبح اصراره على الولاء الى الزعيم الوطني الراحل عبد الكريم قاسم. أدركت في لحظتها قوة المبادئ التي كان يحملها العلامة الراحل وميوله الاكاديمية والعقلانية الوطنية لقضية شعبه من دون تعصب في بناء عراق منظم ومتنام ووطن يتمتع ابناؤه بنظام اقتصادي متحرر ومزدهر يسوده العدل والمساواة. كما علمت ان استاذنا محمد سلمان حسن كان من بين نخبة الاقتصاديين الذين اختارهم الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم في رسم السياسة الاقتصادية للجمهورية الاولى. كان الاستاذ الراحل مدافعاً اميناً على البرامج والخطط الاقتصادية والتنموية التي وضع معالمها بنفسه وبمشاركة الوطنيين الاحرار الاخرين من خبراء الاقتصاد والادارة والاعمار والهندسة والفنيين وغيرهم والتي كانت تُمهد لإنشاء مجلس اعلى للتخطيط في العراق.
ثانيا، التقيت العلامة الراحل الدكتور عبد المنعم السيد علي (استاذ النظرية النقدية) الذي استفسر في حينها عن مسيرتي الدراسية وتقدمي العلمي في حقل الاقتصاد والمناهج التي يتناولها الاساتذة في دروسهم على طلبة الماجستير (لكونها الدراسة العليا التي جرى استحداثها للمرة الاولى في العراق)، وقد ذكرت له على سبيل الحديث قصة كتاب توماس بالوك واهمية موضوعاته في تحليل نقاط القوة والضعف في الاقتصاد العراقي وبرامج الاعمار المطلوبة والذي نقله الى العربية استاذنا محمد سلمان حسن وكيف ان اصرار استاذنا محمد سلمان حسن على توزيع الكتاب بنفسه وهو يحمل الاهداء الى الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، امر لم يثنِ عزمه او ينتابه خوف، على الرغم من ان النظام السياسي السائد وقت ذاك في العراق لا يسمح بذلك..! تبسم الراحل الدكتور عبد المنعم السيد علي وقال لي لدي سر سأخبرك به عن الاستاذ محمد سلمان حسن. وكان الراحل الدكتور عبد المنعم السيد علي يكُن بصمت كل الاحترام والمحبة للأستاذ محمد سلمان حسن! وان مفاد ذلك السر هو كالاتي: كان الدكتور عبد المنعم السيد علي من المنتظمين (سراً) في التيار القومي الناصري وهو من الخصوم التقليديين للتيار اليساري ونهج الزعيم عبد الكريم قاسم ابان السنوات الاربعة ونيف التي تلت قيام ثورة 14 تموز 1958 يومها كان التيار القومي الناصري يكيل التهم والشكوك في الصحافة اليومية على المنهج الاقتصادي والسياسة الاقتصادية للعهد الجمهوري! ولكن كان الرد والتوضيح يأتي في اليوم التالي وعبر الصحافة القاسمية او اليسارية على لسان الراحل محمد سلمان حسن بموضوعية وصدقية عالية جداً وبأدب جم بعيد عن المهاترات السياسية. وهي الحالة التي كانت سائدة في العراق ابان الجمهورية الاولى والتي يُشبهها الاستاذ الدكتور سيار الجميل في مقاله (العراق 1958 في الوثائق البريطانية) بانها اشبه بالحرب الباردة وسياسة ملء الفراغ بين العراق القاسمي وبين مصر الناصرية في تلك الحقبة. وبهذا فقد استطرد العلامة الراحل الدكتور عبد المنعم السيد علي قائلاً: انها كانت بحق مناكفة اقتصادية – سياسية، يراد منها ازعاج النظام السياسي وقت ذاك. مواصلاً القول: ان أكثر ما كان يدهشني هو ذلك الرد العلمي والهادئ والصائب للعالم الجليل محمد سلمان حسن؛  ففي كل مرة يتصدى فيها التيار القومي الناصري لمنهج ثورة 14 تموز الاقتصادي، او تحديداً المنهج الاقتصادي للزعيم قاسم، يأتي الرد التحليلي - الموضوعي سديداً متماسكاً، وعبر الصحافة اليسارية، بقلم الراحل محمد سلمان حسن، مؤكداً لي كم كان الراحل محمد سلمان حسن واضحاً في حجته وكم كان قوياً في تفسير منهجه، ما جعل الراحل الاستاذ عبد المنعم السيد علي ان ينصح في حينها التيار القومي الناصري بالكف عن الولوج بأي حديث في الاقتصاد السياسي للجمهورية، يتناول الرد فيه شخصية علمية بوزن محمد سلمان حسن، وهو امر اذا ما استمر سيجعلنا الجانب الخاسر في ذلك الحوار الجدلي ذي الغايات السياسية! قلت للعلامة الراحل عبد المنعم السيد علي ولكن ماهي الحكمة المستخلصة من ذلك الحوار الجدلي؟ اجابني بنفسه، لقد تعلمت شخصياً الكثير من ذلك الجدل ومن محاور محمد سلمان حسن نفسه سواء الاكاديمية التحليلية منها ام العملية! وواصل قائلاً: ان العلوم والمعارف ظلت وستظل تتطور وتتسع عبر الحوار مهما تعاظمت حدتها واختلفت رؤاها ومهما ابتعدت مفاهيمها بين المتحاورين من التيارات والمدارس المختلفة. انها صناعة العلم عبر التاريخ المعرفي للإنسانية.
ثالثا، أبلغني الاستاذ الراحل محمد سلمان حسن انه ارتبط بزمالة علمية وصداقة عائلية مع المفكر الاقتصادي البولندي العالم اوسكار لانكه صاحب المؤلف الشهير: النظرية الاقتصادية للاشتراكية والتي سبق نشرها في مجلة الدراسات الاقتصادية الامريكية بجزءين خلال الاعوام 1936 و 1937. كما تأثر الراحل بمدرسة لانكه ونظرياته وافكاره مثلما تأثر به كبار الاقتصاديين امثال: جان تنبركن وابا ليرنر ودون باتنكن وغيرهم. وكان الراحل محمد سلمان حسن يلتقي العالم لانكه ويزوره في بولندا او أي مكان آخر من اوروبا خلال المناسبات او العطل الصيفية حتى وافاه الاجل في العام 1965. كما انه اتفق معه على مواصلة مشروعهما العلمي الذي كان يقتضي استكمال مؤلف لانكه نفسه والموسوم “الاقتصاد السياسي” وهو المؤلف الذي شرع بكتابته باللغة البولونية في العام 1959 قبل ان يتم نقله الى الانكليزية. فقد كان الراحل محمد سلمان حسن بحق منشغلا في إسهامه بتأليف الجزء الاخير من الكتاب المذكور الذي لم يكمله الراحل اوسكار لانكه، بعد ان نقل محمد سلمان حسن الى العربية الجزءين الاول والثاني من المؤُلف المذكور آنفاُ ، ثم تحقق له اكمال الجزء الاخير من الكتاب واهداني الراحل محمد سلمان حسن نسخة منه في العام 1975، وقمت وقتها من فوري بإهدائه نسخة من كتاب كان مؤلفه الاقتصادي المعروف مارتن جي بيلي الصادر في العام 1962 والموسوم “الدخل القومي ومستوى الأسعار” وقال لي بالحرف الواحد: شاكراُ فضلك لأني لم اطلع على هذا المؤلف من قبل. ومن حسن الصدف كنت بحاجة الى ذلك الكتاب واوصيت اثنين من الاصدقاء لشرائه لي من مكتبة (فويلز) الشهيرة في لندن بغية التحوط وضمان وصوله، ووصلني حقاُ نسختان من الكتاب نفسه في وقت متقارب وانا كنت بحاجة الى نسخة واحدة فحسب! وهكذا ومن حسن الطالع ان تكون احدى النسختين اللتين حصلت عليهما من كتاب (مارتن جي بيلي) هي من حصة العالم الراحل محمد سلمان حسن.
رابعا، أثر العالم اوسكار لانكه بالراحل محمد سلمان حسن اثناء مرحلة عمله في تنظير الموديل الاقتصادي لثورة ١٤ تموز، إذ تأثر اوسكار لانكه هو بنفسه بكبار العلماء والمفكرين امثال كارل ماركس وباريتو وفالراس. وبهذا استطاع لانكه ان يقدم نظريته في (اقتصاد السوق الاشتراكي ونماذجه التي جمع فيها بين النظرية الماركسية في تحديد القيمة وبين النظرية الاقتصادية النيوكلاسيكية في تحديد الاسعار). ففي مؤلفه النظرية الاقتصادية للاشتراكية، استطاع لانكه تقديم فرضيته القائلة: ان التخطيط المركزي يحدد مجموعة الاسعار من خلال ما يسمى (بالتجربة والخطأ) والتي تتيح القيام بالتكيفات اللازمة لإزالة العجز او الفائض لبلوغ التوازن العام بدلاً من ميكانيكية الاسعار في السوق الحر. وفي ظل هكذا نظام يتولى المخططون المركزيون فيه تحديد سعر المنتج الصناعي بصورة اولية او ربما اعتباطية ابتداءً في مصانع الدولة، ومن ثم يقومون بزيادة السعر او تخفيضه بالاعتماد عما يؤديه ذلك السعر الى حالة عجز او فائض في العرض. وتتم المحاولات لمرات عديدة، حتى بلوغ الاستقرار والتوازن. وبهذا فأن العاملين في حقل الرياضيات ممن يمتلكون القدرة على حل المعادلات الانية المعقدة هم الاقدر من بين من يسهموا في التخطيط الاقتصادي وضبط آليات وديناميكيات التوازن العام. فارتفاع الاسعار يشجع المنتجين على زيادة الانتاج وانخفاضها سيرشَد الانتاج. وهكذا تندفع الوحدات الاقتصادية نحو تعظيم الربح الاشتراكي بغية تفادي التكاليف الناشئة. فميكانيكية السوق الاشتراكي تمتلك القدرة المثلى والفورية على ادارة العرض والطلب. وان مناصري مدرسة (اوسكار لانكه) يجدون في اشتراكية السوق ثمة مزايا في تسيير عجلة الاقتصاد الاشتراكي المخطط والمسير بأدوات السوق وآلياته في ضبط الثمن. لقد عبر اوسكار لانكه عن اروع امثلته وقدراته التحليلية للنظم الاقتصادية من خلال رده لمنتقدي الاشتراكية، ذلك من خلال جمعه بين الملكية الاجتماعية لوسائل الانتاج وفكرة مدخلات السوق ومخرجاته. وهذا ما اطلق عليه يومها بجدل الاشتراكية، الذي مثل الحدث الاهم في موضوع دراسة النظم الاقتصادية المقارنة وزاد من مستوى الجدل التقني والنظري الذي حلّ محل تحليل النماذج الاقتصادية المجردة في وصف النظم الاقتصادية الحقيقية. كما دفع من اهمية العديد من الموضوعات ذات الصلة بالنظم الاقتصادية المقارنة والتي منها على سبيل المثال موضوع التخطيط المركزي واللامركزي في اتخاذ القرار الاقتصادي ودور نظم المعلومات وحقيقة اسعار السوق والتركيب الممكن بين الخطة والسوق. كما عدُ اوسكار لانكه من اشد منافسي باريتو في بلوغ الامثلية عند تخصيص الموارد وتحقيق الرفاهية، فضلا ان لانكه نفسه وبلا شك كان من طلائع من دفع بنظرية (السيبرنتيك)، أي علم ادارة الدفة والربان في التخطيط الاقتصادي، من خلال كتابه الموسوم “الكومبيوتر والسوق”.
خامسا، ان تعرضنا لمدرسة اوسكار لانكه آنفا هو بمثابة تأكيد للرؤية والمنهج الاقتصادي الذي كان العالم الكبير الراحل محمد سلمان حسن ينهجه ويضيف عليه في مسار تواصله عند إسهامه في كتابة الجزء الأخير من مؤلف لانكه: الاقتصاد السياسي. وهو يؤسس للموديل الاقتصادي لثورة 14 تموز 1958 دون توقف.
 
الانسان: الامل الدائم للثورة
حدث الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم نفسه وهو يتطلع الى صورة ذلك الصبي الصغير القادم من ارياف شرق دجلة بعد ان فكك ارضهم قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 من قبضة الاقطاع وهو يحمل في تضاريس عقله حاسبة عملاقة قادرة على حل سلسلة رقمية وحسابية في ثوانٍ معدودات، والزعيم يردد في سره: ان نؤمن بالعلم يا عادل فهو القوة وراء خلود بلاد ما بين النهرين وان نؤمن بالحكمة والادب والمعرفة، لكي ننعم بنضارة الحياة وننهل من رحيقها وان نؤمن بالشعب وثورة الاصلاح، لكي نعجل مسيرة البلاد نحو الكمال، فالحرص على تماسك الأرض والشعب هو عماد الوحدة، وان النكسة يا عادل لا تجيء الا نتيجة لخلل يصيب وحدة البلاد ولكن مجد العراق وأمنه سيظلان يستحوذان على مشاعري بقوة. فعندما ظهر ذلك الطفل الموهوب عادل شعلان في برنامج العلم للجميع اتصل الزعيم عبد الكريم قاسم وأهدى له جهاز تلفزيون تقديرا له، وهي هدية ثمينة في حينها. ذهب عادل شعلان في اليوم التالي الى مقر الزعيم في وزارة الدفاع، وحين عرف الزعيم بان عادل شعلان قد حضر شعر من فوره بالإحراج امام مدير مكتبه وقال لمن معه: أليس بالإمكان تأجيله حتى نهاية الشهر كي اتسلم راتبي ومن ثم اعطيه الهدية؟
مرت السنوات حتى منتصف سبعينات القرن الماضي يوم كُلفت بتدريس مادة مبادئ الاقتصاد الجزئي لطلبة قسم دبلوم التعاونيات الزراعية الوجبة المسائية في الجامعة المستنصرية، فوجئت حينها ان عادل شعلان هو نفسه من بين اولئك الطلاب، وعندما ادى امتحانه الفصلي الاول كانت اجابته على الاسئلة الامتحانية ليست بالمستوى المطلوب وكانت نتيجته منخفضة جداً. حدثني في انتهاء الدرس شاب طويل القامة ريفي اللكنة بسيط المحيا قائلاً: يا استاذ انا عادل شعلان الذي يوصف بعبقري الرياضيات ولكن سوء الحظ سلط علينا عدواً اسمه الافكار فغزانا من الداخل وعبث بمجدي العقلي أيما عبث وانتهيت الى ما انا فيه الان. توقفت امامه ومن دون ان اجيبه وانا أتذكر يوم وقف عادل شعلان امام مكتب الزعيم عبد الكريم قاسم بانتظار هديته، وامسكت بقلمي لاستمد القوة مستوحياً الرضا والانتصار للرافدين متذكراً ايمان الرجل الراحل بشعبه، وكيف اتسمت حياته بالكفاح الطويل والنزاهة وعاش فقيرا ومات فقيرا، فاستبدلت درجة عادل المنخفضة تلقائياً بدرجة عالية اكراما له.
 
الاستنتاجات
أولا، عدّ الاصلاح الزراعي الذي جاء به القانون رقم 30 لسنة 1958 احد اهم التدابير التي عملت عليها السياسة الاقتصادية لثورة 14 تموز، اذ كان مشروعاً طموحاً يهدف الى تفكيك النظام الاقطاعي لملكية الارض واعادة توزيعها على الفلاحين على وفق اشكال مختلفة من الحيازة والتصرفات الزراعية. ومع ذلك كان التنفيذ بطيئاً لارتباط الانتاج في تلك الحيازات الزراعية الجديدة المتناثرة بقيد التطور المتسارع في البنية التحتية الزراعية التي هي بحوزة الحكومة المركزية وبنسبة لا تقل عن %83. كما ارتبط تخصيص الارض على الفلاحين من المالكين الجدد (وبملايين الهكتارات) بقدرة نظام الري والسقي المسيطر عليه حكوميا من العمل والتوسع والتنظيم بفاعلية تتناسب والحياة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة في ارياف العراق. حيث كان التنفيذ الحكومي في التملك وتوفير البنية التحتية الزراعية (الجزئية والكلية) في ارياف العراق بطيئاً للأسف ما ساعد على تعاظم موجات الهجرة الى هوامش المدن، سعيا وراء العيش. يومها كانت حكومة ثورة 14 تموز تسعى الى انشاء آلية لإدارة برنامج الاصلاح الزراعي تحت مسمى: المديرية العامة للاستيلاء وتوزيع الاراضي الزراعية الاكثر بطئاً. وترى اغلب الدراسات ان اجراءات الاصلاح الزراعي في القانون رقم 30 قد ادت حقاً الى تدمير احزمة النظام الاقطاعي في التملك والحيازة (الكبيرة) وهي على نحو اسرع ما بنى اسس نظام التملك والحيازة والتصرف والانتاج الزراعي بحجمها (الصغير) ما ادى الى تدهور الانتاج الزراعي وانخفاض مساهم الزراعة في الناتج الحلي الاجمالي واستمرار الهجرة من الريف الى المدينة، لتتولد معضلة اجتماعية لاحقة.
ثانيا، لقد استمرت السياسة الاقتصادية التي رسمت معالمها ثورة 14 تموز 1958 لتبقى في بعض مفاصلها واحدة من متبنيات القادة العسكريين اللاحقين في الحكم (بعد انقلابين عسكريين) لتعمل بوتيرة ابطأ قطعاً. اذ اعتمدت حكومة الرئيس عارف العسكرية في العام 1964 القانون رقم 100 او غيره في اجراء متطرف غير مدروس عبر عمليات التأميم للمصالح الاقتصادية من راس المال الوطني بغية زيادة دور القطاع العام في المجالين الصناعي والخدمي. ففي تموز من العام 1964 قامت الحكومة بإجراء غير مسبوق يحاكي الانموذج المصري الناصري، بتأميم 27 شركة صناعية وطنية منتجة مملوكة للقطاع الاهلي، اضافة الى تأميم المصارف وشركات التامين وغيرها. الا ان الاجراء إملاءاته السياسية الخارجية غير المدروسة ادت الى تدمير التراكم الرأسمالي الوطني ومن ثم هروب رؤوس الاموال المتبقية الى الخارج مع تراجع في القطاعين الصناعي والزراعي بسبب تردي الادارة والانتاج والانتاجية العامة. وبهذا وعلى خلاف الموديل الاقتصادي القياسي لثورة 14 تموز الذي من خلاله طورت الدولة القطاع الصناعي بشقيه العام والخاص، الا انها قوضت القوى الريعية الاقطاعية والمصالح النفطية الاجنبية بالقانونين 30 و80 لسنتي 1958 و1961 على التوالي. في حين نجد ان الفترة اللاحقة من الحكم العسكري قد انقضت على تقويض الصناعة الوطنية وتدمير راس المال الوطني بالغالب، وعاملته معاملة الاقطاع بل اشد في موضوعي التملك والتعويض.
واخيرا، مثلما رحل الزعيم عبد الكريم قاسم رمز الثورة واقامة النظام الجمهوري، رحل عادل شعلان، رمز الطاقة البشرية وأيقونة العقل العراقي.. ولكن أمل الثورة الدائمة لن يرحل.