أيار 18

كانت انتفاضة كانون الثاني (الوثبة) عام 1948 واحدة من أروع صفحات تاريخ نضال الشعب العراقي وقواه الوطنية وفي طليعتها الحزب الشيوعي العراقي ضد الاستعمار والرجعية. إذْ أقدم رئيس الوزراء (صالح جبر) هذا الشهر على تحدي الوطن والشعب والسعي المحموم لتوقيع معاهدة (بورتسموث) مع بريطانيا باعتبارها البديل لمعاهدة 1930 التي سمحت لبريطانيا بإقامة قواعد عسكرية لها في البلد تحت حجة التخلص من هذه القواعد. ولكن المعاهدة تضع سيادة العراق واستقلاله كله بيد الاستعمار البريطاني ولفترة طويلة. وسميت (بورتسموث) نسبة الى الميناء الذي عُقِدت فيه. وقد اتحدت القوى الوطنية ضد هذه المعاهدة، وعمَّت المقاومة ضدها جميع انحاء العراق. وشرع الحزب الشيوعي يحشد الجماهير الواسعة في بغداد وسواها، وكُلِّف مسؤولون حزبيون لقيادة "الوثبة" في شوارع بغداد المهمة. وعلى ما أتذكر فإنّ الرفيق (ابراهيم شاؤول) كان مسؤولاً عن تحشيد جماهير الرصافة، لأنه كان مسؤولاً عن تنظيمها الحزبي، ونسيت اسم مسؤول الكرخ، وكذلك الطلبة والشباب والنساء. وكُلِّفتُ أنا بقيادة الجماهير العُمّالية ضمن المشاريع الكبرى وكذلك قيادة جماهير الكاظمية والاعظمية التي كنت مشرفاً على تنظيماتها الحزبية. وقمنا بعقد الاجتماعات بمسؤولي اللجان الحزبية في الرصافة والكرخ والمنظمات النسائية والشبابية والطلابية وواصلنا العمل ليل نهار لِزَج الجماهير في الشوارع ولعدة أيام وخاصة في شارع الرشيد وساحة التحرير وباب المعظم.

كانت الخطة تقضي بأن يعبر المتظاهرون من صوب الكرخ ليلتحقوا بجماهير التظاهرة في صوب الرصافة عبر (الجسر العتيق) كما كان يُسمّى سابقاً وان هذا الجسر كان واقفاً على الطوافات (الدوب). والذي سُمّيَ فيما بعد بجسر الوثبة بعد انتصارها. ان الهدف من تحرك الجماهير بهذا الشكل لكي يصبحوا قوة قاهرة. وعلى هذا الجسر وقعت التظاهرة الرئيسية واستخدمت حكومة صالح جبر العميلة قوى الشرطة والجيش لتفريق المتظاهرين، والحيلولة دون اتصال جماهير الكرخ المنتفضة بجماهير الرصافة المنتفضة وقُتِلَ عدد غير قليل من المتظاهرين صوب جسر (العتيق) ناحية الكرخ ومنهم الشهيدة (عدوية) التي كانت في مقدمة حشد كبير من اراد عبور الجسر. واستخدمت القوات المسلحة حتى منابر الجوامع الواقعة قرب الجسر وكذلك البيوت المرتفعة لرشق الناس بالرشاشات والبنادق.

وقد لعب عمال السكك في الشالجية، تحت قيادة رفاق الحزب، دوراً مشهوداً لإنهاء معركة العبور لصالح الشعب. اذ حركتهم روحهم الوطنية للأضراب عن العمل والاندفاع بتظاهرة كبيرة صوب الجسر، وتمكنوا من اختراق القوى المُعادية والاندفاع مع بقية الجماهير. وتمكن الجميع في آخر المطاف من عبور الجسر والالتحام مع اخوتهم المتظاهرين في الرصافة، وتقدمت الحشود الهائلة الى شارع الرشيد وساحة التحرير وباب المعظم وسواها، الى مقر رئاسة الوزراء وكانت الشعارات المرفوعة "تسقط معاهدة بورتسموث الاستعمارية ويسقط صالح جبر" والمطالبة بأطلاق سراح السجناء السياسيين، وإطلاق الحريات.. الخ. وكنا نشرف على/ونقود التظاهرات من شرفات بعض الشقق في شارع الرشيد. وهي شقق بعض المحامين والاطباء من أصدقاء الحزب، وكنا نتلقى توجيهات مركز الحزب عبر مراسلين، وكذلك بيننا وبين القيادات الموقعية وكنا ننزل الى الشوارع بين فترة وأخرى لنتأكد من سير التظاهرات بما رُسِمَ لها. وأكدت قيادة الحزب على الطابع السلمي للتظاهرات وعدم الخروج من اهداف شعاراتها.

وبعد ايام من التظاهر وفي يوم 27 كانون الثاني من عام 1948 الخالد حُسِمت المعركة لصالح الشعب، اذ أدرك الوصي على العرش (عبد الاله)، وكان الملك فيصل الثاني صبيّاً صغيراً، ان نظام حكمهم كله معرض للخطر ويجب عمل شيء. وقد هدد صالح جبر وهو يستعد لتوقيع المعاهدة، بانه قادم للعراق "لتأديب المشاغبين". وعاد الى العراق فعلاً ولكنه فشل فشلاً ذريعاً في تفريق التظاهرات، التي تزايد زخمها بعد تهديده. وطلب الوصي على العرش عبد الاله التنحي عن السلطة والغاء المفاوضات التي كان مقرراً لها ان تنتهي بعد ساعات للتوقيع، وهرب صالح جبر الى الخارج بعد الاستقالة محبطاً أمام جبروت الشعب وسُمّيت المعركة تاريخيا بـ "وثبة كانون".

وممن أُستشهد في اثناء معارك الوثبة (الشهيد جعفر) أخ الشاعر الكبير (محمد مهدي الجواهري) وقد رثاه بقصيدة يُمجِّد فيها نضالات الشعب العراقي "أخي جعفراً يا رُواء الربيع...ألخ". وكلَّفَ الوصي عبد الاله الشخصية الوطنية السيد محمد الصدر بتشكيل حكومة (تهدئة) أو تنفيس كما سمتها ادبيات الحزب آنذاك وذلك لاستيعاب غضب الجماهير. وأطلق الصدر بعض الحريات وقام ببعض الاصلاحات الاقتصادية والخدمية وصدرت بعض الصحف الوطنية، وكذلك سمح لمساحة من التحرك للأحزاب الوطنية والتقدمية والنقابات العُمّالية...ألخ. وكانت فترة (التنفيس) والتهدئة قصيرة لم تتجاوز عدة شهور، سعت خلالها القوى الرجعية لِلَملَمة صفوفها، وبعدها أُعفيَ محمد الصدر من رئاسة الوزارة. وجيْء برئيس وزراء آخر رجعي معروف بعدائه للشعب لا اتذكر من هو. وقامت الوزارة بإجراءات قمعية كبيرة واسقطت الاجراءات الايجابية التي قام بها (الصدر) وسُحِبت كل الحريات النسبية، وتم اعتقال المئات من الوطنيين ومنهم الشيوعيون ثم القيام بحملة ضارية ضد الحزب الشيوعي.

وكانت فترة التهدئة، المشار اليها، فرصة للحزب للتحرك لتقريب وجهات النظر بين الاحزاب الوطنية والشيوعيين، وأهم الاحزاب كان الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة الاستاذ كامل الجادرجي وحزب الاتحاد الوطني بقيادة الشخصية البارزة (سعد صالح) وحزب الاستقلال.. الخ. وقد كلفتني قيادة الحزب آنذاك بزيارة الاستاذ (سعد صالح) لغرض تقريب وجهات النظر وازالة الخلافات والفتور، واستقبلني الاستاذ (سعد) في داره مرحباً بالحزب الشيوعي ووعدني خيراً بالاتصال بالقوى الاخرى، باتجاه تأسيس جبهة وطنية.

لم يقتصر زخم وثبة كانون التحرري والثوري على العراق بل تعداه الى الدعم المعنوي السياسي لنضال القوى الوطنية في البلدان العربية الاخرى ضد الاستعمار والقوى الموالية له.

 الهجوم على الحزب الشيوعي

في أواخر عام 1948 وأوائل 1949، شُنَّت حملة مركزية ضد الحزب وأُلقي القبض على (مالك سيف)، مسؤول الحزب آنذاك. وسقط في مستنقع الخيانة وسَلَّم أسرار الحزب للتحقيقات الجنائية، ونتج عن ذلك اعتقال المئات من كوادر الحزب واعضائه وحُطِّمت أكثر منظماته في بغداد خاصة والمدن الاخرى. وكلَّفت قيادة الحزب من سجن الكوت (عزيز الحاج) لقيادة مؤقتة للحزب. وكانت مهمتنا الاساسية الشاقة والمُعقّدة والمحفوفة بأعظم الاخطار "اعادة تنظيم الحزب ولملمة صفوفه، مع اتخاذ اجراءات صيانة حادة والتزام اليقظة والحذر".

وشرعنا في العمل لتنفيذ أوامر الرفيق (فهد)، وكانت المهمة الاولى هي استلام المطبعة السرية التي سلمت من خيانة (مالك سيف) بعد ان استطاع الرفيق (ح.ع) مسؤول المطبعة نقلها الى مكان سري آخر قد تم استلامها قبل ان تصل إليها يد الامن.

وواصلنا العمل (عزيز وأنا) وتحيط بنا الاخطار من كل جانب. وبعد فترة ليست بالطويلة طالتنا يد العدو. كنا نتناول العشاء في غرفة بدار سرية، وكان عشاءنا البيض، وكانت الساعة التاسعة مساءً، حين فوجئنا بضجة كبيرة ووقع اقدام هائلة فوق سطح الدار (طلع الاكل زقنبوت!)، ولم نفلح في الهرب، اذ ما هي إلاّ ثوانٍ حتى سمعنا باب السطح تُكسر واذا برجال الامن يقفون امامنا، شاهرين الاسلحة بوجوهنا، وقيدوا أيادينا بالسلاسل الحديدية وعصّبوا أعيننا، وبدأ الضرب المُبرِح على أجسامنا، ونُقلنا بالسيارة المهيأة الى مبنى مديرية الامن العامة التي كان يرأسها آنذاك المجرم (بهجت العطية). ونُقلنا من هناك الى سرداب (قبو) مُظلم عميق وعُلِّقنا بالسلاسل الضخمة على باب السرداب من الداخل وفوق سُلّمهِ، وأيدينا بالسلاسل مُعلّقة الى اعلى وأرجلنا في الهواء ولا تكاد تلامس أرض السُلّم. وبقينا على هذه الحالة حتى الفجر، وكنّا على وشك الاغماء والارهاق يصل بنا قرب الموت.

وفي مقتبل النهار، جرى التحقيق معنا. وصمدنا ولم يحصلوا على أي شيء، وقالوا "أنتم لا تتكلمون الا بأوهام ولكن لدينا معلومات وثيقة عنكم". وكان (مالك سيف) ينظر الينا بِتَشفٍّ من احدى غرف الامن القريبة من موقع التحقيق.. وفهمنا انهم يأتون إليه بالمشروبات الكحولية يومياً بناء على طلبه.

ونُقِلنا الى سجن بغداد المركزي في قسمه السياسي في باب المعظم، ثم بعد أيام، الى معتقل عسكري في ثكنة (أبو غريب). ووُضِعتُ في غرفة انفرادية ضيقة لا تسع الا الى لثلاثة اشخاص وكان قبلنا عشرات من كوادر الحزب وقياداته موضوعة في هذه الغرف، ونصيبي في غرفة انفرادية، وجدتُ فيها الرفيق (عبد علوان) وأحد العمال الشيوعيين الاثوريين (شمشون). بعد فترة قُدّمنا الى "المحاكمة!". وكان يترأس المحكمة العسكرية ضابط كبير وهو (النعساني). ولم يكن هناك أي مقوِّم من مقوِّمات محكمة شرعية، بل هي مهزلة مضحكة (وشر البلية ما يُضحِكُ!). وقُسّمنا الى وجبات، تقدَّمَنا في الوجبة الاولى وهي الرفاق (فهد وحازم وصارم). الذين جيء بهم من سجن الكوت (ليُحاكَموا) مجدداً بتهمة التحريض على اشاعة الفوضى (من سجنهم) في البلد، ويقصدون وثبة كانون المجيدة، وكذلك توجيه الحزب من السجن بحسب اعتراف مالك سيف. وقد أُدخِلوا (قبل وجبتنا التي هي الثانية) الى قاعة المحكمة العسكرية، وحُكموا بالإعدام المهيأ سلفاً من السلطة، ونُفِّذ فيهم الحكم سِراعاً في ساحات رئيسية في بغداد.

وكانت وجبتنا، وجبة الكوادر القيادية هي الثانية، بعد وجبة الرفيق الشهيد (فهد). اذ أُدخلنا الى القاعة نفسها، ولم نُحاكم كأفراد بل كمجموعات. وقفنا في الصف الاول، ووراءنا الصف الثاني ثم الثالث ونطق (النعساني) بالحكم قائلاً: " الصف الاول المكون من المتهمين فلان وفلان.. ألخ لمدة خمسة عشر عاماً " والصف الثاني عشر سنوات والصف الثالث.. وهكذا.. الخ. مهزلة مضحكة.. لا استجواب كأفراد.. لا محامي دفاع.. لا نقاش. ونُقِلنا الى سجن بغداد لفترة قصيرة ومنها نُقلنا الى سجن (نُقرة السلمان) الصحراوي. وبالمناسبة تحضرني نكتة ظريفة عن المحاكمة إياها، كان في الصف الذي بعدنا أحد الرفاق القياديين في نقابة عمال الميناء، العامل (چنچون حسين)، خاطبه النعساني:" ها اسمك چنچون ها يابه تريد تصير وزير براسنه؟ انت سامع بعمرك وزير اسمه چنچون؟" فاجابه چنچون بسرعة: وانت حضرة الحاكم سامع رئيس وزراء اسمه تِشر..تِشِل؟ (ويقصد ونستون تشرتشل الذي كان رئيس وزراء بريطانيا انذاك) .. هذا يابه رئيس وزرائكم؟

* المادة هي فصل من مذكرات ستطبع قريبا