أيار 02
 
حينما يغادر الإنسان مكانه الأصلي في بلده ويسكن في بلاد المهجر يصبح كل شيءٍ غريبا عليه المكان وما أدراك والمكان خاصية ما بعدها خاصية حيث يترك بيته الذي تربى فيه ولغته وحنان والديه والشارع أو (الدربوية) التي تربى فيها مع أصدقائه في الشارع أو المدرسة، هنا لا يعرفه أحد.. أين يتوجه؟ سؤال محير جدًا، أما نحن الذين جئنا الى المانيا لغرض الدراسة فالأمر مختلف تماما، كل شيءٍ كان مهيئا: السكن ومعهد دراسة اللغة الالمانية والتعرف على المدينة وشوارعها وطرق المواصلات وأزقتها حتى دخولنا الجامعة والتخرج فيها، نعم واجهنا من المشاكل منها التقاليد والعادات والأكل، المحبة، محبة الأهل والاصدقاء والجيران بعدها عدنا الى بلادنا الحبيبة، ولكن وهنا تكمن العبرات بمعنى حينما تكون غريبًا في بلادك.. اختلف كل شيءٍ بين الدراسة والعمل التطبيقي في المانيا والعراق، حيث تجد أناسا لا يصلحون لشغر أماكنهم بل لا يفهمون الدور المناط بهم وما يجب أن يقوموا به، وفي هذا المجال حدثنا الأستاذ باسل المعروف وهو مهندس بناء سفن بحري ميكانيك آليات ثقيلة ويعيش في العاصمة البريطانية لندن، يقول:
أخي العزيز، لا اريد ان تكون اجاباتي على اسئلتك مخيبة للآمال، الغربة بعيداً عن الوطن أفضل بكثير من الغربة في الوطن. انا عشت بعيدا عن الوطن خمسين سنة مضت، وأنا قاربت السبعين من عمري، مرة واحدة ذهبت الى العراق قبل 22 سنة. احسست انني غريب في وطني أكثر من احساسي وانا اعيش في بريطانيا، الذي تعرفه والذي لا تعرفه يبادرك بالابتسامة والتحية. تتعامل بكل احترام وتحترم في جميع مجالات الحياة. في العراق الوجوه معبسة غاضبة، تنظر اليك وكأنك متهم بالسوء قبل ان تثبت بأنك صافي النية ولا تبحث عن مشكلة. ومع هذا تبقى في دائرة الشك. الكرامة معدومة تقريبا، فضلاً عن الطمع والجشع واكل المال الحرام. تغير حال العراقيين من السيئ الى الأسوأ مع كل الأسف. انا الان انظر الى الوطن الذي اعيش به هو الوطن. لان وطني الام في نظري هو الغربة وامتهان الكرامة. ارجو ان تغفر لي صراحتي.
أما المثقف العراقي في هذه الغربة فأنه يعيش بترف ويحترمه الجميع ويتنافس على اعلى المناصب سواء في الدولة او الشركات. خذ مثلا من وزير الاقتصاد البريطاني العراقي والذي رشح نفسه لرئاسة الوزراء في بريطانيا ومع الاسف لم يفز في الانتخابات الحالية. هذا غير مدراء المستشفيات ورؤساء الشركات الكبرى من المهندسين العراقيين. خذ مثلا المرحومة زها حديد التي نصب لها تمثال، تكريما لابداعاتها في مجال الهندسة هذا غير الاساتذة في الجامعات البريطانية واغلبهم من ذوي الاختصاصات التكنولوجية من أصل عراقي. المثقف العراقي او العربي بشكل عام يتنافس مع اقرانه الانكليز او الهنود او الباكستانيين او الكوريين او الصينيين وحتى الاوربيين الذين يعيشون هنا منافسة حرة وشريفة للحصول على اعلى المناصب--وانت تعيش في المانيا لا تقل عن بريطانيا في هذا المجال--ولكن ان عدت الى العراق فستجد الغرائب والعجائب إزاء المثقف العراقي وكيف يعيش وسط مجتمع يقتل الطبيب او يخطف المهندس او يغتصب المعلمة او يطعن بشرف المثقفين والمثقفات لشتى الأسباب، هذا هو الوطن. ارجو ان تسامحني على طول اجابتي لان قلبي محروق على وطني.
وحدثنا الأخ د. نزار محمود وهو اقتصادي كبير وكاتب ومدير للمعهد العربي الألماني ويعيش في المانيا منذ أكثر من ستين عاما، يقول:
  • ماذا تعني الغربة؟
للغربة، في تقديري، اكثر من معنى: فهي من ناحية التغرب عن الأهل بكل ما يعنيه الأهل من حميمية وصلة قربى وثقافة واجتماعيات. وهو من ناحية الوطن ابتعاد مكاني وروحي وثقافي عن الهوية الوطنية الجمعية بكل ما تحمله من معاني التاريخ والذكريات وأنماط الحياة اليومية ومستقبل حياة الأبناء.
أما ما نسمعه عن الغربة داخل ذات الوطن أو أحياناً حتى داخل الاسرة الاجتماعية فهو ضرب من تقاطع الرؤى في النظرة للحياة، وفي أحلام يصعب تحققها في ذلك الوطن.
وفي هذا الاطار نقف على نوعين من الغربة:
  • الغربة الطوعية التي يقررها صاحبها لأسباب شخصية بحتة، قد تكون مؤقتة أو دائمية.
  • الغربة القسرية التي تفرضها ظروف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية قاسية.
غربة المثقف:
المثقف بمفهوم الكائن الابداعي بغض النظر عن تخصصه، أدباً أو علماً أو فناً، فانه، من ناحية، يقرر الاغتراب عندما لا يجد في وطنه ما يسمح له بتحقيق ابداعه أو تقبله ودعمه وتقديره.
ومن ناحية أخرى، قد يجد المثقف نفسه مضطراً أو مكرهاً على ترك وطنه من قبل سلطات وطنه.
بيد ان المثقف وهو يعيش الغربة قد يعيش ما هو أسوأ منها عندما يتوقف ابداعه أو "غربة" ابداعه ذاته في بيئة المهجر، لا سيما عندما كان نتاج ذلك المثقف وابداعه يدور حول خصوصيات وهموم شعبه ووطنه.
وفي المقابل قد يجد بعض المثقفين في الغربة ما يفتح لهم الأبواب لابداع وتحقيق النجاحات. وترتبط هذه المسألة بالعمر الثقافي للمغترب، أي متى يبدأ حياة الغربة، وفي أي عمر؟ أين كان المثقف قد تعلم ودرس؟ وما هي طبيعة ثقافته والمستهدفين منها؟
ان هناك نسبة ليست بالقليلة ممن يعيشون الغربة المكانية، لكنها تبقى تحمل هموم وطنها وتستمر في توظيف ثقافتها وابداعها مستهدفة ابناء وطنها.
 
بعدها حدثنا الأخ د. حمودي جاسم، وهو أستاذ جامعي سابق ومخرج سينمائي وتلفزيوني ويعيش في اسبانيا، قال:
الغربة من وجهة نظري اول ما تعنيه هو الالم والمشقة. الالم هو البعد عن الوطن والاصدقاء والاهل والاحبة، والابتعاد عن كل تفاصيل حياتنا اليومية وعن حياتنا المعتادة ولعل في هذا ما يطول الكلام عنه. ولاننا فرض علينا التغرب فان هاجس النجاح كان هو المسعى لتعزيز امكانية العيش في وسط مختلف ينبغي التوافق معه. ولان هويتنا الضائعة بسبب الغربة كان لزاما على المتغرب ان يعوض عن هذا الفقدان باكتشاف الذات اولا واعادة احياء صورة الوطن بما في ذلك عقائده وانماط الحياة فيه.. وبهذا فان الغربة جعلتنا نعيش براسين ونفكر بفكرتين ونتعاطف بقلبين. كيان ينظر الى الوطن وما يجري له واعادة اكتشافه من جديد في حين ان ثمة كيان اخر يعيش بجواره ينظر الى ما هو يومي لتأمين قوته المعيشي والتعرف الى كل ما في جواره، من تعلم اللغة وهضم العادات والبحث عن فرصة النجاح والتميز في وسط لم يكن يرغب في فتح الباب امامك كاملا.
المشاكل التي يواجهها المثقف العراقي الذي يعيش باسبانيا قد تتركز بنقطة اساسية واحدة وهي ان الثقافة وانتاجها قد يكون بمعزل عن مصدر الدخل المعيشي للشخص. ولذا يلجأ اغلب المشتغلين بالثقافة الى العمل باشغال مجاورة لتخصصهم لذا تجد اغلبهم منخرطين بالتدريس الجامعي او بعض المدارس العربية الموجودة هناك وهي قليلة. لكن دعني اشير الى المزايا التي يكسبها المثقف العربي عموما حينما تكون اسبانيا مستقرا له فان اول ما سيغمره هو ذلك الكم الكبير من الحضارة الاندلسية التي قادها العرب والمسلمون بهذه الارض وجعلوا منها مكانا مشرفا ومميزا بالحضارة والرقي. وهذا ينعكس بالفخر على المثقف العربي الذي جاء منكسرا من بلده بسبب ظروف عالمنا العربي الذي يعاني من نكوص وانحطاط. وسيشكل هذا الالهام محط تثوير داخل ذات كل مثقف لبذل النشاط والعمل على التميز والانجاز والنجاح.
وفي محادثة مع د. باسم الشكرجي الذي درس الذرة في المانيا بعدها تخصص بأمور أخرى وهو يعيش أيضا في المانيا منذ أكثر من ستين عاما قال:
لم نكن نعلم ولا حتى في الحلم ان قدومنا الى المانيا لغرض الدراسة يطول الى اكثر من أربعين عاما كان هدفنا هو الحصول على الشهادة العليا والرجوع الى البلد باسرع وقت حتى يرفع والداك رأسيهما بالتباهي بابنهما الذي سيرجع الى الوطن لخدمته، ورد الدين الى من اقتطع من لقمته حتى نستطيع أن ندرس ونحصل على أعلى درجات العلم والمعرفة، ولكن ظروف البلد والحروب والحصار الجائر الذي فرض على البلد ادى الى خلط الأوراق وضياع الجهود ووجدنا أنفسنا ننسلخ تدريجيا من احلامنا، ونبقى صرعى التحديات ونبقى في البلد الذي درسنا فيه ونحن نعد الايام بأمل للعودة وتمضي الايام لتجد نفسك في سن التقاعد وعلى الرغم من مرور اربعة عقود على وجودي في بلد المهجر، اشعر يوما من الايام اني جزء من الثقافة الألمانية، لأن هناك بونا شاسعا بين ما تربينا عليه من قيم وأخلاق وما هو موجود في الثقافة الغربية، وبمرور الوقت اصبحت أكثر تشبثا بحضارتنا واخلاقنا وعاداتنا فانا افتقد الكثير من حب الآخرين والبساطة في التعبير عن الاحاسيس والبساطة في الانفتاح على الآخرين، فأجد نفسي غريبا عن كل شيء: غريبا في التفكير غريب في عادات الاكل ونوعيته، غريبا في فهم الاديان ونظرة الغرب للدين، غريبا في قبول الكثير من العادات والتقاليد وهذا يولد لي معاناة كبيرة في التعامل مع الآخرين خصوصا، فاسكت واغض الطرف عن إبداء الرأي وانتقاد حركة المجتمع بسبب ردود الافعال التى تصفنا دائما بالتصلب والتشبث بعادات قديمة عربية ودينية لا يوجد لها مكان في عالم متطور تكنولوجي. وما يحز في النفس انك مهما تطول مدة بقائك ينظر لك الآخرون بنظرة دونية وبسموك الأجنبي ويتعاملون معك كأنك وصلت البارحة، ولكن الظروف تضطرك لان تقبل هذه المعاملة الخشنة حتى لو صدرت من اقرب الناس اليك.
اما بالنسبة الى وضع المثقف رغم وجوده في جو انفتاح وتوفر كل مصادر البحث ومصادر البحث الإلكتروني بكل انواعه، فما زالت تبعات وجوده في الغربة تنعكس بظلالها على التواصل مع البلد الام الى عملية التعبير عن الأفكار باستعمال اللغة الالمانية التي من الصعوبة بمكان ان تكون الكلمات المستعملة تعطي المعاني العربية نفسها، مما يصعّب عملية التبادل الثقافي بين اللغتين. ان غياب الفرص للمثقفين العراقيين للحصول على موطئ قدم في سوق العمل ادى الى اضطرار النخبة للقبول بفرص عمل اقل بكثير من مؤهلاتهم ما ادى إلى ضياع بنيتهم العلمية. ان انفتاح الألمان على الثقافات الاخرى لا يعني فتح الأبواب على مصراعيها بل تتطلب من المثقف ان يثبت الجدارة والكفاءة العلمية والمقدرة على استيعاب احدث التقنيات في بلد يعد من اكثر البلدان تطورا في العالم.