أيار 19

   بداية، ينبغي التاكيد على ان مؤسس الحزب الشيوعي العراقي، الرفيق الخالد يوسف سلمان يوسف (فهد)، كان اول من رفع شعار "يحيى اتحاد الجمهوريات العمالية الفلاحية للبلاد العربية" الى جانب "يا عمال العالم اتحدوا" في العديد من بياناته السرية التي اصدرها عام 1932.

    واشار (فهد) الى ان الشيوعيين في البلدان العربية منذ تأسيس احزابهم لم يكونوا اقل جماسة ورغبة صادقة للوحدة العربية من الاخرين لذلك اجتمع مندوبون من مختلف الاحزاب الشيوعية في البلدان العربية في خريف 1935 ودرسوا هذه القضية من جميع جوانبها فتبين للمجتمعين ان شعار الوحدة العربية غير عملي في ذلك الحين لما بين الاقطار العربية من فروق في التطور وشكل الحكم. لذا ارتأى هؤلاء المندوبون الأخذ بشعار الاتحاد العربي "اي ان يتألف اتحاد عربي اختياري بين الاقطار العربية المستقلة، على ان لا يمس ذلك الاتحاد شكل الحكم السياسي الذي اختاره ويختاره كل من الاقطار العربية وعلى ان يساعد الاتحاد العربي الاقطار العربية غير المستقلة على نيل استقلالها".

    وعندما دعا الشيوعيون العراقيون، بعد ثورة 14 تموز 1958، الى تحقيق اتحاد فيدرالي مع مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة)، بدا للبعض وكأنهم استعاروا من القاموس كلمة غريبة مفزعة، مع ان الجميع يعرفون ان لا جديد في الامر. فمنذ عام 1935، كانت الاحزاب الشيوعية في البلدان العربية قد دعت الى اقامة (اتحاد عربي) لا بمعنى التجمع الاعتباطي للانظمة العربية الرجعية الخاضعة للإستعمار ، بل على اساس تحرر الاقطار المشمولة بالاتحاد المنشود وانتزاع استقلالها الوطني كشرط لاتحادها الحر بمعزل عن نفوذ الاستعمار والانظمة الملكية الاستعمارية والانظمة الملكية والاقطاعية السائدة وقتذاك، في كل البلدان العربية.

    ومثله مثل بقية الاحزاب الشقيقة، عالج الحزب الشيوعي العراقي مسألة الوحدة على اساس المنهج اللينيني الذي يدعو الى تناول كل قضية (وبضمنها القضية القومية التي اولاها لينين اكبر اهتمام) من خلال تناولها:

  • في نطاقها التاريخي المعين؛
  • في الحقبة التاريخية المعينة؛
  • وعلى ضوء الخصائص الملموسة للوضع المعين.

    انه اذن يربط عملية التقدم نحو الوحدة، شرط الانعتاق من السيطرة الاستعمارية وحكم اعوانها، ومن ثم الاقتراب منها عبر اشكال ناضجة من الروابط الاتحادية الممكنة التحقيق بين بلدان مستقلة. وبهذ المعنى كان الحزب يتناول هذه المسألة ليس بروح علمية فحسب، بل وبروح عملية ايضا، وتجاه قضية الوحدة القومية. فلم يكن من المطلوب قط تحقيق اتحاد يخدم مصالح الاستعمار والطبقات الرجعية ، او اتحاد الملوك والأمراء بل وحدة شعوب حرة مستقلة، وحدة تخدم نضالها القومي التحرري وتقربها نحو امانيها في الوحدة القومية.

ويمكن القول ان الميثاق الوطني للحزب المقر عام 1944 قد ثبّت النضال في سبيل مبدأ الوحدة العربية كأحد اهداف الحزب الشيوعي الاساسية، لكنه اختار لها شعار التقارب والتعاون بين البلدان العربية، باعتباره التعبير الواقعي لمحتواها يومذاك.

    وبالمقابل، وفي كتابه "دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" الصادر عام 1984 يذكر الراحل زكي خيري (1911 – 1995)، احد القادة التاريخيين للحزب ان ما ورد في "الميثاق الوطني" يشكل تعبيرا عن التمسك بشعار الاتحاد الفدرالي الذي اقره الحزب عام 1935.

    ان هذا الشعار كان يعني عن مؤسس الحزب وبانيه الرفيق (فهد) مبدأ الوحدة العربية . فاستخدامه لا يعني التراجع عن المبدأ بمقدار ما يعني تدقيقه وتحقيق الانسجام بين الاسم والمسمى، بين الشكل والمضمون.

    وعلى هذا الاساس، عرض الحزب الشيوعي العراقي، بعد ثورة 14 تموز 1958، برنامجه في قضية الوحدة، داعيا الى المباشرة بإقامة (اتحاد فدرالي) بين العراق المتحرر حديثا، وبين الجمهورية العربية المتحدة، على اسس ديمقراطية طوعية حقيقية، تتجاوز النواقص والثغرات في بناء الوحدة السورية – المصرية، والتوجهات الخاطئة لسياسة الجمهورية العربية المتحدة حينذاك، ولا سيما فيما يتعلق بالحريات الديمقراطية والحياة الحزبية ونزعة العداء للشيوعية.

    ولهذا يمكن القول ان الشيوعيين العراقيين، بعد ثورة تموز، مثلما كانوا قبلها لم يبتكروا منهجا في قضية الوحدة يتسم بالجدة او الغرابة، كما لم يستخدموا شعار الاتحاد سلاحا في المناظرة مع  قوى اخرى انخرطت بتطرف مقصود في طريق المجابهة مع الحزب الشيوعي العراقي وجماهير الشعب العراقي، ومن خلال الطرح المتسرع لشعار الوحدة الاندماجية الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة – وهو شعار لم تكن شروط تحقيقه ناضجة بأي قدر كان، كما كان في تعارض تام مع وعي وإرادة الجماهير الشعبية في العراق والغالبية الساحقة من احزابه السياسية.

    ان الشيوعيين العراقيين، لدى دعوتهم لإقامة اتحاد فدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة بعد ثورة تموز 1958، انما كانوا يأخذون بالحسبان طائفة من الحقائق الموضوعية والظروف التاريخية التي استندوا إليها في صياغة هذا الموقف. وليس صحيحا ان الشيوعيين العراقيين قد اتخذوا "موقفا اقليميا" لمعارضة الوحدة أو بالارتباط مع موقف عبد الكريم قاسم. وللتاريخ نقول ان الحزب الشيوعي العراقي بادر، بعد ثلاثة اسابيع من تاريخ قيام ثورة تموز 1958 الى طرح شعار الاتحاد في الشارع في اكبر تظاهرة جماهيرية شهدتها بغداد من قبل، ولم تكن لهذه المبادرة اية علاقة بموقف عبد الكريم قاسم الذي لم يكن له اي موقف محدد بهذا الشأن.

    بالمقابل، كان موقف الحزب الشيوعي العراقي معروفا ومعلنا إزاء مسألة الوحدة الاندماجية الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة التي لم تكن عناصر تكوينها ناضجة، ولم تكن تخدم، بالصورة التي تكونت فيها، مصالح النضال القومي التحرري، والتطور الديمقراطي، ولا قضية اقامة الوحدة على اسس مضمونة راسخة. ولكن، لما كانت الوحدة بين البلدين قد اصبحت واقعا فقد ساند الحزب الشيوعي العراقي والقوى التقدمية العربية النقاط (الثلاث عشرة) التي دعا الحزب الشيوعي السوري الى الاخذ بها، كمسعى أخير لتقويم الوحدة، وارسائها على اسس صحيحة وتمكينها من الرسوخ والثبات امام امتحانات الواقع.

لكن صوت الاتهام والافتراء المغرض، كان في ذلك الوقت اعلى من صوت العقل والمسؤولية – رغم ان عناصر انحلال الوحدة السورية - المصرية كانت تتفاقم بسرعة امام انظار الجميع منذرة بانهيار التجربة، حيث كانوا يتابعون بقلق بروز واستفحال عناصر الافتراق والخلاف في داخلها، بدلا من تنامي عناصر الاندماج والتلاحم.

    وكانت النتيجة هي انهيار هذه الوحدة بأسرع مما كان متوقعا. وقد اتخذ هذا الانهيار طابعا تامريا سافرا ساهمت فيه بنشاط فعال جميع القوى الرجعية والانفصالية.

   وقد بدى وقتذاك، ان الكثير من القوى القومية التقدمية في مصر وسوريا قد استخلصت درسا من هذه التجربة. فقد ورد في مقدمة (الميثاق الوطني المصري) الصادر في عام 1964 مايلي:

" ان الوحدة لا يمكن ولا ينبغي ان تكون فرضا، فإن الاهداف العظيمة للأمم تتكافأ اساليبها شرفا مع غاياتها. ومن ثم فان القسر بأية وسيلة من الوسائل هو عمل مضاد للوحدة. انه ليس عملا غير اخلاقي فحسب وإنما هو خطر على الوحدة الوطنية داخل كل شعب من الشعوب العربية، ومن ثم فإنه خطر على وحدة الأمة العربية في تطورها الشامل. والوحدة العربية ليست صورة دستورية لا مناص من تطبيقها، ولكنها طريق طويل قد تتعدد عليه الاشكال والمراحل وصولا الى الهدفف الاخير".

   خلاصة القول، وبحسب الراحل عامر عبدالله، ان الشيوعيين يصوغون شعاراتهم، وهم خارج السلطة، او حتى من موقع المعارضة، كما لو كانوا في السلطة وبروح المسؤولية الكاملة تجاه الشعب. فهم لا يطرحون شعارا لا تتوفر فيه شروط وظروف تحقيقه وتطبيقه في الواقع.  وهم يربطون قضية الوحدة، بشروط التحرر، والديمقراطية، والتقدم الاجتماعي – مع مراعاة التمايزات والظروف الموضوعية المتطونة تاريخيا بين البلدان العربية المختلفة. والشيوعيون هم اخر من يتاجر بالشعارات الفضفاضة، او يلجأ الى المزاودة العقيمة، او يقترح الحلول المبسطة لعملية بالغة التعقيد ومشروطة بظروف تطورها الموضوعي ونضوج عناصر تحقيقها- كقضية الوحدة العربية. وحقا ما يقال ويتكرر من ان الشيوعيين يربطون قضية الوحدة بشروط التحرر، والديمقراطية، والتقدم الاجتماعي – مع مراعاة التمايزات والظروف الموضوعية المتكونة تاريخيا بين البلدان العربية المختلفة.