أيار 18
 
في ثانوية الشعب ببغداد عام 1964 سمعت للمرة الاولى بمظفر النواب من زملاء لنا قادمين من “متوسطة الفجر”، ان استاذهم الشيوعي الشاب للغة العربية واسمه مظفر النواب، كان نموذجا نادرا للمعلم المتميز والمربي المسؤول، فقد كان يرعى المواهب الادبية والفنية الناشئة طالبا من تلاميذه ان يكتبوا مواضيع انشائية لتشجيعهم على تطوير مهاراتهم الكتابية والمسرحية والتشكيلية. بيد ان حصول انقلاب 8 شباط 1963 الدموي قطع تلك المسيرة الواعدة اذ اضطر الشاعر الى الافلات من ايدي اوباش الحرس القومي المدججين بالاسلحة الرشاشة اثر هجومهم على المدرسة لاعتقاله او قتله.
ورغم نكبة العراق الكبرى بجريمة ذلك الانقلاب الذي نظمته وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (CIA) للاطاحة بحكومة ثورة 14 تموز 1958 الوطنية، ونفذته زمرة من القتلة الفاشست تحت واجهة وشعارات قومية عربية وبدعم من بقايا اطراف وأيتام حلف بغداد والمخابرات المصرية، مثلت المقاومة الشعبية الباسلة التي تصدت لانقلابيي شباط القتلة صفحة خالدة من تاريخ نضال الشعب العراقي من اجل الحرية والكرامة. وكان مظفر النواب أحد الذين التحقوا بالمناضلين الوطنيين الذين نظموا في ساحة التحرير ببغداد وامتدادا الى محلة قنبر علي في شارع الكفاح مرورا بعكد الاكراد في الصدرية مقاومة بطولية ضد منفذي الانقلاب العسكري ومحاولتهم فرض سلطتهم. ولا يغير من الامر ان البعض اعتقد ان مظفر النواب التحق بحلقات المقاومة في الكاظمية التي اشتهرت ببسالتها ايضا وضمت عددا من الشخصيات الديمقراطية والتقدمية البارزة يتصدرهم العامل النقابي الشهيد سعيد متروك والشهيد المقدم خزعل السعدي وكذلك حمدي أيوب العاني ومحمد الوردي وحميد الاسدي ورسول محمد أمين ومحمد الأسدي وعلي عبد الله والبطل الرياضي ناصر جودي صمد وناظم جودي وجواد احمد سلطان وعبد الوهاب المنذري ونجم عبود والكثير غيرهم. فبعد معركة باسلة استمرت عدة ساعات ضد دبابات الانقلابيين تمكن هؤلاء الابطال من السيطرة على معظم المدينة حتى جسر الصرافية من جهة الكرخ وواصلوا القتال حتى اليوم الثالث قبل انسحابهم مضطرين بعد استشهاد عدد مهم من ابرز قادتهم تحت قصف طائرات ودبابات الانقلاب الذي لم يكن موجها ضد حزب معين ولا ضد زعيم معين بل ضد الشعب العراقي وضد من حقق الاستقلال الوطني والغى حلف بغداد واصدر قانون النفط رقم (80) الوطني وحرر اقتصاد البلاد من هيمنة الجنيه الاسترليني والاستعمار الجديد.
بعد انهيار المقاومة، اضطر مظفر النواب الى ترك بغداد والاختفاء مع عدد من رفاقه في الارياف الجنوبية ثم التسلل عن طريق البصرة الى الاراضي الايرانية في محاولة فاشلة للجوء الى الاتحاد السوفييتي آنذاك، اذ وقعوا في كمين لجهاز المخابرات الشاهنشاهية (السافاك) الذي القى القبض عليهم داخل ايران واخضعهم في السجن لتعذيب جسدي ونفسي قاس استمر متواصلا حتى تسليمهم الى السلطات العراقية في الايام الاخيرة من عام 1963 في عملية تبادل للسجناء اليساريين بين السلطتين الدكتاتوريتين في البلدين تم خلالها قيام السلطات الشاهنشاهية الايرانية بتسليم 121 مناضلا يساريا عراقيا فيما سلمت السلطة العارفية الى السافاك 54 معارضا ايرانيا كانوا مسجونين في العراق معظمهم من الشيوعيين الإيرانيين او انصار رئيس الوزراء الايراني الراحل الدكتور مصدق الذي اطاحت به المخابرات الامريكية والبريطانية بانقلاب عسكري دموي قاده الجنرال فضل الله زاهدي في 1953 ردا على اقدام مصدق على تأميم نفط بلاده. وخلع الشاه الذي هرب الى العراق ومنه الى ايطاليا. وقد اعيد الشاه الى السلطة مجددا بعد الاطاحة بمصدق المنتخب ديمقراطيا والذي حكم عليه بالإعدام ثم خفف إلى السجن لاحقا بينما نظم أولئك الانقلابيون الإيرانيون حملة واسعة من اغتيالات ومطاردات قاسية طالت المئات من الشيوعيين الإيرانيين ومن انصار مصدق الذين لاذ مئات منهم بالاراضي العراقية فتعرضوا الى الاعتقال والتنكيل ايضا.
وقد واجه مظفر النواب معاملة وحشية من السلطات الايرانية بعد الكشف عن محاولته الهرب من السجن الايراني وذلك قبل ان يتم تسفيره الى العراق ضمن دفعة اولى ضمت احد عشر من رفاقه تلتها دفعة ثانية من 110 مناضلين عراقيين تم في منطقة الشلامجة وفي وضح النهار تبادلُ تسليمهم في الأول من كانون الثاني 1964 بين فصيلين مسلحين حكوميين، أحدهما ايراني والاخر عراقي، نقل السجناء العراقيون وكلهم من الشيوعيين الى موقف البصرة القديم حيث ورد أن مظفر حاول الهرب ثانية بعد ثلاثة أشهر تقريباً من وصوله الى ذلك السجن ما دفع سلطات السجن الى وضعه مع المحامي طالب بدر والرئيس الركن عَرَبي فرحان، وهما من أهل البصرة ومعروفان فيها، في ردهة السجن المقابلة لادارة المركز حرصا من مسؤولي المركز على أن تكون ردهتهم مزدحمة جداً كما بدا من الواقفين في بابها ونافذتها وتمكن المراقبة ليل نهار، وبقضبان تصل الى السقف فكان الفرار منها مستحيلاً. ولاحقا تم تسفير أولئك الثلاثة إلى بغداد ومنها الى سجن نقرة السلمان في قلب صحراء بادية السماوة.
فلقد عاش الشاعر مظفر النواب محنة قاسية للغاية خلال فترة اعتقاله في ايران وقد عبر عن وقائعها كما يلي: “بعد انقلاب 1963 هربت عن طريق المحمرة إلى إيران واختفيت في طهران لفترة. كانت رجلي قد التوت وتورمت لأنني كنت ملاحقاً وتهت أثناء العبور. في إيران اتصل بعض العراقيين بالتنظيمات اليسارية هناك فهيأوا لنا سيارة تبرع بها أحد الأصدقاء. وبعثوا معنا بشخص ليذهب معنا إلى الاتحاد السوفيتي. وكنا قد ادّعينا بأننا نذهب إلى مصيف. أنا كنت أتكلم القليل من الفارسية. أحد الذين كانوا معنا لم يكن يعرف الفارسية فادعى أنه أخرس. ولكنهم اكتشفوا الأمر وأعادونا إلى طهران حيث تم تعذيبنا. وجدنا عدداً كبيراً من المعتقلين معنا. بقينا هناك من الشهر السابع، حين ألقي القبض علينا، إلى الثاني عشر. ولم نعلم بحصول تغيير في العراق وبقدوم عبد السلام عارف. ويبدو أنه كانت هناك صفقة بين الحكومتين، العراقية والإيرانية، لاستبدالنا بمناضلين من حزب توده. فأعادونا إلى البصرة. أخذونا إلى موقف البصرة ثم عزلوني وأخذوني إلى العمارة لأنني كنت أذهب إلى الأهوار. وبعد تحقيق شكلي أرسلوني إلى بغداد. وفي بغداد أحالوني إلى المجلس العرفي. ولم تكن محاكمة. تقف ويطلبون منك أن تشتم الحزب الشيوعي. وإن لم تشتم يحكم عليك، وإن شتمت تحصل على البراءة. ووضعوني في البداية لكي يؤثروا على مئة وعشرين شخصاً. كلنا كنا من الكاظمية. وأنا كنت في بغداد وقاومت في ساحة التحرير وليس في الكاظمية. قالوا لي: اشتم، فقلت لهم: كلا. قالوا: اشتم كل الأحزاب، فقلت: لا. هم أرادوا أن يؤثروا على موقف البقية على أساس أن انهياري سيضعفهم. فحكموا علي بعشرين سنة وأخذوني إلى غرفة جانبية وحكموا علي بثلاث سنوات من أجل قصيدة «البراءة». حاول أهلي أن يخرجوني بالواسطات وما شابه ولكن دون جدوى. كان المدعي العام هو غالب فخري والحاكم نافع بطة”.
هذا المسار الجريء والشجاع للشاعر مظفر النواب، لم يكن ليمر دون ان يترك سحراً لدى بعضنا نحن تلاميذ الكاظمية التي تشبعت طرقاتها لا سيما في مناطق ام النومي والگطانة وغيرهما، بدماء قادة مقاومتها الشعبية ضد ذلك الانقلاب الدموي ومنهم الشهداء ناظم جودي حمد وعبد الامير الحائك ومحمد الوردي والبطل الرياضي ناصر جودي صمد وابراهيم الحكاك وسعيد متروك القائد النقابي اليساري الذي ظل يقود المقاومة في منطقة ام النومي حتى نفد عتاده فكبله القتلة وصلبوه على حائط “ثانويتنا” (ثانوية الشعب)، قبل ان يمزقوا جسده بوابل من رصاص ظلت آثاره محفورة لمدة طويلة على حائط مدرستنا تلك ليغدو مزارا رمزيا للبطولة بعد طرد البعثيين من الحكم اثر بطش بعضهم ببعض بعد اشهر معدودة من سلطة غابٍ في جمهورية موز أطاح بها رئيسها بالزمرة الاكثر اجراما من افراد العصابة نفسها اثر انقلابه العسكري عليهم في 18 تشرين الثاني 1963.
بعدها بزمن قصير رحنا نستنسخ بمساعدة ورق الكاربون ما استطعنا الحصول عليه من مقاطع قصيدة مظفر النواب “البراءة”، تلك القصيدة العصماء التي ألقاها في سجن القلعة الخامسة ببغداد لتوقف بضربة ساحر تهافت المترددين من المعتقلين والسجناء على اعلان البراءة من الحزب الشيوعي حتى ان القصيدة غدت حدثا تاريخيا بذاتها ليس فقط بمضمونها السياسي بل ايضا ببعديها الساحرين الثوري التراجيدي والاحتجاجي الرهيب لأم وأخت قدما كل ما استطاعتا من تضحية وصبر وصمود قاس ونكران ذات من اجل المبدأ الثوري والشرف الانساني المقترنين حد التماهي بالموقف الاخلاقي والمؤطرين عفويا ككل في جمالية ساحرة وسامية وجديدة كليا:
 
يا بني ضلعك من رچيته
لضلعي جبرته وبنيته
يا بني خذني لعرض صدرك
واحسب الشيب اللي من عمرك جنيته
يا ابني طش العمى بعيني
وجيتك بعين الگلب أدبي على الدرب ألمشيته
يابني ارضى الچلب يرضع من حلبيي
ولا ابن يشمر لي خبزه من البراءة
 
فقد اثارت تلك القصيدة بأقسامها الموزعة بدقة، كرامة السجناء الشيوعيين وعمقت رفضهم لموجة التخاذل والاستسلام لألاعيب الجلاد ولم يتبرأ من الحزب الا عشرات من بين ما يقارب اربعة آلاف سجين في سجن نقرة السلمان مثلا بعد ان كانت حكومة الدكتاتور عبد السلام عارف تستغل المآسي العائلية والصعوبات الانسانية لدى السجناء لتوقع بهم عبر جعلهم ينشرون تصريحات في الصحف يعلنون فيها براءتهم من الحزب الشيوعي مقابل نقلهم الى سجون قريبة من عوائلهم او اطلاق سراحهم. وهو تقليد موروث كوسيلة ضغط من ممارسات سلطات العهد الملكي في العراق التي كانت تبتز السجين السياسي او سجين الرأي بمنحهم الاختيار بين ان ينشر في الصحف المحلية اعلان براءة يكتب فيه “اتبرأ من معتقداتي وفكري واعلن اخلاصي لوطني ومليكي” او ابقائه سجينا. وقد لعبت قصيدة “البراءة” دوراً مؤثراً في التصدي لهذا الإجراء التعسفي بل في تحطيم “ثقافة البراءة” التي افرط الجلادون البعثيون في نشرها في كل سجون العراق بموازاة الافراط في اعمال التعذيب الهمجي الجسدي والنفسي والقتل. وقد ترجمت قصيدة “البراءة الى عدة لغات اشهرها تلك التي كان قد قام بها الشاعر والفنان الكردي العراقي الشهيد دلشاد مريواني الذي اعدمه نظام صدام حسين في مدينة السليمانية بتاريخ  13 آذار 1989 ولم يكن قد تجاوز الثانية والاربعين من العمر بتهمة كتابة نصوص مناهضة للفاشية الحاكمة والتشجيع على معارضة الطغيان. والى جانب “البراءة” ترجم الشهيد دلشاد مريواني قصائد اخرى للشاعر مظفر النواب لا سيما مطولة “وتريات ليلية” التي ترجمها بإمكانية لغوية تبرز مهارة فذة في اظهار النص كما لو كان مكتوبا باللغة الكردية وليس العربية في الاصل ما دفع المطرب حمه جزا الى أداء النص المترجم اداء راقيا بصوته الشهير.
ولنتأمل كيف كانت شخصية مظفر النواب في سجن “نقرة السلمان” وما هي اجواء وأصداء قصيدة “براءة” حين ولدت كما يرويها الكاتب جاسم المطير الذي عاش التجربة أول بأول كشاهد عيان:
“في سجن “نقرة السلمان” اشتهرت شخصية مظفر النواب بمزايا ثورية ووطنية.. اذ لم يكن الشاب مظفر النواب من نوع الشعراء العاديين كما يرى الكثير من السجناء بل كان يمتلك صفات شخصية تميّزه عن الشعراء الاخرين ما ألقى على محبي شعره مهمة تحليل مكونات شخصيته والتعرف على ادواته الفنية في الشعر والنثر والتي يمارس بها دوره التعبوي والتحريضي على سامعيه.. فمن يسمع قصائد مظفر أو احلامه يجدها تركز على مصالح الشعب العراقي في مسعى خاص يهدف الى تنمية القوة في الناس المكافحين، فهو شاعر يسعى الى ايجاد تطابق بين مفهوم النضال الوطني مع مفهوم الجماعة الشيوعية التي تقف في طليعة النضال. وهذا الموقف قد تجده منظمة الحزب السجنية آنذاك مخالفا للخط السياسي السائد، لكنه يظل من جميع النواحي محفزا ودافعا لبناء شخصية مكافحة وقوية لسجناء النقرة، لذلك صار مظفر النواب في اعين الجميع من الواقفين على اليسار أو على اليمين مؤسسا لعلاقة عليا في تضامن جميع السجناء بوعي عال من اجل الحرية والديمقراطية، وصارت شخصية النواب تجسيدا لارادة السجناء كلهم الذين يجدون فيه صوتا يمكن ان يستمد كل سجين منه قوته وعزيمته وصموده”.
وفي سجن نقرة السلمان ايضا عاش مظفر مباشرة تراجيديا هروب مهندس الطرق والمواصلات الشهيد البطل الملازم صلاح احمد حمدي الذي استطاع التسلل الى خارج سجنه في نقرة السلمان رغم انه كان مريضا ولكنه توفي بسبب العطش والضياع في الصحراء، وكان استشهاده قد أدمى قلوب السجناء بمختلف انتماءاتهم، وقد رثاه الشاعر الكبير مظفر النواب بقصيدة رائعة مطلعها:
المنايا الماتزورك زورها
خطوة التسلم ذبايح سورها
طافح اعله الريح عينه ايدورها
املح من اترابها ويجورها
صگر والبيده تعز اصگورها
وبأثر جدمه تلوذ اطيورها
وسفه ما حفظت صگرها
وسلمته بليله عد ناطورها