أيار 18
 
 
خلال شهر حزيران 2000، حل الشاعر الكبير مظفر النواب ضيفاً في مدن: لوند وستوكهولم ومالمو السويدية، حيث نظمت له فيها العديد من الأمسيات. وقد جرى للنواب تكريم وحفاوة يليقان بمقامه ومكانته كواحد من مبدعي الشعب العراقي الكبير. وقد اغتنمت الفرصة، وأجريت مع النواب مقابلة مصورة لـصالح جريدة “طريق الشعب” في ستوكهولم. وبسبب حجم المادة نشرت “طريق الشعب” قسما منها فقط في عددها رقم 2، السنة 66، أيلول 2000 تحت عنوان “مظفر النواب: وطني علمني أن اقرأ كل الأشياء وأن أتمسك بقناعاتي”. وها أنا ذا وبعد هذه السنوات الطويلة، اخص “الثقافة الجديدة” كي تنشر القسم الأكبر وغير المنشور من تلك المقابلة.
 
المقدادي: شرف لي ان التقي وأحاور باسم “طريق الشعب”، شخصية مبدعة فذة، وأيما إبداع، أصيلة وعظيمة في اَن، كشخصية شاعر الشعب مظفر النواب-المثقف والمناضل، الاديب، والشاعر، والرسام، والمبدع، راجياً ان يتسع صدرك لحوار سياسي، فانا لست أديبا..
 
الطفولة وتأثيرات البيئة المحيطة
 النواب: فيما يتعلق بطفولتي: ولدت في بغداد، عام 1934، في بيت يطل على النهر، كبير، تمر به كل المواكب الذاهبة الى كربلاء، برجالها وخيولها، حاملة المشاعل والرايات والشعائر، بالوانها المختلفة، والنساء بملابسهن السوداء، تصاحبها الاشعار والتراتيل، والبكاء والعويل، الخ. وكانت تجري في باحة البيت الكبير ما يسمى بـ”التشابيه”- تمثيلاً لواقعة كربلاء.. كل ذلك أثر، بالتأكيد، عليّ وأنا طفل دون ان أعي. فلكل تلك المشاهد والصور تأثيرها على اللاوعي، بما تصنعه من غنى في الرؤية، مشاهد وألوانا ومشاعل، ومن غنى في حاسة الشم، رائحة الزهر، وماء الورد، والمسك، والنساء، والرجال، وغير ذلك، ومن غنى في حاسة السمع، بما تسمعه من اهازيج وتراتيل وردات شعبية، تجعل من الانسان، منذ نعومة أظافره، يتموسق، ويكون مدوزناً.. وفعلاً أنا اكتب الشعر بوزن، وما الى ذلك، لكنني لا افكر بالوزن نهائياً، بل هو يأتي عفوياً، وقد تحصل بعض الزحافات، فانتبه اليها وأعيد كتابتها..
في ذلك البيت الكبير، وبيوتات عديدة، مجاورة له، كانت هنالك اجواء اخرى، ومنها ان العائلة تلتم في نهاية كل شهر، في حفل خاص بها، يتخلله عزف على البيانو او على الكمنجة. كان جدي يعزف على القانون، ووالدي يضرب على العود، ووالدتي - على البيانو، وخالي يجيد العزف على الكمنجة. وكل هذا ساعد ايضاً في نشأتي. كما هناك تأثير اللوحات، المعلقة على جدران البيت، والمنحوتات، والتحف الثمينة، والسجاد، والبسط ذات الالوان الزاهية.. كانت عائلتي عائلة ارستقراطية، موسورة، قديمة، تتذوق الادب والفنون والموسيقى.. لكنها كانت، كذلك، تحمل معها النفي السياسي المستمر. فهي- كما نُقل الينا- هاجرت من الجزيرة الى العراق، واستقرت في العراق فترة، لكنها غادرته الى الهند نتيجة للاضطهاد الذي تعرضت له، وحكمت هناك، في فترة ما، المقاطعات الشمالية، تقديراً لسمعتها وشروف نسبها. بعد إستيلاء الانكليز على الهند قاومت الاستعمار البريطاني، وبعد قمع المقاومة الوطنية نفيت مرة اخرى، ولجأت الى موطنها القديم – العراق- وحيث العتبات المقدسة، واستقرت في العراق.. فتجد هناك إرثا من الرفض والكراهية للاستعمار الانكليزي بسبب من النفي المستمر والمعاناة. وكل هذا يروى في البيت على مسامعنا، منذ اصغر الصغر، في الاحاديث اليومية، لاسيما في الليل عندما يلتقي افراد العائلة، كباراً وصغاراً، على سطح الدار ايام الصيف، فنما وتطور معنا، ورافق حياتنا على الدوام..
وثمة اجواء اخرى ساعدت هي الاخرى..صحيح ان بيتنا كان بيتاً كبيراً، لكنه كان يقع في منطقة شعبية، في جانب الكرخ، مقابل سراي الدولة القديم، حيث موقع ساعة بغداد القديمة.. وبجانب البيت تقع مدرسة الكرخ للبنات. وكانت الصبايا يأتين من المدرسة الى بيتنا، مع أخواتي وبنات عمي وغيرهن.. هكذا عشنا، منذ الطفولة، جواً متفتحاً، فيه اختلاط الجنسين، ولا وجود للتزمت، رغم التزام العائلة بالشعائر الدينية، وطقوس عاشوراء، والسبايا، وغيرها، التي تجري في نفس البيت.. كان بيتنا خالياً من اجواء التزمت إطلاقاً.. إضافة الى هذا، هناك الاجواء الشعبية في المنطقة، بما فيها من أعياد، واهازيج، ودواليب الهوا، والمراجيح، والردات الشعبية.. وكل هذا جعلنا نشب ونتعايش في اجواء وذاكرة تراثية، ترسخت فينا، ونمت وتطورت معنا..
 
أولى المشاركات في النضالات الجماهيرية والمضايقات
 النواب: درست في مدرسة الفيصلية الابتدائية، وهي قريبة من بيتنا، ومن السكة الحديدية التي كانت تصل الكرخ بالكاظمية. وأنهيت الدراسة المتوسطة في متوسطة الكرخ، والثانوية في ثانوية الكرخ ايضاً. وفي وقت مبكر شاركت في المظاهرات الطلابية، وفي وثبة كانون 1948، التي إنطلقت ضد معاهدة بورتسموث، مع انني كنت يافعاً.. وشاركت ايضاً في إنتفاضة تشرين 1952.. وشهدت مبكراً، ايضاً، إطلاق الرصاص على المتظاهرين.. كانت الدعوة الى المشاركة في المظاهرات الجماهيرية تاتي الينا عن طريق اتحاد الطلبة. وفي وقت مبكر ايضاً، كانت لديّ إطلالة على النشاط الذي يقوم به الشيوعيون العراقيون، من خلال النشاط الطلابي. ولم أكن شيوعياً منتمياً، بل كنت أنشط من خلال الحركة الطلابية، وحركة الشارع العامة.
درست في كلية الآداب في باب المعظم ببغداد، وكنت طالباً فيها ابان انفجار إنتفاضة 1952، وشاركت فيها.. بعد الانتفاضة فوتحت بالانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي، لكنني كنت، في البداية، متردداً بالانتماء، متصوراً ان من ينخرط في سلك حياة حزبية لا بد ان يكون شديد الالتزام، معتقداً، اَنذاك، بانني لست قادراً على ذلك الالتزام، فبقيت صديقاً للحزب، مفضلاً ان اكون قريباً منه ومن بقية الاحزاب الوطنية.. عقب قمع الانتفاضة القيّ القبض عليّ مع مجموعة كبيرة من زملائي، وفصلنا من الكلية، وكانت المجموعة تضم طلاباً وطالبات، من ضمنهن سافرة جميل حافظ - زوجة الشهيد محمد حسين ابو العيس، فيما بعد - ووديعة طه النجم، التي اصبحت دكتورة فيما بعد.. هنا لا بد من ذكرٍ بشيء من الطيب لعبد العزيز الدوري، رغم كل ما يقال عنه. كان عميداً لكلية الآداب، فلم يوافق على فصلنا من الدراسة، ورغم فصلنا كنا نداوم، ولم يعترض على ذلك، ولم يمنعنا، بل والفضل يعود له في إلغاء فصلنا، الذي تم بعد ان قابل الوزير خليل كنه بشأن ذلك.
بعد ان  تخرجت من الكلية، رفضت السلطة تعييني، معتبرة اياي شيوعياً، بينما كنت صديقاً للحزب الشيوعي العراقي، ولم اصبح بعد عضواً فيه. في ذلك الوقت جرت إنتخابات البرلمان العراقي، وشاركت الجبهة الوطنية فيها، وكنا ننشط في هذا المجال. وجاءت حكومة فاضل الجمالي لامتصاص النقمة الشعبية السائدة، فقاموا بتعييننا. وعينت شخصياً في المسيب، وكان معي مجموعة من المدرسين، شيوعيون منتمون للحزب. فقمنا بنشاطات عديدة مع الطلبة، وكانت هنالك حركة، وكان لنا تأثيرنا السياسي عليهم، وان لم يكن تأثيراً مباشراً، من خلال علاقتنا الطيبة بهم، وتدريسنا لهم على نحو جدي وحقيقي، ومن خلال عملنا. وكان معروفاً لهم باننا يساريون وتقدميون.. بعد نحو 6 أشهر قامت السلطة بفصلنا، انا و3-4 مدرسين اَخرين. وبقينا عاطلين عن العمل لغاية قيام ثورة 14 تموز..
بعد الثورة عدت للعمل، وعينت مديرا لتربية الكرخ، ثم مسؤولاً عن النشاط الفني في وزارة التربية والتعليم، الذي كان محدوداً، فأتاحت لي الوظيفة الاخيرة فرصة دعم الموهوبين والاهتمام بهم وتشجيعهم على مواصلة اختصاصاتهم وتطويرها.
 
اللقاء بسلام عادل ومقاومة انقلاب شباط الاسود
 النواب: في تلك السنوات أتذكر مناسبتين مهمتين، إلتقيت خلالهما بالشهيد سلام عادل. الاولى- خلال مؤتمر كرس لنشاط الشيوعيين في العمل الديمقراطي ( في إتحاد الشبيبة، اتحاد الطلبة، رابطة المرأة، وغيرها) كان حاضراً فيه.. وإلتقيته، مرة ثانية، وكان معه المرحوم صالح دكله. وكان ذلك في مكتب الشهيد سعيد الخفاجي (وهو اول محامي شيوعي استشهد بعد ثورة 14 تموز) الذي تحول الى احد مقرات الحزب.. كان الوضع اَنذاك يهدد بصدام مع السلطة، وكانت قد جرت إغتيالات ضد الشيوعيين، وجرى توزيع سلاح ضد الثورة.. فكنت شاهداً على حديث مهم جرى بين سلام عادل ودكله- لا مجال هنا للخوض في تفاصيله ..
ابان إنقلاب شباط 1963 قاومنا الانقلابيين بالحجارة، لكوننا لا نملك السلاح. وهذه قصة، يطول الحديث حولها. قاومناهم بكل ما نستطيع، وكنت ساعتها في ساحة التحرير، ولم أكن في الكاظمية - أشير الى ذلك لأنهم زعموا، أثناء محاكمتي، فيما بعد، بأنني قتلت شرطياً في الكاظمية، وأتوا بشهود زور، اطلوا من شباك زنزانتي، قائلين “هذا هو القاتل”.. بعد سيطرة الانقلابيين على بغداد، اختفيت، مع مجموعة من الشيوعيين، في بيت صديق. لم يكن اهله شيوعيين، وكانت الظروف صعبة جداً، خصوصاً وان بيانات الانقلابيين تدعو علانية الى تصفية الشيوعيين، وكل من يخفي احدهم.. بعده اختفيت في بيت اَخر- لعامل فيترجي، عرفني عليه صديق، ولم يكن شيوعياً أيضاً، لكنه كان إنساناَ رائعاً، مثالاً للود والشهامة والشجاعة.. ثم تركت بغداد الى البصرة، متنكراً بزي فلاح، ووصلت الى شط العرب، الى منطقة تسمى “بستان سيد حميد”، ومن هناك غادرت الى إيران، برفقة مهرب، سالكين طريقاً صعباً للغاية، معظمه طيناً، وكانت تطاردنا سيارات مسلحة، نجونا منها باعجوبة.. إنها قصة طويلة، تنطوي على تجربة مريرة، سجلتها في قصيدة “وتريات ليلية”..
 
الوصول لحدود الاتحاد السوفيتي والاعتقال وحكم الإعدام
  النواب: أتذكر عندما وصلنا قرب الحدود أوصاني الدليل: عند وصولك لـ “الصبات” ستجد ان نفط العراق (ويقصد نخيل العراق) سيختفي، عندئذ “تضع” نفط ايران عند حاجبك الايمن، وبذلك لن تتيه. وعندما وصلت الى الحدود بكيت، مدركاً، لحظتها، ان الغياب عن العراق سيطول..
واصلت المسير لوحدي، ووصلت الى بيوت مهربين اَخرين، أطعموني، ومن ثم قاموا بايصالي الى القطار، الذي أوصلني الى طهران.. وفي طهران التقيت بمجموعة من العراقيين، وقام قسم منهم بمحاولة إيصالنا الى حزب توده، إلا ان الحزب كان مضروباً ويعاني من قمع شديد، وجرت لنا اتصالات عديدة - مع توده، ومجموعة “مردوم”، وتنظيمات مختلفة، حتى أن بعضها تبين ان الاجهزة الامنية شكلته واطلقت عليه اسماء “شيوعية”.. وفي الاَخير صرنا مع مجموعة يسارية ساعدتنا في الوصول الى حدود الاتحاد السوفيتي.. استقلينا سيارة لهذا الغرض، وكان من المقرر ان اكون ضمن المجموعة الاولى، لكنني تنازلت عن دوري للمرحوم فريد الاحمر بناء على طلبه (وهو محام عراقي دافع عن الشيوعيين)، فوصلت الى باكو سالمة. وسافرت مع المجموعة الثانية، لكن أمرها انكشف، وتم إلقاء القبض علينا من قبل السافاك الايراني، في منطقة قريبة من الحدود، اسمها  “اردبيل”، فارجعونا الى طهران، وهناك تعرضنا الى تعذيب وحشي..
كانوا يريدون الاعتراف باننا عراقيون كي يسلموننا الى السلطات العراقية، بينما كنت مصراً بأنني ايراني.. فكانوا يقولون: كيف انت ايراني ولا تعرف اللغة الايرانية، فاجيبهم: انني من مناطق الجنوب التي تتكلم العربية.. لم يصدقوا..
وبعد ان يأسوا من الاعتراف، رمونا في المعتقل لفترة من الزمن.. هناك تعرفت على العديد من العراقيين، وكان عددنا بين 100 و 150 شخصاً.. وهناك فكرنا ان نحفر نفقاً لنهرب، إلا ان قسما من المجموعة تردد، دون تبيان السبب، فلم تتم المحاولة.. ثم سلمتنا السلطات الايرانية الى السلطات العراقية. فقامت الاخيرة بنقلنا الى البصرة، وفي البصرة تم عزلي عن البقية، ومن ثم نقلوني الى العمارة - بحجة ان ليّ نشاطا سياسيا في الاهوار، ولم يكن لي أي نشاط فيها. كل ما في الامر كنت قد زرت الاهوار في العهد الملكي، ومرة او مرتين بعد ثورة تموز، للتمتع بجمالها وللتعرف على ناسها. اعتبروا ذلك نشاطاً سياسياً.. ومن العمارة نقلوني الى بغداد.. وفي بغداد حوكمت من قبل المحكمة العرفية، محاكمة صورية، وحكموا عليّ بالاعدام.. فيما بعد، وعلى اثر المساعي التي بذلت من قبل اهلي وأقربائي، لإنقاذي من حبل المشنقة، خففوا الحكم الى المؤبد .. عائلتي معروفة من قبل الجميع، فذهبت الى المسؤولين، والى المدعي العام، والحاكم، الذي قال لهم: نحن لا نريد منه شيئاً سوى شتم الحزب الشيوعي.. وفعلاً، في المحكمة نادى عليّ اول واحد من بين 112 متهماً، طالباً ان أشتم الحزب، وكان متصوراً أنني ساقوم بذلك، وأؤثرُ على البقية، لكنني رفضت. فقال: طيب لا تشتم الحزب الشيوعي، إشتم الاحزاب السياسية. فأجبت: نحن لا نشتم الاحزاب السياسية. فصاح:” روح، اعدام !”.. فيما بعد خفف الحكم الى المؤبد، وحكم عليّ، خارج المحكمة، في غرفة جانبية، بالسجن 3 سنوات إضافية على قصيدة “البراءة”.
 
في سجني “نقرة السلمان” والحلة.. والنفق والهروب
 النواب: بعد الحكم نقلوني الى سجن “نقرة السلمان”، حيث قضيت فيه 3 سنوات.. بعدها نقلوني الى سجن الحلة.. وهناك، حفرنا، في عام 1967، نفقاً للهروب، بدايته في الغرفة المظلمة من السجن.. أنجزناه بفترة خيالية - تقديرات السلطة تقول “لا اقل من 6 أشهر، وبمساعدة من الخارج”، بينما لم يتجاوز العمل اكثر من 30 - 38 يوماً، وبدون اية مساعدة من الخارج، علماً بان العمل أُنجز بسكين مطبخ واحدة.. كان المخططون للعملية 4، والمنفذون للحفر تم اختيارهم على اساس التجربة في السجون الاخرى.. كان العمل يجري ليل نهار، وكان علينا التخلص من تراب بحجم نحو 37 متراً مكعباً.
المقدادي: كيف تخلصتم من هذه الكمية الكبيرة؟
النواب: قصة طويلة.. المهم تخلصنا منها. وبعد عمل شاق ومضن أنجزنا العملية.. عند تنفيذ عملية الهروب حصلت إشكالية، اساسها الخلافات بين “القيادة المركزية” و”اللجنة المركزية”، حتى وصل الامر حد الصياح، وكادت العملية ان تنكشف للسجانين، خصوصاً وكل يوم يجري تفتيش للسجن، علماً بان احداً لم يساعدنا من الخارج، لا من “القيادة المركزية” ولا من اللجنة المركزية.. تصدى لعملية التنفيذ المرحوم حسين سلطان والمرحوم صاحب الحميري، بحجة ان عملية الهروب ستؤدي الى مذبحة، فكان ردنا باننا لسنا مستعدين للبقاء في السجن مقيدين، بل نريد الخروج للعمل، ولن نجلس في البيوت.. وبعد مفاوضات طويلة تم إتفاق الطرفين على خروج مجموعة من السجناء. وأُعدت قائمة باسماء 21 - 22 سجيناً من الطرفين. وإتفقنا ان تخرج اولاً مجموعة الاربعة الذين حفروا النفق، ثم الاربعة المخططين للعملية، كي لا ينكل بهم. واخترنا المهددين بتنفيذ الاعدام بهم، ومن ذوي الاحكام الثقيلة.. عند الخروج حصلت ربكة.. فالشخص المسؤول عن توزيع الهويات، المزورة، باسماء جنود، خرج ونسي توزيعها (إسمه حافظ رسن، افلحت السلطة باعتقاله، فيما بعد، وإسقاطه، وصار يتعاون مع اجهزتها الامنية). والمسؤول عن توزيع النقود خرج ونسي هو الآخر توزيعها على المجموعات التي ستهرب.. قررنا ترك باب غرفة النفق مفتوحاً لكل من يريد الهرب، بعد هروب جميع من اتفقنا على هروبهم، وكلفنا الاخ ابو حسام - الموجود حالياً في السويد - مسؤولاً عن غرفة باب النفق، للتغطية على عملية الهروب، وكان معروفاً بشهامته وشجاعته، ولم يبق على محكوميته سوى سنة واحدة، وفعلاً ظل ماسكاً الباب حتى هرب الجميع.. كان النفق ينتهي في ساحة كراج السيارات المجاور للسجن، وقد إتفقنا مع عدد من العوائل، أثناء زيارتها لذويها، ان تجلس في الكراج، عند مكان معين، للتغطية على عملية الهروب.. أثناء المفاوضات الطويلة والمريرة، تأخرت ساعة التنفيذ، وسافرت العوائل، بعد إنتظار طويل، معتقدة ان العملية لم تنفذ.. حارس الكراج تعود عند خلو الكراج من المسافرين، ان يجلس، مع اطفاله، في باب الكراج.. أثناء جلوسه، والكراج خالياً من المسافرين، كان يمر عليه كل شوية واحد: “سلام عليكم!”، فيرد عليه: “عليكم السلام!”.. سلام عليكم! ..عليكم السلام !.. وفي لحظة إنتبه الى كثرة المارين عليه، وعاين حوله، فلم يعرف من اين يأتون، فارتعب، وراح يصيّح خائفاً.. عندها إنتبهت الربايا، والشرطة في المنطقة، وانكشفت العملية.. ولكن بعد ان هرب الجميع..
المقدادي: هل ألقي القبض على احد من السجناء الهاربين ؟
النواب: نعم، واحد فقط، في مكان اَخر، في المسيب، وكان بسبب عدم معرفته بالمنطقة.
 
الكفاح المسلح
 النواب: بعد هروبي وصلت الى بغداد، مثلما وصل الاخرون الى الاماكن التي كان من المقرر وصولهم اليها.. إختفيت في بغداد فترة من الزمن.. بعدها، وكنا نهيئ للكفاح المسلح في الجنوب، ذهبت الى مناطق الغراف والحي، في ريف الكوت، وقمنا بتشكيل وحدتين، الاولى في الجبايش، بالناصرية، والثانية في ريف العمارة، كبداية لبناء حركة مسلحة ولخوض حرب عصابات.. أشير، للحقيقة، كان ثمة خلاف على القضية، ودار صراع حولها، محوره: هل القيام بانتفاضة ضد السلطة يبدأ من الريف، ام من داخل بغداد..؟
المقدادي: ما هو موقفك في الصراع المذكور؟
النواب: كان لي موقفي المعروف.. المهم ان تجربة الكفاح المسلح كانت، بالنسبة لي، تجربة قيمة، رغم الضربة الشرسة التي وجهت لها، والعوامل العديدة التي ساعدت على اجهاضها.. بعد ضربها طرحت السلطة برنامجها الوطني، وطرحت الاحزاب السياسية برامجها الوطنية، وجرت حوارات معها. كانت “القيادة المركزية” خارج موضوع الحوار، وكانت تسعى، بنفس الوقت، لبناء جبهة مضادة للسلطة - من بعض القوى السياسية الاخرى.
في تلك الفترة بالذات، تمت تصفية إثنين من الذين كانوا يعملون مع “القيادة المركزية”، أفلحت السلطة بإسقاطهم مع اَخرين، واجبرتهم على العمل مع اجهزتها الامنية، من بينهم جبار كردي. أعتقد، ولست متأكداً، لا املك معلومات موثقة، لكوني كنت اَنذاك اقود خطاً اَخر في بغداد، ولم اكن في الخط العسكري، أن “القيادة” هي التي قامت بالتصفية.. فإرتعبت السلطة من العملية، وشنت هجوماً واسعاً.. على اثره تم إعتقالي، وكان ذلك في عام 1969، وكنت وقتها مدرساً في ثانوية المنصور، التي عينت فيها بعد العفو العام عن السياسيين المعارضين، ولم يمض على تعييني سوى بضعة أشهر.. أخذوني الى الامن العامة، ووضعوني في الانفرادي.. في ذلك الوقت اعدموا كل المجموعة التي كانت في “القيادة المركزية”، ما عدا ثلاثة: سامي احمد (ابو امير، الذي كان عضو لجنة التنظيم معي في سجن “نقرة السلمان”، وكان موقفه جيد جداً). وشخص اَخر - أبغض ذكر اسمه، يعمل مع السلطة الآن، ومنذ فترة طويلة. والثالث هو أنا.. قضية إطلاق سراحي قضية يطول الحديث فيها. ذكرتها لمؤلف كتاب “عراق 8 شباط 1963- من حوار المفاهيم الى حوار الدم - مراجعات في ذاكرة طالب الشبيب” د.علي كريم سعيد، وقد ثبتها في الكتاب، عن دور علي صالح السعدي في إطلاق سراحي، بعد المساعي التي بذلتها عائلتي.
لم يدم توقيفي في الامن العامة سوى ثلاثة ايام، بعدها جاء مدير الامن، واسمه ابو عروبة (حامد العاني) شخصياً، واعتذر لي.. بعد ذلك طلبني صدام حسين للقائه في القصر الجمهوري، ولم يكن لديه اَنذاك منصب حكومي، فقط منصبه حزبي. استقبلني بود و ترحاب، وجرى حديث طويل بيننا، ولجلستين.. سُجل الحديث كاملاً - اتمنى ان يكون موجوداً.. خلاله عبرت عن موقفي بكل وضوح.. من بين الحديث، قال: كنا نطلب قصيدتك “البراءة” لكنك ترفض ان نحصل عليها.. وسألني: لماذا “القيادة” لا تتفق معنا، ونحن الآن بصدد بناء جبهة مع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وفلان وفلان منها كانوا عندي هنا؟.. أجبته: هذه قضية تخص حزبكم وحزبهم (على اساس ان لا علاقة لي باي حزب). فقال: طيب، دعني اسمع رأيك الشخصي بنا – أنت مظفر النواب وأنا صدام حسين.. هل عندك ثقة بنا؟ قلت: لا !.قال: شلون ما عندك ثقة، وليش؟! قلت: بسبب التجربة الدامية في شباط 1963.. قال: طلّعنا نقد ذاتي.. قلت: اطلعت عليه، ولكنكم كررتم ذلك في ساحة السباع، وألقيتم المسؤولية على “القيادة المركزية”، متهمين إياها بإطلاق الرصاص، بينما “القيادة” لا علاقة لها بالموضوع إطلاقاً… على اية حال، أدركت، أثناء الحديث، “انها قصة لا تنتهي”، مع انه كان، وللحقيقة اذكر ذلك، برغم موقفي الواضح، دمثاً، مبتسماً، طيلة حديثه معي.. في ختام اللقاء قال: اريد ان تتكرر لقاءاتنا. عندئذ سألته: هل أنا رهينة بايديكم؟ في العهد الملكي لم أحصل على جواز سفر، وفي ايام عبد الكريم قاسم، وايام البعثيين وعبد السلام عارف، ذات الشيء.. فقال: لا، نحن لا نأخذ رهائن. ثم سألني: لماذا تريد السفر؟ قلت: لاطبع ديواني “للريل وحمد”. فقال:نحن نطبعه، ونوزعه داخل العراق، وبالكمية التي تريدها. قلت:لا، الإطلالة من بيروت تختلف. فسألني: وكم ستبقى في بيروت ؟ قلت: اسبوع واحد، لا اكثر..عندئذ عبر عن تفهمه لوضعي، حيث لم أطلع للخارج منذ فترة طويلة.. وأتصل تلفونياً، وتم تجهيز الجواز فوراً. وحال استلامي له ذهبت للخطوط الجوية، وحجزت تذكرة، وغادرت العراق في نفس اليوم، مقرراً عدم العودة..
 
في لبنان وسوريا
  النواب: سافرت الى بيروت، وكان ذلك في اواخر عام 1969، وبقيت فيها حوالي 6 أشهر، قضيتها في بيت المرحوم بلند الحيدري، صديقي العزيز، الذي أحبه كثيراً.. في احد الايام طلب بلند ان ارافقه وزوجته في زيارة قصيرة الى سوريا. فرفضت، قائلاً: هناك حزب البعث يحكم ايضاً. فقال: الامر يختلف!.. وأقنعني، فذهبنا صباحاً، وعدنا مساء.. عند الحدود منعت من دخول لبنان مجدداً، بالرغم من تجديدي لإقامتي لدى الامن العام اللبناني. وراحوا يحققون معي: كيف دخلت، وكيف خرجت.. ثم أرجعوني الى سوريا..
في سوريا قررت ان لا ابقى طويلاً، فنزلت في فندق رخيص، بالمرجا، لكوني لا املك مبلغاً كافياً، لحين إستلامي مبلغاً اَخر. وكان يفترض ان ابقى يوماً واحداً، إلا ان وصول المبلغ تأخر. عندها لم أغادر الفندق إلا لتناول وجبة طعام، خشية ان يراني احد يعرفني.. في اليوم الرابع او الخامس، وكنت قد رتبت شنطتي إستعداداً للسفر في اليوم التالي الى تركيا، خرجت أتمشى، بعد ان مليت الجلوس، فلمحني احد طلبتي، من البعثيين، فخبر عني. وفي صباح اليوم التالي، وبينما كنت في غرفتي، حدث دق على الباب شديد ومزعج، ففتحت الباب، وإذا بصاحب الفندق يسأل: ماذا فعلت؟ قلت: لم افعل شيئا!.. ماذا حصل؟ قال: الدنيا مقلوبة، والسيارات تحوط المنطقة وجاية عليك. فقلت: نفس ما يجري في العراق!. فقال: تفضل معي! أجبته: لا، أنا هنا في غرفتي فليأت من ياتي لاعتقالي.. وجاءوا.. لكنني فوجئت بتصرف اَخر تماماً - فيه ود، واحترام.. كانوا سوريين، وبعد السلام والترحاب، قالوا: نحن مرسلين من قبل الدكتور نور الدين الاتاسي (كان في وقتها رئيساً للجمهورية)، ومن غير المعقول ان تنزل في فندق وأنت في بلدك ووطنك، والرئيس يدعوك لاستضافته في القصر. فابديت شكري لتلك الالتفاتة، لكنني اعتذرت عن قبولها، قائلاً انني انوي السفر الى تركيا. فقالوا: براحتك. وغادروا..في اليوم التالي جاءني وفد من الحزب – من قبل الدكتور يوسف زعين، وهو شخص أحترمه وأحبه وأعرفه من قبل ايام الحرب، ولدينا ذكريات جميلة، دعاني لزيارته.. لبيت الدعوة، وأُستقبلت، من قبل القيادتين القومية والقطرية، بحفاوة، وهناك سألوا: لماذا تذهب الى تركيا، بينما هنا بلدك، وبإمكانك أن تعيش مطمئناً، وحيثما تريد، وحالك حال الناس الآخرين.. فوافقت، واستأجرت بيتاً، بالاحرى قبواً، سكنت فيه.. وتدريجياً تعرفت على عدد كبير من الناس، وحضرت العديد من الامسيات..كان الناس يعرفونني، خصوصاً في المنطقة الشرقية من دمشق، حيث يرددون قصائدي الشعبية بكثرة، خاصة التي غناها ياس خضر، وغيره، وهم يحبون اللهجة العراقية. ويوسف زعين بالذات لهجته عراقية، ينطقها وكأنه عراقي..
 
في السودان وإريتريا وظفار
 النواب: في سوريا بقيت فترة غير قليلة، ومنها غادرت الى القاهرة، حيث عشت فترة، ومنها غادرت الى  السودان، وتعرفت على ناسه، ومنه غادرت الى اريتريا، وبقيت مع الثوار الاريتريين حوالي 3 أشهر، وكانت تجربة مهمة لي، تعرفت خلالها على طبيعة تلك الحركة، ونشاطاتها، وعلى الطبيعة هناك، تلك الطبيعة البكر، التي مر بها القليل من الناس.. اتذكر، عندما كنا نختبئ، عند سفح الجبل وتحت الاشجار، كي لا ترانا الطائرات، كانت الحيوانات تقترب منا ولا تخاف الناس.. إنها طبيعة بكر، حية، تشعرك وكأن لديك معها لغة مشتركة، مع الاشجار والصخور، كأنك تحاورها.. تلك المعايشة جعلتني افكر ان شجرة المدينة ميتة، مسممة، لا لغة ولا حوار معها.. وقد مريت في اريتريا بتجارب كثيرة، عكستها في مذكرات يومية، لازلت أحتفظ بها. كما وحاولت، ان اترجم، بمساعدة ثوار جيش التحري الاريتري، بعض القصائد من الارترية الى العربية. لديّ العديد منها، لم تنشر بعد، وهي قصائد جميلة جداً، تجسد أدب مجتمع رعوي، هو من المجتمعات المماثلة القليلة جداً الباقية حتى الآن.
من هناك غادرت الى ظفار، ووصلت تقريباً الى “خط هوشي منه”، وهو موقع الصراع بين الثوار وسلطنة قابوس. تعرفت، عن قرب، على الثوار الظفاريين، وواقع حالهم.. للاسف، ضربت مثل هذه الحركات التحررية في العالم العربي كله.. شاركت الثوار تحركاتهم، وكنا نسير كل يوم بين 16 الى 19 ساعة تقريباً، نصعد جبالاً ونهبط منها، فانخفض وزني 15 - 16 كيلوغراماً.. عند رجوعي ألقت السلطات السودانية القبض عليّ، وكانت تريد معرفة كيفية تسللي الى الثوار الاريتريين.. عندها ارسلت برقيات الى مسؤولين سودانيين، وكان قسم منهم قريبا من الشيوعيين، كنت قد إلتقيت بعضهم، فأطلقوا سراحي، واعتذر مدير الامن شخصياً لإقدامهم على ذلك العمل.. أثناء وجودي في السودان وجهت لي دعوة لزيارة جنوب السودان، فلبيتها. وكانت تجربة اخرى، ممتعة ومهمة بالنسبة لي.. طبيعة عجيبة - حياة بوهيمية. الناس لا يعملون، وهم عراة، تجد أحدهم عارياً، لكنه يضع، مثلاً، ريشة على راسه، او يتمنطق حزاماً.. خارج المدينة تجد الناس عراة تماماً.. هذه التجربة أفادتني كثيراً لمعرفة تلك الشعوب، قبائلها، حياتها، عاداتها، تقاليدها.. قسم من تلك القبائل ذات أصول عربية، يدلل على هذا المظهر الخارجي لناسها، وبعض اسمائهم.
 
محاولة اغتيال وقصف دار السكن والعيش في ليبيا
 النواب: في عام 1970 عدت من جديد الى سوريا، لكنني غادرتها إثر تعرضي لمحاولة إغتيال، حيث اطلق النار عليّ عراقي، يعمل في أجهزة مخابراتية عديدة، ومنها المخابرات العراقية (عاد الى العراق، وهو الآن موجود في احد بلدان اللجوء، أظن في هولندا).. فغادرتها الى لبنان، وهناك عشت فترة من فترات الحرب الاهلية.. وفي يوم من الايام أذاعت إذاعة إسرائيل خبر موتي أثناء قصف البيت الذي اسكنه.. فعلاً تم قصف البيت، الذي كان يقع على خط التماس، لكنني لم اكن ساعتها فيه. وقد نشرت الخبر ايضاً احدى الصحف المحلية.. بعد هذه الحادثة غادرت لبنان الى ليبيا، ملبياً دعوة سفيرها في لبنان لي، في اَخر ايام وجودي هناك، وكان قد قال لي: تفضل وشوف بلد عربي اَخر، ولا تتصور انه مثل لبنان وسوريا، ستعيش هناك بأمان، وبإمكانك ان تتحرك كما تشاء، ولن يتعرض لك احد.. وصلت طرابلس، وكان، وقتها، يعقد هناك مؤتمراً لمنظمة التحرير الفلسطينية.. في ليبيا عشت تجربة جديدة، تعرفت خلالها على الاخوان الليبيين عن قرب، والتقيت باغلب المسؤولين فيها. وفعلاً- كما وعدني السفير- عشت حراً طليقاً، رغم انني كنت قاسياً، أحياناً، في نقدي لهم..
 
في اليونان وفرنسا والباراسايكولوجيا
  النواب: من ليبيا عدت الى لبنان، ومنها سافرت الى اليونان وعشت فيها اربع سنوات، وهناك تعرفت على العديد من العراقيين، والتقيت بصديق قديم، رسام، إسمه ابراهيم الكمالي، من البصرة، لم يكن سياسياً، لكنه إنسان طيب، رآني صدفة، بعد غياب 30 سنة، واحتضنني. عندها كان معه شخصان عراقيان، لا اعرف من اين يعرفهما، الاول إسمه ابو كفاح، كان شيوعياً يوماً ما، ويعمل عامل بناء، والثاني شاب كردي إسمه بختيار. سهرنا سوية عدة مرات.. لم يبدر منهما ما يثير الارتياب، رغم حذري الشديد، لدرجة انني كنت اغير اكثر من تاكسي في ذهابي وعودتي، ولا اعود من طريق واحدة.. ومع هذا حصل ما حصل فيما بعد..
من اليونان غادرت الى فرنسا لغرض الدراسة، حيث سجلت في جامعة “فنسان” لنيل الماجستير، وعملت مع الفيلسوف الفرنسي البرفسور فرانسوا شاتيليه..
المقدادي: ما هو موضوع الاطروحة؟
النواب: الموضوع الذي إخترته هو في مجال الباراسايكولوجي - القوى الخفية في الانسان - ويتعلق بحادثة عشتها في عدن. كنت قد زرت عدن اكثر من عشرين مرة، وكانت لي علاقة طيبة بالمرحوم سالم ربيع علي. كان إنساناً طيباً، كنت ازوره كلما زرت عدن.. هناك مريت بتجربة قاسية، إضطرتني لمغادرتها، وذلك إثر موت صديق عزيز - إعتبرت نفسي مسؤولاً جزئياً عن موته. فقد أعطيته مفتاح البيت الذي أسكن فيه، وأثناء تحممه هناك حصل عطل في السخان، ودخنّ، فمات مختنقاً.على أثرها أُصبت بصدمة شديدة، ومريت بتجربة أشبه بموت سريري، قريبة للحوادث التي كتب عنها الباحث الامريكي د. مودي في مؤلفه “لايف أفتر لايف”.. ما اصابني لم يكن، عندي، موتاً، إنما هو امر غريب، حيث تحول الزمن، عندها، الى صفر، وكنت موجوداً فوق - لا اعلم اين - أما جسدي فتحت، بالاسفل، وشكله شكل ميت، وعندي رثاء لهذه الحالة: هل ما يحصل حقيقة، وهل هو أنا فعلاً.. وعندي نشوة، نشوة غير معقولة، حتى انني عندما عدت الى حالتي الطبيعية، بكيت، بكيت لكوني رجعت.. ثمة الكثير من الناس قد مروا بمثل هذه الحادثة، لكنهم لا يتحدثون عنها خشية ان يستهزئ البعض بهم، او ان يشكك بصحتها، بإعتبارها ليست معقولة.. هذه التجربة بقدر ما هي غريبة كانت مفيدة بالنسبة لي، أثرت علي تأثيراً كبيراً، وعلى الكثير من قناعاتي، ومنها لو سألتني: هل يوجد موت، اقول لك: لا! إنما هو حالة إنتقال من شكل الى شكل اَخر.. الحادثة جعلتني اتابع الموضوع، وما زلت اتابعه حتى الآن، وأسعى لإقتناء كل ما يصدر من دراسات في الباراسايكولوجيا، وفي مكتبتي حالياً اكثر من رف لهذا الموضوع.. 
بقيت في فرنسا ثلاث سنوات، وعندما قامت الثورة في إيران، ذهبت اليها - بعد جهود دامت سنتين للحصول على تأشيرة الدخول.. في ايران قمت بزيارة لبيت الإمام الخميني، وجلست معه، والتقيت باغلب المسؤولين الايرانيين، وكان بني صدر رئيساً للوزراء، الذي اصطدمت معه، في نقاش طويل، مسجل وأحتفظ به، تناول موضوع الخليج وغيره من القضايا الملتهبة.
 
محاولة اختطاف
النواب: بعد سنتين من وجودي في فرنسا مررت باليونان صدفة، والتقيت صدفة بالمدعو “ابو كفاح” المذكور، فدعاني الى بيته، وقال ان والده موجود عنده، وقد جاء من العراق قريباً، قد تجد لديه اخبار تهمك.. ذهبت معه، وعندما وصلنا المكان تبين انه كمين نصب لإختطافي.. في الشقة كان يوجد عراقي اَخر اسمه حسين - لم التق به من قبل - وشخص يوناني - أما صيدلي او طبيب.. سحبوا عليّ مسدس كاتم للصوت، وقاموا، بعد معركة معهم، بشد يديّ الى الخلف بسلك ربطوه الى انابيب التدفئة بالحائط، وزرقوني مخدراً.. وهنا عشت تجربة اخرى.. كانوا يسعون الى تخديري لنقلي الى مكان ما، دون إثارة ضجة. ويبدو انهم كانوا متفقين مع الاجهزة الامنية اليونانية.. لكن المخدر لم يؤثر بي، أو جعلته لا يؤثر.. فقد كانت قد اجريت لي في العراق عملية إستئصال الزائدة الدودية، وعند زرقي المخدر بالوريد قررت ان لا أنام، فبقيت مبحلقاً بالإنارة المسلطة على طاولة العمليات. وفعلاً لم انم، بل بقيت يقظاً، واجروا العملية، ويتحدثون معي طيلة وقتها، لكنني لم احس بالالم.. هنا فعلت ذات الشيء.. فطال إنتظارهم حتى أنام.. عندئذ أتصل حسين تلفونياً، وبإلحاح، لكنه لم يفلح بايجاد الشخص المطلوب، فقال لصاحبه انه ذاهب للسفارة، وذهب وسلم كاتم الصوت للمدعو ابي كفاح، وجلس قبالتي، مصوباً المسدس نحوي ..بعد فترة  سألني: لماذا لا تنام؟ قلت: بالعكس انا احس انني اصحو اكثر. فسأل: لماذا ؟ فأجبت: لانني عطشان.. في تلك اللحظات راح الدماغ يفكر بكيفية للخلاص، ومع العقل راح الجسم يتحرك.. مع ذهابه ليسأل اليوناني إن يستطيع إعطائي الماء، أفلحت بفك وثاق احدى يدي، وقد ساعد في ذلك ان السلك كان خفيفاً وناعماً.. سمعت اليوناني يخبره ان الماء يخفف مفعول المخدر، سنعطيه مخدراً اَخراً، فعاد ليسألني: أتريد ان تشرب كوكا كولا؟. قلت: لا بأس. عندها قررت عند عودته وتقديمه للكولا اضربه باليد الحرة و”هي موته موته .. فذهب وتأخر في الغرفة المجاورة، ويبدو انهم كانوا غير مستعدين لتحضير المخدر الاضافي. في هذا الوقت أفلحت بفك وثاق اليد الثانية، ونهضت، وتوجهت فوراً نحو الباب، ففتحته وهربت، هابطاً السلم.. لم يلحقا بي، خوفاً من الناس.. كان يوم أحد، وكانت الشوارع خالية من المارة. أشرت لسيارة مسرعة فلم تقف. وأنا اركض بالشارع وقفت سيارة تاكسي، نزلت منها عجوزتان، فرميت نفسي في المقعد الخلفي، وقلت للسائق: “سانتيغما” - المكان الذي يقع فيه فندقي.. لم يكن معي فلساً واحداً، ولا وثائق - بقيت في الشنطة، التي كانت معي أثناء إختطافي، ولم افلح بإخذها عند هربي.. وفيما أنا افكر كيف ساخلص من ورطة الدفع للسائق، وكيف سابرر فقدان بطاقة دخولي لليونان (تمنح في المطار، ويحتفظون بالجواز، الذي يعيدونه لك عند المغادرة)، لمحت باب السفارة الليبية، فصحت: عندك !.. نزلت وقلت للحارس: انا فلان، وقد جرت محاولة لإختطافي، فعرفني، وقال: إدخل!..فدخلت، وطلبت منه ان يدفع اجرة التاكسي لان فلوسي بقيت عند الخاطفين. فدفع له، وعاد ليطمئنني بانني هنا في أمان.. بعد ذلك رافقني احد موظفي السفارة الى السلطات اليونانية لتبرير سبب فقداني وثيقة السفر (بنصيحة محامي، لم نخبرها بمحاولة الاختطاف)، فاقتنعت وأعطوني جوازي وسافرت الى ليبيا، وحال وصولي عقدت مؤتمراً صحفياً، فضحت فيه المحاولة والخاطفين.. ومكثت في ليبيا..  
بعد هذه الحادثة صار لزاماً عليَّ أخذ المخاطر بنظر الحسبان.. فقبل محاولة الاختطاف، جرت محاولة إغتيالي -أشرت لها - وفي باريس، في “بلفين”، وقع إعتداء اَخر، حيث قام جلاوزة السفارة العراقية هناك، أثناء الأمسية، التي ألقيت فيها الشعر، برمي الكراسي عليّ أثناء إلقائي للشعر، وحصلت معركة، مسجلة ولديَّ، تصدى خلالها الجمهور للمعتدين، فهربوا مذعورين، ومنهم من ترك حذاءه، واخر محفظته. إحدى القصائد كانت “جسر المباهج القديمة” (اصطلح الناس على تسميتها “تل الزعتر”- المحرر)، قصيدة طويلة، معروفة، ممنوعة في البلدان العربية، اعري فيها الاوضاع السائدة، والحكام والانظمة والمواقف السياسية المشبوهة، لا سيما الوضع في العراق. 
ابان مكوثي في ليبيا، نُظمت لي العديد من الامسيات في روما ومدريد وغيرها.. كان يجري التحشيد لها، بالاعتماد على جماهير اليسار، والمعارضة الايرانية - قبل الثورة - والفلسطينيين، رداً على تحشيدات السفارات العراقية لأتباعها، الذين تستدعيهم من كل اوربا، للتشويش والتخريب.
بعد تلك الحادثة، وأنا في فرنسا، إتصل أحد القادة الفلسطينيين، الذين أعرفهم، طالباً عبر تلكس: “ يرجى توجهك فوراً الى روما، في الفندق الفلاني!”.. فسافرت، ووجدته ينتظرني، فاخبرني: ينبغي ان تعود الى ليبيا فوراً، لان السلطات العراقية ارسلت مجموعات لإغتيالك، مؤكداً انهم استدعوا المسؤولين الفلسطينيين في بغداد، وحملوهم مسؤولية خلاصي في حادثة باريس.. فعدت الى ليبيا ومكثت فيها فترة طويلة.. وفيها حضرت، كمستقل، لقاء للمعارضة العراقية، ضم 19 تنظيماً، وترك لديّ انطباعاً مؤلماً عن اوضاعها والصراعات الدائرة بينها.
في عام 1983 عدت الى سوريا، وأنا اتحرك، واروح وارجع. خلال تلك الفترة وجهت لي دعوات كثيرة، لبيتها، فزرت العديد من بلدان امريكا اللاتينية، وامريكا الشمالية، وكندا، واستراليا، وبلدان اوربا كلها، حيث نظمت لي أمسيات.. وأنا الآن متنقل، تجدني أحياناً في سوريا، واحياناً اخرى في ليبيا.
   
الإبداع والعوامل المؤثرة
المقدادي: لنعد الى إبداعك الشعري: هل تأثرت بأحد من المبدعين الذين سبقوك، وما هي العوامل التي أثرت عليك؟
 النواب: لا أعتقد انني تأثرت بشاعر من الشعراء الذين سبقوني. انما هناك تأثيرات لازمتني منذ كنت تلميذاً في الابتدائية. فقد كانت لدينا مكتبة كبيرة في البيت، كنت اعتمد عليها، وكنت اطالع كثيراً، حتى انه من شدة الافراط في القراءة، والاجهاد المتواصل، اصبت بحالة مرضية اشبه بالارتعاش، الى جانب التعب، الامر الذي اضطر والدي الى منعي لفترة من القراءة.. كنت اقرأ دواوين الشعراء القدماء، وفي المقدمة المتنبي، إلا انه ما ان يبدأ بالمديح حتى اترك القصيدة، لانني ابغض المديح. انه اكثر الشعراء، سواء من شعراء الجاهلية او الاسلام، الذين كنت اقرأ لهم. كما وأطلعت، في وقت مبكر، على ترجمات لاعمال لوركا، محتفياً بها، مهتماً بطبيعة حياته، والصراعات التي عايشها كشاعر.. مع هذا، أستطيع القول، لم يكن هناك تأثير مباشر لشاعر معين، وإنما كل ما اطلعت عليه اثر فيَّ.. على ان الاكثر تأثيراً هو تجربتي الخاصة.. التجارب التي عشتها، وكانت، بالحقيقة، غنية، بأبعادها الحياتية اليومية، والسياسية، والثقافية، وغيرها.. ولا شك ان انتمائي، أثناء خدمة الاحتياط في معسكر السعدية، الى الحزب الشيوعي العراقي، قد عمق من وعيي، وإن حصل، بعد فترة من ممارسة العمل السياسي، سواء اثناء وجودي في الحزب او في “القيادة المكزية”، اصطدام في بعض القناعات، متأتياً، أحياناً، من انها ليست حسابية. العمل السياسي عادة عمل منطقي وعقلاني (1 + 1 = 2)، بينما الشعر ليس كله عقلانياً، بل فيه جانب من اللاوعي. الحسابات اللاواعية هي، احياناً، دقيقة على نحو خطير ومخيف، وتتوصل الى استنتاجات، تأتي الايام وتثبت صحتها، بعكس القناعات الاخرى، التي اخفقت.. على سبيل المثال، عندما كنا في سجن “نقرة السلمان”، كنا ندرس كتابا، هو تقرير لنيكيتا خروتشوف عن إمكانية تحول العالم الثالث نحو الاشتراكية، ودور البرجوازية وإمكانية ان تضع تلك البلدان على أعتاب الاشتراكية، الخ.. اثبت الزمن فشلها، فلم تكن دقيقة، وكانت هذه الطروحات موضع خلاف وصدام.. مثال اَخر: في فترة ثورة تموز كنت عضواً في اللجنة الحزبية في خط المثقفين، من ادباء وفنانين. بقيت عضو لجنة قاعدية لكوني “لم استوعب” ما يدور، وأتساءل “عن ماذا تتكلمون؟!!”.. الصدامات من هذا النوع، مهما كانت صغيرة او خفيفة، تبقى قناعات.. صارت لديَّ قناعة بان التنظيم لعامة الناس ضروري، لانه من الصعب على القوى السياسية غير المنظمة ان تقود نضال الشعب وتقاوم سلطة ظالمة. إلا انه بالنسبة للفنانين لا اجد ذلك ملزماً، بل المطلوب - كما اعتقد - هو الالتزام بالخط العام، التقدمي، للحياة، وأن لا يشترط عليهم التنظيم الصارم، لان العمل التنظيمي قد يعيق الكتابة او الرسم، لحظة الابداع، او انه يؤثر، سلباً، أحياناً، وبشكل من الاشكال.. بمعنى ان يكون هناك وضع خاص للفنانين والادباء، يجعلهم مع المسيرة، مع مسيرة الحياة، ضد الردة والتراجع الى الوراء.. تلكم هي قناعتي.. وأنا مع كل التنظيمات السياسية العراقية والعربية التي مع مسيرة الحياة الى أمام.
المقدادي: قبل “للريل وحمد” ماهي الإرهاصات الأولى؟
النواب: أشرت الى ان بيتنا يقع في منطقة شعبية، فيها الاعياد والاهازيج، وفيها الشعائر الدينية والسبايا والردات، الفرح والكدر، الغناء والردات، الشعر والايقاعات..كل ذلك كان يجذبني منذ الصغر، مع بقية الصغار الموجودين في البيت. وكنت، من حين لآخر، أقوم بتأليف قصيدة، واقرأها، وأكيد كانت ضعيفة، “على كدي”.. لكنني وأنا طفل كنت اسعى لفهم النفس بشكل أولي، وأول وضع “على الاصابع” حصل في المرحلة الابتدائية. هذه الحادثة أذكرها دائما. كان معلمي، وأسمه حمدي التكريتي -  يرحمه الله- يعرف انني من عائلة معروفة بحبها للادب والفنون والموسيقى. وكان إنطباعه عني انني اكتب الانشاء جيداً. وكان درس الإنشاء اَخر درس، ولمس، ايضاً، انني خجول وارتبك أمام الصبورة. لذا كان يصرفني قبل التلاميذ. في يوم من الايام صادف ان تغير جدول الدروس، وحل محل الإنشاء درس القواعد (النحو)، وكان يختلف كثيراً عن أيامنا هذه، بغزارته وعمقه منذ المرحلة الابتدائية.. فكتب على الصبورة نصف بيت من الشعر، يقول: “قضينا ليلة في حفل عرس”، ونادى عليَّ ان اقف، فوقفت، مرتبكا، محرجاً من الخجل، فقال: إذا أكملت هذا البيت، أدعك تنصرف.. فيا للطامة الكبرى، ويا لحرجي، حرجي، وأنا لم اكتب الشعر، فقط أحفظه.. فقلت : “كأنّا جالسون بقرص شمس”.. وكانت المفاجئة.. طار صواب معلمي، انبهاراً وابتهاجاً، وراح يمادحني، وهو مندهش في اَن. ثم ذهب الى مدير المدرسة، وشرح له ما حصل.. ودق جرس المدرسة، وجمعوا تلاميذها في الساحة، وأخرجوني أمامهم، وراح معلمي يشرح للجميع موهبتي، موضحاً ان ما قلته هو من نفس الوزن والايقاع، وفيه مقاربة بين العرس والشمس، فكلاهما فيه ضوء وفرح.. وبعدها أهدوني مجموعة كتب من مكتبة المدرسة، ودعوني للانصراف، وانا في حالة ذهول..
على أثر تلك الحادثة صرت أطالع كثيراً، ورحت أكتب الشعر، على غرار ابي تمام، واقدمه الى استاذي حمدي.. لم يصدق اول الامر انه من تأليفي، لكنه، تدريجياً، إقتنع، وراح يصحح ما اكتبه.. لهذا الاستاذ تأثير كبير في إنطلاقتي الشعرية، وكذلك لاساتذتي في المتوسطة، حيث شاركت بقصائد كثيرة في النشرة الجدارية للمدرسة، حظيت باهتمامهم.. والى جانب الشعر صرت اهتم، خصوصاً في فترة الصبا، بالرسم.. واشرت الى التجارب التي عشتها والاحداث التي عايشتها في حياتي السياسية والثقافية، وثراء الواقع العراقي بالاغاني والاناشيد والاعياد ودواليب الهوا، التي تغني لك.. أتذكر ان الشهيد ابا سعيد (عبد الجبار وهبي)-رحمه الله- كتب مرة يقول: عندما كنا صغارا بالبصرة، كنا نذهب الى دولاب الهوا، وكنا نغني: “خالي وخالك باشا أعيان”، بينما نجد الآن، ابان ثورة تموز، يغني الاطفال: “صاروخ روسي بالسما”.. والفرق بين الاغنيتين ينطوي على مغزى كبير، بما فيه من تأثير كبير على الاطفال، والوعي، والقناعات.
  
ما لم تفعله قيادات
 المقدادي:  مظفر النواب، بروائع شعره، وجمالية لغته المتميزة، القريبة من قلوب ووجدان ملايين العراقيين، تألق، كعهدنا به، في أُمسية أمس، وأعاد، في لقائه بمحبيه، بعد غياب طويل، كل الحاضرين، ومنهم المُغادر، والمبتعد، والمغترب، والمهاجر، والمهجّر، وما الى ذلك، الى ربوع وطنه الام، مكبراً إباء شعبه، ممجداً ابطاله وشهداءه الابرار، مبجلاً شهامته وكرمه وطيبة أهله، مفاخراً باصالة عراقه، متغنياً بجماله وطبيعته.. مذكراً بمحنته الراهنة على نحو ابكى الشيخ والكبير والشاب، نساء ورجالاً، وبكى مع جمهور محبيه، متسائلاً: أيعقلُ ان يحصل ما يحدث لشعبنا الآن ؟!.. في أُمسية واحدة جمعت ما لم تستطع جمعه قيادات أحزاب ومنظمات وإتحادات وجمعيات عاملة وسط الجالية العراقية.. المئات من ابناء العراق وبناته، من وطنيين وديمقراطيين، واسلاميين، وشيوعيين، ومستقلين، عرباً واكراداً وتركماً وكلدواَشوريين، مسلمين ومسيحيين وصابئة وغيرهم.. مالذي يود ان يقوله شاعر جماهير الشعب لتجاوز الواقع المأساوي الراهن للمعارضة العراقية، لتخرج من حالة الفرقة والتشتت والاحتراب، لتلم شملها وتوحد صفوفها، وتعود الى العمل المشترك، الجدي والفاعل، لتقريب يوم خلاص شعبنا من ربقة الدكتاتورية الصدامية الفاشية المقيتة؟
 النواب: الذي اود ان أقوله ان على المعارضة العراقية ان تراعي قضايا أساسية، هي ضرورات. أولها- ان ينتهي هذا الرهان على الولايات المتحدة.. الولايات المتحدة هي سبب كل الاوضاع القائمة، عراقياً وإقليمياً. وكل الوعود التي وعدت، وتعد بها، كاذبة، وهي تضيّعُ على المعارضة العراقية زمناً طويلاً، يمكنها ان تتهيأ فيه لحسم الموقف لصالح الشعب، إذا ما استغلت الوضع الراهن للسلطة الحاكمة.
ثانيهما- ثمة الكثير من العراقيين الذين يغادرون العراق، وكانوا الى حد قريب مسؤولين ضمن إطار السلطة، ومارسوا أعمالاً إجرامية بحق أبناء شعبنا.. نحن لا نقفل الابواب بوجه أحد قرر ان يتراجع عن أخطائه.. ولكن يجب ان لا يتحول هؤلاء الى قياديين للعمل ثانية.. هذا لا يجوز في الوقت الحاضر.. عندما ينتصر شعبنا، وتجري انتخابات ديمقراطية، عندئذ الشعب هو الذي يقرر من يختار لقيادته. أما الآن فلا يجوز ان تجلب المعارضة أناسا من هذا الطراز وتنصبهم قياديين، بينما هناك ناس قضوا عمرهم في النضال يجري إهمالهم.
قضيتان اساسيتان ومهمتان مطروحتان: الرهان على الشعب اساساً، بدلاً من الرهان على الولايات المتحدة.. لشعبنا إمكانياته لتقرير مصيره إذا ما تظافرت جهود اطراف المعارضة العراقية وصدقت النيات.. وبدون صدق النيات لا يمكن بلوغ الهدف.. ومن المهم جداً، في المرحلة الحالية، ان يسود الحوار بين مختلف اطراف الحركة السياسية العراقية..
بالنسبة لي، انا قريب من كل القوى السياسية. واعتقد ان ذلك ضروري جداً لتقريب وجهات النظر ولمّ الصف وتوحيد العمل.. ليس لي إقرار بالخلافات الايديولوجية.. لتبقى الخلافات الايديولوجية. ولكننا بحاجة الى عمل سياسي مشترك إزاء كابوس مشترك. وما دام الهدف مشتركا فلا بد من العمل المشترك لإزالة الكابوس الجاثم على صدر شعبنا.. أتذكر عندما كان يفيض نهر دجلة، وقد تكون الخلافات السياسية، ساعتها، متأججة، وقد يصادف ان النضال الجماهيري بلغ درجة تهديد النظام الملكي.. كل ذلك كان يُترك جانباً ويتوجه الجميع لدرء خطر الفيضان باعتباره الخطر الاكبر.. حالياً ثمة في العراق خطر اكبر، اكبر من الصراعات الشخصية، واكبر من الصراعات الايديولوجية، وغيرها.. فلا بد ان نتصدى له جميعاً..
شخصياً، لم أعد أتحمل الكذبة، من أي طرف كان.. الكذبة - من كل الاطراف- مرفوضة.. كل من يأتيني، مدعياً انه ماركسي، او شيوعي، او إسلامي، او قومي، وأكتشف انه كاذب، أرفضه، ولا أحترمه إطلاقاً.. لكنني أحترم القناعات المخلصة. دائماً اكرر المثل التالي، للتدليل على إحترامي للقناعات المختلفة: كنت أرسم في بساتين الكاظمية، وعندما أعود أجلس في مقهى، على الطريق، اَخذ قسطاً من الراحة، وأشرب الشاي، مرة وانا جالس فيه مر رجل هندي، حافي القدمين، حاملاً كيساً صغيراً، توقف عندي، راجياً، إن أمكن، ان اطلب له ماء حاراً. كلمني بالانكليزية. فسألته: لماذا ؟ فقال: اريد ان اَكل. قلت: أستطيع ان اطلب لك أكلاً. قال: لا، شكراً! فقط الماء… طلبت الماء، وقدمته له.. فاخرج من كيسه خبزاً وجبناً يابسين، وراح يفتتهما وينقعهما فيه، وبدأ يأكل بشهية ولذة.. عند إنتهائه شكرني، وسألني: بأي إتجاه الطريق الى مكة؟ فقلت، مستغرباً: أي مكة؟! أتعرف اين أنت الآن؟ انت في العراق، ومكة في السعودية.. فقال:أعرف، أنا جئت من الهند، واروم الوصول الى مكة مشياً… مثل هذا الشخص أحترمه، رغم أني قد أختلف مع قناعاته، احترمه لإصراره، وجهده، وإيمانه، وقناعته، ولتنفيذه  القناعة، وصولاً  لما يريد.. وأحترم كل إنسان لديه إيمان، بغض النظر عن الاَيديولوجية التي يحملها، ويريد الوصول الى هدفه عن قناعة ودون كذب!.. بانتفاء الكذب تتذلل العقبات وتقل الإشكاليات.. تقل عندما تنتفي المصالح الشخصية- أنا اريد اصير، وهذا يريد ان يصير، والكل يريدون ان يصيروا قيادات.. ليس هناك إشكالية إذا أقر الجميع بحق الآخر.. هنا داء المعارضة العراقية!.. أقول ذلك وقد أخبرتك بانني حضرت اجتماعاً للمعارضة العراقية في ليبيا، وثانيا في سوريا - لا اريد الخوض في تفاصيلهما الان - عكسا مرارة، ووضعاً مؤسفاً..
 
دور المثقف المبدع
 المقدادي: ارتباطاً بما مرّ، ما هو دور المثقف المبدع، وما رأيك بالالتزام، وإشكالية المبدع الملتزم؟
النواب: أشرت، خلال حديثنا الى هذا الدور. ان المثقف الكاتب والفنان والمبدع مادام هو في الخط العام للحياة، ولا يعيق مسيرتها، فهو يؤدي دوره. وتمييزاً لليمين واليسار اقول ان كل إبداع يساعد على إثراء الحياة، وإغنائها، وتفتحها، ممنوحاً ومانحاً مجالاً اكبر من الحرية، هو، بتقديري، تقدمي ويساري.. أما الذي يقع في خانة الردة واليمين والرجعية فهو كل ما يعيق الحياة وتفتحها وازدهارها. هذا هو الخط العام عندي. فكل من يقف الى جانبه هو ملتزم به، يخدمه، ويساهم في تطويره. وأنا شخصياً الى جانب كل القوى التي تناضل من اجل الحرية وتسعى لتفتح الحياة.. وفي هذا المضمار لابد من فهم التراث، فهماً نقدياً، بدلاً من أخذه عشوائياً، لا سيما وان الكثير من القضايا إنتهت من التراث، ما عادت حية، بينما بقيت مسائل كثيرة حية، يمكنها ان تعيش وتستمر لزمن اطول، ضمن طبيعة الحياة وسننها.
 
الحزب والتغيير و”ميثاق الشرف”
 المقدادي: للحزب – حزبنا - كما قلتها في قصيدة لك - انت ابنه، نشأت وترعرعت وناضلت طويلاً في صفوفه.. انصهرت في بوتقته، رفعت رايته عالياً، ضحيت من اجل قضيته بنكران ذات.. تحملت ما تحملت من عذاب وآلام وحرمان.. هو في دمك، ووجدانك، شاخصاً في العديد من إبداعاتك.. اختلفت معهُ، عاتبتهُ، لِمتهُ، انتقدتهُ، وبحدة، إنما نقد بناء، إفترقت عنه.. لكنك لم تحقد عليه، لم تشمت به، لم تشتمه، لم تعادِه، ولم تتنكر له - بخلاف ما فعل الآخرون، وما اكثرهم – وما زلت تحبه، بل وتجله، وما زلت تعتبره - كما قلت في إحدى روائع شعرك - المعول عليه في نضال شعبنا.. ما سر هذا الموقف؟
النواب: الحقيقة انني فتحت عيناي على الحياة وكان للحزب الشيوعي العراقي دوره الريادي في قيادة جماهير الشعب العراقي، سواء في العهد الملكي، او بعد ثورة 14 تموز 1958.. حصلت إشكالات جعلتني ابتعد عن التنظيم، وجاءت “ القيادة المركزية”، فإنضممت اليها، وفي ما بعد تركتها.. وأنا الآن مستقل.. احترامي لتجارب الحزب الشيوعي العراقي، واحزاب سياسية اخرى، نابعاً من كونه يناضل من اجل التغيير.. والحزب أداة وليس هدفاً.. بهذا المفهوم كنت أنظر دائماً الى الحزب الشيوعي العراقي كأداة بيد الشعب العراقي للتغيير، على إعتبار ان التغيير، تطور الحياة، هو الهدف.. اختلفت مع الحزب لحصول إعاقات، وهيمنة قناعات خاطئة.. لديَّ قصيدة إسمها “ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة”- لا اتذكرها الآن كاملة، اشتملت على خلاصة لهذه التجربة، تجربة الابتعاد، وأبعاد الابتعاد..
 أما الحقد، فليس من طبيعتي ان أحقد على تنظيم سياسي وقوة فاعلة للتغيير.. لكن من حقي ان أغضب كل الغضب عندما تقع أخطاء مريرة، من الصعب وصفها الآن، مثل الجبهة مع السلطة.. كان ذلك، بالنسبة لي، عملاً لا يحتمل، لاسيما وقد سالت دماء، وسقط شهداء، وكانت نتائجه معروفة سلفاً.. أتذكر، قبل عامين كنت في دمشق، ودعيت الى مائدة إفطار في شهر رمضان، وكان الاخ رياض النعماني معي، فوجئنا ان الدعوة قد وجهت الى ناس كثيرين من مختلف القوى السياسية العراقية، وكان من بين الحاضرين طالب شبيب. بعد الافطار وأثناء تناول الشاي قدموا لنا ورقة مكتوب عليها “ميثاق شرف”، طالبين التوقيع عليها، وفيها: نحن الموقعين أدناه نلتزم بالدفاع عن الديمقراطية في العراق عند حصول التغيير وقيام النظام الديمقراطي، وإذا ما تهدد هذا النظام الديمقراطي كلمة شرف ان ننبري للدفاع عنه.. فقلت: مثل هذه القضايا لا تحتاج الى  “ميثاق شرف”، وسألت: عندما يصل احدهم الى السلطة ويتنكر لوعوده، كيف سأحكم عليه، وبمَ ألزِمه، وقد حصلت وعود ولم تنفذ؟!.. باعتقادي ان ميثاق الشرف هو تأريخ كل إنسان، تأريخ كل حركة. التأريخ والأعمال هي التي تثبت كون هذا او ذاك، هذه القوة السياسية او تلك، شريفة، ولها كلمتها، بمعنى يمكن الوثوق بها او لا.. أما التوقيع على ورقة، فانا لا أثق به كميثاق.. القضية مرتبطة بصراعات ومصالح، وغير ذلك.. موقفي الآن أنني قريب من كل القوى السياسية الشريفة، وعندما يحصل خطأ، من أي كان، يتعين ان اقول الخطأ، مثلما أقول الموقف الصحيح، مهما كانت لديَّ خلافات مع صاحبه.. وقلت: قد يكون الميثاق المطروح يعني الكتاب والفنانين، لان في العملية الابداعية جانب نسميه “استقراء للمستقبل” او نبوئي. التنظيمات السياسية لا تقبل بمثل هذا. يتعين عليك ان تسير وفق وضع عقلاني محدد. وهنا توجد إشكالية مر بها الكتاب والفنانون. أنا الى جانب ان تكون الجماهير منظمة، إذ بدون تنظيم من الصعب تغيير الاوضاع السائدة، وهذا ما تؤكده التجارب السابقة تأريخياً، ومنها تجربة روسيا، قبل تكوين الاتحاد السوفيتي، في ثورة 1905، وكيف ادى عدم وجود التنظيمات الى ذبح الحركة، ما جعل لينين يطرح التنظيم كضرورة ملحة..
الحزب الشيوعي العراقي حزب سياسي عريق، له تأريخه الطويل، وتجاربه الغنية في قيادة نضال الشعب العراقي، وجماهير العمال والفلاحين والطلبة، المعروفة بإضراباتها وتظاهراتها وانتفاضاتها. وله دوره الكبير في إنضاج متطلبات ثورة 14 تموز، ومنها التحالفات التي مهدت للثورة.. حصلت أخطاء ما كان ينبغي ان تحصل.. فاختلفنا نتيجة لوجهات نظر عديدة مختلفة، اثبت الزمن ان ما اختلفنا عليه كان خطأ..
أخذونا الى المحكمة العرفية العسكرية، وكان بين إطلاق سراحي - وأنا مهدد بالإعدام - وعدم اطلاقه، هو ان أشتم القوى السياسية، فلم أفعل، فكيف بي أن أشتم الحزب الشيوعي العراقي.. بيد أن الاخطاء التي ارتكبت كانت باهظة الثمن، ثمن شهداء، والام مريرة.. حتى موضوع “القيادة المركزية” موضوع مرير.. هناك الكثير من الامور، لا استطيع الان الخوض في تفاصيلها.. سيحين وقتها - عقب إنتصار الحركة الديمقراطية العراقية.. المطلوب الآن من الحزب، ومن القوى السياسية الاخرى، إيجاد نقاط إلتقاء بهدف التغيير. والمطلوب من كل الاطراف السياسية العراقية أن تصدق النيات. فمن دون صدق النيات يصعب العمل المشترك..
المقدادي: شكل المؤتمر الوطني الخامس للحزب الشيوعي العراقي، في عام 1993، إنعطافة تاريخية جديدة في عمله وسياسته، بإنتهاجه للديمقراطية والتجديد، اللذين عززهما المؤتمر الوطني السادس للحزب في عام 1997.. فتغيرت الكثير من الممارسات في حياة الحزب الداخلية. واليوم يتواصل نهج الجماعية والشفافية ومكاشفة قواعده وجماهيره بكل سياساته ومواقفه. وضمن النهج الجديد فتحت صحافته باب الحوار والنقاش على مصراعيه امام الاقلام الخيرة، حتى لغير الحزبيين، لإبداء وجهات النظر المختلفة، وتتقبل قيادة الحزب كافة الانتقادات والملاحظات البناءة.. وما يزال نهج الديمقراطية والتجديد بحاجة الى المزيد من الدعم والتعزيز، والى تعميق عملية المراجعة والتقييم، كي لا تتكرر الاخطاء، فلم يعد يحتمل لا وضع الحزب ولا معاناة شعبنا العراقي المريرة تكرار الاخطاء.. ويعول حزبنا على المثقفين في هذه المهمة الكبيرة..
 النواب: أأمل أن ينجز كل ذلك!
 
لا ندم و لا تشاؤم
 المقدادي: في الزمن الرديء هذا، الذي جرف تياره العاصف بكل شيء، بـ”الشين والزين”، ومن معالمه ظاهرة التنكر للماضي، بكل ما فيه من إيجابيات، وشيوع مظاهر الاحباط والانكسار والإنكفاء.. مبدعنا الكبير مظفر النواب: هل هو نادم على شيء في مسيرته النضالية الطويلة؟
النواب:  نادم او غير نادم - مسألة لا مكان لها عندي. الندم لا يفعل شيئاً، ولا يعني شيئاً إن قلت نادم او لا.. الاهم من هذا ان أسأل نفسي اين موقعي الآن، ماهو دوري، وما الذي افعله حالياً؟.. التنكر للماضي يعني مَن تنكر، ولا يخصني.. انا مسؤول عن نفسي، وعن موقفي.. الامر لا يعنيني، لانني لست نادماً على شيء، وكل ما قمت به هو تنفيذ لقناعاتي، لما كنت اريده!.. والانسان عندما ينفذ قناعاته، معناه انه يحقق وجوده. بمعنى انه وجد، وساهم، وأعطى، الخ.. ومن هنا قناعتي بان لكل جهد فردي، مهما كان صغيراً، أهميته.. هناك من يسأل اليوم: ماذا نستطيع ان نفعل حيال هذه الاحباطات، والاوضاع السائدة.. فاقول له: نستطيع ان نفعل الكثير !.. كل واحد منا قادر على عمل شيء ما، وكل عمل يقوم به الفرد، مهما كان صغيراً، هو مساهمة، والمساهمات هي أشبه بفرع، والفروع او السواقي، تصب بالانهر، والانهر الجارفة تشكل البحر..
المقدادي: بالنسبة للمستقبل: في ظل الظروف السائدة، هل انت متفائل، وواثق، من قرب يوم إنتصار شعبنا وانعتاقه من الطغاة، وإقامة نظامه الديمقراطي الحقيقي الذي يؤمن له الحرية والسعادة والاستقرار؟
 النواب: أنا بطبيعتي إنسان متفائل، لست متشائماً، رغم كل ما مررت به، وقد جابهت الموت، وكنت قريباً منه عدة مرات.. اعتقالات وتعذيب وملاحقات ومطاردة وغربة.. فقدت الكثير من أصدقائي - صفوا تحت التعذيب، او ماتوا موتاً طبيعياً.. الوالد والوالدة غادرا الحياة ولم اودعهما..و..والخ.. مع كل هذا لم أندم على شيء، بل نفذت قناعاتي خلال كل الفترات التي مرت.. والآن اواصل تنفيذ قناعاتي ايضاً.. حتى في خلافاتي، فانا انفذ قناعتي.. للانسان عقل، والشيء الذي لا يقبله عقله من الصعب ان تفرضه عليه.. بالنسبة لي لا يستطيع أي تنظيم ان يفرض عليَّ قضية لست مقتنعاً فيها. حتى في الإسلام، كدين وكأيديولوجية، يطرح موضوع العقل، وأن يحكم العقل.. يجب ان يحكم العقل بوصفه الحكم الاعلى والاكبر. فلا يجوز ان توافق على امر وانت لم تقبله عقلياً. معنى هذا انت تكذب على نفسك، وهذا غلط كبير.. عندما نضع حداً لكل السلبيات ستذلل، باعتقادي، الكثير من المشاكل القائمة.. اكرر: لست نادماً على شيء مررت به، قمت به، ساهمت به. كنت أقول في قصيدة “عودتني” المنشورة في مجموعة “للريل وحمد”، وهي خطابي للشهيد ابي سعيد (عبد الجبار وهبي)، الذي كنا نخرج سوية في الاعياد والمناسبات، وعندما لا اجده في البيت أترك له بطاقة. في القصيدة أقول:
عودتني السفن.. من تصفح إكبال الريح.. تتمزق شرعها
كتلي ما تبكه سفن..والناس يعيروها:
خشب عادي      
وإيغركها دمعها
كتلي يا سفان.. من ضلع السفينة ينكسر
كل ضلع من عدنه.. ضلعها
فمفهومي: هناك سفينة، أضلعها كل ضلع فيها، عندما ينكسر أحدها، لا بد ان يحل محله احد أضلاعنا. وهكذا خلال مسيرة حياتي، وكان هذا المفهوم في قناعتي ايضا، فاعطيت اقصى ما استطيع إعطائه، وما كنت أبخل بشيء، سواء في الشبيبة او المقاومة الشعبية، او بالتنظيمات.. كنا نعمل ليل نهار.. وكان ذلك عطاء بسيطاً ما دام الهدف سعادة شعبنا العراقي.. وبمقدار ما قدمت، ولم أندم عليه، كنت مع “القيادة المركزية”، وحملت البندقية، ونزلت الى ريف الكوت، والى الاهوار، وأنا لست نادماً على ذلك، رغم إختلافي معها حول العديد من القضايا، التي لا مجال للخوض الآن في تفاصيلها.. الوقت ليس لنبش الماضي، بل علينا الإستفادة من تجارب الماضي، وتحويل سلبيات الماضي الى إيجابيات، والبحث عن كيفية تحقيق ذلك.. الوقت الآن لتوحيد صفوف المعارضة العراقية بهدف إنهاء الكابوس الجاثم على صدر شعبنا. آن الأوان ان نكون قد تعلمنا ان لا نغلب المصالح الشخصية على المصالح العامة. وأن نكون قد تعلمنا الصدق في العمل. بذلك نذلل كل الصعاب والمعوقات..
المقدادي: هل بالامكان ان نعرف ما هي همومك.. مشاريعك - الراهنة والمستقبلية.. واخر نتاجاتك؟
النواب: الهموم كثيرة، والمشاغل كثيرة ايضاً.. وأما اَخر النتاجات، فقد القيت قسماً منها في الامسيات هنا، ولديَّ الكثير غيره. فأنا أكتب باستمرار، والكتابة عندي نوع من الحيوية، جزء عضوي من حياتي، أشعر معها انني حي.. باكتشافي لصورة جديدة، لجمالية صورة جديدة، لتركيب جملة جديدة، لموضوع أتناول به حادثة من زاوية جديدة، أحاول ان لا اكرر حالي، إذ لكل قصيدة جوها، فرادتها وعالمها.. رموزي فيها هم الناس المجهولين، من الذين قاموا باعمال مجيدة، لكنهم ظلوا أسماء مجهولة، مثل: حرز، حسن الشموس، سليمان خاطر، خالد اسلامبولي، ناصر بن سعيد، وغيرهم. أي اولئك الذين تصدوا ببطولة ونكران ذات لاوضاع سيئة، ساعين لتغييرها. او أناس مجهولين، ذهبوا ولم يعرف عنهم احد، بعد ان مارسوا ادوارهم، ومن بينهم الفلاح والعامل وغيرههم.. ولذا، لا تجد في شعري مديحا او تملقا لحكام وأمثالهم.. بالعكس، أنا اقف ضد هؤلاء..
المقدادي: هل من كلمة أخيرة لأولئك المناضلين، الذين يقارعون الطغاة على ارض الوطن وفي عمقه؟
النواب: المناضلون في الداخل هم الموجهون لنا، لا نحن نوجههم.. نحن في الخارج وهم في الداخل.. هم الذين يعيشون الاوضاع هناك، ويجابهونها اكثر منا.. صحيح ان الغربة قاسية، إلا ان الغربة داخل الوطن أمر وأقسى.. المطلوب منا دعمهم، باعتبارهم المعوّل عليهم، كل منا في حقله ومجال عمله.. في ما يتعلق بي: مجالي كتابة الشعر، وأشعر ان الوقت لا يكفيني