أيار 05
 
مع انتهاء الألفية الثانية، ودخول الأزمة العراقية مرحلة النسيان وغياب الحلول الحقيقية، بدأ العراقي يعيش حالة يأس حقيقي من وجود حل موضوعي ينهي أزمة العقوبات الاقتصادية ليعود العراق الى وضعه الطبيعي، وبذلك أصبحت الحلول فردية هي الحل. والمثال الاوضح كان موجة الهجرة المجنونة التي ضربت البلد وقادت عشرات الآلاف من العراقيين الى دول الجوار اولا، ومنها الانطلاق في رحلة شتات الى مختلف منافي العالم بحثا عن خلاص او هامش عيش كريم. نزيف التسعينات الذي اخرج مختلف العقول والامكانات أفرغ البلد أو كاد من خيرة طاقاته. ومن بقي في الداخل، اقتناعا أو عجزا، بحث بدوره عن حلول شخصية ليتمكن من العيش في ظل النظام الشمولي، مختبئا في هوامش حياة يمكن أن يعيشها دون أن يتعرض لخطر مواجهة الدكتاتور وأجهزته القمعية.
بات كل شيء في حياة العراقي قابلا للتدوير، من الكتاب المستنسخ، مرورا بمقابر السيارات والمكائن والمعامل الخردة التي أهملت أو طمرت في سنوات الوفرة المالية، وصولا الى طعام او ملابس العائلة التي كانت الأمهات تقوم بعمليات تدويرها لتوفير ما يمكن توفيره للأبناء، ومع هذه المحنة والحاجة التي كسرت النفوس كان تلفزيون الشباب الذي يديره ابن الدكتاتور يبث تفاصيل الاحتفالات الباذخة لعيد ميلاد القائد كل عام، القائد الذي بنى في سنوات الحصار أكثر من سبعين قصرا رئاسيا في مختلف مدن العراق. 
العقوبات الاقتصادية على مدى ثلاث عشرة سنة نخرت المجتمع، وخلقت فيه حالة غير مسبوقة من الخنوع، وصلت الى حد القضاء على الكثير من مشاعر الانتماء والاعتزاز والفخر بالهوية الوطنية، إذ أصبح الجوع حقيقيا، والعازة لحبة الدواء سيفا مسلطا على رقاب الناس الذين يحاولون تدبير أمور يومهم بمختلف طرق الالتفاف على حالة العوز التي حطمت كرامة الناس. هذه العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي على العراق عقابا لنظام صدام على جريمة غزوه الكويت، لم تضعف النظام، ولم تصبه بأذى، بل جعلته يلعب لعبة البروباغاندا وهو يخرج كل شهر طوابير توابيت الأطفال الذين قضوا نتيجة الامراض ونقص الدواء ليكسب تعاطف الرأي العام العالمي، وقد حدث ذلك في كثير من الاحيان، بينما كان رجال النظام الفاسدين يسرقون أدوية السرطان والامراض المزمنة القادمة كمساعدات من الخارج للعراقيين ليتم بيعها في دول الجوار، ولتذهب أموالها وأموال النفط المهرب الى جيوب زبانية النظام والمطبلين له ليعيشوا حالة رفاهية مميزة، بينما العراقي يبحث عن لقمة عيشه.
الخوف في عراق صدام كان مترسخا، الخوف من أي شيء، ومن أي شخص، إذ قد يكون واشيا، ينقل كلمة أو ضحكة او نكتة قد تنهي حياة الشخص ويدمر عائلته، هذا الامر بات ديدن العراقي بعد عقود من العيش في ظل نظام شمولي مفرط القسوة، يضاف الى ذلك عدم الثقة بوعود المعارضة العراقية في الخارج التي لم تكن تمتلك القدرات الحقيقية لإطاحة الدكتاتور، وحتى الامريكان لم يكن العراقيون يثقون بوعودهم نتيجة ما حصل بعد اندلاع انتفاضة 1991،عندما كانت قوات التحالف تتفرج على المجزرة التي نفذتها قوات الحرس الجمهوري وهي تدمر مدن العراق المنتفضة على رؤوس ساكنيها ممن خرجوا مطالبين بسقوط الدكتاتور، استجابة لخطاب جورج بوش الاب.
برغم الستار الحديدي الذي كان يفرضه النظام الشمولي في العراق، إلا إن العراقيين سمعوا دوي طبول الحرب في الداخل. إذ كان البعض يمتلك الأطباق اللاقطة المهربة التي يتم تركيبها سرا في أسطح المنازل، وتتم تغطيتها بعناية خوفا من العقوبات الصارمة التي فرضها النظام والتي تطال كل من يمتلك "دش"، اذ وصلت العقوبة الى السجن لمدة طويلة ومصادرة البيت الذي يتم فيه تركيب طبق لاقط. كانت القنوات الفضائية تنقل جو الأزمة، والحوارات السياسية الدائرة حولها، كذلك كان بعض العراقيين يستمعون الى إذاعات المعارضة العراقية التي تبث برامجها من دول الجوار، واعدة العراقيين بقرب إزاحة الكابوس عن صدورهم.
المحنة تجلت عراقيا عندما كانوا يواجهون بعض الآراء العروبية والقومية والوطنية المطالبة بالوقوف مع النظام ضد الغزو الخارجي إذا حدث، حتى إن كان نظاما دكتاتوريا ارتكب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق شعبه، إذ كان الامر بالنسبة للعربي المتفرج، غير العارف بالوضع العراقي، أمرا مفروغا منه، ويجب على العراقيين محاربة قوات الغزو إذا وقعت الحرب، هذا هو المنطق السوي بالنسبة لهم، بينما كان العراقي يعيش محنته وصراعه الداخلي المتمثل بعدم تمكن أحد من إطاحة الدكتاتور سوى المحتل.
الداخل العراقي كان معزولا بشكل شبه كامل عن الحراك الخارجي، وكل ادعاء لفصائل المعارضة العراقية حول وجودها في عراق صدام كان محض خيال او مبالغات، اذ وصلت قوة وسطوة شبكات الأجهزة الأمنية للنظام الى الحد الذي مكنها من اختراق العديد من حركات المعارضة العاملة في الخارج، وقد أفشلت أجهزة النظام الأمنية أكثر من اربع محاولات انقلابية في عقد التسعينات جرى التخطيط لها من قوى عسكرية وسياسية عراقية نسقت عملها مع المخابرات الأمريكية والبريطانية.
العراقي في الداخل لم يكن يعرف الكثير عن تفاصيل حراك المعارضة في الخارج، وفي الداخل كانت القسوة المفرطة للنظام قد جرفت الحياة السياسية بشكل شبه كامل، ولم تبقِ أي نشاط سياسي او نقابي يمكن أن يشار له في عراق صدام. الاسلام السياسي بفرعيه الشيعي والسني كان يحمل على كاهله دماء الاف الضحايا الذين قتلهم النظام نتيجة الانتماء الحقيقي لأحزاب إسلامية او نتيجة الوشايات الكاذبة، والنتيجة كانت وجود هذه الأحزاب في المنافي وفي دول الجوار.  أما داخليا فقد عول البعض على حراك أية الله محمد محمد صادق الصدر الذي ظهر في ساحة الصراع السياسي بطريقة اشكالية منتصف التسعينات، وانتهى بعملية اغتيال مع ولديه عام 1999، يضاف الى ذلك تصفية بعض مراجع حوزة النجف في حوادث مختلفة مما خلق شعورا بانسداد الأفق في عين رجل الشارع.
إرث وتاريخ المعارضة السياسية في العراق الحديث منذ الثلاثينات تمثل في الحزب الشيوعي وبعض التنظيمات اليسارية الثورية التي خرجت من عباءته، لكن حتى هذا الحزب العريق الذي تعرض للضربات المتلاحقة من النظام اختفى تأثيره او كاد من الداخل العراقي حتى مع وجود مقراته في كردستان العراق الخارج عن سيطرة وقبضة النظام حينذاك، ولم يبق منه في التسعينات سوى موجة حنين وقصائد وأغاني وإرث ثقافي يحمل الكثير من نوستالجيا الثوريين الحالمين الذين لم يعودوا يمتلكون تأثيرا كبيرا على الارض.
من جانب آخر، الاحزاب الليبرالية او العلمانية التي سمعنا بها ونحن في الداخل قبيل الحرب تمحورت في كتلتين أو حزبين هما: حركة الوفاق الوطني التي يقودها د. اياد علاوي والتي كانت ناشطة بشكل ملحوظ في العاصمة الاردنية عمان، والتي كانت تستقطب الكثير من الكتاب والصحفيين الخارجين من جحيم العراق عبر بوابة طربيل، حيث يشتغل الواصل منهم الى عمان في صحافة الوفاق أو إذاعتها وبالتالي يحصل على ملف سياسي يخدمه في قضية طلب اللجوء التي سيقدمها للأمم المتحدة ليخرج دون عودة.
والكتلة الثانية كانت المؤتمر الوطني العراقي بقيادة السياسي الاشكالي احمد الجلبي، والتي كانت تنشط في العواصم الاوربية مع امتلاكها قاعدة عمل في كردستان العراق، لكن زعيمها احمد الجلبي كانت تطارده الشائعات في الداخل، واعتبر عراب الاحتلال الامريكي إذ وصف بانه العراقي الاقوى في لوبيات الضغط العاملة في واشنطن، وألصقت به معلومة مفادها أنه هو من كان وراء إصدار قانون تحرير العراق في نهاية ولاية الرئيس الامريكي بيل كلنتون اواخر التسعينات، والذي تم تفعيله لاحقا من إدارة الرئيس جورج بوش الابن في عملية غزو العراق. لكن وبأمانة شديدة لم تكن لهاتين الحركتين السياسيتين وجود حقيقي على الارض في الداخل، ربما كانت لهما بعض الصلات ببعض الافراد أو المنتسبين للجيش أو بعض الاجهزة الحكومية، لكن ذلك لا يمثل وجودا سياسيا مؤثرا في الداخل العراقي بشكل ملحوظ.
في نهاية التسعينات أشاع النظام مقولة: "إن الحصار الاقتصادي لن يرفع، لكنه سيتآكل" وسينتهي تأثيره نتيجة صبر العراقيين ومواجهتهم العقوبات الظالمة، وأخذت أجهزة النظام تشن حملات بروباغاندا واسعة النطاق لكسب التعاطف الاقليمي والدولي، وبدأت الوفود الشعبية والنقابية العربية تتقاطر على بغداد للتضامن والعمل على كسر الحصار الاقتصادي والحظر الجوي.
مع مطلع العام 2002، عندما أتمت الولايات المتحدة بضربة خاطفة عملية القضاء على امارة طالبان في افغانستان واستعادة بعض الهيبة بعد الجرح الذي سببته ضربات 11 ايلول/سبتمبر 2001. بدا واضحا إن نظام صدام هو الهدف القادم لصقور المحافظين الذين يحيطون الرئيس جورج بوش الابن. الاعلام الغربي عموما والامريكي تحديدا اشتغل على فتح الملفات وتصعيد الازمة مع بغداد بغرض الحصول على غطاء شرعي للضربة القادمة عبر قرار ادانة دولية لنظام صدام على خلفية امتلاكه اسلحة دمار شامل اولا، والتعاون والتنسيق مع تنظيم القاعدة ثانيا، وفي النهاية لم يتم اصدار القرار الاممي، لكن ادارة بوش قررت الذهاب للحرب بدونه.
في الخامس من شباط/ فبراير 2002 قدم كولن باول، وزير الخارجية الامريكي كلمته الشهيرة في الأمم المتحدة ملوحا بأنبوبة اختبار صغيرة تحوي مسحوقا ابيض، مدعيا امتلاك العراق لأسلحة جرثومية ضمن ترسانة اسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها نظام صدام والتي فشل مفتشو الامم المتحدة في الكشف عنها حتى ذلك الحين. كما عرض باول في تقريره صورا زعم أنها لمختبرات بيولوجية عراقية رصدتها الأقمار الصناعية، ودافع عن قرار حكومته بشن الحرب على العراق.
كانت محنة العراقي تتمثل بانه يريد الخلاص من النظام الشمولي الدموي، لكنه يخشى بطشه ولا يستطيع التحرك ضده، وهو يعلم جيدا أن بإمكان الولايات المتحدة إطاحته، لكن الثمن سيكون الخضوع لاحتلال أجنبي، وستكون المحصلة النهائية هي الخلاص من الدكتاتور والدخول في نفق الاحتلال، لكن المزاج العام للشارع كان يتعامل بتجاهل ولا مبالاة ملفتة، فلا أحد مستعد للموت في سبيل بقاء الدكتاتور سنوات أخرى على عرشه، وفي نفس الوقت لا أحد يريد دعم المحتل الذي سيخلصه من الدكتاتور.
الخوف المشوب بالأمل بانزياح كابوس النظام الشمولي كان شعورا سائدا في الشارع العراقي، الخوف مما سيقدم عليه نظام صدام عبر لجوئه لسياسة الارض المحروقة، اذ طالما سمع العراقيون إن صدام لن يسلم العراق إلا أرضا بلا شعب، لذلك كان الخوف الحقيقي من احتمالية استخدام صدام لأسلحة كيمياوية او بيولوجية ضد قوات التحالف التي لن تقف مكتوفة الايدي وسترد بالمثل وسيكون الخاسر الاكبر هم العراقيون.
المفارقة ان خطة الغزو الاستراتيجية نشرتها وسائل الاعلام وبعض القنوات الفضائية، وكأن الحروب لم تعد ذات خطط سرية، بل أصبحت أقرب لألعاب الفيديو، الخطة كانت تتمثل بشكل رئيس بهجوم من جنوب العراق صعودا الى العاصمة دون السيطرة على المدن الرئيسية بل عبر تحييدها، وكان هنالك شق آخر في الخطة تمثل باستخدام قاعدة انجرليك التركية والنزول من الشمال عبر كردستان العراق، لتطبق كماشة القوات المهاجمة على القوات العراقية التي وضعت ثقلها المتمثل بفرق الحرس الجمهوري في محيط بغداد، لكن البرلمان التركي صوت بالرفض، ولم يسمح لقوات التحالف باستخدام الاراضي التركية في العمليات العسكرية، لتتحول العمليات كلها الى جنوب العراق فقط.
بعد تصعيد واضح ومهلة منحها الرئيس بوش للرئيس العراقي صدام حسين وعائلته ووعدا بالخروج الامن من العراق، وعرض الشيخ زايد رئيس دولة الامارات العربية استعداده لاستقبال الرئيس وعائلته، لكن صدام حسين رفض العرض، في هذه اللحظة بات الكل موقنا إن الحرب واقعة لا محالة، لكن ماهي التفاصيل والنتائج؟ لا أحد يمكنه التكهن بما سيحصل.
النظام العراقي أطلق على الحرب اسم معركة الحواسم، بينما أسمتها قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة اسم (عملية حرية العراق)، وابتدأت العمليات العسكرية بقصف الطيران والصواريخ الموجهة الى اهداف مختلفة في العراق في مساء 19 آذار/ مارس 2003، ثم ابتدأت العمليات البرية يوم 20 آذار/ مارس واستمرت أكثر من شهر بقليل، الاعلام العراقي ممثلا بوزير الإعلام محمد سعيد الصحاف كان محور الاخبار العالمية بتصريحاته الغريبة والمثيرة، واستخدامه مفردات غير معهودة مثل توصيف (العلوج) الذي أطلقه على قوات التحالف.
قوات التحالف كانت تتقدم بوتيرة ابطأ مما حدث في افغانستان، إذ تأخرت عملية اختراق مدينة ام قصر جنوب البصرة بضعة ايام، مما اشاع شعورا بالتوتر في الشارع العراقي من إن الحرب لن تكون خاطفة، وربما طال أمدها، وبعد حوالي اسبوع من التحرك شمالا باتجاه العاصمة توقفت قوات التحالف عن تقدمها نتيجة هبوب عواصف ترابية قوية جدا حجبت الرؤية ومنعت تحرك الارتال العسكرية. بالمقابل كان الصحاف يتوعد "العلوج" يوميا بالاندحار والموت على أسوار بغداد.
الشائعات تداخلت مع الاخبار، الحقيقي مع المبالغة، قصص عن قوة وتطور القوات المهاجمة، يقابلها قصص وحكايات عن قوة وثبات القوات العراقية، لكن فرق القوة والتقدم التقني الكبير لم يكن يسمح الا بأقل من ثلاثة أسابيع ليفاجأ سكان العاصمة بغداد يوم 3 نيسان/ أبريل بدبابات التحالف تتحرك باتجاه مطار بغداد الذي يقع على بعد 16 كم غرب العاصمة. وهناك دارت واحدة من أشرس المعارك، وقد انتهت العمليات العسكرية في محيط بغداد يوم 8 نيسان/ ابريل ومعها حسم أمر الحرب، إذ سقطت العاصمة بغداد بيد قوات التحالف يوم 9 نيسان /ابريل، وتبخرت القيادة العراقية، ومعها مئات الآلاف من قوات الجيش ومختلف صنوف وتشكيلات القوات الامنية والحزبية في العاصمة بغداد وبقية مدن العراق.
اللحظة الفارقة في المحنة العراقية كانت في تقدم الدبابة الامريكية مقتربة من ساحة الفردوس حيث كان يقيم أغلب الصحفيين الأجانب في فندقي شيراتون وميريديان في قلب العاصمة، وحيث كان الصحاف يطلق تهديداته قبل ذلك بساعات. وشاء صناع القرار الأمريكي أن يكون احتلال العراق عبارة عن عملية "شو" تلفزيوني تنقله كل قنوات العالم لتؤرخ به بدء القرن الأمريكي.
 العراقي كان يشاهد بعض قنوات التلفزة الايرانية التي كان بثها يصل الى العراق بعد ان توقف البث التلفزيوني العراقي. والمشهد: محاولة بعض العراقيين تحطيم واطاحة تمثال ضخم لصدام حسين في ساحة الفردوس، لكنهم يعجزون عن ذلك، فتتقدم الدبابة الأمريكية وتضع الحبل في رقبة التمثال، بينما يغطي أحد الجنود وجه صدام بالعلم الأمريكي، فتتعالى الصرخات مطالبة بإزاحة العلم، لتتجلى لحظة المحنة بكل قسوتها، مع انهمار الدموع، الخلاص من الدكتاتور مقابل الدخول في نفق الاحتلال.