نيسان/أبريل 27

    يبدو أن الغربة التي وجدنا أنفسنا مكبلين بسلاسلها الناعمة، تتحول تدريجيا إلى قدر يلازمنا، فمنذ اللحظات الأولى التي نرتب فيها حقيبة الهجرة أو السفر، نتناسى أننا نسعى إلى التخلص من واقع سياسي قاس كحد السكين، وذلك من أجل وجوه من غادرناهم، نظراتهم المتلهفة، مشاعرهم المتدفقة، لذلك تنوء حقائبنا بقسوة الظروف - وأغلبها سياسية – تلك التي حملتنا على الرحيل، أو الهروب، وقسوة النأي عن وطنٍ يجري في عروقنا. ثم نجد أنفسنا في متاهة شاسعة، متأرجحين ما بين الوجع الذي جعلنا كيانات مطرودة، وبين مجهول نسعى إليه بخطى مرتبكة.
  لذلك يبقى الوطن كامنا في حقيبة السفر، لا يغادرها، يدعونا أحيانا للولوج بين طياته، تستنشق عطر غباره، ونشرب قطرات من عذوبة مائه، نلوّث جلودنا بطينه الحرّي، نستنشق عطر عذوق النخل في بساتينه، حتى يتحوّل إلى تعويذة تجعلنا نعيش قلق اللحظة الراهنة التي نعيشها في بلدان أخرى، وقلق الأمكنة الجديدة التي آوتنا وترفقت بنا، وعلّمت أبناءنا، ومنحتهم حياة هانئة، ولكننا مع ذلك نشعر بأن هذه البلدان مجرد محطات أو مستودعات موقتة لحقيبة قلقنا التي نحملها معنا دائما، كي نجمع ما تبقى من شتاتها لعودة مستحيلة، إلى وطن غيّرت المحنُ ملامحَه، فأصبحنا غرباء عنه، وكأننا تلك الغصون التي تساقطت من شجرته، فمهما هدأت العاصفة فإن الغصن لا يعود إلى طبيعته الأولى.  
 أقول ذلك لما ينتابني من الشعور بالغربة حينما أزور الوطن أحيانا، وذلك لأن سنوات النأي قد حفرت فجوة من الصعوبة أن تندمل. وقد تمثل ذلك من خلال تلاشي الصورة النمطية العالقة في الذاكرة عن الوطن، بكلّ أبعاده، من الإنسان إلى البيئة التي تحتضنه، مرورا بالمدن التي توسعت بشكل عشوائي، والشوارع التي تشوّهت، والمؤسسات الخدمية التي اندثرت، إضافة إلى نشوء عادات غريبة وطقوس أكثر غرابة، ناهيك عن موت وانعدام السمة التي تربينا عليها لجيلنا الذي نعتزّ به، جيل التسامح الديني والحرية الشخصية، جيل الوعي الذي يتمثل بانتشار المكتبات، والتي تتجلى في شيوع ظاهرة الكتاب الذي يرافقنا في المقهى والبيت والشارع، انتشار النوادي الاجتماعية، ونهضة المرأة والتي تمثّلَ في إقبالها على الدراسة في الجامعات والمعاهد.
   كل هذه الصور قد تبخرت، فصورة الوطن تختلف عما تركته، لذلك لجأت إلى حقيبة السفر الأولى، أحاول من خلالها بناء الوطن من خلال الذاكرة، تماما كما تركته في لحظة معجونة بالألم والدموع.
أغمضتُ عيني وفتحتُ صندوق الذاكرة، لأقتنص منه حكاية مدينة قد عشتها في طفولتي، لأستلّ منه طعم الوطن بعد أن نفضتُ عنه غبارَ السنين، كي ألج هذه المتاهة من خلال (التحديق في بئر الطفولة) لمدينة غيرت اسمها من سويج الدچة إلى الغراف، جمعتُ هذه الحكايات المشتتة، ونفضتُ عنها غبار السنين، وجمعتها في كتاب صدر لي في العام الماضي تحت عنوان ( سويج الدچة)، ويتحدث عن طفولة مدينة وحكاياتها.
مهما يكن قحط المكان الأول، فله شاعريته وبهجته، ولنا في الموروث حكايات لا تنتهي عن سحر الطلل وغربته، المكان يعني التكوينات الأولى التي لها الفضل في نحت شخصية المرء، فهي تتشكل وتتفاعل لتقوم بعملية بناء منظومته الشعورية والنفسية والسلوكية، والتي ترافقه إلى الأبد.
  وحينما نغادر المكان، وننأى عنه بعيدا، تبقى صورته ملتصقة في الذاكرة، تلك الصورة الأولى التي لم يطرأ عليها أي تغيير، وكأننا نقوم بتحنيط الأشياء، كما تركناها.  وهذا الكتاب هو محاولة للتحديق في هذه الصورة التي تركتها منذ نصف قرن، وأستطيع أن أقول بأنه ليس سيرة ذاتية أو مذكرات، بل حكايات مدينة غادرتها بكامل وعيي ورغبتي، ولكنني عدتُ إليها من جديد، من خلال الكتابة عنها.
  سويج الدچة ناحية منسية. أشبه بالقرية الكبيرة، تناثرت حولها رياح كثيرة، وغاب عنها الكثير من ناسها الأولين، حاولت أن أعيد صياغتها من جديد وكأني أُعيد عقارب الزمن إلى تلك اللحظات الزمنية التي عفا عليها الزمن. حاولتُ أن أعيد الناس الراحلين من مقابرهم، أو المهاجرين من منافيهم، ومن شاخوا وهرموا إلى نظارة شبابهم أو إلى طفولتهم.  حاولت تأثيث المكان بعطر الماضي، متناسيا كل التغيرات التي طرأت على جسد المدينة في هذه اللحظة، حيث الاختلال في المعايير العامة للنشوء المعماري، والفوضى في السلوك المعيشي اليومي.
     تحدثت فيها عن بيوتنا التي احتضنت خطواتنا الأولى، وشكّلت طبيعة أمزجتنا وأخيلتنا وطبيعة شخصيتنا، تلك البيوت التي عبّر عنها الفيلسوف الفرنسي باشلر:
" فالبيتُ هو ظاهرة نفسية، مكاننا الذي ينطق بالألفة والحماية، وهو الوسيلة التي نرسي بها جذورنا يوما بعد يوم في هذا العالم".
 فيتحول البيت إلى قرية وبلدة، بل يتجاوز ذلك فيتحول إلى رمز للوطن.
 ومن خلال هذا البحث المضنى عن ذاكرة الوطن، جعلتُ من هذه المدينة الصغيرة جذرا لوطن لا تنقطع حكاياته القديمة كي تُفصح عن سرّ العلاقة التي تربط بين الإنسان وبين المكان الذي ينتمي إليه.
    تحدثتُ عن الإنسان الذي يعيش في المدينة، ولكن الريف المحيط به يستغرقه، من خلال تقاليد الضيافة، والحكايات المتواترة عن السلف التي تتحول إلى وسيلة السمر بين الناس، فهم يلوكون أحداثها ويعيدون صياغاتها حسب عواطفهم وأمزجتهم. كما تناولتُ سلطة القانون رغم الانفلاتات التي تحدث في النزاعات العشائرية، لأسباب مختلفة، منها التقاليد والأرض والكلأ، ومهمة الشرطة في فضّ هذه النزاعات لفرض القانون الذي يمثله مركز الشرطة رغم بساطته، ولكنه يسعى إلى الهيمنة على أفعال الناس ومراقبتها، وقد زخر الكتاب بإيراد الكثير من الحوادث العرضية بين أبناء المدينة، وكيفية تشكيل أمزجتهم وطبيعة تفكيرهم. 
يتحدث الكتاب أيضا عن دور المدرسة  في تلك المدينة، في كونها نقطة الضوء الوحيدة في محيط من العتمة، وذلك من خلال استعراض الكثير من الانطباعات عن المعلمين في طريقة تعليمهم وعلاقاتهم مع الأحداث التي طرأت، سواء في التاريخ المنظور أو القديم، كذلك طبيعة الإدارة المدرسية وقسوتها وسلوك بعض الموظفين، ولاسيما فراش المدرسة الذي تقمص دور الأب الذي يأمر وينهى، كما تحدثتُ عن الأنشطة الفنية التي خلقت مسرحا، وقد ذكرتُ أول مسرحية جعلتني أتعلق بالسينما والمسرح، إضافة إلى الأنشطة الرياضية وما يرافقها من جد أحيانا، وطرافة في أحيان أخرى. 
لقد كان للمعلمين أثرٌ كبير في تشبع الطلبة بالأفكار الجديدة التي تلمسناها من خلال الخنادق الفكرية والميول الحزبية والتي انعكست علينا، حيث أن المعلم الذي يغرز أفكاره، كان يمتلك المواهب الكبيرة التي تستقطب التلامذة حوله، ومن ثم كسب ثقتهم باعتباره يتحول إلى قدوة، ومنذ تلك اللحظة تحزبنا وتصارعنا، وأصبحنا نرطن بمصطلحات لا نفقه معانيها. 
تناولت أيضا، انتقال هذه المدينة الصغيرة من الإضاءة البدائية بواسطة الفانوس إلى مجيء الكهرباء لأول مرة، وكيف انعكس ذلك على مجمل الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وظهور التلفزيون في المقاهي والحصول على بعض وسائل الرفاهية. 
 رصدتُ من خلال عيون طفل في المرحلة الابتدائية عملية الانتقال من العهد الملكي إلى الجمهوري وردود الفعل لدى العائلة، والشعور بمجهولية المستقبل ، مما رافق التحول من حالات لتشظي المجتمع إلى تنظيمات سياسية من قوميين وشيوعيين وبعثيين، وكان خط البعث هو المهيمن على شباب تلك المدينة، وذلك بفعل تأثير بعض المعلمين الذين صودف أن بعضهم يعتنق الفكر القومي، وقد تمخض ذلك التحزب عن تناحر حقيقي بين مدينة سويج الدچة، وبين شقيقتها مدينة الشطرة التي اعتنق جلّ أبنائها الفكر الشيوعي، مما خلق شكلا من أشكال الكراهية، رغم أن المدينتين لا تبعدان عن بعضهما إلا بضع كيلومترات. وقد أوردت حادثة السيارة التي كانت تحمل شبابا من الشطرة وكيف تعرضت إلى اعتداء بالحجارة، لأسباب عقائدية، حينما مرت على الغراف وهي في طريقها إلى الناصرية، وما تركه ذلك من كراهية متبادلة بين مدينتين متجاورتين.
 النهر الصغير الذي يجفّ أحيانا، فيجبر الناس على استخدام الآبار، ورغم أن النهر هو عصب الحياة للمدينة ولكنه يصل إلى أقصى درجات القحط في شحة أسماكه ونضوب مائه، فيتحول إلى نهر ميّت لا حياة فيه، وكيف كانت هذه الحالات تنعكس على الناس الذين يلجئون إلى حفر الآبار للحصول على ما يسد الرمق.
  لقد شغلتني إعادة صياغة الناس، هؤلاء الذين غادرتهم قبل نصف قرن، فحاولت أن أكون أكثر موضوعية، فلم أرسمهم وفق تصوراتي المسبقة عنهم حينما كنت أعيش بينهم، بل أخضعتهم لعملية غربلة، نظرا لأني أنظر إليهم من شرفة زمنية هائلة البعد، مما جعلني أغفر لهفواتهم وأخطائهم، وأحاول أن أصنع نوعا من الشخوص الأكثر إيجابية، حيث نحتُّ منهم أبطالا لحكايات يومية، قد يمتزج فيها الخيال مع الواقع، وكل ذلك بسبب اللهفة نحو لحظات من العمر تلاشت في غمرة هذا اللهاث الزمني الذي لم ينقطع. 
     تناولتُ المهمشين من الناس، كسبة وفلاحين وباعة خضروات وغرباء، وجدوا أنفسهم يلتحمون مع تلك الفئات المجتمعية، كما تحدثت عن البطالة بين الشباب، لندرة فرص العمل، وعن العلاقة بين أبناء الريف والمدن ولاسيما مسألة البيع والشراء التي تُشبه المقايضة، فالفلاحون يبيعون منتجاتهم الزراعية كالقمح والشعير، والحيوانية كاللبن والروبة والقيمر، للتزود بالسكر والشاي والتبغ، وكيفية التنقل بين القرية والمدينة على ظهور الحيوانات، مما خلق نوعا من التراتبية في السلم الاجتماعي الذي هو نتاج لطبيعة الزراعة ونوعها. فالفلاحون الذين يزرعون الخضروات، نطلق عليهم الحساوية، وهم أقل أهمية من فلاحي القمح والشعير والرز، حيث يشكلون أهمية في السلم العشائري.
 كما أوردت الكثير من الطرائف التي اشتهر بها أبناء المدينة، حيث لا يمتلكون من وسائل اللهو شيئا، مما يدفعهم إلى التنمر على بعضهم البعض، مما أشاع روح الفكاهة والطرافة.
تحدثتُ عن حكايات العشق وطرائفه، بين الناس المحرومين من كل وسائل الرفاهية، حيث يجعلون من كلّ رائحة أنثوية مجالا لهذيانات العشق، في ظل ظروف اجتماعية متحجرة.
   أوردت ذكر الكثير من الأسماء الذين أعدموا من قبل الأنظمة، سواء كانوا من أحزاب دينية أو من أحزاب يسارية في ظل إلغاء للقياس الزمني، فبعضهم لقى حتفه في أزمان مختلفة، كما حدث لاغتيال أحد أبناء المدينة اليساريين، والذي قضى حياته في معتقلات الأنظمة الدكتاتورية، وشهد التعذيب في قصر النهاية وسجن الحلة، وعاش محنة قطار الموت، ولكنّ النظام لم يكتف بذلك، بل عمد إلى اغتياله، وقذف جثته في صحراء الرميلة في بداية السبعينات، كما تحدثت عن ضحايا من الأحزاب الإسلامية أُعدموا في نهاية السبعينات،  وفي كلّ ذلك، كنت أنظر بشكل يشوبه الحسرة والألم على كل هؤلاء بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية، فهم. أبناء وطن " ظلّ ينزفُ أبناءه".   
    لقد حاولتُ أن أربط بين الإنسان والمكان الذي شهد ضحكته الأولى، والذي يتحوّل مع الوقت إلى عشّه الدافئ الذي لا يرى في العالم بديلا عنه، بحيث أن أفعاله وعواطفه وأمزجته تبقى مرتبطة بذلك المكان بغض النظر عن غنى المكان أو فقره، بشاعته أو جماله، فتنشأ بين المكان والإنسان وشائج متبادلة تجعلهما متلاصقين، ومن هنا يتكون ما يسمى بالهوية التي تلازمه حتى في منفاه أو مهجره، إنه الكينونة التي تشكّل طبيعة شخصيته. 
ليس ثمة انفصام بين المدينة وأهلها، فثمة تأثيرات متبادلة بينهما، فتقوم المدينة بعملية نحتٍ لشخصية الناس، ويقوم الناس أيضاً برسم ملامح هذه المدينة وطبيعة مزاجها. 
 لقد تحدثت عن سويج الدچة (الغراف) حينما كانت في وقت نموّها الأول، بعيون طفل يتعايش معها، وتبهره الأحداث الصغيرة والمشاهد العابرة، التي تكوّن التراكم المعرفي.  
  الكتابة عن مدينة صغيرة منسية بالنسبة لي، تُشبه حفريات في الذاكرة عن الوطن الذي غادرته منذ سنين طويلة، ولكنه مازال يجري في عروقي، فأعايشه ويعايشني في أحلامي ويقظتي. لذلك مهما هاجرنا وابتعدنا، فيبقى الوطن محفوظا في حقيبة السفر.
  
رحمن خضير عباس كاتب عراقي مقيم في كندا