أيار 19
    ولدت في النجف عام 1934، أي في نفس العام الذي ولد فيه حزبنا الشيوعي العراقي، العام الذي افتخر واعتز به، لانه سجل ولادة حزب النضال والتضحية، حزب وطن حر وشعب سعيد. ومدينة النجف، كما هو معروف، مدينة العلم والأدب والشعر والثقافة، مدينة الثورات والانتفاضات ضد كل أشكال الاستعمار والدكتاتورية. النجف رمز البطولات والتضحيات، مدينة الشهداء نجم البقال وحسين محمد الشبيبي وسلام عادل وحسن عوينة وجعفر الجواهري ومحمد التتنجي وشهيد ابو شبع وغيرهم.
 
وعي مبكر
    انتمي الى عائلة دينية عريقة، يرجع لقبها (الجواهري) الى جد العائلة، الشيخ محمد حسن الشيخ باقر، صاحب الموسوعة الفقهية الاسلامية، جواهر الكلام، والمرجع الأعلى للشيعة في زمانه. وكانت عائلتي متوسطة الحال، فقد كان والدي صاحب محل لبيع التبغ، وكان جدي لوالدتي، الشيخ عبد الحسين الحياوي، مرجعاً دينياً في واسط واديباً وشاعراً، وخاصة في المآتم الحسينية.
    تعلمت في الكتّاب، لدى المرحوم ملا سلمان، قبل دخولي المدرسة الابتدائية. وكان والدي يصحبني معه في الأربعينات الى دار احد أصدقائه مساء ويجتمع هو وآخرين في سرداب البيت ليستمعوا الى النشرات الاخبارية عن الحرب العالمية الثانية. كانوا منقسمين فيما بينهم في الموقف منها، فهناك من يقف الى جانب روسيا والجيش الاحمر، ومنهم من يقف الى جانب هتلر وموسوليني. كان النقاش يحتدم وكنت اميل الى جانب والدي الذي كان في صف الإتحاد السوفيتي، دون وعي مني. وكنت حين اسمع صيحة تقول (جاهم ابو الشوارب) اود أن اعرف من هو "ابو شوارب" هذا. كانت نقاشاتهم تمتد الى ثورات النجف وبطولات اهلها ضد العثمانيين والانكليز، وعن الثائر الحاج نجم البقال وثورة النجف وثورة العشرين، وقد غرس كل ذلك في نفسي فضول التساؤل عن هذه الأمور.
 
البدايات
    في كانون الثاني 1948، اندلعت شرارة الوثبة المجيدة، فعّمت النجف تظاهرات جماهيرية كبيرة، أحرق فيها المركز الثقافي البريطاني، واستخدمت الشرطة الأسلحة النارية، فسقط جراء ذلك شهداء. ووقفت بعض عشائر النجف بأسلحتها الى جانب المتظاهرين. وتمكنت الوثبة من اسقاط وزارة صالح جبر، فتم تكليف رجل دين بتشكيل الحكومة، لامتصاص غضب الجماهير. وقد شنت سلطات الأمن بعدها حملة اعتقالات واسعة، شملت العديد من المناضلين. وعلمت العائلة حينها باستشهاد قريبي جعفر الجواهري في معركة الجسر التي وقعت إبان الوثبة، الامر الذي دفع جميع عائلة ال الجواهري الى الوقوف ضد النظام الملكي، ليس الشباب وحدهم، بل وحتى رجال الدين. ودفن الشهيد في مقبرة ال الجواهري، فيما جاءت وفود المعزّين من جميع محافظات ومدن العراق، وهي تهتف ضد الحكومة وضد الاستعمار، فيما يشبه تظاهرات عفوية، شاركنا نحن شبيبة العائلة والنجف فيها، ومثلت بداية الوعي السياسي.
    أكملت الدراسة الابتدائية في عام 1950 - 1951وانتقلت الى المتوسطة، وراحت تتكون لي علاقات جديدة مع طلاب يسبقوني بسنة أو سنتين. وكان اول شخص يتصل بي ويفاتحني بأمور سياسية، الاخ والصديق باقر ابراهيم، الذي ثبّت ذلك في ذكرياته. وقام بتزويدي بكراريس وكتب منها "مستلزمات كفاحنا" و"حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية" للرفيق الخالد فهد، و"الجبهة الوطنية" للرفيق حسين الشبيبي، وكتاب "تحت اعواد المشانق" ليوليوس فوتشك ورواية "الفولاذ سقيناه". وبعد فترة سلمني الى المناضل عبد الزهرة طنبيرة الذي ضمني الى حلقة بصفة صديق منظّم، وهي درجة حزبية كانت تسبق الترشيح الى عضوية الحزب، يتحمل فيها الصديق المنظّم كل المهمات تقريباً التي يمارسها عضو الحزب. وكنت اكلف بكتابة الشعارات على الجدران ولصق المناشير، واستنساخها بقلم قوبية وكاربون، عندما ينام والدي، الذي انتبه يوماً بسبب بقاء مصباح غرفتي مضاءً فأشفق علّي قائلاً (كافي دراسة عيونك راح تعمى) دون أن يدري بأني استنسخ نشرات شيوعية.
 
المساهمة في النضال
    اشتركت بأول تظاهرة انطلقت من سوق الحويش تحمل شعاراً واحداً، اغلق اصحاب المحال على اثرها محالهم، ربما تضامناً معها او خوفاً من تبعات قمعها، وكانت هذه اول تجربة عملية لي. وفي ايار 1952 اضرب القصابون واغلقوا محالهم، احتجاجاً على رفع الضرائب عليهم. وحاولت البلدية القيام بالذبح لإفشال الإضراب، فنظم الحزب تظاهرة جماهيرية كبيرة تضامناً مع القصابين، خرج في حراستها عدد من المناضلين الملثمين. حضرت مفرزة من الشرطة بقيادة المفوض "ابو فائزة" لتفريق التظاهرة، فاصطدم معها حراسها واصيب المفوض ومات فهرب الباقون. وعلى اثرها شنت السلطات حملة اعتقالات واسعة، كنت من بين ضحاياها.
    نقلنا الى الموقف في كربلاء ولأول مرة التقي واتعايش مع مناضلين منهم عبد الامير الخياط، الذي علمت في ما بعد انه سكرتير منظمة النجف، وحسين سلطان واخرين. كنا موزعين على زنزانتين. وقد اهتم الرفاق بي لأنني كنت اصغرهم سناً. اضربنا عن الطعام مطالبين باطلاق سراحنا، وتطوع عدد من المحامين من لجنة الدفاع عن العدالة، منهم موسى صبار وجواد عبدالحسين وعبد الغني مطر، للمطالبة باطلاق سراحنا. كما زارنا محافظ كربلاء مكي الجميل وهو شقيق حسين الجميل (القيادي في الحزب الوطني الديمقراطي حينها) لثنينا عن الإضراب دون جدوى.
أدعى افراد الشرطة بأن المتظاهرين الذين هاجموا المفوض هم الرفيق العامل حسين روضة وعبد الرزاق طنبيرة وشخص ثالث لا اتذكر اسمه مع الاسف، رغم عدم وجود علاقة لهم بالأمر. فأبقوا عليهم معتقلين وتم اطلاق سراحنا بعد اكثر من شهر من التوقيف.
 
استشهاد القادة
    بعد الضربة الأليمة التي تلقاها الحزب، بإعدام قادته الرفاق الخالين فهد وحازم وصارم واعتقال العديد من قادة واعضاء حزبنا، تم تشكيل مركز جديد للحزب، وراح يضمد جراحه، ويوسع نشاطه الجماهيري، فنظم العديد من التظاهرات والإضرابات العمالية، وساهم في إنجاح عقد مؤتمر السباع للطلبة والذي انبثق عنه أول اتحاد طلابي (اتحاد الطلبة العام) في 14 نيسان 1948. كما تشكلت المنظمات الجماهيرية كحركة انصار السلام والنقابات واصدار العديد من الصحف والمجلات والكتب وغيرها من الفعاليات والنشاطات الجماهيرية والتظاهرات، وخاصة ضد الأحلاف العسكرية كالحلف الباكستاني التركي الذي كان يمهد لحلف بغداد، واحتجاجاً على زيارة عدنان مندرس رئيس وزراء تركيا وتضامنا مع اضراب عمال السكاير في السليمانية، تلك النشاطات التي استمرت حتى اندلاع انتفاضة تشرين المجيدة.
    وفي عام 1952، وبعد أن نضجت الظروف الموضوعية والذاتية، ومنها محاولة جر العراق الى الأحلاف العسكرية وادخاله في مشروع النقطة الرابعة واشتداد القمع وتردي الاوضاع المعيشية وتصاعد المد الثوري، انطلقت شرارة انتفاضة تشرين من اضراب وتظاهر طلاب كلية الصيدلة والكيمياء ثم باقي الكليات وبمشاركة الجماهير الشعبية. وقد لعبت الصحف الوطنية دورا مهما في تعبئة وتحشيد الجماهير مثل جريدة الأهالي والثبات والبلاد والدفاع وغيرها. وما ان وصل خبر اندلاع الانتفاضة في بغداد حتى تجاوب وتضامن طلاب مدينة النجف في المتوسطة والثانوية معها، ودعوا الى الاضراب والتظاهر والتحق بهم الناس. وعند وصول المظاهرة الى ساحة الميدان، تصدت لها مفارز الشرطة بالرصاص، فسقط شهيد وأصيب بالرصاص زميلنا بالمتوسطة حسن تبينه، وسارع موسى الجواهري الى حمله بعربة احد الحمالين لينقذ حياته. استمرت الهتافات عالياً للسلام العالمي وبسقوط النظام الملكي ولإطلاق سراح السجناء السياسيين وتوفير العمل للعاطلين وضد الأحلاف الاستعمارية، ومن اجل تشكيل حكومة وطنية برئاسة كامل الجادرجي. وبعد سقوط وزارة جميل المدفعي وتولي الوزارة رئيس اركان الجيش نور الدين محمود، كما تم اعلان الاحكام العرفية وتعيين حاكم عسكري. وصدرت من محمود هذا، عدة مراسيم كان منها مرسوم بتسعير المواد الغذائية ومنها الشلغم وبسعر مضاعف لسعره في السوق، فقام احد باعة الشلغم المسلوق بإرسال برقية الى نوري الدين محمود أذيعت من إذاعة بغداد اسوة ببرقيات التأييد للوزارة من قبل شيوخ العشائر والإقطاعيين، وجاء فيها (سيادة رئيس الوزراء، تسعيركم للشلغم اثلج صدورنا سيروا على بركة الله)!
    وصلت مدينة النجف قطعات من الجيش كانت بقيادة عبد الوهاب الشواف، الذي كان متعاطفاً مع المتظاهرين، فسمح بصعود بعضهم على الدبابات والقاء الخطب بالجماهير، ومن ابرز الخطباء وقادة التظاهرات، اتذكر الشهيد عواد الصفار والفقيد حسين سلطان والشهيد حسن عوينة وعلي السيد سلمان ومحمد ابو كالة وشهيد ابو شبع. ومن نشطاء الطلبة كان هناك صاحب الحكيم وخضر الصراف وكاظم الصفار وموسى الجواهري وحكمت شبرو وفؤاد الجواهري. ومن نشطاء العمال اتذكر محمود ابو شوارب وفيحان كريم احمد وضياء القزويني ومهدي الرضي وجعفر القاضي ورزاق زيدان ووداعة القصاب وغيرهم من المناضلين البواسل.
 
السجن
   بعد توقف التظاهرات لجأت الى بيت العم موسى الجواهري والد الاستاذ حمزة الجواهري في ابي صخير، وبقيت فترة ثم عدت الى النجف فألقي القبض عليّ، ضمن حملة قمع واسعة شملت العديد من المناضلين. جرى تسفيري الى بغداد وعُرضت على المجلس العرفي، فحكم عليّ بالحبس لمدة شهرين بتهمة التظاهر، ونقلت الى سجن الإصلاحية في وسط بغداد، المخصص للسجناء الشيوعين. استقبلني الرفاق في السجن وكان قد سبقني اليه عدد من المناضلين النجفيين، منهم سكرتير منظمة النجف عبد الامير الخياط (ابو رعد) واربعة اخوة هم اولاد المرجع الديني الكبير الشيخ مشكور احدهم معمم هو الشيخ جواد مشكور وأخوته موسى وجعفر واصغرهم مهدي الذي استشهد لاحقاً في مجزرة سجن بغداد حزيران 1953، وصاحب الحكيم وغازي شريف.
كان هناك في السجن العديد من الرفاق القياديين ومن كل المحافظات، عربا واكراداً واقليات، ومن جميع الاديان والطوائف، منهم من حكم عليه بالاشغال الشاقة فوضعوا السلاسل الحديدية في رجليه وحتى خصره:
سلام على مثقل بالحديد     ويشمخ كالقائد الظافر
كأن القيود على معصميه       مفاتيح مستقبل زاهر
    كان هناك الشاعر الكردي الكبير عبد الله كوران، ومعه اثنين من اولاده، والفنان التشكيلي رشاد حاتم الذي أرخّت لوحاته حياة السجن، ولا أدري الان ماذا حل بها، خاصة بعد المجزرة، والشاعر الشعبي الشهيد شهيد شبع، الذي نظم كل اناشيد السجون بمشاركة الرفيق الشهيد حسن عوينة. كما كنت أشاهد الرفيق مكرم الطالباني، الذي لم يكن منتمياً للحزب حينها، يتمشى في ساحة السجن بشكل مهيب يفرض احترامه. وكان هناك ابن الفنان محمد القبنجي وآخرون. تعرفت على الكثير من المناضلين في هذه الفترة من بينهم الرفيق الراحل عزالدين مصطفى رسول، الذي التقيته لاحقاً في دمشق وفي باكو بعد الانقلاب المشؤوم في 8 شباط حيث كان يدرس الدكتوراه هناك، وكان اخر لقاء لنا اثناء زيارته لأحد اقربائه في مدينة مالمو السويدية. له الرحمة والذكر الطيب دوماً.
    كانت الحياة في السجن منظّمة، وكان من وضع اسسها الرفيق الخالد فهد. كان علينا النهوض صباحاً وممارسة التمارين الرياضية ثم تناول الفطور والشاي. وبعد استراحة يدخل السجانة الى السجن يرافقهم ممثل المنظمة لاجراء التعداد، يعقبها اجتماع السجناء في قاعة كبيرة لسماع اخر الاخبار والتعليق عليها، ثم ينشغلون بممارسة هواياتهم، كلعب الشطرنج او الدامة او قراءة الكتب أو تبادل الأحاديث السياسية. كما كانت هناك اجتماعات فكرية، تتم فيها مناقشة أمور عديدة ونستمع فيها لمحاضرات غنية. ظهراً نتناول الغداء وبعده الشاي والاستراحة، قبل أن تبدأ مباريات كرة الطائرة ودروس محو الأمية وتعلم اللغة الإنكليزية او الروسية، ثم تناول العشاء حتى يطفأ النور في العاشرة مساء.
    عندما وصلت الى السجن كان السجناء في حركة دائبة استعدادا لاحتفالات عيد نوروز وعيد تأسيس الحزب حيث تدريب فرق النشيد والغناء والتمثيل ومسابقات الشطرنج وكرة الطائرة. الا ان موت جوزيف ستالين والحزن الذي عمّ الجميع والإنشقاق الذي حدث بعد ذلك، أدى لالغاء الاحتفالات والاكتفاء بالكلمات والأناشيد الثورية ومنها النشيد الأممي.
 
حدثان مهمان
    في السجن عشت حدثين مهمين، الأول في 5 آذار 1953 حين مات جوزيف ستالين. والثاني الانشقاق الكبير الذي حدث في السجن. كان المنشقون متوزعين على الغرف والقواويش، ومعظمهم من الكوادر القديمة، مثل إبراهيم ناجي، والذي اشيع بأنه كان عراب الانشقاق، ويعقوب مير مصري والشهيد جمال الحيدري وعزيز محمد وحسقيل قوجمان وصبيح مير وهادي عبد الرضا وآخرون، تجاوز عددهم الستين رفيقاً. أما من بقي مع الحزب فكان عددهم يربو على الستين ومنهم المخضرم سليم الجلبي وعزيز الشيخ وحمزة سلمان وصادق جعفر الفلاحي وعطشان الازيرجاوي وحمدي ايوب العاني وعدنان البراك وصبيح سباهي وغيرهم. وكانت هناك غرف صغيرة، يعيش فيها بعض المناضلين الذين كانت لديهم مواقف ضعف اثناء التحقيق. والغريب أن احد هؤلاء، وكان من اصول افريقية ويدعى الحاج بشير، قاوم السجانة ببسالة وشجاعة لاحقاً وإسشهد وهو يهتف بحياة الحزب، في معركة دارت في السجن.  
    كنت أنا في بادئ الأمر مع المنشقين لاني انبهرت بشخصياتهم. وبعد أسبوع من الانشقاق، نظم طلبة الكليات تظاهرة بنفس اليوم، اعتقل على اثرها 35 متظاهراً، واحيلوا بنفس اليوم الى المجلس العرفي العسكري وحكم عليهم وجيء بهم الى السجن بعد منتصف الليل. وحال وصولهم راحوا يهتفون ضد المنشقين وبأسمائهم الحزبية (مخلص و جبار و مشعل و مظفر وقادر) واستقبلهم الرفاق من مجموعة الحزب بالاحضان، فتأثرت بالمشهد وعدت الى صفوف الحزب ومعي عدد من الرفاق أبرزهم نجفي يدعى غازي شريف.
    وبتأريخ 20 اذار، اطلق سراحي، وأرسلت مخفوراً الى النجف وعندما وصلتها علمت ان المنظمة ذهبت بالكامل مع المنشقين. ويبدو أن مسؤول النجف الذي كان في السجن قبل الانشقاق، تمت تعبئته بأطروحات المنشقين، فتبناها مباشرة حال إعلان الانشقاق.
    هرب من السجن الرفيق الشهيد جمال الحيدري وكذلك سليم الجلبي وصادق جعفر الفلاحي. وشكّل الشهيد جمال الحيدري مركزاّ حزبياّ ثانياّ، وأصدر جريدة "راية الشغيلة"، التي تبادلت الاتهامات مع الحزب، أو كما كانت تسميه جماعة باسم – بهاء الذين نوري، ووصفته بالتطرف اليساري التصفوي والتجاوز على البرنامج الذي صاغه الرفيق الخالد فهد والذي اقر في مؤتمر الحزب الأول. وكانت جريدة الحزب، القاعدة، تصف جماعة راية الشغيلة بالبلاطين نسبة الى البلاط الملكي لانهم رفضوا تغيير برنامج الحزب ورفع شعار إسقاط النظام الملكي.
 
للنضال مجدداً 
    وصلتُ النجف، وانا صديق منظم وعضو في اتحاد الطلبة. في بادئ الامر تحركت على اقاربي لسحبهم من "راية الشغيلة" فتجاوب أربعة من اقاربي وابن خالتي شاكر الصراف معي، وتحركوا هم بدورهم على أصدقائهم، فازداد عددنا، ونشطنا دون ان تكون لنا صلة مع الحزب. كسبنا رفيق هو وداعة القصاب وحسن معدل وكانا نشطين جدا وشكلنا فريق كرة طائرة خارج الولاية قرب شط النجف. ازداد عددنا والتحق بنا الرفيق غازي شريف بعد أن انهى محكوميته وتحرك لإيجاد صلة بالحزب وتم لنا ذلك.
    أصبحنا منافسين لمنظمة راية الشغيلة والتحق بنا عبد الجليل موسى وكريم كاشف الغطاء وآخرون وتوطدت صلتنا بالحزب وبدأنا استلام البريد الحزبي والتوجيهات بانتظام، وكلف الحزب رفيقا من خارج مدينة النجف لقيادة المنظمة، عرفت فيما بعد انه عدنان الديّو، الذي التقيته في اقبية التحقيقات الجنائية بعد العام 1954، معتقلاً في قضية مع الرفيق الفقيد كريم احمد، حيث اعتقلا معاً في منطقة طاطران بشارع الكفاح.
    نشرت راية الشغيلة الرسالة الإنتقادية التي وجهها من السجن الرفيق مخلص (عزيز محمد) الى قيادة الحزب، وكانت مكونة من اكثر من ستين صفحة، وللأسف كان جواب الرفيق (باسم) عليها مكونا من سطر واحد يقول (نقاشكم اكاديمي عقيم تشم منه رائحة الانتهازية)، ثم قرر طردهم من الحزب!
 
سجين للمرة الثانية
    لم يطل بي الامر حتى جاءت الشرطة الى دارنا وعثرت على كتاب تأريخ الحزب الشيوعي البلشفي ورواية الفولاذ سقيناه، فألقت القبض علي وعلى الرفيق نعمة المختار في جدول النجف، بعد مطاردة ورمي بالرصاص ووضعوا كل واحد منا في زنزانة.
    في احدى الليالي وانا في زنزانتي، جاؤوا بشخص لا اعرفه وحشروه معي في الزنزانة. سألته عن التهمة فقال لا اعرف، انا تاجر سجاد من اهالي بغداد، وتدعي الشرطة بأنه كان معي واحد شيوعي وهرب. كان الرجل شديد التكتم وقليل الكلام، واخبرني بأنه مريض بالسل وطلب مني عدم الإقتراب منه خاصة حين يسعل. وبعد يومين بدأ يسعل ويخرج الدم من فمه، فرحت اصرخ واضرب باب الزنزانة الى ان جاء الحراس وحملوه الى المستشفى. بعد ايام ومساء جاء معاون المركز وبدأ بشتمي وسحبوني الى غرفته وراحوا يعذبونني بالضرب علي كل جسمي، دون أن اعرف السبب. ثم سألوني عن ذلك الرجل (المسلول) فأجبت بأني لا أعرفه، وحكيت لهم ما حدث بدقة، فلم يصدقونني، وقالوا بأنه شيوعي كبير وقد هرب من المستشفى. بعد فترة علمت بأن الرجل بقي في ازقة النجف صحبة القصاب الشيوعي المعروف وداعة، الذي ساعده على الهرب عند رؤيته لمفرزة الشرطة، وإنه كان يحمل بريدا حزبيا.
    بعد انتصار ثورة 14 تموز، ذهبت الى مقر الحزب في شارع الكفاح، وكنت على موعد مع الرفيق سليم اسماعيل مرزة، النجفي المحرر في جريدة اتحاد الشعب واذا بي اجد تاجر السجاد محررا في الجريدة هو الآخر. كان من مدينة راوة، احتضنني بفرح غامر، وأخبرته ضاحكاً، بحجم العذاب الذي لقيته بسببه على يد عباس جرموكة معاون النجف، فقال علمت ذلك وانا مدين لك. كان قد جرح لسانه لكي يبصق دماً وينفذ خطته للهرب. وللأسف لا أتذكر اسمه.
    في 16 حزيران عام 1953 وصلنا انا والرفيق نعمة المختار الى سجن بغداد المركزي، طلبنا من ادارة السجن نقلنا الى سجن السياسيين القريب من سجن السجناء العاديين، الا أنهم رفضوا ووضعنا في زنزانات صغيرة مخصصة للمحكومين بالإعدام. وفي نفس المكان وجدنا الرفيق (الخالدي) مع الأسف نسيت اسمه، قد سبقنا الى إحدى غرف الإعدام. قررنا البدء بإضراب عن الطعام، وفي اليوم التالي 18 حزيران بدأنا نسمع هتافات السجناء السياسيين وحركة الشرطة والسجانين على الأسطح المطلة على السجن، ونداءات تطالب السجناء بالاستسلام، ويرد السجناء بالهتافات ورفض نقلهم الى سجون اخرى، بعد أكثر من ساعة بدأ رمي الرصاص الحي على السجناء العزل، ما أدى الى استشهاد عدد من السجناء الشيوعيين واصابة العشرات منهم، وتم نقل من بقي على قيد الحياة الى سجن بعقوبة الانفرادي.
 
مجزرة سجن الكوت
    وبتاريخ 21 حزيران تم تسفيرنا نحن الثلاثة الى سجن الكوت، وحين وصولنا تم استقبالنا بحرارة من رفاقنا في سجن الكوت، كانت الاجواء متوترة بين السجناء وادارة السجن بسبب عدم الاستجابة لمطالب السجناء بوقف سوء المعاملة والتعذيب، والاحتجاج على ما تم في مجزرة سجن بغداد.
    وفي تموز 1953 بعد اقل من شهر على مجزرة بغداد سعت سلطات العهد الملكي، والتي يحلو للبعض اليوم وصفها بالنزيهة، الى تجريدنا نحن السجناء من حقوقنا الادمية، التي أجبرنا الجلادين بنضال شاق واضرابات عن الطعام وسقوط شهداء، على الاعتراف لنا بها، فطلبت من السجناء تسليمها عشرة رفاق من اليهود لتسفيرهم الى سجن نقرة السلمان وتسليم مكتبة السجن التي انشأها الرفيق الخالد فهد حين كان سجينا في الكوت، وكل محتويات الصيدلية، والقيام بتفتيش دوري للردهات، الا ان منظمة السجن رفضت هذا، وكلفت الرفيق ممثل السجن ابلاغ ادارة السجن بالرفض لشروطهم، الامر الذي دفع ادارة السجن الى اختطاف الرفيق الممثل. وفي نفس الوقت احالت تلك السلطات عددا كبيرا من الرفاق الى محكمة صورية في غرفة مدير السجن المدعو حسين الجاف، والذي عرف بميله للإجرام والقسوة. التأمت ما يسمى المحكمة من مدير السجون العام طاهر الزبيدي والمجرم عبد الجبار ايوب والمجلس العرفي العسكري وحكمتهم بتهم غريبة ككتابة المذكرات الاحتجاجية والإضراب عن الطعام وانشاد اغان وطنية، واصدرت ضدهم احكاما ثقيلة، اضيفت الى الأحكام التي كان رفاقنا قد حكموا بها سابقا، وقد رفضت منظمة الحزب هذه الأوامر القرقوشية الجائرة، ففرض الجلادون حصارا على السجن في بداية شهر آب، ومنعوا عنا الأكل والماء والكهرباء، وحشدوا قوات لاقتحام السجن.
    استعد الرفاق لذلك فتكونت فرق للدفاع واخرى لتوزيع ما مدّخر من الطعام، واضطر الرفاق الى حفر بئر للحصول على الماء بما يبقينا على قيد الحياة، كما صمم الرفاق بوقا تم وضعه في اعلى الشجرة وكان الرفيق حميد بخش بصوته الجهوري يذيع بيانات لأبناء شعبنا يطالبهم بالتضامن ويعطي وصفا لما يعانيه السجناء بسبب شح الغذاء ورداءة الماء وعدد المصابين نتيجة رمي الحجارة والحصى علينا، كما كنا نوصل رسائل الى خارج السجن بعد لفها بالحصى ورميها عن طريق المقلاع – المعجال– .
    في 18 اب وتزامنا مع سقوط حكومة مصدق الوطنية في إيران، فتحت الشرطة النار علينا فجأة، واستشهد الرفيق صبيح مير وكان يقف بجوار الرفيق عزيز محمد، وجرح الرفيق عامل المطبعة حميد منصور ثم استشهد متأثرا بجراحه، واستمرت نداءات البوق الموجهة الى جماهير الكوت لحثها على المطالبة بالجثتين وتشييعهما والمطالبة بإنزال العقاب بالقتلة المجرمين.
    تواصل الصراع فواجه رفاقنا الرصاص الحي بصدور عارية وبطون خاوية وبالحجارة والمقلاع والهتافات التي كانت ترعب الجلادين، الذين كانوا يرددون نفس شعاراتنا لكنهم يبدلون فقط كلمة يسقط الى يعيش، مثلا عندما نهتف تسقط العائلة المالكة الخائنة هم يرددون: تعيش العائلة المالكة الخائنة. لقد اجبر الصمود البطولي الجلادين على التفاوض معنا بعد ثلاثين يوما من الحصار وسمحنا لهم بتفتيش الردهات بحثا عن السلاح الذي زعموا باننا نختزنه فيها، وحين افتضحت اكاذيبهم خططوا لمجزرة رهيبة؛ ففي الساعة الرابعة فجر يوم 2 ايلول، بدأ رمي الرصاص علينا من كل الجهات. القى الرفاق بطانية مشتعلة على الكهرباء فعطلوها واستفدنا من الظلام للانبطاح ارضا والزحف للاحتماء بالردهات، أصبنا جميعا ولم يسلم اي رفيق، وهناك من مُزق جسده بأربع وعشرين اطلاقة كالرفيق الشاب من أهل الكاظمية واسمه هاني هلال، كما استشهد ثمانية رفاق اخرون، الرفيق عبد النبي حمزة من اهالي الكوفة، جرح فقتله احد الجلاوزة رفسا في معدته، والرفيق رؤوف صادق الدجيلي جرح فأجهز عليه شرطي وهو جريح. كما استشهد الرفاق جبار الزهيري من العمارة ومحسن هداد من الناصرية وحسن مهدي من الكاظمية ويحيى عباس البارح والمناضل الشيوعي أحمد علوان المساهم في أول حلقة ماركسية في البصرة، وهناك رفاق اصيبوا بإطلاقات عدة على سبيل المثال الرفيق الشجاع حيدر حاتم الذي توفي مؤخرا ونعته منظمة الحزب في السويد.
    لم يسلم اي رفيق من الاصابة واذا سلم تستقبله الشرطة والسجانة الذين اصطفوا على الجانبين بالهراوات وقضبان الحديد، نقل الجميع الى المستشفى لتلقي العلاج. ومن الصدف ان مدة الحكم بحقي انتهت في 2 ايلول ولم يطلق سراحي قبل ان أشفى من الشظية التي اصابتني بالرأس.
 
مسار صعب وعذب
    تعرفتُ على الكثير من المناضلين في سجون بغداد والكوت وبعقوبة الانفرادي والعمارة ومعتقل الشعيبة والكثير من زنزانات التوقيف في النجف كربلاء والحلة والبصرة. اذكر بعد هروبي من معتقل الشعيبة في البصرة، انتقلت الى بغداد وانقطعت صلتي بمنظمة النجف. وفي عام 1954 وبمناسبة الذكرى العشرين لتأسيس الحزب اصبحت عضوا، علما انني كنت ومنذ العام 1951 صديقا منظما ولكن كثرة وجودي في السجون واغلاق باب الترشيحات للحزب حينها، أخّرت حصولي على شرف العضوية.
في اذار 1954 شكل فاضل الجمالي الوزارة وأعلن عن انتخابات لمجلس البرلمان وعلى اثر ذلك تشكلت جبهة وطنية تضم احزاب الوطني الديمقراطي والاستقلال والجبهة الشعبية، وبسبب رفض هذه الاحزاب دخول الحزب الشيوعي العراقي في الجبهة، شارك حزبنا عبر ممثليه في حركة انصار السلام واتحاد الطلبة والشبيبة والنقابات.
    في فترة الانتخابات كنت مختفيا في مدينة طويريج عند الرفيق الفقيد غني عبد الهادي الظاهر، العائلة الشيوعية المناضلة، وعلمت ان الجبهة الوطنية في النجف رشحت الدكتور خليل جميل الجواد. اما منظمة راية الشغيلة فقد رشحت الشيخ الجليل محمد الشبيبي، والذي كان يتمتع بجماهيرية كبيرة وكانت مجالسه الحسينية مناسبة لتعبئة وتحريض الجماهير، يحضرها الالاف من النجف والكوفة وابي صخير تحديا للنظام الملكي واجهزته القمعية. مع الاسف لم يحقق الفوز اي منهما لتشتت الاصوات، علما ان الشيخ عبد الكريم الماشطة رئيس حركة انصار السلام قد رشح في مدينة الحلة.
    وفاءً لمسيرة الشهداء، سيبقى حزبنا ورفاقه مصرين على مواصلة التقاليد الثورية المجيدة، تقاليد التضحية والشهامة والقيم الانسانية والذود عن مصالح العمال والفلاحين وسائر شغيلة اليد والفكر، فراية الوطن الحر والشعب السعيد ستبقى مرفوعة عاليا بإرادة الشيوعيين وكل الخيرين من ابناء شعبنا.
المجد للذكرى التسعين لميلاد حزبنا الشيوعي العراقي.