أيار 05

   في الثالث من يناير من العام 1889 بتورنتو يخرج نيتشه من المنزل رقم 6 الى كارلو البيرتو ربما، ليأخذ نزهةً، وربما ليمرَّ على مكتب البريد، حتى يتسلم رسائله، ومن مكان ليس بعيداً عنه، أو بعيد عنه في الحقيقة، كان هناك سائقُ مركبة يعاني من حصانه العنيد. وعلى الرغم من الحاجة الّا أنَّ الحصان يأبى ان يتحرك، لذا، كان على سائق المركبة جوزيه، كارلو، ايتوري أن يفقد صبره، ويخرج السوط ليجلده. يصل نيتشه المكان، ويضع حدّاً لهذا المشهد الوحشي، الذي يقوم السائق به، والذي كان يغلي من الغيظ. في الاثناء هذه، وفجأة يقفز نيتشه الى العربة، وعلى الرغم من مظهره القاسي يُحيط برقبة الحصان بكلتا يديه، وياخذ بالبكاء.. يأخذه جارُه الى المنزل، حيث يستلقي لمدة يومين على الاريكة، صامتاً وهادئاً، حتى ختم صمته متمتماً: أمّي انا أحمقْ. اما الحصان فلا يُعلم عنه شيئاً. من فيلم ( (The turen hors).

   هكذا، ومثل حصان تورنتو، الذي لم يُعرفْ خبرُه الى اليوم، وعقب ثلاثة أيام من سيطرة الجيش البريطاني على البصرة، أيّ في ظهيرة يوم 24 نيسان 2003 خرجتُ، دونما يقين منّي بمكان العربة (الحلم) حيث تركتُ، فيما أخذ أحدُهم الحصان الى جهة مجهولة، لا أعلم ما إذا كان سيعود به أم لا، لكنني، التقيتُ لؤي حمزة عباس، القاص والروائي، في ساحة ام البروم، بالعشار، كان قد خرج مثلي، أو مثل حصان تورنتو ايضاً، ترك عربة أحلامه في المكان ذاته، ممتثلاً لرغبة في الانعتاق والحرية ورؤية مدينة أخرى، خلت من الحمقى والغاضبين، من القتلة والبعثيين.. لم يكن بيننا موعد، لكننا التقينا، كما لو كنّا خرجنا معاً، أكنا فرحين، مستبشرين؟ لم لا! وفكرة الانعتاق والحرية ماتزال قائمة في رأسينا.

  ذرعنا شوارعَ العشار طولاً وعرضاً، كانت مقراتُ حزب السلطة والدوائر الامنية ومراكز الشرطة وبقية المؤسسات قد خلت تماماً، اللهم إلا من القطط والكلاب، والقليل من الناس، الذين دفعهم الفضول لمعاينة شيء ما.  كان أصحابُ المحال التجارية وأرباب المهن يقفون أمام دكاكينهم المغلقة، تحسباً لأيِّ طارئ، والجنود البريطانيون مدججين، يصوبون بنادقهم بكلِّ اتجاه، لكنهم يبتسمون بوجوه المارة، في رسائل طمأنينة واضحة، وكاذبة.. أكثر من حلم وأمنية كانت مدار حديث بيني ولؤي، فقد خضنا في أحاديث كثيرة، مستعرضين المصائر والنهايات، ورحنا نستعرض تجارب عالمية، فذكرنا برلين بعد الاحتلال، والدول التي خرجت من الحرب الثانية، وعرّجنا على تجربة اليابان ودول جنوب شرق آسيا.

    كان هواءٌ مختلف يهبُّ بين الفينة والاخرى، وبأكثر من صوب وإتجاه، العصافير ما زالت آمنةً في بطون الشجر، بحثنا في مقاعد المقاهي المتروكة فلم نلتق بأحدٍ، آخرون لا نعرفهم يتهامسون بأحاديث تشبه حديث العربة والحصان، لم يكن بينهم من نسب لنفسه آلة التغيير، ولم نرَ يافطة لحزب ما، وليس في سماء المدينة راية واحدة ترفُّ، إلا ما تبقّى من خيوط العلم العراقي، مخذولاً بعبارة الله أكبر، يقلبه الهواء على بعض المباني الرسمية.

   بعد أسبوعين وأكثر ربما، وبالقرب من ساحة الفلاسفة، بالعشار أيضاً، عند المبنى الحكومي القديم وقف شرطيٌّ ينظِّم السير، البعضُ ينصاع له، وكثيرون لا يأبهون لإشاراته، التي راحت تطيش في الهواء، رأيته منسجماً مع اللحظة الفارقة تلك، متحرقاً لرؤية مشهد أكثر تحضراً، بعد ذلك بشهر رأيت أكثر من شرطيٍّ في المكان ذاته، أو في أمكنة أخرى، ثيابهم فقيرة لكنهما بابتسامات صادقة، وبلا بنادق ولا مسدسات، يجاهدون في وضع لمسات للنظام في الشارع، والناس تفعل بهم ما كانت تفعله بشرطي المرور. الآنّ عليَّ ان أكون صادقاً أكثر، لأقول بأنَّ المشهد ذاك تعجّلني بالسعادات، فبكيتُ، وانهمرت الدموعُ غزيرةً، داريتها بالخجل فلم أقدرْ، ومسحتها بأقذر المناديل فلم تُوارَ.

     أتذكر قولاً لآل باتشينو:" إن بشرة الانسان رقيقة جداً إزاء هذا العالم". بكيتُ لأنني احسستُ ولأول مرة في حياتي بأنني قاب قوسين أو أدنى من الامساك بوطن لي، أستحقه لذا فهو يستحق دموعي أيضاً. شعرتُ ولأول مرة بانَّ الشرطيَّ الواقفَ تحت شمس حزيران من العام 2003 يمثلني، ينتمي لي وأنتمي اليه، وهناك وطنٌ أخذ يتشكل بين أيدينا معاً، ينتظرنا ليكون، لأنَّ انتظارنا له كان طويلاً، وهو موجود فينا، ولا حاجة لابتكاره، أبداً.  في فلسفة الكينتوسي يكون الجسمُ الذي يتم ترميمه قد تقبّل ماضيه، لذا، على الانسان ان يتقبل أخطاءه لأنها تظهر أجمل مافيه. وهكذا، وجدتني أمسح عن عيني صورة الشرطي الذي دهم بيتنا في خريف العام 1978 وأخذني من بين يدي أبي.

    بعد عشرين سنة على حزيران 2003 كرهتُ الشرطيَّ في معاونية الشرطة القريبة من ساحة الفلاسفة، فقد نهرني، وانا اتوسله استرداد هوية ابني، الذي تآمرت عليه مفرزة النجدة، التي بالبصرة القديمة، وأخذته الى مخفرها، ولم تفلح معه هواتف الضباط الشرفاء، أصدقائي، ولا هوية اتحاد الادباء، خاصتي، بل، ليتني لم أسمع قول أحدهم: الشرطة مخترقة يا أخي! ولا أقوى معك على قول كلِّ شيءـ لم أشأ أنْ أسأله من أين تم الخرق أو الاختراق؟ لكنّني تذكرتُ هيدغر وهو يقول: اللغة بيت الحقيقة. ثم أنني تذكرتُ ما حدد لي في نقطة الحدود الفاصلة بين العراق العربي وكردستان فقد كان عليَّ أنْ أحتفظ بورقة الاسايش، التي تبيح لي الاقامة هنا، وانْ لا أبقى أكثر مما يسمح لي، في الجبال، وبين الوديان التي دافعت عنها قبل أربعين سنة، لأنَّ عراقيتي ومواطنتي ناقصة هناك. كان بوب ديلان يقول: " لا بأس يا امّاه، أنا انتحبُ فقط." لكنني، ولكي أبدو أكثر تماسكاً صحتُّ بصديقي الذي لم تمهله قذيفة الـ RBG7: يا أخي في الوجود المرِّ هذا: إنهضْ وسرّ، أياً من عظامك ليست مكسورة.

    في العادة، لم تردْ عبارة الحكم الوطني مقرونة بالفساد والخيانة، لذا، فالوطني يعني نمط الحكم غير المرتبط بالاجنبي، والعامل لصالح بلاده ومواطنيه، وإذا كانت قوى المعارضة التي حكمت البلاد بعد العام 2003 لم تطلق على النظام السابق بالحكم الوطني فأنَّ الشعب العراقي برمته يفعل معها اليوم، وهكذا، وجدتني أبحثُ عن دموع سعادتي، التي ذرفتها عند رؤية شرطي المرور ورجل الامن قبل عشرين سنة، يوم خدعتني صورتهما، أو صورة الوطن الكذب. الآن يحقُّ لي أنْ أسأل: أبقيا كعهدي بهما، أم أنهما باتا جزءاً من منظومة الحكم (الوطني)؟ أريدُ أنْ أتأكد من الصورة الشوهاء، الملوثة برأسي تلك، وأشير الى يد الرجل، الذي ظلَّ واقفاً، ينظّم السير، أبقيت يده مبرأة من الدنانير السحت، والى يد رجل الامن وهي تحاول احكام قبضتها، عاملةً على حفظ حياة الناس، وتروم خلاص البلاد من القتلة واللصوص، أما تزال كعهدي بها بيضاء؟ أم أنها انسلخت من زمني ذاك، فصارت واحدة من عشرات الايدي الحمر، فهي طيعة بيد المليشيا هذه مرة، وجريئة بيد الجماعة المسلحة ثانية، تنتزع من لحم بني جلدتها فلا تشبع، وتقضم دنانير هذا وذاك فلا تقف عند مبلغ.

     أقول هذه وأنا أنظر الى السيارات والمباني والأرصدة التي جناها أبناء الحكم (الوطني) وأصرخُ بما بين فكيِّ من القهر: أمن أجل هذا تقطعت أجسادُنا في الحروب، وسُحقنا في السجون والجبهات، أمن أجل اللحظة هذه جعنا وعرينا في البيوت، أمن أجلها انتظرنا في المنافي أربعة عقود حتى يسقط النظام؟ في كتابه (الحفلة التي لا تنتهي) يكتب كريستوفر هيتش:" لا تقف متفرجاً ازاءَ الظلم والغباء، سيوفّرُ القبرُ لكَ كثيرا من الوقت الكافي للصمت.." وأقول غير خائف من أحد: لا يوجد طريقٌ أطول من القدمين، ولا حبلٌ أعلى من الانسان. ذلك، لأنَّ سبعين سنة مضت من الآمال والآلام، واحتمالات القتل بالرصاص أو الموت على الاسرة، ولا أمل لنا جميعاً في فراديسَ غير تلك المفقودة.                                              

      قد يصحَّ لنا تقريبُ صورةَ ما حدث في العراق خلال العقدين الماضيين فنقول هي ملحمة صبر الشعب على هؤلاء، فقد كان هو قطبَ الاحداث تلك، لكنَّ ملحمته هذه سرقت، سرقها مدّعو بطولات وهميين، أما هي(الملحمة) فبلا أبطال، لأنَّ البطولة سرقت ايضاً، وهي تباع في سوق النخاسة، وفي كل سوق للخيانة والعمالة والفساد، حتى لم يعد الشعب يفرّق بين ما كان قائماً قبل عشرين سنة وما تلاها. البطولة تزيفت وترذلت وترثثت فهي بضاعة القتلة واللصوص الآن، وينسبها لنفسه واسرته من مُهْدت الارضُ له بدماء غيره، وينتزعها من يد غيره من لم يولد لأجلها، ويستأثر بها من لا حقَّ له فيها، ويدعيها من لم يكن من العراق وناسه بشيء. قد لا يحتمل أحدٌ رائحة الحقيقة الكريهة، لكنها هي كذلك.

     لذا، ومن أجل أن أنأى بنفسي عن هذه وتلك، كان لي ان أتخذ من جذع نخلة أقصى السباخ متكأً، أحدِّث انسانيَ فيها بحديث الخيبة والالم والقوارب الطافية والاشرعة الهاكلة. فهذه أرض عزَّ على ساكنيها الصبر، هذه بلاد يقرض أمنها قومٌ لا يؤتمنون، وتفرض قوانينها على ضعفائها، بينهم من يرفع ذراعه عالياً، مع صوت طبل كبير، بغيته أنْ يدخلك الرعبَ الذي أدمنْتُه، وآخرُ يشجُّ رأسَه بقبضة صاحبِه ليُرعبكَ أنت، فلا خير بمن يجيؤوك بحديث مستلٍّ من كتاب بالٍ أصفر، لا ليضيئ وجهك بنوره، إنِّما لكي تُسلمَ روحك بين يديه، هذه بلاد إن أحببتها قتلتك(ملائكتُها) وإن غادرتها تركتَ عيالك فيها للسبي والمهانة. لذا، أوصيكَ يا صنويَ الشاعر، ألا تكتب في صفحتك، ولا في أيِّ ورقة أخرى كلَّ ما عنَّ لك، لئلا يقرأ صاحبُ ابنك ما كتبتَ، فيشنّعه عليه، ولا تنشر صوراً ملونةً تضمّك والليلَ والخمرة والنساء في المدن الجميلة، فهذا مما لا يليق بك انساناً، وأباً برهط من الحفدة والاسباط. في الزمن الرديء هذا، أرجوك تجرّأ واحذفْ صداقتك مع أخيك وزوجتك وابنتك وابنك وشقيقه وزميله ورفيقه، لئلا تُحرجَ احداً منهم، ولئلا تصبح عار أهلك كما قال "طارق الّشبلي" عن نفسه ذات يوم. 

  ولأنك ماعدت من المِلّة المجنونة هذه بشيئ، بحسب وثائق هؤلاء وأولئك، وبحسب انحراف قلبك الى اليسار وعينك الى الشمس والنهار سيتوجب عليك السماحَ لأحدهم بأنْ يغرز بيرقاً، أعلى الدار، ولتدعه يخالطُ السماء، وليترامحَ طولياً مع الطير والنخلة ولاقط الانترنيت، ولا بأس بان يعلوها أكثر وأكثر، فهذا زمان يُحترم فيه من علت بيارقُه السود، واتسعتْ مضايفه، وكبرت قدورهُ، ومُلئت بالرز واللحم صِحافه، ومسَّ الارضَ، تبختراً وخيلاءً ذيلُ دشداشته، وتختّمَ بالعقيق وأولادُه، وإزيّنت بالذهب والفضة نساؤه،  أما أنت فمن أجل عيون أبنائك، وزوجتك، وكنّاتك، وأحفادك، وأسباطك، من أجل (شرفهم) عليك أنْ تجعل من صوت الـ دي جي عالياً، ولينشد المنشدُ الكريه ما اقترحوه على أذنيك، ولا بأس بالاثافي والقدور، وبشيئ من الرماد قرب الباب. كان كارل ماركس يقول:" لو كانت الظروفُ هي التي تشكِّلُ الانسانَ فمن الضروري حيئنذٍ تشكيلَ الظروف لتكونَ الانسانَ ". 

    إيِّاك والازرق السمائي من الثياب، فانه لون الموسيقى، وإيِّاك والابيض الزهري من الشوق أيضاً، فهو صوت القادمين من المسرات، وإياك والاحمر الاحمر من الآمال، فهو نسيج الحب والثورة في قلبك، كيف لا أقول ذلك وكلُّ جدار في المدينة أسود، وكلُّ الحدائق غبراء منزوعة المباهج، كلُّ الارصفة للبيارق والقتلة واللصوص، فلا تُفزع الشجر بصوت فيروز، واترك المباهج مشنوقة على كتيبة باب الدار، فهذا يوم نهاره لمفارقة الاحبة، وليله للكمد والخذلان، وحاملو المصابيح فيه لا يستعجلون النهار، فقد أضلوا الطريق اليه، هم في سبخة الارض ينتظرون اللحم بالرز، يقدّمه من أبحرت مراكبُه في الخليج، لأنَّ النفط محمول الى هناك، محروس بالبنادق الرسمية وشبه الرسمية، حيث يتسع البحر لكلٍّ قائم بالامر وعاطلٍ عنه. ولانهم في لباس التقوى لا تقل لصاحبك: صباحَ الخير، عن أيِّ الصباحات تتحدث، وعن أيِّ بارقة للأمل لم يقتلوا فيك بعد. أخفِ كيس المكسّرات عن زوجتك، فهي تريدك واقفا مع حشد الواقفين، مُرمِداً بين الأثافي والرؤوس المعصوبة كذباً، توقِد وتنفخ وتبكي وتتجهم. ولكي تكمل حروبك قل لأبنك ألا يضحك، علّمه كيف يراكمُ الدمع في مقلتيه وينحب متى شاؤوا له، علّمه ألا يمشط شعره، وليمتنع عن محاورة طلاب الموسيقى في القسم، وليذهب ضياءُ غرفته الى حديقة أخرى.

    في الليالي حالكة السواد، ومن النافذة التي تشرعها، يأتيك صوتُ الطبول، متجرداً من الرأفة، وتنتزعك من مكانك صلصلةُ السلاسل، فهي ترتطم باللحم، تسلخه أحمرَ دامياً، ومن الزجاج ما ينفذ لقلبك من الرعب، فينغلق بابٌ أطلتَ تشرعه للسلام. ومن الباب ذاك يتسلل أحدُهم، وبمدية الى حديقة روحك، أكثرُ من مِديةٍ تشهرُ بين البتلات، والظلام صامت يرين، هناك من أتى بفأسه على مرقاة الامل، وأكثر من واحد لا يأبه لانطفاء المصابيح على العشب. اتخرج؟ أتتجرأ؟ وأنت شلو رفيفٍ وآسٍ قليل. أرجوك، كن في الغرفة الاخيرة من البيت، وأغلق النوافذ كلَها، وإجعل يمينك على يسراك، وظهرك الى بطنك، وأمامك الى خلفك..  وتدثر بقصيدتك الاخيرة، أكمل كتابَ أسمائك، الذي ابتدأته، وأحمل الى وسادتك ما شئت من الاحلام، كنْ في الظلام الأخير. هناك، ففيه من لا يعثر عليك.. وانظر الى مايحدث، لكنْ بالصمتِ الذي تُثقبُ جذورُ النباتاتِ به الارضَ. كما كان يقول خوسيه سارماجو.

     أتلفتُ حولي فلا ارى من فيض التغيير إلا ما غمرني بقسوته، واتي عليَّ بآلته، فقد فقدت الكثير من الاصدقاء، ماتوا كمداً، أو قُتلوا غيلةً، أو غابو هرباً وطمعاً بالنجاة. لم تطل فسحة الحرية التي منحتُ إياها وبني جلدتي- جلدتي في الوطنية والانتماء وحب العالمين أعني- أكثر من سنة او سنتين، فقد استأثر الاشقاءُ الحزبيون بكلِّ شيء، وحازوا الدرجات العلى في المال والسلاح والقتل والاقصاء والطرد والجاه والعفونة والمكر والنفاق والسطو والقتل ... حتى انهم لم يتركوا لي فرصة أن أكون، أو أنْ أخون!! أيخون إنسانٌ بلاده؟ تعال أيها الشاعرُ الكبير سترى البلاد نهباً، والخيانة فخرا، والفساد ثقافة، والقتل بطولةً وتقربا الى الله، تعال، ستزداد فقراً ومرضا وموتا، وإياك أن تبحث في عيني حبيبتك عن غابة النخل، فقد ولّت والى الابد، لقد أتى حكام المصادفات عليها، وبما بين أيديهم من السندات والثوباتات الكاذبة، فردموا الانهار واقتلعوا الاشجار، ولم تعد المدن تضيق بالنخل والاثل والتوت والسفرجل، هم يؤثرون الحديد والاسمنت على كل شيء..

     أما نحن، فلا نقوى على شتم جرّافة واحدة، ولا نحدّثُ أنفسنا بحديث البطولة والمقارعة.. لكنْ، والحق أقول: لقد مَنحنا الشقاةُ واللصوص والقتلة وعبدة الربِّ الكبير الحرية كاملةً في البكاء، بين الاضرحة، التي على الفرات، وفي كل مكان هناك، وضافروا الجهود والجهود، وبما امتلكوا من القسوة والجبروت فتحوا أعيننا على الحياة والموت معاً، لم نمنح الاختيار، لكنَّ بعضنا لم يختر الحياة، والبعض الآخر مجبراً اختار الموت، ثم قالوا لبعضهم: إنَّ أفضل طريقة لجعل زهرةٍ تموت، هي اجبارها على التفتّح بالقوة. لم نفتح أعيننا، نفتحها على ماذا؟ فأنا اليوم معهم أرددُ ما قاله بورخيس:" لقد اقترفتُ أكبرَ خطيئةٍ من الممكن أنْ يرتكبها إنسان. أنني لم أكن سعيداً".

  إذا كان العدم –بتعبير أحدهم-هو البداية الاصلية لكل ما هو موجود، فأن الوجود هو القدرة على التفاعل مع الواقع بشكل مباشر أو غير مباشر. وهئذا أبحث في العدم فلا أراني، وفي الوجود فلا أرى إلا ما يتهدم ليؤول الى العدم. وحين أردتُ أنْ أطرق باب العدم ذات يوم، لم تستجب الارقامُ لي بإحصاء عدد الشهداء والقتلى المغدورين بالمفخخات والمسدسات الصائتة والكاتمة، فقد رابت الارقام على الارقام، وتداككت الجثثُ على الجثث، وبعثرت القبور قبل النشور، حيث بعثرت، فهالني ما رأيت، قلتُ لأطرقن باب الوجود إذن، علّني أجدُ من يأخذ بيدي الى دارة المباهج والمسرات، حيث تأملت، وهكذا اخذني صاحب المال الى الفنادق الكبيرة والمطاعم الانيقة والبنوك المبردة وسوق الصيارفة والمرابين، المودعين والساحبين، المشترين والبائعين، حملة الدنانير، وعاقدي الصفقات داخل الحدود وخارجها فهالني ما رأيت، فالناس هناك انيقون وببزات مختلفة، يذهبون ويأتون، يقومون ويقعدون، يعرفون بعضهم، ويخشون بعضهم أيضاً، مع أنهم لا يختلفون، لكنهم موجودون، ووجودهم اكبر من عدمنا بكثير، وهم في كل مكان. أما نحن فكثيرا ما نصل المكان الذي ينتظروننا فيه. ياه، هذا أنا أقول: لكل من يصادفني من الاحياء: اشتر حصاناً، ولكن لا تذهب. وأكرر عليه: سعادةُ مِقرعة البيت في انتباهه اهله. وفي ازميل المثَّال عين لا يُبصرها احدٌ، وفي الخشب روح تنمو بالخدش والقشط، أما السهم الذي اخطأ الرجل فقد ثلم الحجر. ألا فلنبكِ الرخامَ الجميل..