أيار 19
 
   ربما، بل من المؤكد تحقيقاً ويقيناً، أن مجلة " الثقافة الجديدة " هي المجلة العراقية الوحيدة التي واصلت طريقها منذ صدور عددها الأول في تشرين الثاني 1953 وإلى يومنا هذا، على الرغم من مختلف الظروف التي واجهتها، وتعاقب العهود والسلطات، وما يتبع ذلك من توفير حريات نسبية للرأي والتعبير والصحافة، أو تشديد ورقابة صارمة تصل إلى حد العنف والتعسف والمطاردة والاعتقال، مما يجعل اللجوء إلى الاحتجاب المؤقت، أو الصدور السري، أو الصدور من خارج الوطن، أمراً لا مناص منه لكل مطبوع يحاول أن يحافظ على هويته وخطابه وتوجهه وجمهوره، وأن لا ينحني أمام العواصف والزوابع مهما اشتدت، ويستمر في نهجه الذي يمثل جزءاً من نضاله اليومي في سبيل الوصول إلى أهدافه. وذلك أكثر ما ينطبق على مجلة تعلن بصراحة ووضوح أن شعارها العتيد هو:" فكر علمي... ثقافة تقدمية"، فما أشق طريق الذين يحملون فكراً علمياً في بيئة تؤمن الغالبية فيها بالخرافة والأساطير، وما أصعب مهمة الذين يروجون لثقافة تقدمية في مجتمع يهرول حثيثاً إلى الوراء، باحثاً في وريقات التاريخ المهترئة عما يسوغ له جهالته وتخلفه وتطرفه وانغلاقه. إنها من دون شك مهمة شاقة، وسفر طويل، وطريق موحش.
وطريق "الثقافة الجديدة" لم يكن معبداً بالورود في معظم حقبه التاريخية، لكن يُحسب لها أنها منذ عددها الأول استقطبت الأقلام التقدمية من أصحاب الفكر التنويري انسجاماً مع نهجها وتعريفها لنفسها بأنها: "مجلة تقدمية تؤمن بوجود أفكار رجعية تحاول منع المجتمع وعرقلة سيره، فتحارب هذه الأفكار معتمدة على دروس التاريخ القيمة وعلى التفكير العلمي الصحيح"، كما اهتمت منذ أعدادها الأولى بالأدب التقدمي الجديد، أدب الواقعية الاشتراكية، ونشرت نصوصاً شعرية وقصصية للسياب والبياتي وفرمان وعبد الملك نوري ونهاد التكرلي وغيرهم من الأقلام الأدبية الرائدة، حتى قبل أن تكتسح بشهرتها عالم الأدب لتتسيد المشهد الثقافي والأدبي على امتداد الخمسين عاماً اللاحقة وما بعدها، فضلاً عما قدمته من ترجمات عن الآداب العالمية لشعراء وكتاب كبار، أمثال أراغون وبول ايلوار وأميل زولا وبابلو نيرودا وتشيخوف، والعشرات غيرهم مما يصعب عده في هذه المقالة القصيرة التي تحتفي بمرور سبعة عقود على صدور المجلة، وتحاول أن تنصفها بحيادية وموضوعية، وتُحييها على استمرارية صدروها، وهذا بحد ذاته يُعد حدثاً مميزاً في حياتنا الثقافية والصحفية ينبغي الاحتفاء به، ذلك ان أية صحيفة سياسية، أو صحيفة عامة، أو مجلة ثقافية صدرت منذ تأسيس الدولة العراقية، لم يكتب لها أن تستمر في الصدور، مثلما استمرت " الثقافة الجديدة" التي كلما كَبَت واصلت المسير، وعادت إلى قرائها وجمهورها، وهم عادة من النخب الثقافية الفكرية والسياسية والأكاديمية والأدبية المتنورة، ولا نقصد بالنخب الثقافية هنا الوصف التقليدي المجرد للكلمة، انما بمعناها الغرامشي القائم على التفريق ما بين المثقف التقليدي، والمثقف العضوي الذي يدرك أهمية الثقافة في النشاط العملي، ويتحسس آلام شعبه، أو بتعبير آخر أكثر دقة، الذي يمتلك الوسيلة والقدرة على "تحويل الأفكار إلى قوى مادية تعتنقها الجماهير" كما هي عبارة كارل ماركس.
 ومن طريف ما يُذكر في هذا المجال على سبيل المقارنة فحسب رغم اختلاف هوية كل من المجلتين وتباين اهتماماتهما، أن مجلة "الآداب" البيروتية الشهيرة التي صدرت أيضاً في العام 1953 وقبل صدور "الثقافة الجديدة" بعشرة أشهر، توقفت هي الأخرى عن الصدور الورقي في العام 2012، أي بعد 59 عاماً على صدورها، قبل أن تعود بعد انقطاع ثلاث سنوات لكن بطبعة إلكترونية هذه المرة، لذلك يُحسب لمجلة الفكر العلمي والثقافة التقدمية أنها امتلكت نفساً طويلاً ومتواصلاً منذ هيئة تحريرها الأولى، حتى هيئة تحرير العدد 440 الذي هو بين أيادينا، وأنها بقيت محافظة على مستوى المواد التي تنشرها من مقالات وترجمات ونصوص إبداعية ومتابعات أدبية ونقدية، فضلاً عن إخراجها الفني المُحكَم الرصين. وشخصياً فإنني أشعر بسرور بالغ لمساهمتي في ملفين مهمين من ملفات مجلة "الثقافة الجديدة"، الأول عن المفكر حسام محي الدين الآلوسي نُشر في عدد ايلول 2021، والثاني عن الفيلسوف مدني صالح نُشر في عدد آذار 2022.
عندما ينظر المرء إلى سبعين عاماً مضت على صدور مجلة "الثقافة الجديدة"، ويقلب صفحات ما يتوفر بين يديه من اعدادها، فإنه من دون شك يقلب حقباً زمنية متعاقبة من الأحداث والأسماء والبحوث والدراسات والترجمات والنصوص والمقالات، حتى يمكن القول أنه يمتلك مكتبة علمية تقدمية اشتراكية تنويرية متكاملة. ولو كان بالإمكان عمل ببلوغرافيا لتلك المواد من عددها الأول حتى العدد الحالي، وكذلك إعادة طبع بعض الأعداد القديمة المهمة، لتوفرت للقراء النخبويين الحريصين على اقتنائها، فرصة ممتازة للعودة إلى كتابات فكرية وسياسية وفلسفية وأدبية وفنية كُتبت في حقب زمنية متباينة في كل شيء، مما يمكن أن يقدم لهم صورة بانورامية عن الوضع الفكري والسياسي والثقافي في العراق لما يزيد عن نصف قرن بعقدين، وعن المساهمات التي قدمتها المجلة في اغناء تلك الصورة من دون كلل ولا ملل ولا تراجع ولا احباط، بل بإصرار قل نظيره في المجلات الثقافية التي صدرت في العراق، أو حتى في العالم العربي مع استثناءات قليلة في مصر لصحف ومجلات علمية وصحفية وأدبية مثل مجلة "الهلال" التي أصدرها جرجي زيدان عام 1892، وهي تعد بذلك أول مجلة ثقافية عربية مستمرة بالصدور إلى اليوم بلا انقطاع. إلّا أن ما يعطي لمجلة "الثقافة الجديدة" ميزتها، أنها ليست مجلة أدبية بحت، إنما هي مجلة شاملة لصنوف الابداع الأدبي، وللفكر والعلوم السياسية والتاريخ والفلسفة واللغة والفنون التشكيلية والمسرح، ناهيك عن أنها تعبر عن آراء وقناعات وأفكار تعتنق الفلسفة العلمية، وتعمل وفق الثقافة الديمقراطية الإشتراكية، وتناضل من أجل أن تكون الثقافة التقدمية أداة تنوير واستبصار، وقوة مؤثرة يحسب لها ألف حساب في ميدان الفعل الثقافي الجماهيري. واذا كانت المجلات الأدبية والثقافية تتوقف عادة لأسباب مالية أو فنية أو بسبب التضييق والملاحقة من قبل السلطات الحاكمة وقرارات الغاء الامتيازات التعسفية، فإن مجلة تؤدي رسالة ثقافية علمية تقدمية لا بد أن تحفر في الصخر من أجل ديمومة الصدور، ورفض التخلي عن دورها التنويري على مر السنين، واختلاف العهود، وتعاقب السلطات الحكومية الملكية والجمهورية بمختلف تسمياتها وطبائعها، وتنوع ممارساتها، وشكل قوانينها المتعلقة بالإصدارات الصحفية والثقافية، وأنواع الرقابة التي كانت تفرضها على الصحافة والعمل الصحفي بشكل عام، ذلك أن دور المثقف العربي بحسب رأي هادي العلوي، "ضروري في ظل سيطرة السلطة التسلطية/ السلطوية على الفضاء السياسي والاجتماعي والثقافي في البلدان العربية".
 وهذا هو بالضبط ما فعلته مجلة "الثقافة الجديدة" في ديمومة صدورها على امتداد سبعين عاماً، بما فيها السنوات العجاف.