أيار 14
 
كان للقاء الذي حصل لنا معه في بيته بدمشق بتاريخ 14 / 2 / 2007  اثرٌ بليغ في الشروع بالكتابة عنه، وتأمل سيرته المتداخلة والمتشابكة، حيث تبدو، اشبه بالخارطة حادة التضاريس، فمن السهول الى الجبال وصولاً الى فيض المياه الدافئة الدفاقة من شلال الشعر وكلماته التي تدخل القلب دون استئذان. الحديث مع الأستاذ مظفر ينطوي على نوع من الاحتراز في الا يقع المرء بتلك الاستطالات وزوائد الكلام، والذي غالباً ما يغلق احاديث تجري بين اثنين يخوضان غمار الحديث عن الثقافة والفن وهو غالباً (مظفر) ما يضعك في الحالة التي يريدها او التي ينبغي للكلام ان يحدد مساره، اذن لابد لك من وضع اليد على تلك العلامات التي يمكن لها ان تشكل منهج عمل في احتواء حياة الشاعر سواء تلك التي جعلت من هذه الحياة مرجلاً لغليان الشعر مع السياسة والحب، والحياة التي لا تعرف الاستكانة او الخمول، سيكون من الممكن التعرف على الافكار التي توصل اليها الشاعر بعد التحولات الكبيرة في العالم وليس غريباً ان يكون كاتب هذه الصفحات واحداً من أولئك المعنيين بتوصلات شاعر كبير تشكل حياته جزءاً بارزاً من مسيرة شعبنا ولا عجب ان يربط بين شاعرية مظفر النواب وبين طروحات السياسة بنهجها العام ــ الاكاديمي والحر - : ((السياسة بالنسبة لي ليست شيئاً تجريدياً أو أيديولوجياً، انها الحياة ذاتها الاخلاص للإنسان في هذا العصر والصدق معه هذه السياسة بالنسبة لي ولذلك هناك على الدوام نفور أو جفوة بيني وبين محترفي السياسة او حفظة الايديولوجيات أما الناس الذين تعني لهم السياسة قيماً حياتية وانسانية وبحثاً حقيقياً غير أناني لخلق عالم جميل فهؤلاء أجد نفسي متفاهماً معهم بدون مقدمات)).
ان خطاباً هذه لغته وكلاماً تتحدد مفاهيمه وتوصلاته بنقض النقاط المشار اليها - حفظة الايديولوجيات - ومحترفو السياسة. ان هذا الخطاب لا بد له من كشف العمق الحقيقي لتجربة الفنان المبدع والذي يهمه ويشغله النسغ الروحي والاخلاقي للتعامل مع الحياة. انها رؤيا أقرب الى الزهد والتصوف رؤيا تنبع من صميم البصيرة النافذة في محور الاشياء رؤية وملامسة للظاهر وحالة تماس مع المخفي والمستور بامتياز لا يعرفه الا الشعراء والفنانون الكبار، ان في خطاب النواب ذلك الدرس الذي يمكن اعتماده كخط ثابت إزاء النقاء بعدم التورط في البحث عن الجاه أو الاقتراب من دنس السلطة الدنيوية.. امتيازات تتضاءل امام وهج القصيدة ولهب نيرانها أقول ثانية كان عليّ الانتظار أكثر من اربعين عاماً لكي التقي بالاستاذ مظفر النواب (استاذي الذي شرفني في القول النبيل والجميل: سيكون لك شأن في الكتابة الادبية)، ويعود الفضل في ذلك اللقاء الحميم الى الشاعر المبدع رياض النعماني الذي يعد بحق دالة لكل المثقفين العراقيين في ارض الشام، ولعل ذلك كله يدلنا على الرابطة العضوية بين الشاعرين النواب والنعماني ومن يقف على جوهر العلاقة هذه سوف يدرك ان التلازم العضوي بينهما كان بدافع الاستعداد الذي يمتاز به النعماني على الوقوف الى جانب أستاذ نادر المثال فقد اخبرني النعماني ان ابا عادل (ويقصد الاستاذ مظفر) يرحب بزيارتك له في بيته.
قال لي: - أبو عادل حريص على اللقاء بك، أنه يتذكرك جيداً بعد هذه السنين! 
قلت له: أنها اكثر من أربعين عاماً ولكن هل يتذكر صورتي عندما زرته في سجن الحلة، حين كنت في المرحلة الاعدادية في عام 1963 وأودع السجن مع عددٍ كبير من رفاقه. ترى هل يتذكرني؟
وعندما حانت ساعة اللقاء كان معنا الصديق الراحل الناقد د. حسين سرمك حسن، كنا نحن الثلاثة نلقي خطواتنا بإتجاه بيت الشاعر في أحد أحياء العاصمة السورية تاركين وراءنا مقهى الروضة، ملتقى العديد من المثقفين العراقيين الذين تجتذبهم طاقة خفية نحو ذلك المكان.. كان تفكيري يتجه نحو طبيعة اللقاء والكيفية التي سيتم بها، كنت أسعى للوصول الى رياض النعماني و د.حسين سرمك وهما يواصلان سيرهما الحثيث، في الوقت الذي كنت الاول من تعنيه الزيارة، وليس بعيداً أنهما كانا يحملان صورة شاحبة عن علاقتي بالشاعر النواب. صورة متعارف عليها في كل حالة مماثلة لحالة الاستاذ والتلميذ. الحق لم تكن هذه العلاقة قد بنيت على أساس أدبي محض ولا تحمل صفة التلميذ والاستاذ فقط والتي غالباً ما تتسم بطابع الأهداف المرحلية التي يستفيد فيها التلميذ من استاذه ثم يحصل الافتراق الطبيعي بينهما ، ابداً ، كانت علاقتنا بالنواب ( فيما مضى من ايام خوال) ذات سمة جماعية ودوافع ثقافية وادبية وبعضها سياسي / اجتماعي. وكان الاستاذ دقيقاً معنا في الكلام و التوجيه او المقترح، لم يكن يتعامل مع الاشياء من حوله بروح الشاعر فقط بل كان ثمة تداخل ملموس بين الشاعر الذي يحرص على تطوره الفني والجمالي وبين المناضل الذي لا يتخلى عن قضيته الأساسية في الدفاع عن الانسان.. كان الكثير من خطوات شاعرنا الكبير دروساً مناسبة لتطورنا ومن ذلك ايضاً ارتباطاً به روحياً واخلاقياً بعضنا ظل على صلة به، وبعضنا الآخر كبرت خطوته واصبح اسماً من الاسماء المعروفة في دنيا الادب والفن، اما البعض الآخر فقد انخرط في النضال الوطني وأخذ حصته من الاعتقال والتعذيب والنفي .. ولما جاء الشاعر النواب الى متوسطة الفجر في الكاظمية من العام 1961 / 1962 استاذاً لتدريس اللغة العربية بدا لطلبته منذ بواكير ايام تدريسه استاذاً يختلف عن غيره من المدرسين. لقد تمثلت صيغة الاختلاف لديه في منهج التدريس الذي اقترحه علينا بل وأخذ به حيث يقرأ لنا صفحات من كتاب غير مقرر من الكتب التي يرى فيها الاستاذ فائدة توازي دروس النحو والبلاغة والانشاء وقراءة النصوص المقررة علينا من قبل وزارة التربية. وعندما قرأ مقطعاً من قصيدة جديدة له ادركنا في الحال انه صاحب قصيدة ـ  للريل وحمد:
 
مرينة بيكم حمد ، واحنة بقطار الليل
واسمعنه دكك اكهوة
وشمينة ريحة هيل
ياريل ..
صيح ابقهر
صيحت عشك ياريل
هودر هواهم
ولك، حدر السنابل كطه 
 
لم تكن نقاط الاختلاف بين الاستاذ الجديد الذي يقرأ لطلبته من كتاب قصة المغني الايطالي الشهير ((كروزو)) ويسمعهم قصائد السياب والبياتي وبعضاً من مقاطع لقصائد شعبية وأخرى فصيحة لشعراء يحاول ترسيخ أسمائهم في ذاكرة الطلبة وإسماعهم قصائد الشعراء لتقريبها من الذائقة الطرية التي يحملها التلاميذ، نقاط الاختلاف تلك عديدة ومن بينها في رأي الطلبة الفتيان، تلك الاستقامة في القامة والعناية بالهندام والنظرة الحانية يعززها اهتمام خاص بأوضاع الطلبة وما هم عليه من حالة اجتماعية والاصغاء الكافي الى جانب كبير من مشاكلهم وهمومهم ذلك كله، يصبح خلافاً لما اعتادوا عليه من هيئة مدرس اللغة العربية، حيث القامة المنحنية قليلاً والسترة التي تصل حد الركبتين والعينين الكليلتين، كانت نظرة الاستاذ مظفر وما تمتاز به العينان السوداوان من بريق يشي بالكثير من الذكاء ثم تلك النبرة الخافتة للصوت الهادئ الذي يحمل بين طياته نكهة الروح والمعافى من كل شائبة أو ردة فعل تجاه الحياة، كل ذلك يجعل الاستاذ النواب أقرب الاساتذة الينا دون منازع، الآن نحن طلبته وقد كبرنا نتأمل عالمه الشعري الذي سحرنا به في تلك الايام ونحاول قراءته بصورة واعية، نعيد تحليلنا مجدداً في كتابة صفحات عنه، وفاءً منا له وضرورة لا مفر منها، لذا كان الانطباع الذي أحمله في داخلي عنه، أنه لم يكن مجرد شاعر أو أستاذ، بل انسان مناضل وحريص على سلامة تاريخه الشخصي ونظافته، ومن هذا الحرص يتعلم الكثير من الشعراء والادباء صيانة انفسهم من مزالق قد يستخف بها البعض هذه الايام لكنها تعني الشيء الكثير لدى البعض الآخر، وانا واحد منهم.
لا أدري ان كان الصديق النعماني قد طرق الباب أم ضغط على الجرس، فقد كنت في حالة من ترقب وانتظار، وكشف الباب المفتوح عن وجه فتى يضع خطواته على عتبة الشباب الناضج تماماً، خاطبنا : أهلاً، تفضلوا، وتفضلنا متقدمين تحت جناح نظرته البليغة التي اراد من خلالها معرفة من هو المقصود بالزيارة هذه، ولما دخلت الصالة الصغيرة، التي كان الشاعر ينتظرنا فيها، بدت لحظة التفرس بيننا هي السائدة، لم يغب وجهه عن ذاكرتي، وكان للصور التي تنشرها له الصحف عامل مساعد على توضح المشهد، وخيل الي وانا اراه حقيقة ماثلة أمامي بعد كل هذه السنين، أنني أستطيع ان اكتب قصة حياته من خلال حشد الصور التي أحتفظ بها له في ذاكرة متوقدة وجامحة، ذاكرة أعرف كنهها تماماً، لا يغيب عن خاطرها أولئك الاحبة الذين يملكون ميسماً واضحاً، رسموه على صفحات تاريخنا الخاص والعام، وربما حصل معه الشيء نفسه، وهو يحاول العثور من خلال صورة في مجلة أو جريدة وفرها له أحد الاصدقاء سابقاً، لكني الان قادر على قراءة نظرته التي شملني بها، فعيناه تحطان بهدوء على وجه راحت نظرته تتعرفان إليه عن كثب، كأنهما يتعرفان على شقيق الشاعر، شقيقه الذي أضاعه وسط العاصفة الهوجاء، التي دامت أكثر من ثلاثين عاماً، وها هما الشقيقان يلتقيان بعد غياب قاس وطويل، وخيل لي للحظة حاسمة، أنه لم يجهد ذهنه في معرفة نظرتي له، لقد اردت معرفة ما تركته سنوات الغربة والمنافي على صفحة الوجه الحبيب الذي افتقدناه طويلاً بيننا، يا الهي كم كنا بحاجة إليه لكي يعين خطواتنا على التقدم الميسور بالاتجاه الصحيح، ترى هل كان يمتلك بوصلة أيامنا؟ افراحنا ؟ ام ترانا كنا، بدونه، نخشى ورود التهلكة، ومع هذا كنا كأننا نصغي الى وقع خطواته القادمة من وراء النافذة، فيندفع في نسغنا التماسك، كنا نلوذ ببعضنا حاملين مشعل مسراتنا للعثور على أي أثر تركه وراءه في طريقنا المليء بالالغام والاسى. وبهدوء امتدت يد الشاعر نحو الضيف:
ــ أتذكرك جيداً أحمد، نعم، تذكرتك الآن أكثر مما سبق.
سألته: هل تتذكر أول مرة جئتنا فيها الى الصف في متوسطة الفجر في الكاظمية ابتسم، أراد ان يترك لي المجال لكي أقول ما أحمله في عقلي ووجداني عنه وحتى يعطي لنفسه وقتاً كافياً لاسترداد صورتي وشخصيتي التي عرفني بها فيما مضى من أيام، كان الشاعر النعماني والناقد سرمك يصغيان الى تدفق الكلمات مني بطواعية ودون سابق تخطيط، فقد كان الصوت يخاطب الشاعر عبر القلب ومنه وليس من خلال اللسان والشفتين فقط، استمر ينظر الي ويصغي وأنا أستعيد بعضاً من تلك المواقف والحالات والصور النادرة، التي أرغمته السلطات على مغادرتها الى المنافي مضطراً، حدثته عن جمعية الادب والفن التي أسسها للطلبة لكنه أعاد معي أجزاء من الصورة التي غابت عن ذاكرتي، رويت له كيف أخذنا ’’نحن أعضاء جمعية الادب والفن‘‘ الى اتحاد الادباء في العراق ولأول مرة ندخل المبنى العتيد، وكان لقاؤنا بالقاص جيان والصحفي المناضل أبو سعيد، وحكيت له كيف أخذنا في أحد الايام الى بيته الكائن في كرادة مريم، وتعرفنا على مكتبته، كما أنه قدم لنا عدداً من الروايات والكتب، عندئذ سألني عن زملاء لي في جمعية الادب والفن، والتي حرص الاستاذ على ادامتها طيلة العام الدراسي، سألني عن نبيل وبدر، وآخرين أتذكرهم وأحاول استعادة ملامحهم التي فر بعضها من الذاكرة لابتعادها في الزمان، ولكني أعرف بدراً وأتذكره جيداً، فقد كان يسكن في محلة قريبة من محلتنا وأظنه انخرط في تنظيمات الحزب الشيوعي آنذاك، لأني كنت أراه كيف كان حريصاً على التحلي بربطة العنق الحمراء أسوة بالاخرين من أمثاله من فتيان تلك الايام، كانت الذكريات تنهال علينا في جلستنا وكنت أريد اختصار سنوات الفراق التي دامت قرابة الاربعين عاماً ولما حدثته عن زيارتي له في سجن الحلة في عام 1965، كانت نظرته لي تحمل دهشة حذرة، وقلت له: الكثير من الاصدقاء اعترضوا على الزيارة تلك، والحقيقة زرتك مرتين وكانت الثانية بدافع من اعتقال عبد الامير الركابي، وبعد فشل حركة الكفاح المسلح، التي كان يقود فريقاً منها الراحل خالد أحمد زكي، لكنك لم تكن راضياً عن الثانية. وبالنسبة لي، لم أفهم دوافع عدم الرضا، الا بعد أيام مضت عندما عرفت نقطة الخلاف، وبالفعل كان عدد من الاصدقاء، الذين سبق لهم ان اعتقلوا في سجون العهود المنصرمة قد حذروني من خطورة الذهاب الى سجن الحلة، الذي يضم بين قاعاته وزنزاناته أبرز وجوه الشيوعيين، لذا كان من الخطأ على شاب مثلي المغامرة بزيارة سجين شهير بتداعياته التاريخية.
في اللقاء المسائي ذاك، في دمشق وجدت الفرصة سانحة لكي أستأنس برأيه فيما يخص وضعنا الثقافي، وقد لازمتني فكرة كتابة تاريخ للثقافة الوطنية ومن منظور انساني تقدمي يعالج من خلاله الدارس او الباحث او المحاور اهم مفاصل الثقافة التي عاشها المثقف العراقي آنذاك، ولقد برزت الفكرة تلك، بعد الاحتلال تحديداً، إذ ليس صحيحاً ان نكون أبرياء تجاه ثقافة المحتل ونواياه وبصورة قد تتهم فيها ثقافتنا الوطنية بعدم الوعي والادراك، الذي جرى عبر أكثر من ثلاثين سنة مضت، كانت فيها الثقافة العراقية نتاج الاحتياجات القسرية لسلطة ذات بعد ايديولوجي يتسم بالاحادية والتسلط والشمولية، واذا كان ذلك قد جرى خلال أكثر من ثلاثين عاماً، ترى هل على الثقافة العراقية الانتظار عقودا أخرى من السنين لكي تنتسب لذاتها وتحدد مسارها الصحيح والخاص؟ هل توجد لدينا وسائل وسبل يمكن الاتفاق عليها بشأن الثقافة التي نريد لها ان تكون حاضرة وفاعلة في حياة الفرد والجماعة معاً؟ كنت ادرك مع نفسي صعوبة الطرح والمطلب، ولكني وجدت ان لا مفر من عرضه على الاستاذ النواب، الذي أصغى الى خلاصة طرحي لفكرة اعادة كتابة تاريخ الثقافة العراقية. ان العمل الخلاق الذي قام به أدباء أمريكا اللاتينية في تحديد شخصيتهم الثقافية والتركيز على الخصائص الاسلوبية والوطنية هو ما جعلنا ننظر بعين الاحترام والتقدير لتلك الثقافة وذلك الادب، الذي توضحت معالمه لدينا في السنين الاخيرة، ألا يحق لنا المبادرة والتحرك الآن على الصعيد الفردي في تثبيت مشروعية الفكرة أولاً؟ قال لي بعد ان تأمل الفكرة جيداً: ان مشروعاً ينبغي ان يكون الشروع به جماعياً أي ان يتكفله عدد من الاشخاص وليس شخصاً واحداً، لأنه من السعة بحيث يفرض على المهتمين بالشأن الثقافي ان يجندوا له المزيد من الطاقات.
فقلت له: في زيارتي الثانية إليك، ستكون عندي حزمة من الاسئلة يدور أغلبها في الاطار الشخصي لك، وفي عموم ثقافتنا العراقية.
ابتسم بهدوء ونظر الى ضيوفه، ثم التفت الىّ قائلاً: ولكن ذلك كله بعد عودتي من العلاج، سأكون على استعداد للاجابة على أسئلتك.
كانت جلسة اللقاء ممتعة وغنية جداً وقد تحدث فيها عن مرحلة من أبرز مراحل تطوره السياسي والشعري، خصوصاً سنوات السجن وعملية حفر النفق، ’’التي سيكون لنا حديث خاص عنها لاحقاً‘‘ ثم خروجه من البلد مضطراً حيث لا حل ولا ثمة أفق مفتوح أمام الناس، رغم ان الحديث في تلك الايام كان يشير الى ضرورة قيام جبهة وطنية، ومع هذا حتم عليه الظرف الوطني والعربي ان يحط الرحال في بيروت ثم مدن أخرى، ويبدو ان شروط الاستقرار مناسبة لمتطلبات حياته، بحيث يستطيع ان يمارس حياته بحرية كافية، ولقد ادركت طبيعة الحي الذي يسكنه الشاعر، أنه من الاحياء الهادئة التي تثير في النفس الطمأنينة والتأمل، كان ذلك في الليل على الاقل: “أنا شخصياً كتبت معظم قصائدي أو بداياتها في الليل” بدا المشهد الليلي الغاطس بالصمت والهدوء يبعث على توليد الصور في وقت أخذ فيه الظلام يزداد شحوباً في الاماكن التي يصلها الضوء البعيد، وليس بعيداً ان يكون دافع تسلق القلق فيها عقليا ووجدانيا قبل اللقاء به، كان بدافع المكان الذي مثل لدي حضوراً خاصاً، كانت قصيدة بابلونيرودا ‘‘البشر‘‘ والتي قرأتها عشرات المرات في ما مضى، تلح علي في تلك اللحظة، إذ تمثل فيها كل شيء يمر بي:
 
 أنا زائر جزيرة باسكوا
الفارس الغريب، جئت لأطرق أبواب
الصمت
واحد آخر من أولئك الذين يأتي
بهم الهواء
قافزاً دفعة واحدة، البحر كله ..
 
لم أقفز البحر ولم أعبره بقارب أو سفينة بل وصلت دمشق عبر الطريق البري بكل ما يحمله من مخاطر بل ومغامرة غير محسوبة النتائج، ولم تتهيأ لي فرصة لكي أخبر فيها الاستاذ بالمجازفة التي سلكتها وبصحبتي أسرتي كاملة، ولما علم عدد من الاصدقاء في ساعتها، أني جئت عبر الطريق البري الذي يعج بالمفاجآت أصيبوا بالدهشة وقد باءت كل محاولاتي في تخفيف وقع الخبر عليهم بالفشل، على أساس أني كنت أعرف السائق منذ زمن يكفي لوضع الثقة به، وانه يعرف الطريق جيداً، وعندما دارت عيناي في صالة الضيوف في بيته الهادئ في دمشق قفزت الى ذهني صورة بيته ومكتبته في بغداد، وعقدت مع نفسي مقارنة سريعة بين الاثنين ولم تغب عن بالي لحظة تسلمي منه روايتين أميركيتين هما “وتشرق الشمس أيضاً” لأرنست همنغواي ورواية “أفول القمر” لجون شتاينبك وطلب مني في حينه ان أقدم عنهما ملخصين ولو بعد بضعة أيام، وكان الاستاذ حريصاً على حيازة طلبته على معنى محدد فيما يقرأونه أو يكتبونه وفي حالة كهذه ينبغي الوقوف على المعاني التي تستند اليها القصة او القصيدة التي يطالعونها او التي يفرضها المنهاج المدرسي عليهم، ولعل المقصود بالمعنى في وقتنا الحاضر، الوصول الى كنهه الرسالة التي يحملها المتلقي سواء أكان شاعراً أم قاصاً أو رساماً، وموضوعة الرسالة الاجتماعية للأدب موضوعة قديمة، قِدم الفلسفات المادية والمثالية وصراعها حول أهمية الثقافة والمعرفة، اذن لا مناص من توفر المعنى في قصائدنا وقصصنا التي نكتبها وليس بعيداً ان تكون عملية البحث عن معنى أو حيازة النص على مفهوم الرسالة في الفن من بين الدوافع التي حفزت الشاعر النواب على التزامه كتابة القصيدة الشعبية حيث يتجسد الخطاب الشعري بالوضوح الكافي في ورود المعنى، ولا يغيب عن ذهن القارئ الواعي لقصائد النواب من ان الشاعر يدرك البعدين العاطفي والأخلاقي، اللذين توفرهما القصيدة الشعبية، إذ لا يخطئ مدى ما توفره من ملامسة الواقع اليومي الذي يعاني منه المتلقي، كما ان القصيدة لدى النواب هي ارتكاز الى تجربة غنية ومن المعيب ان بعض المثقفين العراقيين يعتقد او يؤمن بإصرار: ان القصيدة الشعبية تخلو من جذر معرفي او ابعاد فلسفية او ان المخيلة فيها محدودة المديات متناسين اهمية التحولات الفنية والجمالية الكبيرة التي حدثت في تركيبتها ’’... ولا يستطيع أحد منا إنكار حقيقة ان الشعر العامي العراقي قد لبس ارديته الحداثوية البهية على يدي المبدع مظفر النواب في الخمسينيات حيث تلاعبت أنامله الساحرة بترف اللغة العامية الباردة وبمفردات الحياة الشعبية اليومية، التي أتعبتها الألفة وسلب بريق روحها التعود، فجعل منها سلاسل لآلئ مذهلة ونجوم سموات تخلب الافئدة والابصار‘‘ من هنا نستدل على البعد الفني الجمالي الساحر الذي خلقه النواب في أحد التعبير الشعري السائد في العراق:
 
أشكَد نده ...
نكَط على الضلع
وأنسيت أكَلك ... يمته
وأشكثر هجرك
عاشر ليالي الهوى
وما لمته ... 
 
وقد تكون هذه الصفحات الموجزة هي دافع خفيً في المقبل من الايام للدخول خطوة أوسع وأعرض في عالم الشاعر الكبير النواب، ليس بدافع الوفاء العاطفي بل بضرورة الكشف والتمتع بجواهر الكلم، والمناخات المبتكرة والخطاب الذي يلامس شغاف قلوبنا. أنه خطاب مظفر النواب الذي يفرض علينا اعادة قراءته مرة وأخرى في القريب العاجل