أيار 19
   ظلّ موقف الحزب الشيوعي العراقي من القضية الفلسطينية وتصوره للصراع العربي الإسرائيلي - شأن غيره من الأحزاب الشيوعية والقوى التقدمية العربية - ظل عرضة للتشويه المتعمد والتعمية الأيديولوجية التي لجأت إليها معظم فصائل الحركة القومية العربية وفي مقدمتها البعث فضلا عن قوى اليمين والرجعية من أعداء الشيوعية التقليديين. وفسرت أممية الشيوعيين ونبذهم للتعصب القومي والديني على نحو يثلم وطنيتهم وانحيازهم للقضايا الوطنية والقومية.
    اقترن كفاح الحزب منذ بداية تأسيسه من اجل حل مسائل التحرر الوطني بمعاداته للمشروع الصهيوني في المنطقة، فقد شارك المثقفون الماركسيون في التظاهرات التي حدثت في بغداد 1928 بمناسبة زيارة الصهيوني "الفريد موند" فأعقبت تلك التظاهرات اعتقالات طالت حسين الرحال وعزيز شريف وزكي خيري وعبدالفتاح ابراهيم الذي ينسب إليهم الدور الكبير في تأسيس الحزب الشيوعي العراقي منتصف الثلاثينيات. وقد نبّه الحزب الى خطورة الصهيونية باعتبارها ايديولوجية عنصرية والى الترابط البنيوي بين الأمبريالية والصهيونية، ففي آب 1935 نشرت جريدة كفاح الشعب الناطقة باسم الحزب مقالا يعبّر عن التضامن مع الشعب الفلسطيني. وقد ساهم في تهريب السلاح الى الفلسطينيين بالتنسيق مع الضابط القومي المعروف يونس السبعاوي عبر دائرة كَمارك الرمادي، وكان يتسلمها فؤاد نصار الذي سيصبح في ما بعد سكرتير الحزب الشيوعي الأردني. ولذا فإن قضية فلسطين بقدر ما هي قضية النضال من أجل الحقوق العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني فهي نضال ضد الامبريالية وقاعدتها المتقدمة في الشرق الأوسط، اسرائيل، ولا يمكن حلّها بمعزل عن تطلعات شعوبنا نحو الأستقلال الوطني والتقدم الاجتمـاعي . لم تكن ( المسألة اليهودية ) وليدة ظروف وتحولات الشرق بقدر ما كانت نتاجاً غريباً سعت الدول الأوربية لتصديره الى الشرق والتخلص من موروث العلاقة الملتبسة مع اليهود في المجتمعات الغربية. لقد نوّه ماركس ببصيرة ثاقبة في كتابه (المسألة اليهودية) ان خلاص اليهودي ليس في العودة الى ( أرض الميعاد ) بحسب المقولات التوراتية والترويج الصهيوني لها بل في اندماجه في الواقع الاجتماعي والتاريخي المعين، فالمسألة اليهودية مسألة اجتماعية تاريخية بالتحديد ولا يمكن تقبل التفسير الميتافيزيقي للشخصية اليهودية أو النظر الى صيرورة التاريخ اليهودي بمعزل عن الشروط الاجتماعية والاقتصادية . منذ زوال حكم المور ( المسلمين ) في الأندلس شهد اليهود ألواناً من التمييز والكراهية وسوء المعاملة بما يؤسس لتاريخ من العداء للسامية بصوره ومراحله المختلفة وصولاً الى القرن التاسع عشر والجدل الذي استعر في الأوساط السياسية والثقافية حول الحاجة الى وطن لليهود مما مهد لظهور الصهيونية باعتبارها تعبيراً عن مصالح وفكر البرجوازية اليهودية العليا وان من مصلحتها تجنيد جماهير الشغيلة من اليهود لصالح برنامجها الاستيطاني الذي يتواءم الى حد كبير مع النهج الكولونيالي للقوى الاستعمارية الكبرى آنذاك. وكان لابدّ للصهيونية أن تحشد إمكاناتها وأساليبها المختلفة في تضليل المفكرين والساسة وقطاعات الرأي العام الأوربي للإيهام بمشروعية وطن قومي ينقذ اليهود من عناء الشتات والتمزق والغيتو مستعينة مرة بأسفار العهد القديم وأخرى بالأفكار الجديدة الليبرالية والأشتراكية وتصوير الصهيونية على أنها حركة تحرر قومي خاصة وان المرحلة التاريخية كانت تشهد نهوض القوميات وتأسيس الدول القومية ، وكل ذلك جرى في سياق أيديولوجي مشبوه يتساوق مع المشروع الامبريالي للهيمنة على الشرق الأوسط. على أن الدارس لأحوال القرن التاسع عشر في أوربا يتبين مدى التلاؤم الذي عبرت عنه البرجوازية اليهودية الجديدة مع النظام الرأسمالي واندماجها في المحيط البرجوازي الأوربي الغربي عن طريق ظواهر شتى :
أ‌- على الصعيد الاقتصادي اتجهت الشرائح العليا للبرجوازية اليهودية نحو أخذ حجمها الطبيعي داخل عالم البرجوازيات الأوربية المسيطرة فلم تعد بارزة بروزاً خاصاً في عالم المال كما كانت في السابق وبتوصيف ماركس" فإن الظروف الخاصة التي تتبلور مع تطور الرأسمال الصناعي لم تعد مسيطرة هنا ، بل العكس هو الصحيح اذ حيث مازال الرأسمال البضائعي مسيطراً نجد أوضاعاً متأخرة "
ب‌- وعلى الصعيد الاجتماعي ازداد عدد اليهود من أبناء البرجوازية الذين تخلوا عن دينهم واعتنقوا المسيحية وبخاصة بين صفوف الأنتلجنسيا والعاملين في المهن الحرة التي دخلها اليهود بكثافة كبيرة "
ج-على الصعيد الثقافي والحضاري انتجت البرجوازية اليهودية الجديدة ثقافة جديدة تتفق مع عصر التنوير والعقلانية الأوربية اذ حاولت أن تحقق منجزات حديثة وليبرالية وثورية في المجالات الثقافية والحضارية شبيهة بالخطوات التي حققتها برجوازية اوربا الغربية.
د- على الصعيد السياسي اعطت البرجوازية اليهودية في بادئ الأمر ولاءها الكلي للحركات القومية في البلدان الموجودة فيها واعتبـرت ذلك جزءاً من عملـية اتمام تحررها الاجتماعي العام.
    لقد تراكمت ثروة فكرية وخبرة سياسية عميقة في تحليل المسألة اليهودية والدور الخطير للصهيونية بدءً من كارل ماركس وروزا لوكسمبورغ وابراهام ليون واسحق دووينشر وآرنست فتشر واريك هوبزباوم ونعوم تشومسكي، وهم مفخرة الفكر الإنساني التقدمي وبوصلته في الطريق الذي تزرعه إسرائيل وحلفائها بالأباطيل والأوهام .
يقول أ. هوبزباوم :( ليس لديّ التزام عاطفي وجداني بممارسة دين سلفي ، ناهيك عن الالتزام بتأييد دولة ، امة صغيرة متشربة بالروح الحربية العسكرية مخيبة للآمال ثقافياً وعدوانية سياسياً تطالبني أن أتضامن معها على اسس عرقية عنصرية كما أنني لست حتى مضطراً للتكيف مع الذهنية السائدة الدارجة في بداية القرن الجديد والمتمثلة في التعاطف مع اليهودي – الضحية الذي يؤكد اعتماداً على قوة الهولوكوست مزاعم ودعاوى وحقوقاً على ضمير العالم ).
    وجاء في برنامج حزب التحرر الوطني 1946 وهي تسمية أخرى للحزب الشيوعي العراقي ( يرى حزبنا في النشاط الصهيوني الاستعماري خطراً لا يهدد فلسطين حسب بل البلاد العربية بأسرها لأنها عدا عن كونها حركة استعمارية عنصرية فاشية فهي في الوقت ذاته اداة رجعية بأيدي الدول الاستعمارية الكبرى وسلاح تشهره ضد الحركة التحررية العربية ). وعلى عكس هذا الوقف كانت الفئات القومية تتبنى خطاباً ساذجاً لا يميز بين فقراء اليهود وأغنيائهم ولا ينفذ الى حقيقة المشروع الصهيوني ودوافعه الاستعمارية التوسعية. وقد ارتهنت الى مقولات ووقائع في التاريخ العربي الإسلامي عن غدر اليهود وخيانتهم للمواثيق والعهود دون تحليل كاف لأسس ومفاهيم الصهيونية ووسائلها المختلفة وأساليبها المبتكرة وعدم التمييز بين اليهودية والصهيونية. وكان أداؤها في أواخر الثلاثينات وبداية الأربعينات يثير الهلع في اوساط اليهود العراقيين ويوفر الذريعة للمخطط الصهيوني الذي عمل على انشاء مراكز استقطاب واستيطان لليهود وتشجيعهم للهجرة الى فلسطين. وبينما تمسكت نسبة كبيرة من اليهود العراقيين بخيار البقاء داخل العراق فقد دفعت ممارسات نادي المثنى وحزب الأستقلال فضلاَ عن الممارسات الخاطئة ضد اليهود بعد أحداث حركة مايس 1941 ( حوادث الفرهود ) وتورط الحكومة العراقية آنذاك في تهجير اليهود وتنظيم رحلات نقل جوي لأعداد كبيرة منهم من بغداد الى اسرائيل وتغاضيها عن عمليات تهريب اليهود العراقيين الى ايران الى حد مطالبة الأعضاء القوميين في مجلس النواب بترحيل كافة اليهود من العراق ومصادرة أملاكهم والمناخ الهستيري الذي كان يتوعد اليهود بالويل والثبور ، كل ذلك يتفق مع أهداف الحركة الصهيونية في تعزيز نسبة اليهود في فلسطين وخلق واقع ديموغرافي جديد على حساب الفلسطينيين. وانه لمن المؤسف ان يتبنى التيار القومي الفلسطيني استناداً الى ايديولوجية محافظة منذ العشرينات مواقف تتسم بالتشنج والارتجال وضعف الحس التاريخي بجسامة المخطط الامبريالي والصهيوني وانسياقه وراء أوهام المساواة بين الشيوعية والصهيونية ومقاطعته للجان التحقيق الدولية للتعرف على حقائق الوضع السكاني في فلسطين فكانت تلك فرصة سانحة لقادة المنظمات الصهيونية أن يقدموا تصورهم المشبوه عن مشروعية المطالبة بوطن لليهود وتسويغ شعارهم المخادع ( أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ) . كان لجوء الحاج أمين الحسيني الى بغداد والتنسيق مع قادة الجيش ورشيد عالي الكيلاني للقيام بحركة انقلابية لزحزحة النفوذ البريطاني في سياق التواطؤ مع المانيا النازية التي كانت تخوض حربا كونية ضد الحلفاء يكشف عن غياب رؤية صحيحة للعلاقات الدولية ومكانة الصهيونية في منظومة المصالح الكبرى وقد الحقت تلك المواقف ضررا فادحا بالقضية الفلسطينية خاصة وان النازية تمثل هي الأخرى ايديولوجية عنصرية تقوم على عقدة تفوق الجنس الآري فيما تقوم الصهيونية على تفوق اليهود بوصفهم ( شعب الله المختار ) .
    في أيلول 1945  تقدم رفاق يهود في الحزب الشيوعي العراقي هم ( يعقوب مصري ومسرور صالح قطان وابراهيم ناجي ) بطلب تأسيس  عصبة لمكافحة الصهيونية. وقد ورد في منهاجها (مكافحة الصهيونية وفضح أعمالها ونواياها بين جماهير الشعب العراقي ولا سيما بين اليهود وبهدف القضاء على نفوذ الصهيونية ودعايتها وفضح عملاء الصهيونية ). وجاء في عريضة طلب تأسيس العصبة (إن الصهيونية خطر على اليهود مثلما هي خطر على العرب، واذا كانت قضية فلسطين هي قضية البلاد العربية بأسرها فلا يمكن إلا أن نقف الى جانب عرب فلسطين ). أجيزت عصبة مكافحة الصهيونية في آذار 1946 قبيل قيام لجنة التحقيق الدولية حول فلسطين بزيارة العراق .
    كتب الرفيق (فهد) مؤسس الحزب سلسلة مقالات في جريدة الأساس تناول فيها جذور الصهيونية وطابعها العنصري والعلاقة العضوية بين الصهيونية والأمبريالية (لقد تبناها الاستعمار البريطاني لإيجاد حليف له في قلب البلاد العربية فلسطين ولغرض شطرها عن البلاد العربية الأخرى واتخاذها قاعدة حربية له ) ثم محاولة أمريكا استخلاف بريطانيا في فلسطين واتخاذها قاعدة لحماية مصالحها واستخدام نفوذها لدعم الصهيونية. كما فضح صراع أقطاب النظام الملكي من أجل كراسي الحكم وتباكيهم على المصلحة القومية وعلى القضية الفلسطينية استنادا الى الشعار المشبوه (عدو عدوي صديقي ) الذي علت نبرته خلال أحداث مايس 1941 ...ورغم ان عمر العصبة لم يدم الاّ ثلاثة أشهر من آذار الى حزيران 1946 فقد عبرت عن فهم عميق للمسألة فجاء في بيان العصبة ( ان حلّ المشكلة اليهودية يتم بحل مشكلات البلدان التي يعيش فيها اليهود ، أما حل فلسطين فهو فضلا عن انه لا يحل المشكلة اليهودية فهو اعتداء صريح غاشم على حقوق الشعب العربي لا يمكن أن يرضاه أي إنسان حرّ ، ونحن بصفتنا يهوداً نعلن استنكارنا لوعد بلفور واحتجاجنا عليه ، وندعو كل مواطن الى النضال من اجل استقلال فلسطين استقلالاً تاماً وتأليف حكومة ديمقراطية عربية فيها) *. وعبّرت جريدة ( الأساس )  عن ميل سياسي وفكري تقدمي بين اليهود العراقيين وهو احدى اللمحات المشرقة في نضال الحزب الشيوعي العراقي، الذي ضم بين صفوفه مناضلين من مختلف الأديان والمذاهب بما يؤسس لهوية وطنية جامعة تقوم على التعايش والإحترام المتبادل والكفاح من أجل التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية والحريات. كما تمت مقاطعة لجنة التحقيق الأنكلو- امريكية والتأكيد على الغاء الانتداب وتأليف حكومة وطنية ديمقراطية. وكانت عصبة مكافحة الصهيونية قد لفتت بنشاطها أنظار الوطنيين في فلسطين فأرسل السيد جمال الحسيني عميد اللجنة العليا في فلسطين برقية يدعوها الى المشاركة في الإضراب العام المقرر تنفيذه في البلدان العربية احتجاجا على قرارات اللجنة الدولية المنحازة للصهيونية. ونظمت تظاهرة في 28 حزيران 1946 ضد الأعمال الوحشية التي ترتكبها المنظمات الصهيونية في فلسطين بمؤازرة سلطة الانتداب البريطاني ضد الفلسطينيين. وقد طالبت التظاهرة بعرض قضية فلسطين على مجلس الأمن وبحكومة وطنية ديمقراطية للعرب واليهود في فلسطين.    
    انطلقت التظاهرة من الرصافة في بغداد وعبرت الى الكرخ، وحين مرّت بالقرب من السفارة البريطانية قوبلت باطلاق النار من قبل الشرطة فسقط الشاب الشيوعي اليهودي شاؤول طويق، وهو أول شهيد وطني بعد الحرب العالمية الثانية ..وفي 29 مايو/ايار توجه أعضاء الحزب اليهود برسالة الى ستالين والحكومة السوفيتية يلتمسون فيها تأييد قضية فلسطين في الأمم المتحدة وحق شعب فلسطين العربي في الإستقلال وقضيتهم لا علاقة لها بمأزق اليهود المقتلعين في أوربا ورفض الشيوعيين التخلي عن أفكارهم ..
    كان موقف الإتحاد السوفيتي تجاه القضية الفلسطينية قبل قرار التقسيم يماثل موقف الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية، وهو مبني على تحليل ماركس للمسألة اليهودية وعلى أفكار لينين في صراعه ضد (البوند ) وهي منظمة للعمال اليهود في روسيا . وقد ظل هذا الموقف راسخا، ولكن يبدو أن مجموعة من الأنتلجنسيا اليهودية في الإتحاد السوفيتي أفلحت في التأثير على مراكز صنع القرار هناك، حيث صورت الصهيونية كحركة تحرر وطني تقودها المنظمات الصهيونية ضد النفوذ البريطاني بينما الدول العربية خاضعة للاستعمار البريطاني واستدرار التعاطف مع اليهود لما عانوه من قسوة ومعاملة وحشية جرّاء الممارسات العنصرية الوحشية  للنازيين في ألمانيا والبلدان الخاضعة للاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية، وربما تشكل تصور لدى السوفيت أنه بإمكان الحزب الشيوعي في الدولة اليهودية الجديدة الوصول الى السلطة واقامة دولة اشتراكية !!...
    في 14 مايو 1947 أعلن وزير الخارجية السوفيتي أندريه غروميكو أنه ( لا يمكن ضمان المصالح المشروعة للسكان العرب واليهود في فلسطين وعلى حدٍ سواء إلا بإقامة دولة عربية – يهودية مستقلة وثنائية وديمقراطية ومتجانسة )، وأضاف أنه ( اذا ما أثبتت هذه الخطة أنها مستحيلة التنفيذ فسيكون ضروريا أخذ الخطة الأخرى في الإعتبار وهي الخطة التي تنصّ على قيام دولتين مستقلتين واحدة يهودية والأخرى عربية ) .. لقد تسبب موقف الإتحاد السوفيتي بالصدمة والحرج للشيوعيين في العراق والبلدان العربية، وفي 29 تشرين الثاني 1947 صوّت الإتحاد السوفيتي الى جانب الولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى على قرار التقسيم، وهو قسمة غير عادلة  بحق عرب فلسطين في اقتطاع 56,5 % من مساحة بلدهم ومنحه لمجتمع يشكل أقل من ثلث السكان.
وهكذا صدر قرار التقسيم الشهير الذي مهّد لتمزيق الكيان الفلسطيني وتوطيد أسس الدولة الصهيونية ولم تكتف اسرائيل بحصتها من التقسيم بل ابتلعت الأراضي الفلسطينية تدريجياً ثم أراضي الدول العربية المجاورة ( مصر وسوريا) خلال حرب حزيران 1967 التي وضعت العرب أمام مأزق تاريخي وخسارة فادحة لم يستطيعوا التخلص من آثارها حتى اليوم . إن التاريخ لا تصنعه الخطابات المنمقة والأراجيز والنوايا الطيبة بل هو صراع إرادات ورؤى إستراتيجية ووسائل فعالة لصياغة المطامح الكبرى والحفاظ على المصالح الحيوية لشعوب المنطقة إزاء تحديات الهيمنة والاستحواذ التي تتبدى في أشكال وخطابات شتى يتبدل اللاعبون بينما يتواصل الحفاظ على قواعد اللعبة.
بنى الحزب الشيوعي العراقي رؤيته في تحليل مشروع التقسيم في توجيه داخلي صادر في كانون الأول 1947 بحسب المؤرخ ( حنا بطاطو ):
أ‌- ان الحركة الصهيونية حركة عنصرية دينية رجعية ومزيفة بالنسبة للجماهير اليهودية.
ب‌- ان الهجرة اليهودية لا تحل مشكلة اليهود المقتلعين من اوربا بل هي غزو منظم تديره الوكالة اليهودية واستمرارها بشكلها الحالي يهدد السكان الأصليين في حياتهم وحرياتهم.
ج‌- ان تقسيم فلسطين عبارة عن مشروع امبريالي قديم يستند الى استحالة مفترضة للتعايش بين العرب واليهود.
د‌- ان شكل حكومة فلسطين لا يمكن أن يتحدد إلاّ من قبل الشعب الفلسطيني الذي يعيش في فلسطين فعلاً وليس من قبل الأمم المتحدة أو أية منظمة أو دولة أو مجموعة دول أخرى.
هـ- إن التقسيم سيؤدي الى اخضاع الأكثرية العربية للأقلية الصهيونية في الدولة المقترحة.
و- ان التقسيم وخلق دولة يهودية سيزيد من الخصومات العرقية والدينية وسيؤثر جدياً على آمال السلام في الشرق الأوسط.
ولكل هذه الأسباب يرفض الحزب الشيوعي العراقي وبشكل قاطع خطة التقسيم ).
    على ان أجواء التوتر والمماحكات بين أطراف الحركة الوطنية العراقية وحملة الرجعية الحاكمة ضد الاتحاد السوفيتي والشيوعية بتحميله مسؤولية اتخاذ قرار التقسيم ومع قرب تنفيذ المشروع والتهيئة الصاخبة لمشاركة الجيش العراقي في الحرب العربية الأولى في فلسطين في الوقت الذي كانت فيه قيادة الحزب الشيوعي رهينة السجن وبعيدة عن تطورات الأحداث، غير ان المصادر تشير الى توجيه الرفيق فهد الى قيادة الميدان بضرورة التشاور مع قيادات الأحزاب الشقيقة في سوريا وفلسطين لتبني قرار موحد بشأن التقسيم إلآّ ان ذلك لم يحدث كما يبدو. وما لبث هذا الموقف من التقسيم أن انعطف لتأييد السياسة السوفيتية، ففي 6 تموز 1948 تبنت القيادة الشيوعية خارج السجن فكرة اقامة دولة عربية ديمقراطية في الجزء العربي من فلسطين، وقبلها اتخذت جريدة الأساس الناطقة بلسان العصبة موقفا جديدا في انتقاد التصلب السياسي للموقف العربي.
    في 11 حزيران 1948 أصدرت ( اللجنة العربية الديمقراطية ) في باريس بيانا ووزع في بغداد في آب 1948 تحت عنوان (ضوء على القضية الفلسطينية) تضمن خطابا تبريريا للموقف السوفيتي الجديد. وانسياقا مع موجة التعاطف الذي أحرزته الحركة الصهيونية في اوربا، أشار البيان الى (أن الأمر الذي يؤسف له هو أن العرب التقدميين لم يفهموا الموقف الذي اتخذه الإتحاد السوفيتي في ما يخصّ خطة التقسيم، وضيّع الوقت وما زال يضيعه ) ومضى البيان (أن المسألة  الفلسطينية ليست مسالة عربية بحتة وليست مسألة يهودية بحتة، بل مسألة دولية تخضع لمتطلبات الصراع العالمي ضد النظام الرأسمالي الامبريالي العالمي). ويشير البيان الى أن ( المسألة التي هي أمامنا ليست هي تصريح بلفور 1917 الظالم من غير أدنى شك، بل تحديد موقفنا إزاء مئات آلاف اليهود الذين هاجروا منذئذ الى فلسطين، وان لهذا الشعب الإسرائيلي الجديد الحق في تقرير مصيره ) ودعا البيان الى عدم القتال في الحرب العربية الأولى والى تأييد خطة التقسيم ودعم القوى اليهودية التقدمية والوطنية لتمكينها من الوصول الى السلطة، ولوضع نهاية للصهيونية والرجعية اليهودية. ولم يكتف بذلك بل وصف المنظمات الصهيونية الإرهابية (ارغون، شتيرن ) بأنهما منظمتان (تقدميتان ). لقد تسبب موقف الحزب والبيان بردود أفعال وانزعاج لدى كثير من أعضاء الحزب وأنصاره. وحين تسرب البيان الى السجناء الشيوعيين في سجن الكوت وقرىء عليهم بصوت مرتفع أمره فهد بالكفّ بعد سماعه فقرات منه ...وكان عزيز شريف أحد قادة حزب الشعب اليساري قد عبّر علنا عما كان يشعر به الكثير من أعضاء الحزب ومؤازريه بقوله (ليس مسموحا ان نستمد موقفنا في القضايا الوطنية من الإتحاد السوفيني او أن ننظر الى سياسة دولة كالإتحاد السوفيتي على أنها مستوحاة في كل الحالات من المبادىء، ألم يمرّ الاتحاد السوفيتي بصمت على سحق حكومة ايران لأذربيجان ؟ ألم يقم الاتحاد السوفيتي علاقات اقتصادية وسياسية مع حكومة شيانغ-كاي-شيك وحدها بينما كانت عواطفه مع الحركة المعادية لتلك الحكومة ؟).
    لقد وقع السوفيت في سوء التقدير وتم التخلي عن موقفهم خلال أقل من سنتين، اذ كان مبنيا- برأي د.حنا بطاطو - على تقييم غير مناسب للروابط بين الصهيونية ورأس المال اليهودي، وبين رأس المال اليهودي والغرب، وعلى التقدير المبالغ فيه لقوة اليسار اليهودي وامكانياته، وعلى غياب الإحساس بأمزجة شرائح واسعة من العرب وادراك غير كاف للهوّة التي تفصل هؤلاء عن الحكام التقليديين المرتبطين بالغرب.
    وفي أعقاب اقدام السلطة الملكية على إعدام قادة الحزب 14 شباط 1949 وما رافقها من موجة التحريض والتشهير ضد الحزب الذي شاركت فيه القوى القومية الى جانب الرجعية الحاكمة ، ظهرت اتجاهات تتعاطى مع المؤثرات الجديدة في العلاقات الدولية وتشوش الرؤية لدى قطاعات من الرأي العام التقدمي في اوربا ونظرتها الى إسرائيل وتبرير وجودها في المنطقة وعجز القيادة الجديدة للحزب عن التنبؤ بمسار الأحداث ونظرتها التجريدية لقضايا النضال الوطني والارتهان الى نسق دوغمائي يقصر كفاح البرولتاريا الطبقي في مسار محدد لا يتخطاه الى المهام القومية الأخرى. وقد كان صدور كراس ( ضوء على القضية الفلسطينية ) في آب 1948 رغم بعض مضامينه  الواقعية في سياق التأثر بالخطاب الجديد الذي تبنته مجموعة من المثقفين اليساريين العرب ( اللجنة الوطنية الديمقراطية ) الذي حاول ان يقدم تصورا عن الصهيونية يخاطب من خلاله المواطن الأوربي ويتجاهل جرائم الصهاينة ضدّ الشعب الفلسطيني وما آلت إليه الأوضاع عقب الحرب العربية الأولى.
    ان ما فعلته الصهيونية بالفلسطينيين بقدر ما يستوحي صفحات معتمة من تاريخ علاقة اليهود بالكنعانيين فإنه يعيد إنتاج ممارسات الفاتحين في أمريكا واستراليا وجنوب افريقيا ويؤرخ لأبشع عملية ترانسفير جماعي في العصر الحديث . لقد أدان الحزب في الكونفرنس الثاني 1956 ما جاء في الكراس المذكور على ( انه زيف حقائق الوضع في فلسطين وتستر على بشاعة الصهيونية وعدوانيتها وأساء الى فكر الماركسية اللينينية ) وأشار الى (أن بعض العناصر المشكوك بها نجحت في أن تدسّ في صفوف حزبنا مفاهيم خاطئة بالنسبة الى الصهيونية ومن بينها الأفكار التي وجدت تعبيرها في البيان المذكور ).
    انّ التعرض لموقف اليسار العربي والأحزاب الشيوعية بالطعن والتشويه واتهامه بالخيانة والشعوبية والتواطؤ وتغييب حضوره لعقود طويلة هو من باب التبرؤ مما صنعته الحكومات العربية المتعاقبة عبر مراحل الصراع العربي الإسرائيلي ايّ لأكثر من ستة عقود، والأفلاس النظري والسياسي للإتجاهات اليمينية في الحركة القومية العربية التي أهدرت طاقات وموارد هائلة في حروب عبثية ومعارك دونكيشوتية تسببت في تمزيق الصف العربي وتعطيل سبل المواجهة الحقيقية عسكريا وسياسيا وثقافيا، فلم يكن اليسار العربي المغيب والمقصي والمقموع هو من تسبب في ضياع فلسطين وتشريد أهلها وفي الهزائم المتكررة والفجائع وانهار الدم . ومنذ أواخر ستينات القرن الماضي حيث تشكلت أطر الكفاح الفلسطيني المسلح التحق شيوعيون ويساريون بمعسكرات المقاومة الفلسطينية في الأردن قبل أيلول 1970 ثم في لبنان حيث أسهم الشيوعيون العراقيون في العمليات العسكرية وفي وسائل إعلام الثورة الفلسطينية في السبعينات والثمانينات وبرز منهم قادة ميدانيون واعلاميون كانوا موضع تقدير وثقة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية حتى الاجتياح الإسرائيلي لبيروت 1982 وترحيل المقاتلين الفلسطينيين منها.
 
المصادر
- ماركس، المسألة اليهودية- ترجمة نائلة الصالحي، منشورات الجمل 2017
- د.صادق جلال العظم، الصهيونية والصراع الطبقي، دار العودة – بيروت ط1 1975
- عزيز سباهي، عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، منشورات الثقافة الجديدة، دمشق 2002،  ص 387 وما بعدها
- حنا بطاطو : العراق - الكتاب الثاني، ترجمة عفيف الرزاز،  دار الحياة 2011، ص257 ولاحقا