أيار 19

 

    كانت نهاية الستينات وبداية السبعينات فترة مميزة ومثيرة للجدل بسبب المتغيرات السياسية والاقتصادية، التي امتدت الى الفضاء الثقافي؛ حيث شهد العراق والعاصمة بغداد والبصرة  وكردستان اهتماما متصاعدا بالفكر التقدمي والماركسي وخاصة بين أوساط الشباب وطلاب الجامعات والكليات، عزز منها حالة الانفراج النسبي الثقافي وتصاعد الاهتمام بالتيارات الفكرية في العالم والدور الذي لعبته صحافة الحزب العلنية وبفضل النشاط الدؤوب والمثابر للكتاب والصحفيين الشيوعيين، والذي خلق مناخا فكريا متصديا لحالات اليأس والتردد واللامبالاة ولدور الأجهزة القمعية التي واصلت استهدافها للنشطاء الحزبين وفي المنظمات العراقية الديمقراطية . وقد طرحت الأوضاع السائدة آنذاك تساؤلات سياسية وفكرية مشروعة حول التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومدى مصداقية الانقلابيين الذين تسلموا السلطة في 1968 والذي طرح امام الحزب آنذاك مهمات جديدة على صعيد محتوى النشاط الفكري لاستيعاب معمق لخصوصيات المرحلة وللتوصل الى استنتاجات لتحديث قرارات المؤتمر الوطني الثاني وفي جو تميز بالتباين في الاجتهادات و الرؤى حول اشكال النضال ودور الحزب في العملية الثورية الجارية في العراق  وفي مجالات الاستراتيجية والتاكتيك.

    ووفرت الصفحة الفكرية في جريدة الفكر الجديد ومقالات مجلة الثقافة الجديدة بما حوته من معالجات ماركسية لقضايا العراق الوطنية والاجتماعية ومناقشة موضوعات نظرية غذاء فكريا ومحفزا للاهتمامات السياسية والثقافية والأدبية على الأقل لي شخصيا. ولعب صاحب بسطة الكتب في الباب الشرقي "بناي" دورا مساعدا في تعزيز هذه الاهتمامات فأولا نستطيع من خلاله الحصول على كتب كانت تعتبر من الممنوعات وصعب الحصول عليها بأسعار مناسبة وأيضا يبيع بالدين بانتظار تسديدها نهاية الشهر. وكنت مع الرفيق عبد الكاظم عيسى "أبو بشير" الذي كان نشطا في العمل الصحفي نتردد على بسطته بانتظام ونذهب بعدها الى مقهى ليالي الانس في ابي نواس او مقهى المعقدين في الباب الشرقي وننتهي عادة الى احد البارات نحتسي  بيرة مثلجة ونتعشى بأنواع متعددة من اطباق "المزة" واذا كان الجيب عامرا فسمكة مسقوفة أيضا، ويخيم عليها النقاش المحتدم  حول موضوعات فكرية وثقافية بين مؤيد ومعارض للأطروحات والمفاهيم. في هذه الأجواء قمت بزيارة مكتب الثقافة الجديدة والفكر الجديد الذي كان في احد أزقة الباب الشرقي عدة مرات وتعرفت الى الرفاق العاملين فيها ولقيت تشجيعا ان اساهم في الكتابة. وفعلا كتبت عن قضايا فكرية حول الحزب والماركسية وثورة أكتوبر وحل المسألة القومية في الاتحاد السوفيتي وأخرى تطبيقية مثل هجرة الكادر العلمي. وكنت اقرأ ما ينشر من كتاباتي بشعور بين الفرح والزهو يرافقه روح تطلب للمزيد من الكتابة. وتولد لدي انطباع بان بعض منتسبي المجموعة يعتقدون بأنني ملتزم حزبيا بسبب دفاعي الحار عن الاشتراكية العلمية في مواجهة الاطروحات الوجودية وأيضا استنتاجات خاطئة حول ما يتضمنه كتاب اللامنتمي للناقد البريطاني كولن ولسن والذي كانت له شعبية آنذاك وعن مواقف الحزب وأن لم اكن في الحقيقة منتميا بمعنى الممارسة "البراكسيس". حتى جاء يوم وبعد انفضاض امسيتنا امسكني احدهم، وقال لي نحن لا نعرف ارتباطك في اي خط حزبي؟ فأخبرته انني لست على صلة بالتنظيم وعلاقتي حاليا مع الرفاق مجرد صداقات واهتمامات ثقافية وفكرية مشتركة.

فسألني: لماذا لا تنتمي؟ ما سبب انتظارك؟ فأخبرته لم أفكر بذلك ولم يفاتحني احد وانا شخصيا مقتنع بأهمية ودور الحزب واعتبر نفسي ماركسيا وشيوعيا، لكن لا أعرف الية الانتظام وفعلا أوضح لي الخطوات المعروفة. وبعد شهر من تقديم رسالة طلب الانتماء التقيت بالرفيق الفقيد الطيب الذكر لطفي حاتم "أبو هندرين" الذي قدم لي التهنئة بمناسبة الموافقة على طلب ترشيحي لعضوية الحزب لانطباق شروط النظام الداخلي وكفترة اختبار وتهيئة لمنح شرف العضوية وأن القرار هو ممارسة العمل الحزبي عبر الالتحاق بخلية حزبية في مدينة الثورة. وكان اللقاء الأول مع الرفيق مسؤول الخلية قرب فلكة الطابوق حسب تفاصيل الترحيل والاستلام، وبدأ مسار انخراطي في العمل الحزبي الداخلي وتلك هي قصة أخرى.

وهكذا كان لمجلة الثقافة الجديدة الفضل في صقلي فكريا وتوسيع مداركي ومعارفي النظرية والأهم عبرها وجدت طريقي الى ممارسة العمل السياسي ضمن صفوف الحزب الشيوعي العراقي قبل ما يقارب نصف قرن.