أيار 02
 
 
1 –
أحاول من منتبذي القصيّ التنقيبَ في خارجي عن (داخل) متمدد على مساحته.
 وسيلة متاحة واحدة هي اجترار الذكرى.
إنها بعضٌ مما أسميتُه في تداعيات سابقة (تطمينات الحنين). رسائل يبعثها المكان الجديد الذي سيظل له طعم الوصف الجدير به: الغريب. ذلك الذي قالت عنه معاجم العرب الأولى إنه رديف البعيد والغامض. ومنه يتنزل لفظ الغراب الذي غادر سفينة نوح، وبانَ عنه ولم يعد، كما يؤول الدميري في (حياة الحيوان الكبرى). فكأنه بشؤمه شريكُ الغريب في غربته، وفي قدَر الفراق الذي التصق به. تتغافل الرواية هنا عن المكان القلق الذي بان عنه الغراب: إنها سفينة تمضي إلى غير ما هدف، مثل وطن سنحيي ترنحاته وشرره التي تحرق أيدينا وقلوبنا، سفينة تترنح في عباب طوفان لا يبين له آخر. 
 الساعات الفاصلة هي توقيتات الغربة في سياق المكان. تفرضه على الغريب ولا تشير إليها عقارب ساعة يده، أو ساعات بيته الجدارية التي تواجهه كالمرايا كل صباح، فاضحة حنينه ومعمقةً شعوره بالفقد. إنها تجعل التوقيت نصّاً يتحدى صبر الغريب. فتزيد أغلفة غربته وأغلالها. أمكنة تمنع عنك أن ترى الصحو في الداخل الذي ابتعد في الأرض، أو بعدتَ عنه في أرض الآخر.
ثماني ساعات من الاختلاف عن توقيت الأرض الأم.. ومَن عليها، ومَن تحت ثراها.
فاصلة عن توقيتِ مَن لايزال يطالع الساعة وعقاربَها التي تلسع صبره بلدغاتها المتكررة، وتتضاعف العقارب وتكاد تسعى في معصمه وعلى جدران غرفته.
وعن توقيت ذلك الذي تعطَّل وقته، وفرغت منه ساعته؛ لأنه ليست به حاجة لها في ظلامِ أبديته، التي لا يحكمها وقت أو ميعاد.
أكتب الآن عصراً. شمس خريفية مبكرة تنفذ أشعتها من فتحات النافذة او أشرطتها المتدرجة. لكن توقيت بغداد يفلت من التحيين. نام الكثيرون الآن. وحين يستيقظون نكون في نومنا غارقين بوقت لا يأتي إلا في منامٍ عابر، يتساقط من الذاكرة، عندما نستيقظ. دورة زمنية تكر بلا جديد، ولا سبيل للخروج من محيطها.
 حتى الأخبار والبرامج معادةٌ عن نصّها النهاري. الهاتف لا ينجدك بصوت أو رسالة أو بريد. وإذ تهرع إليه قبل أن تستكمل مُعدّات الصباح. تفاجئك دوماً أخبار الفقد التي تترى، والمغطس الذي يهوي إليه الوطن ساعة فساعة. 
 
2-
(الخارج) وصف مخفَّف يستمد تداوليته من الجغرافية. أنت في (داخلٍ) هو موطنك وموطن مواطنك الذي في (خارجٍ) جغرافي عن موطنه.
تكفلت الحداثة الرقمية وخوارق علوم الاتصال والتواصل في تضييق الفجوة. لم يعد لنا بريد ورقي يصل بعد زمن .ويُنشر  مانكتب على الناس بعد ذلك.فيبدو متأخراً عن زمنه الذي هو عادة زمنٌ  محكوم بتوقيتات الموطن .
اليوم صارت المسافة صفراً. والتقنية تتكفل بإيصال الصوت وصداه، والفكرة وتلقّيها في غمضة عين.
لكن الخارج الذي يسود في الكتابة وتلقّيها وتداوليتها الجماهيرية، هو خارج ذو سمة إيديولوجية. لعله التاريخ الإصطلاحي لأدب الخارج والداخل ومفاهيمه الملتوية. وما مر به من إشكاليةٍ وصراع. تهمٌ وتهم مضادة. وتجويق واعمام بدعوى الولاء للدكتاتورية بسبب الإقامة والعمل في الداخل. وردِّ التهمة بمثلها لأدب الخارج بذريعة البُعد عن معاناة الداخل. البعد هنا يتخذ حِجاجاً عقائدياً. بل يتجاوز ذلك إلى جدل وعراك سياسي. عانى منه أدبنا العراقي خاصة. وبعد سقوط النظام الدكتاتوري تبخرت تلك الثنائية المزعجة والمتوهَّمة حتماً.
كتّاب العالم وفنانوه ومثقفوه، مروا بما مر به نظراؤهم العراقيون. وانقطعوا عن داخلهم الذي حملوه في قصائدهم ورواياتهم وأعمالهم الفنية. لكنهم لم يُسلَبوا مواطنتَهم أو انتمائهم. ولم تسلبْهم المنافي والمغتربات ذلك.
 
3-
الإخوة الغرباء بتعبير أمين معلوف في روايته الأخيرة، هم جناح التطمين الآخر. به نتلقى جرعات من الصبر. أنت تراهم بسحناتهم ولغاتهم المتعددة، وبمأكولاتهم وأزيائهم وعاداتهم المتنوعة. كأنهم من عَناهم المتنبي في وصف جيش سيف الدولة المحتشد لفتح قلعة الحدث الرومية..
  تجّمعَ فيهِ كلُّ لَسنٍ وأمةٍ
فلا يُفهم الحدّاثَ إلا التَراجمُ
 كثيراً ما وجدتُ في وجودهم تعلةً. تجمَّعوا في فضاء غريب. فصاروا هم الغرباء. تنجذب نفوسهم لبعضهم دون بوح غالباً. ربما هي تعلة متبادلة وتصبير..
لكن الأرض هنا مهْد لهم جميعاً. تجمعهم حيث فرقتهم الأوطان بعناء خاص، أو بهِبات جنرالاتها وسياسييها وحكامها وأنظمتهم.  أو بفقر ليس إلا حصاد تلك الخسارات التي تفرزها الدكتاتوريات والاحتلالات والأنظمة التي يغيب عنها العدل.
النتاج المكتوب في فضاء الغربة غريب أيضاً. يحمل هموم الداخل الذي لم تنتزعه الجغرافية أو الزمن من صدورهم. وعناء حاضرهم في فضاء الآخر الخارجي.
هل ترِد الوحدة مقترحاً لمداواة الغربة.
للغربة أواصر مع الوحدة. تتنوع الصلة ولكن جذرها واحد.
الوحدة ابتعاد وغوص في بئر من النسيان والغيبوبة التي تئد الوعي والشعور والإدراك.
في بيتين يلاعب الشاعرُ الراحل عبد الأمير جرص الوحدةَ، وكأنه يستبق قدره حين سقط من دراجته في مغتربه الكندي ومات:
الوحدة ضيقة ولو كانت صحراء
الوحدة شاسعة ولو كانت ثقباً في إبرة
وإذ تضيق الوحدة تتسع الرؤية. في أحيان كثيرة أبادرها بما كتبتْ يدي من قديمي أو جديدي الشحيح. هنا لا تتغذى القرائح ولا الأفكار إلا على زاد قليل لا يفي بالنهم للمعرفة في طريق الغربة الطويل. لا تصل مطبوعات عربية ولا تباع إلا في مدن كبيرة وفي أماكن قليلة.
 المكتبات العامة الكثيرة في كل حي من المدينة، تصلها الصحف والمطبوعات الجديدة كل يوم. لكن الكتاب العربي فيها غريب اللسان. الغربة مرة أخرى. تتبادل الانخاب مع الوحدة، وتتداولان الغريب في كؤوسهما المرَّة.
كتبتُ دراساتٍ ومقالات. ونشرتُ كتباً جديدة. وأعدتُ طباعةَ أخرى من قديمي.
لكن الصلة هامشيةً دوماً بالجذر وما يجري في نهر ثقافته من مياه جديدة. وهذا أقسى انعكاسات الغربة في المنتَبذ، كما أحب أن أسميه.
لا يشك المغترِب أن شمسَه غربت. بكونه ذاك الذي عناه التوحيدي حين صنّفه غريبا في غربته. ووضعه بين قوسين قاهرين فهو (غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان).
سبيله إلى الوطن عسير. أحرق خلفه السفن كما في أدبيات المنافي وتداول المغتربين. وليست له قدرة على الاستيطان في جديد أمكنته البديلة. فكان نموذجا لعناء سيزيفي جدير بالدراسة.
تحسُّرُه على فقدان السبيل إلى الوطن، يضاهي فشله في القدرة على الاستيطان.
كل ما يتراءى محواً لماضيه محضُ خرافة. النوستالجيا تسكنه. وتثيره الأسماء والروائح والصور، وحتى صغيرات الأمور التي ربما لم يكن يلتفت إليها في وطنه.
عالم يصغر بمرور الزمن وينسحب إلى هوامش على متن الغربة.
 قدرٌ عاصف لقادم مثلي في عمر عصيٍّ على التكيف. تزداد أثقاله وتتضاعف.
قامت تربيته الثقافية وتعلُّمه وقراءاته وكتاباته بلسانه الأم.
ومحيط عمله هناك وما جاور الـ (هناك) على مدى عقود من العيش..
بعض المغتربين اعترفوا بالانشقاق الذي يبدو عسيراً.
 منهم إدوارد سعيد الذي قال إنه من هنا وهناك، لكنه ليس فيهما. يفكر بلسانَين ويكتب. وهذا ما تلقَّفه محمود درويش، وأثبته عنه، في قصيدة (طباق) المهداة له:
أنا من هناك. انا من هنا
ولست هناك ولست هنا
لس اسمان يلتقيان ويفترقان
ولي لغتان نسيت بأيهما
كنت أحلم
 ولخّصها البياتي مخاطباً ولده:
فقراءَ يا قمري نموت
وقطارُنا أبداً يفوت
وتركزت في قصائد سركون بولص، في شذرتين كصرخة:
-  حولي أوجُهُ الحمقى
وأصواتُ الطيور الجارحة
كيف وصلتُ، من دلَّني إلى هذا المكان؟
- أينها؟ أين أمريكا التي عبرتُ البحر
لآتيها، أنا الحالم؟
هل ستبقى أمريكا والت ويتمان حبراً على ورق
أقول لسركون كلمات، لا يسمعها في غيابه، كلما قرأتُ القصيدة. لم أعبر حالماُ، بل حاملاً جراح الوطن التي تركها في صدري. والسبيل موحش إليه. كما هو قاسٍ في المجيء إلى هنا.
4-
هي ليست ثماني ساعات بل برزخ كبير، لا تسد فجوته الهائلة كلمات ولا تعلات.
القصيدة ترشق الغربة بإيقاعها، لتعلو فوق صوتها الناعق. والغربة ترمي القصيدة بالنسيان، لتظل في لفافة صمتها.
 ألجأ إليها بحذر من عنفها. لأن القصيدة أرض أجنبية أيضاً بحسب عبد الفتاح كيليطو في روايته القصيرة (والله إن هذه الحكاية لحكايتي).
  استوقفتني العبارة طويلاً. فنحن نأتي القصيدة من خارجها، ونقيم فيها دخلاء هاربين من نثر الحياة.
يضيف كيليطو إن الشعر ذاته غدا مؤلماً. لأنه يتحدث عن المنفى دوما.
وين ألم الشعر وغربة القصيدة، تتعلق كالمصلوب: قلوب كثيرة وأسئلة ومصائر.
 * د. حاتم الصكَر/ ناقد واكاديمي يقيم حالياً في ناشفل – تنسي/ امريكا