أيار 01
السجال في الثقافة العراقية، عن الشعر، مصاب بمعضلة الانقطاع والقطيعة، وأحياناً بالجهل للأسف، وغالباً بإشكالية انغلاق بعض مثقفي البلاد على نفسه لمدة تقارب الثلاثين عاماً بحيث ظل يحاور نفسه، وينسى أن شريحة من الشعر العراقي موجودة في مكان ما، خارج البلاد رغما عن إرادتها. قاد هذا النسيان، كما أوضحنا أكثر من مرة، إلى تثبيت أصوات بعينها وإلى "بداهات" نقدية تحتاج فحصا جديدا ثم إلى تدليس فاحش في تاريخ الشعرية العراقية. جل الكتابات النقدية والجامعية عن الثلاثين سنة هذه تبرهن على ذلك، ويمكن استعادة أسماء مؤلفيها وطروحاتهم إذا شئنا. إن زوال المبرّرات الموضوعية القاهرة يرفع الحجج والتعلات اليوم عن ناقد أو باحث يستعيد الأحكام المجترة غير الدقيقة المقالة منذ حين.
متى اُستعيدتْ قصيدة النثر العراقية كتابةً وتنظيراً؟ سيجيب النقد العراقي، بثقة، في الثمانينيات وسيقترح مجموعة منتخبة من الأسماء، بل سيعد جيل الثمانينيات في داخل البلد حاملاً للواء قصيدة النثر. هذا تزوير مزدوج، سيدعمه صديقنا الشاعر والمترجم سهيل نجم بفكرة مطلقة من قبيل: "أريد أن أؤكد، أن المجموعة التي ظهرت في الثمانينيات هي من تحمل وزر ترسيخ قصيدة النثر وهم من حفزوا ودفعوا أكثر الشعراء الذين ظهروا في السبعينيات إلى تبني هذا النمط من الكتابة الشعرية، وبهذا قادوا الثورة الحاسمة الثانية على القصيدة الكلاسيكية ومن ثم على القصيدة التي سميت بالشعر الحر التي كتبت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات" (جريدة الصباح يوم 10 آذار/مارس 2012 عن مجموعة محمد النصار الشعرية).
سأتحدث عن نفسي (بغياب من يمكن أن يتحدث بتدقيق موضوعي وزمنيّ)، وأتكلم فحسب من الزاوية التاريخية، وليس من الناحية الجمالية والنصية المتروكة لإحكام النقد العراقي الذي يركن إلى المسلمات المصنوعة بالعنف الرمزي والحقيقي والتدليس طيلة السنوات الماضية.
مجموعتي "نص النصوص الثلاثة" الصادرة عن دار العودة بيروت عام 1982 تعلن انغماراً نهائياً بقصيدة النثر. جميع قصائدها المكتوبة قبل صدورها بالطبع، مؤرخة بدقة لحسن الحظ. ها هو السياق الذي خرجت منه القصيدة النثرية الطويلة في تلك المجموعة: في سنجار حيث كنت أقضي نهايات الخدمة العسكرية الإلزامية كتبت قصيدتي "شهوات فتيان أور" بتاريخ 13/7/1979، المشدودة بعد إلى الوزن والقافية والجمل القصيرة، ثم كتبت في بغداد قصيدتي "رثاء أور" المؤرخة بـ 10/3/1980، وهي قصيدة مدوَّرة ومرتبطة أيضا بقوة إلى الوزن، تلتها قصيدة "مرثية أخرى لأور" المكتوبة بين بغداد – بيروت بتاريخ 18/11/1980 حيث الوزن عينه لكن بالقليل من الانفلات باتجاه لغة أقل صلابة، ثم كتبت "فتى أور" في بيروت بتاريخ 29/12/1980 التي ما زالت مدوَّرة وعلى وزن الرجز ببعض من التحرّر الداخلي، لكن "نص النصوص الثلاثة" الطويل المكتوب في بيروت بتاريخ 19/9/1981 سيقودني إلى نقلة أساسية: أنها قصيدة نثر صافية لم يبق فيها إلا القليل مما تعلمته في العراق الموزون. من يومها سأكرّس نفسي، بشكل أساسي، لقصيدة النثر التي كنتُ قد كتبتها في وقت مبكر نسبياً من عمري في بغداد، أعني قصيدتي النثرية - الديوان غير المنشورة والمكتوبة عام 1975 "أناشيد الجنون" والتي كتب لها الشاعر عبد الرحمن طهمازي مقدِّمة يومها (نسخة منها مع دمغات وملاحظات الرقابة بتواريخها، موجودة اليوم لدى باحث عراقي في البلد ونسخة في دار أختي في بغداد). سأعود قريباً لهذا النص من أجل تصويب التدليس النقدي بشأن قصيدة النثر العراقية سنوات الثمانينيات، وليس فقط لنصيَّ النثريين الطويلين في مجلة (الكرمل) أوائل الثمانينيات عينها: "ربيع الثعلب" في العدد رقم 9، و"ثمة الحرس أيتها العالية" في العدد المزدوج 19-20، وكلاهما صدرا بعد وقت من كتابة النصين المذكورين.
يعرف كثيرون، صامتون أن قصيدتي النثرية الطويلة "ربيع الثعلب" المنشورة في مجلة "الكرمل" والمؤرخة بعام 1982، قد أثرت بشكل مباشر على شعراء الثمانينيات في العراق ومنحتهم الحماس للانغمار الكامل في قصيدة النثر، عكس ما يقول سهيل نجم، إلا إذا اعتبرني شاعرا هندياً سبعينياً.
إن الشهادات في هذا المجال قليلة، أذكر منها شهادة الشاعر زعيم النصار المعنونة "عشرون نسخة من ربيع الثعلب في مقهى حسن عجمي" التي ألقاها، بأريحيةٍ وصدقٍ، في بيت (المدى) يوم الجمعة، تموز 2011 والمنشور بعضها على أحد المواقع الإلكترونية. وثمة أشياء أخرى سأؤجلها بانتظار أراء الآخرين الذين يعرفون المزيد، وأنا أرى في هذا المقام كيف يختلط من جديد المجال السوسيولوجي بالحقل الأدبي الشعري.
ما فائدة هذا العرض كله؟ هل هو استعراض ذاتي يائس يثير الريبة؟ يمكن، من باب النبل والموضوعية، أن أشير إلى شاعر وناشر سبعيني آخر غيري لم يكتب طيلة حياته إلا قصائد النثر، لكنه يستطيع أن يفعل. أستطيع أن أضيف الشاعر غيلان أيضا بثقة، ولا أظن شعره مقروءاً في العراق.
بدلاً من الدروس الذاتية، نفضّل أن نستخرج عبرة لعلها مثال على كيفية اشتغال الثقافة في العراق. علينا الاعتراف أن أنساق التفكير المستلهمة من ثقافة الثلاثين عاما المنصرمة ما زالت فاعلة، خاصة وهي تقرأ بشكل أساسي وتتطلع إلى الشعر الذي تأسس في شروط سابقة معروفة، حتى أن الاستنتاجات الأدبية الطالعة من تلك الشروط تظل هي نفسها بحذافيرها اليوم. بعضه شعر بارع دون شك. إنها تجهل إلى حد بعيد الشعر العراقي خارج البلاد، أو تتجاهله، بينما تؤمن نظرياً فحسب بوحدة (الداخل والخارج)، بل أن بعض الأصوات في البلاد والمسؤولين الثقافيين وغير واحد من المثقفين والشعراء يتوجَّه صُراحاً بموقف سالب وعدائي من شعراء "الخارج". يكفي فقط أن نقرأ الأفكار الغريبة في المقابلة التي نشرت في جريدة (الصباح) مع محمد حسين آل ياسين بعنوان "أدب الداخل كان يمطر جمراً وحيوية ويضج صدقاً وانفعالاً"، وطبيعة الدعوات إلى العديد من المهرجانات وآخرها مهرجان قصيدة النثر في البصرة (وهذه مناسبة تتعلق من بعيد بالكلمة الحالية)، لكي نتيقن من درجة فقدان المودة والتجاهل لشعراء العراق خارجه. فضلاً عن التجاهل والجهل هناك الكثير من "الجهد" المبذول من أجل الابتلاع الواعي لمنجزات الآخرين ليس النصية فحسب، أنما النقدية أيضاً وهو ما سأعود إليه بتوسُّع في مناسبة قادمة.
ملاحظات الصديق سهيل نجم تعني، دون رغبة منه وبحسن نيّة في الغالب، أن هناك تاريخين منفصلين للشعر العراقي، بالتفاصيل الزمنية وبالنتائج النقدية الأخيرة. وهو ما يدلّ عليه أيضا الإفراط في التناول الصحفي للمنتوج الشعري المحليّ، والسهو النقدي عن الشعر العراقي خارج البلاد. علينا أن نقول الأمر بوضوح: إن من يؤسّس لهذين التاريخين الافتراضيين بشكل بارز هم نقاد العراق وبعض شعرائه أنفسهم داخل البلد قبل غيرهم.
يبقى أن نشير إلى نشيد (شعراء أيديولوجيين) الملتصق كالطحلب المريض بحقبة السبعينيات، والمكرر كلازمة الببغاء: لعل هذا النص نموذج للهواجس التي كان تؤرّق بعض شعراء تلك الحقبة.
 ادناه: صورة فوتوغرافية لصفحتين من مخطوطة القصيدة - الكتاب "أناشيد الجنون"، قصيدة نثر، كما كتبتُ يومها جوار العنوان. وهناك دمغات رقابة المطبوعات العراقية، لأني كنت أنوي إصدارها بكتاب صغير مع مقدمة كتبها يومها الشاعر عبد الرحمن طهمازي. القصيدة مكتوبة عام 1975 بينما دمغات الرقابة عام1976. ما أجّل طباعتها هو ذهابي إلى الخدمة العسكرية الإلزامية. المخطوطة محفوظة اليوم لدى أختي ابتسام لعيبي زوجة محمد غازي الأخرس.
 
 
صورة فوتوغرافية لصفحتين من مخطوطة القصيدة - الكتاب "أناشيد الجنون"، قصيدة نثر، عام 1975.