أيار 15
عندما ثقلت وطأة الاستعمار البريطاني، وهيمنة القوى السياسية العميلة في ظل معاناة شعبنا وحرمانه من ابسط حقوقه، ووطأة الاقطاع على مجمل الواقع الزراعي العراقي، وبقاء القوى العمالية التي لا تجد نفسها إلا تحت رحمة ارباب العمل، وغياب النشاط العلني للاحزاب السياسية والوطنية الديمقراطية وسيادة الجهل والأمية والعشائرية التي كانت تنخر في جسد المجتمع العراقي.
تحت هذه الظروف وسواها، كان لا بد من التفكير في حل سياسي سريع وحاسم ..
وهذا ماحدث حيث تحركت القوى الوطنية الملتحمة بين الجيش والشعب، وقامت بالثورة المجيدة في 14 تموز 1958 التي جاءت عبر مخاض صعب من الهيمنة الملكية ومجيء نظام وطني ديمقراطي تجسد في الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم الذي حقق العديد من الانجازات خلال اقل من خمس سنوات لحكمه، ومازالت موئل الفقراء في مدينة الثورة ومدينة الشعلة وقناة الجيش وبناء المئات من المدارس ومشروع محو الامية والقضاء على الاقطاع والعبودية ومواجهة المجتمع البدوي المتخلف وانتشار الحياة السياسية الحرة بأحزابها الوطنية وصحفها العديدة، الى جانب الكثير من القوانين التي تصب في صالح الشعب .
ومع كل هذه المنجزات خاضت الثورة مخاضا صعبا في مواجهة القوى الظلامية والرجعية وانحراف الثورة عن مسارها الوطني، حيث تحولت الى حكم فردي وافق محدود، وهو الامر الذي ادى في نهاية الامر الى قيام البعث بانقلاب 8 شباط عام 1963 الدموي حيث تمت المؤامرة الرجعية واتساع رقعتها السلبية على القطاعات الثقافية كافة، ومن ثم تقييد حريات الشعب التي كان قد اكتسبها من قبل، ما جعل الاوضاع مثيرة للاستياء الشعبي العارم، وألحق بهذا الانقلاب، انقلاب آخر في 17 تموز عام 1968 الذي كان لاحقا بتلك المؤامرة الشوفينية المرة.
وكان من جراء هذا التعسف الدكتاتوري للبعث ودخوله في سلسلة من الحروب الدامية التي لم يكن للعراقيين اية مصلحة بحدوثها، فكانت تشكل وطأتها على الواقع الاجتماعي الذي بات الناس يبحثون فيه عن سبل للخروج من وطأة هذا الحكم الفاشي.
وكانت رغبة كل العراقيين ملحة في تغيير الاوضاع، فجاء التغيير عام 2003 تغييرا دمويا، ما زال يعيش العراق تحت احداثه التي خسر فيها العراقيون خيرة الشباب في سلسلة من اعمال العنف والجريمة وتقييد الحريات من جديد.
هذا الواقع المريض الذي شهدناه منذ ذلك التغيير حتى الآن جعل العراق يعيش واقعا سلبيا في جميع مرافق الحياة، وكان في مقدمة هذه السلبيات سلب المواطن ابسط حقوقه الانسانية.. وما نشهده اليوم من سياسة صعبة الحل، والتي لا يمكن ايجاد مفاتيح لها إلا في تنازلات سياسية لا ترتضيها تلك القوى التي هيمنت على السلطة.
كل هذه المتغيرات المتلاحقة للعراق والعراقيين كانت تشكل ثقلها على واقع ثقافي لا يجد له سبيلا للحرية وللعطاء الابداعي الذي نبحث عنه على مدى سنوات طوال.
الان.. نرى ان الواقع الثقافي العراقي جزء اساسي من الواقع السياسي الذي تحكمه المصالح الشخصية والفئوية التي تحاصر الثقافة وتشيع الفوضى والامية والخراب والفساد على نطاق واسع.
من هنا نرى اننا لا يمكن ان نفتح صفحات بيضاء نقية للواقع الثقافي الا من خلال المتغيرات التي نتأملها في واقع سياسي جديد، نناضل من اجله وصولا الى افق جديد