أيار 14
    كان لقائي الأول بالشاعر حسب الشيخ جعفر في مقهى البرلمان، شارع الرشيد أواخر الستينات، ربما كانون الاول عام 1969، كان عائدا لتوه من موسكو تسبقه سمعة شعرية قوية حققها بعد صدور ديونه الأول “نخلة الله”. كان يوم الجمعة الذي اعتاد أدباء ومثقفون كثر أن يجتمعوا فيه بهذا المقهى. كان معنا الشاعر والناقد يوسف نمر ذياب وكان يعرفه قبلي؛ فأتم التعارف بيننا! خرجنا ثلاثتنا جهة شارع أبي نواس وكأننا على موعد سابق مع كؤوس في بار “سولاف” وأظنه أزيل الآن. توطدت صداقتنا خاصة بعد أن عرف اتجاهي السياسي الشيوعي آنذاك، واطمأن لي سريعا. كلانا يعرف أن يوسف نمر ذياب بعثي، ولكنه لم يكن متعصبا للبعث بل كان مرنا منفتحا على من في الأحزاب، أو الاتجاهات السياسية الأخرى! كما إن البعث نفسه آنذاك وفي بدايات اغتصابه السلطة بمؤامرة القصر المعروفة كان يطرح دعوات وأفكارا تآلفية مع الآخرين ويدعي نقده ونبذه لممارساته الإجرامية السابقة خاصة لدى انقلابهم الدموي في 8 شباط 1963، رغم أن أعماله على الأرض ظلت طافحة بدماء اغتيالات وانتهاكات كثيرة. كان قادة منهم وآخرون حتى من اوساطنا يدرجونها في إطار بدايات سلطة تتلمس طريقها متعثرة وإنها ستتجاوزها إلى وضع أفضل قريبا، لكن ما كان يتفاقم يوما بعد آخر هو طابعها الاستئثاري الاستحواذي الدموي خاصة بعد ان اتضحت ملامح الشبح الخفي وراء معظم ذلك وهو صدام حسين صاحب السوابق الإجرامية الشهيرة منذ ذلك الحين. كان صديقنا يوسف نمر ذياب الذي يعرف صداما عن قرب وحوكم معه (هرب صدام إلى القاهرة وحوكم غيابيا) في محكمة الشعب (المهداوي) بقضية محاولة اغتيال الزعيم، يحدثنا عن لقاءاته السابقة معه في مقهى الآداب في باب المعظم وسلوكه وعن انطباعاته عنه قائلا: “صدام ميموت موت الله”، وإن هذا الرجل سيكون هو من سيدمر البعث، والبلاد كلها، وقد صدق تماما! ارتحنا ثلاثتنا لبعضنا وصار لنا لقاء يومي كل مساء في بار. كان ينضم الينا أحيانا الدكتور مجيد بكتاش الذي كان يعرف حسب من أيام دراستهما معا في موسكو، أو القاص ناجح فليح الهيتي، وأحيانا الدكتور جلال خياط أستاذ الأدب العربي في كلية الآداب، أو الأستاذ مدني صالح، فتتحول جلساتنا إلى ما يشبه الندوة الشعرية أو الأدبية ولم تخل طبعا من حدة أو انفعال من هذا أو ذاك لكنها عموما تنتهي بحالة من مزاج ابداعي منعش وجميل!
في احاديث خاصة بيني وبين حسب عرفت أنه مذ كان في قريته أو بلدته “الميمونة” اطراف العمارة -ولد فيها عام 1942 - كان على صلة تنظيمية مع الحزب الشيوعي ارتقت إلى مستوى العضوية أو ظلت متأرجحة على أمل أن تترسخ وتتطور! سعى الحزب الشيوعي لإرسال حسب في زمالة دراسية إلى معهد غوركي، أعتقد عام 1959. وهذا المعهد يختلف عن المعاهد الأدبية في عموم الاتحاد السوفيتي والعالم فهو لا يحظى بدراسة فيه إلا من امتلك موهبة ابداعية مشهودة وموثقة بنتاج يعتد به في الشعر او النثر القصصي أو الروائي، ويحاضر فيه أو يقيم ورشات عمل مبدعون كبار من الاتحاد السوفيتي او الدول الاشتراكية او زائرون من دول أخرى، شيوعيون عادة. وقد عرف عن حسب الجد والدأب والمثابرة فتمكن من تحقيق منجزه الإبداعي من اتقان للغة الروسية والاطلاع على أهم ذراها وينابيعها في الشعر أو الرواية والقصة دون أن يغفل تطوير وصقل لغته العربية وأداته الشعرية ما مكنه من مواصلة ما بدأه في نتاجه الشعري والنثري فيها ومواصلة ترجماته إليها من الروسية. لكن لحسب حياته الروحية الخاصة التي من لوازمها الأساسية الخمرة والمرأة جسدا وروحا حد الانبهار والتيه! ظل حسب بمزاج خاص مرهف أو بحاسة قلقة، فهو لا يحتمل أجواء الخلية الحزبية التي يصفها بالخانقة ولا أعباء العمل التنظيمي والتزاماته حتى في بلد الشيوعية الأول الاتحاد السوفيتي. فكيف لو عاد إلى العراق وواجه قمع السلطة وملاحقتها للشيوعيين وسجنهم وقتلهم؟ توترت علاقته مع المنظمة الحزبية في موسكو أو قطعت لكنه ظل على ايمانه بالشيوعية وحبّه للشيوعيين وكان يحدثني عن ماضيه البكر معهم بفخر واعتداد ودائما يتذكر أنه في احدى سفراته إلى بغداد قبل سفره إلى موسكو عاد محملا ببريد الحزب لرفاقه في القرية: لفة مخبأة بين متاعه من جريدتهم ومنشوراتهم السرية والتي لو مسكت معه لما نجا من براثن سلطة قاسية مع الشيوعيين رغم انها كانت آنذاك في ظل عبد الكريم قاسم المدعوم كثيرا من الشيوعيين!
اتذكر أنه هو من بادر لإعادة صلته او علاقته بالحزب الشيوعي رغم أن الحزب كان آنذاك جريحا ومنهكا ضعيفا، وسلطة البعث لا تكف يوما عن ضرباتها له باعتقال أعضائه وتعذيبهم وقتلهم ومضايقة انصاره ومحاربتهم في انشطتهم ومناقلتهم من وظائفهم الحكومية كان وضع الشيوعيين في العراق أوائل السبعينات صعبا ومريرا جدا وأقرب لحرب إبادة، تحت صمت مطبق عادي من اوساط محلية وعالمية بما فيها شيوعية. صار حسب يدفع للحزب من خلالي دينارا تبرعا كل شهر، ولذلك قيمة عندنا تفوق قيمته المادية وهي ليست قليلة في تلك الأيام! وكان رفاقي آنذاك في التنظيم وأتذكر منهم الصحفي المعروف الراحل عزيز سباهي والمسرحي نور الدين فارس مسرورين بعلاقتنا بحسب، معترفين انها مكسب معنوي مهم ومن الصعب بل ومن غير المجدي دعوته لتطويرها لأكثر من ذلك!
كان حسب قد دعاني آنذاك للمشاركة في برامج القسم الثقافي للإذاعة العراقية حيث يرأس هو قسمها الثقافي، فشاركت في اعداد حلقات اذاعية صباحية كان يشارك فيها آنذاك حسين مردان ونبيل ياسين واحمد خلف وحميد الخاقاني، وكان حسب يعرف بالميول اليسارية لمعظمنا كما أنه دعاني لبرنامج ثقافي خاص بي وهو “في المرآة “ ثم “فكرة على الطريق” وأطلق برامج ثقافية أخرى شارك فيها فاضل ثامر وياسين النصير، وباسم عبد الحميد حمودي وغيرهم. ولكن بعد توقيع ميثاق ما سمي بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية عام 1973 فوجئنا بقرار اصدره محمد سعيد الصحاف المدير العام لهذه المؤسسة، يلغي برامجنا الثقافية ويمنع كل الشيوعيين أو المحسوبين عليهم من دخول الإذاعة، بينما نحن توقعنا أن نشاطنا الثقافي التقدمي عموما سيتسع ويتعمق بعد هذه الجبهة التي انتظرت طويلا وعلقت عليها آمال كبيرة! ورغم ان شواغلي الحزبية جعلت لقاءاتي مع حسب وجلستنا المشتركة مع يوسف نمر ذياب أخذت تتباعد بل توقفت تقريبا لكن حرصي على صلة حسب مع الحزب، ظلت موضع اهتمامي لأبقي عليها فكنت ألقاه بين فترة وأخرى تطول او تقصر. (من الطريف لدى حسب أن عليّ أن القاه رأس الشهر موعد استلام راتبه او اليوم الذي يليه وإلا فإن جلساته الخمرية ستقضي على مصروفه المقنن وهو محدود طبعا، فيصعب عليه دفع التبرع). كنت أحدثه بهمومنا السياسية والحزبية خاصة مع السلطة ووضع الجهة المتلكئ او المتردي واستلم تبرعه بالدينار الذي انخفضت قيمته الشرائية بحكم التضخم المتسارع لكن قيمته المعنوية ظلت كبيرة لدينا فهي من حسب الشاعر المتفرد الذي ظل قريبا من الحزب في حقبة عصيبة تزايد فيها الهاجرون له بعد أن تزايد نشاط السلطة والمتملقون لها في الترغيب والترهيب فراحت افواج من المثقفين تتهالك على البعث هربا من مظالمه، او طلبا لمغانمه. في العيد الأربعين لميلاد الحزب الشيوعي قررت جريدة “طريق الشعب” اصدار كتب خاصة في هذه المناسبة منها كتاب شعري وكتاب قصصي فسارعت لأطلب من حسب قصيدة خاصة للكتاب الشعري فقدمها لي دون تردد، وإذا اسعفتني الذاكرة أنها كانت بعنوان “النهر” أو موضوعها نهر تكونه ينابيع وروافد كثيرة تجف او تنضب بين فترة وأخرى ولكنه يظل لا يتوقف عن الجريان قويا جارفا. بعد ذلك بأشهر فوجئت بحسب يتلكأ او يتماهل في ملاقاتي ثم حين القاه لا يدفع التبرع ويبدو فاترا في حديثنا الحزبي أو السياسي، فأخذت تراودني ظنون وشكوك شتى. في احتفال البعثيين بعيد ميلاد حزبهم في 7 نيسان 1975 في حدائق مقر اتحاد الادباء في ساحة الاندلس وقف عبد الامير معلة الذي كتب لصدام رواية “الايام الطويلة” عريفا للحفل ليرفع عقيرته امام الميكرفون نافشا ريشه كديك منتصر: “والان اليكم كلمة حزبنا، حزب البعث العربي الاشتراكي، يلقيها عليكم الرفيق حسب الشيخ جعفر”. جفلت غير مصدق، وقف حسب امام الميكرفون شاحبا مرتبكا ولم يكن اهتزاز الورقة كأنها ستتمزق بين يديه وحده يعلمني بعدم قناعته بل افتراقه عن موقفه الأليم هذا، كان كل شيء من نبرة صوته الى طريقة نطقه بالكلمات التي لم يكن هو قد كتبها ينبئ بذلك، كأن البعثيون قد أقاموا احتفالهم هنا على غير عادتهم إلا ليعلنوا فيه ضمهم حسب إلى حزبهم! تذكرت ما كان يحدثني به عن ملاحقة ولجاجة عبد الأمير معلة معه لضمه للحزب وابعاده عن الشيوعيين، الذي بات واضحا انتماؤه لهم وجدانيا من قصيدته في الكتاب الاحتفائي! كان معلة الشاعر الفاشل والذي ارتمى بأحضان صدام لا يطيق ان يرى شاعرا موهوبا يسير في طريق قناعاته وتألقه الشعري والإنساني فأصر على اعاقته وتهشيمه روحيا! خرجت قبل انتهاء الحفل كي لا ألقى حسب وكنت مدركا محنته متألما لها كما هو، ومنذ ذلك الحين انقطعت علاقتنا إلا من سلام عابر ولقاءات مصادفة او مناسبة لا كرهاً بل حبا به، فما كنت أريد احراجه أو وضعه في موقف يؤذي مشاعره وهو الذي به حاجة إلى كل ذرة من طاقته لإبداعية الجميلة! وبقي الحال كذلك حتى انهيار الجبهة وملاحقتي من قبل اجهزتهم لاعتقالي واضطراري للخروج سرا من العراق!
بعض من ثلة الستينات او مريديهم لم يغفروا لحسب أنه نأى بنفسه عن تجمعاتهم وتوجهاتهم ودعواتهم وصخبهم خاصة ما سمي بالبيان الشعري، وإنه تمسك بالأوزان بل وبالقوافي، وإنه رغم سمعته كيساري منذ يفاعته بدا لهم فرديا متقوقعا داخل محرابه الذاتي، وهمومه العاطفية وتوقفه عند جسد المرأة حتى ولو استذكارا لا شبقا ماثلا! فتحدثوا أن شعره بإيقاعاته وموضوعاته يشكل امتدادا لشعر السياب، بل ان بعضهم رآه نسخة منقحة من السياب ذاته، وأنه ما اتى بجديد، وقد لا يأتي! وكنت ارى ان هذا الرأي متعسف كثيرا، وقد وجدت في شعره حالا مغايرا بدءا من كتابه الشعري “نخلة الله” وما تلاه في السبعينات من شعر متدفق بغزارة. فـنخلة الله تمثل الشجرة أو كل مصدر خير وثمر وظل لا مالك لها وهي تعود لله كعطاء متاح للجميع تمثل لدى حسب شيئين متباعدين ومتقاربين في آن، فهي مركز حنين وانجذاب إلى الطفولة والقرية والوطن أولا او كرمز لفكرة حسب الشيوعية الأولى في ان يكون ثمة عطاء سخي مجاني للإنسان لا حد له طالما تواصلت أداة الإنتاج واليد المنتجة وتواصلت حاجة الإنسان! وقد كتبت في حينها اوائل السبعينات دراسة طويلة عن شعره بهذه المنطلقات التي تتراوح بين فهمي الماركسي والأدبي الخاص آنذاك، نشرت في مجلة “الأجيال” التي تصدرها نقابة المعلمين وقد اقرني حسب على استنتاجاتها! أما عن اسلوبه الشعري فهو رغم ما يحمله من نكهة سيابية لكنه ظل يحمل سمة حسب الخاصة ونبرته الثابتة المتمكنة والمجدولة من أصوله التراثية العربية العميقة ومن قراءات وخبرات شعرية انسانية يشكل بالطبع الشعر الروسي رافدها الأساس. لم اجده ميالا او متذوقا للشعر الأمريكي لكنه كان يتحدث بود عن الشعر الانجليزي ويعبر عن اعجابه بإليوت و”الأرض الخراب” كجزء من الشعر الإنجليزي لا الأمريكي! 
في تشرين الثاني من عام 1989 التقيت حسب فجأة في موسكو وفي بيت صديقنا معا الكاتب والإعلامي المعروف سلام مسافر، الذي هو من رتب دعوة لي لقدومي مع زوجتي وطفلي من المجر علني أجد سبيلا مع المهربين من اجل ايصالنا لاجئين إلى السويد. وحين علم حسب بوجهتي تألم كثيرا، واقترح عليّ أن يتصل بصديقه الشاعر حميد سعيد في بغداد ليرتب لنا عودة سالمة آمنة إلى بغداد، فأستعيد بيتي الذي عرف ان نظام صدام قد صادره، طبعا لم اقبل ذلك، وشكرته على موقفه الذي لا شك أنه كان بدافع المحبة والصداقة والخوف علينا من رحلة محفوفة بالفشل او المزيد من عذاب التشرد. انتظمت لنا جلسات لا تنسى مع صديقنا الروائي غائب طعمة فرمان والصحفي جلال الماشطة، وكانت ثمة أحاديث كثيرة في الأدب والسياسة وقد لمست ان حسب يتحمس كثيرا لستالين، ولا يقبل بأي نقد يوجه له ما جعلني أفكر؛ أيكون ذلك مدخلا لقناعته بصدام حسين؟ أو مبررا لبقائه في ظل نظامه؟ ذلك أقلقني لكن معرفتي بنقاء سريرته، وعمق موهبته وإبداعه جعلني استبعد أن يؤمن حسب بصدام وبما يدعيه من ايديولوجية ثورية بناءة، وإن حب حسب لستالين هو جزء من انشداده للحياة السوفيتية التي وفرت له منذ مطلع شبابه فردوسا ارضيا ظل ينبوعا لا ينضب لعطائه الشعري وسكينته الروحية! كانت أيامنا في موسكو هي الأخيرة معه، وقد اغتنمنا فرصا لنجلس فيها معا ونستذكر الكثير من الموضوعات التي ظلت تثير شجني حتى اليوم مدركا كم اكتظت حياتنا الثقافية والعامة بمعضلات وانتهاكات كادت تتلف ارواحنا لولا اصرارنا على مجابهة رذائل عصرنا ورجاله السيّئين نتاجها الطبيعي وما اكثرهم واسرع تجددهم جيلا بعد جيل.
عند عودتي بعد سقوط صدام ونظامه حاولت كثيرا لقاءه، فلم افلح، كلما أتيت إلى مقر اتحاد الأدباء على امل ان اجده يقول من أساله عنه أنه صار قليل التردد على نادي اتحاد الأدباء وإن وضعه الصحي يمنعه من الخروج من البيت، اكثر من محاولة قمت بها في زياراتي المتقطعة لبغداد للتواصل معه وهو في بيته فلم أفلح، آخرها كانت عندما حضرت قبل اسابيع الحفل الذي اقامته دائرة الشؤون الثقافية بمناسبة اصدارها اعماله الكاملة، وهناك التقيت بالصديق القاص كاظم الجماسي، فعرض ان يجمعنا في لقاء بمكان ما، فجاء الرد من عائلته أن مرضه يشتد عليه ولا يستطيع الخروج أو اللقاء بأحد، حتى جاء النبأ الفاجع بسرعة لم اكن اتوقعها!
بعض الأصدقاء حين يرحلون يأخذون قطعة من قلوبنا معهم إلى القبر، وقطعة القلب التي أخذها حسب ستظل حية نابضة معه!