أيار 14
 
  تعـــود معرفتي بالشـاعر كامل الركابي الى السنة الأولى في المنفى الجزائري، حين سمعت له قصيدة أمي والسفر، في جلسة صاخبة سرعان ما تحولت الى ما يشبه المناحة، جراء بكاء النسوة اللواتي أُجبرن على ترك أمهاتهن في الوطن، وهمهمة رجال، سعوا للتكتم على دموعهم عبر إطلاق صيحات الإستحسان، ومن ثم التمتمة بقصيدة الراحل الكبير محمود درويش "أحن الى خبز أمي".
كان الشعر، والشعبي منه بشكل خاص، الهواء الذي يمنحنا نحن المنفيين حينها، عبق الوطن الذي سرقه منا الفاشيون، والبُلغة التي تمكننا من التعايش مع الغربة القاسية. ولهذا تبوأ الشعراء مكانة متميزة في حياتنا ومسارنا الثقافي والسياسي. وكان منهم كامل، الذي تمكّن من أن يجد له مكاناً في اللوحة، مما أدهش الكثيرين، إذ لم يكن يسيراً على شاب عشريني أن ينجح في وضع قدمه بساحة أكتظت بكبار الشعراء العراقيين، بدءاً من مظفر النواب في دمشق ووصولاً الى الأخوين السماويين شاكر وعزيز في الجزائر.
ولم يمض وقت طويل، حتى تعرف الجمهور، والمبدعون والنقاد، على صوت مهم، تبنّت قصائده لهجة المدينة التي ولد وترعرع فيها، فنجح في الوصول الى لغة شعرية عامية، هي الأقرب الى الفصحى من سواها، قصائد سهلة الحفظ، لا تحتوي على الكثير من التعقيد والغرابة، مشبعة بالفكرة العميقة وبلوحات زاهية.
وتميزت دواوينه الأولى، بتبني صوت الناس، فحمل نبضهم المكبوت، وغاص في أعماق أحلامهم، وكشف عن همومهم، وأشر معالم المسار المرتجى، فأضاء المساحات التي شغلها فتية وصبايا، علّموا الدنيا معنى الصبر والوفاء، وشمخوا نجوم هداة، وأخرجونا من جحيم المتاهة الى جمال الأنسنة.
شيوعيين
كل نبضة أبگلبهم
ورد ورياحين
شيوعيين
كل نسمة إبفجرهم
خبز للفقرة
وشمس
يفرش ضواها
أبيوت المحبين
 
وقصيدة مشاهدات:
شفت
رسام
يرسم بالعذابات
چفه احجار
وأيامة إنتفاضات (1)
 
ومع تواصل إلتزامه الفكري(2)، بدأت تتقلص وربما تختفي تدريجياً النصوص المسكونة بالهاجس الايديولوجي المباشر، لتحل محلها الرموز المعبرة عن الأفق، والمدى الذي نرى فيه جوهر الفكرة، لا تجلياتها اليومية. ورغم بقاء القصيدة مضمخة بعطر الوطن، الا أنها راحت تعبّر عن رفض ما تعيشه تلك الأرض القابعة في حدقات العيون، وما يكابده ناسها من عذاب، وما يكتنزوه من قدرة على المقاومة. 
ثم تطورت القصائد، فراحت المفردة والصورة تتبادلان المواقع، لتعبرا عن رمزية موحية حيناً ومغلفة أحياناً، في قصدية، لا تريد تشتيت ذهن قارئها، بل لإشهار الأسئلة عليه، ودفعه للبحث هو بنفسه عن أجوبة لها، أسئلة مشبعة بالهموم الفلسفية وبفردوس الحلم الموءود، وباللوم المرير للذات وللآخر، وربما للدليل الذي أضاع الفرص، وأسكن الشاعر وناسه، مرارة الخسارة. وهو ما نراه جلياً في ديوانه الأخير (شذرات) الصادر عن دار الرواد في بغداد 2022.
 
بالحلم
هم ما وصلنا
والحلم من طبعه
يختصر المسافه
واحنه صار سنين
نمشي
نمشي
بدروب الخرافه
 
وكذلك في قصيدة القهر
تشتعل ثورة
وتصعد بالحلم لله
وتنطفي ثورة
ويجي الخذلان
والخيبات
حياتك
گضت قهر
ع الثورات!
ومرة جديدة، يلفت شاعرنا إنتباه النقاد ومتذوقي الشعر وجمهوره، ليس بسبب شاعريته والصور الجميلة التي انطوى عليها ديوانه فحسب، بل ولقصيدة الومضة، التي تخلصت من الرطانة والزوائد، وراحت تستفز عقل المتلقي وفكره، في اختزال غير مخل، يفتح عوالم مترامية من المتناقضات والتأويل والتحليل والإستنتاج، قصيدة تتسق مع عصر الرقمنة والسرعة، فيما تريه من وحدة عضوية، بين كلماتها المحدودة وما تكتنزه تلكم الكلمات من خيال وحساسية مرهفة وصور شعرية متقنة. ولن أكون مغالياً إن قلت، بأني أرى الشاعر من بين أبرز من التقط التفاصيل اليومية الحية، وممن نجح في تبنى هذا الإتجاه في الشعر الشعبي العراقي، مقتنياً المفردات الجميلة، لا لمجرد أنها جميلة بل لمحتوى علاقتها بالنص. وتبرز في ديوانه الأخير العديد من الأمثلة على ذلك:
الشمس
گتلك: ما تدوم
وين ما تمشي
على راسك
غيوم!
 
أو في قصيدة "ظل"
ظلي خايف
من تغيب
شموسك
وينكتب: مفقود
جوه ارموشك!
 
وبرزت من قصائد الومضة، في هذا الديوان، ما يؤشر تناقض حالتين وجدانيتين:
هذا صوت الريح
ماينسمع
حسك
انت سارح
بالحلم
لو ناسي نفسك!
 
وكذلك في قصيدة "سنبل"
حقل حبك
جمر
مزروع برماد
وروحي سنبل
مايبس
بعد الحصاد!
 
وجاء ديوان "شذرات" طافحاً بالغضب والخوف والتوتر والاكتئاب، من هذا الوأد الذاتي أو التراخي أمام النصل الممتد للعنق:
هذا انت
وبيك تتخفى
الظلال
والشمس
ما زارتك
حتى ابخيال!
 
ويلعب المكان دوره في قصائد الديوان، حيث يظهر تأثيره جلياً ـ كواقع جغرافي أو كفضاء متخيل ـ على جمالية اللغة الشعرية، وعلى اختيار المفردة، وفي تشكيل صور القصيدة، حيث ظهرت لغة الحب والحنين للوطن، متلازمة مع معاناة الشاعر في المنفى، والمرارة القاسية التي يسببها الأسر في عوالمه، من عزلة وغربة وعجز، وحيث يفتقد لذة الحرية، ويصير التواصل مع الجار سبّة، فيما الوطن، لا بوصفه أرضاً، بل روحاً وحقاً ومواقف، أقرب من حبل الوريد وأبعد من المجرات:
 
نزلت الايام
منسيه
على الغايب بعيد
صار منه الذاته
صندوگ
وبريد !
 
ويشتد العجز وتتعمق الغربة وتطبق العزلة على المخيلة
انت تحلم
لا شمس عندك
ولا ظل
انت من اسنين غافي
ابظلمه
لا فزيت مره
ولاطلعت من المغاره !
 
وعلى الرغم مما وفره المكان الإسكندنافي، من فرص لإستثمار مفردات جديدة حيث وردت في الديوان كلمة الثلج 14 مرة والبرد 7 مرات والمطر 10 مرات والغابة 5 مرات والنهر 11 مرة، الا أن قسوة المكان، رغم جماله، كان سعيراً أذاب الروح، فهو مكان بلا حياة في مخيلة وواقع الشاعر:
آخر الليل
الثلج
يرسم بياضه
من بحيرات
وصدَف
ويرسم بلونه
الوحيد
لوحة الروح
الغريبه
موّقعه بأسم: الأسف
ورحت انام
ومن خَزف
عالي السرير
وماغفيت :
مو سريرك
ذاكَ ناصي
وچان
من خوص وسعف !
 
او في قصيدة "العشب هو الوطن"
نزلت بروحي
الحرايق والمنافي
تشتعل هي بجمرها
وانه
طافي!
لكن لا وطن بدون مواطنيه، لا وطن بدون الخلاص من أية معان للذلة، فحين يفقد المواطن إحساسه بالكرامة والشموخ، يفقد الوطن معناه، وتتضاءل قيمته والرغبة بالانتماء اليه:
وكتب آياته بالتوراة
والانجيل
والقرآن: أبد ماكو
 وطن من غير انسان!
 إذن الوطن ما نراه في ثنايا الروح
 نزلت الخمره
على الرجلين بعد الراس
وتمايل بدن
صار باب البيت
ابعد
من عدن
نام بساحة العشار
عد ام البروم
والعشب بارد
اظن: هوّ الوطن !
 
ومقابل هذا الغضب والحذر، كان للشعر شموخ النصر والمقاومة في تشرين:
شبعاد
تگعد من سبات الحلم
تفرك عينها
بكطرات من دجله
وتغسل راسها
بمايات
من فيضه
وتحنّي گصيبتها
الطويله بطين
من شط الفرات
وتعتني البغداد
وتولد
من جديد
ابساحة التحرير
هي الوطن والميلاد !
 
كما يستوقفنا الشاعر أمام حـالات إنسانية متميزة، قوية الحضور، فيقول:
الورد
والموسيقى
والثوب
 النظيف
مثل
روحك
شجره
تتعرى
على نغم
الخريف !
 
وخاض الركابي في ديوانه "شذرات" مجازفة، حين إبتعد في بعض القصائد كثيراً عن العامية العراقية، ليتلمس ضفاف الفصحى، كما في قصيدة احتيال:
المغني
وباحتيال
اخذ بحّة صوتي
حتى
يصير باسمه
كل نجاح
الاحتفال!
 
أو ليقرن ذلك بشيء من التغزل بقصيدة النثر:
دوِّرَت عنك
زوايا الارض كلها
النسمه
عرفَت
عن طريق الطير
انت اجناح عندك !
وأخيراً، يثبت لنا، ديوان "شذرات"، ما قاله الموسيقار الشهير هانس إيسلر من أن علينا كماركسيين أن ننبذ التعصب في الفن وأن لا ننحّي جانباً الجمال، فهو من يلعب في الفن الدور الاول دوما. لقد نجح الديوان في طرح القضية، وفي دعوتنا للحوار حولها، لنصل معاً الى المرتجى!
 
هوامش:
 1. من ديوان "فوانيس" للشاعر
2.  كانت للشاعر الركابي تجربة نضالية مؤثرة، تمثلت في مشاركته قوات أنصار الحزب الشيوعي العراقي، في كفاحها الباسل ضد الدكتاتورية، إبان الثمانينات