أيار 18
   
يثير الخطاب الشعري في تجربة الشاعر أمير الحلاج الصادر عن (اتحاد الأدباء – بغداد 2020) كثيراً من التساؤلات ويتطلب كثيراً من الاستنطاق والمعاينة النقدية، وذلك لأنَّ نصوص هذه المجموعة ترتكز على قصديّة واشتغال خارج المألوف الشعري –شكلاً ومحتوى- فهو يمزج بين رومانسية الشعر وذهنية التأمّل ومراقبة الظواهر الحياتية وينظر إليها من زاوية (التأويل) الشعري ويحاول إعادة انتاج اليومي والمهمل بعيداً عن التناول أو الفهم أو التوصيف التقليدي، وفي كل نص نجد تعددّية في المضامين ليس بطريقة التشظي العدمي، وإنّما في داخل كل ثيمة يحاول فتح رؤى للسؤال والمعاينة وتطوير الفكرة والتعمّق بتجلياتها.
 فالشاعر لا يكتب (تقارير) شعرية عن الواقع بل يشتبك معه ويحاول إعادة اكتشافه من زوايا غير معهودة، إنّه يبحث عن المعنى (الخفي) و(الباطني) للأشياء والظواهر ولا يتبع في ملاحقته هذه على طرق نيسمية، بل يبحث عن المعنى، حيث يحوّله إلى ظاهرة تستحق الاستكناه والاكتشاف مما يؤدّي إلى تلك المسحة أو التأطير الذهني.
 الشاعر (أمير الحلاج) يحاول أن يجعل النص شفرة تجمع بين غنائية الصورة الشعرية وبين التعمّق المعرفي فيها وبذا تكتسب نصوصه نزعة (فلسفية)، وتجريداً عميقاً مبتعداً عن المتعة البلاغيّة ولعبة الألفاظ بصيغتها الوجدانية التي تصدّر المباشرة والخدر بعيداً عن التعمّق في الوعي لدراسة واقع أو لحظة ملتبسة، وقد تجاوز إشكالية الجميع بين النقيضين (الغنائية والذهنية) وصولاً إلى نص محكم يرتكز على هاتين البؤرتين والخروج إلى مساحة متوازنة منتجة لا تكرس زاوية أو اشتغالاً على حساب مساحة أخرى، وفي البداهة أن يقترن هذا الوعي الشعري وقصديته بأداء لغوي يستوعب حجم هذه المغامرة فكان الاشتغال اللغوي وشعرية المفردة على وفق صياغات غير تقليدية وغير مألوفة، ارتكزت على منظومة من الانزياح ومغادرة المعنى المعجمي للمفردة وتحريرها من الدلالة التقليدية، وقد توهّجت مساحات ونصوص كثيرة على وفق هذه المغامرة التجريبيّة التي خلت من متعة اللّعبة اللّغوية باتجاه تحريك دلالة النظر والتماس مع الواقع بهواجس التفحّص والبحث عن السؤال الوجودي مما يتطلب تفعيل استجابة المتلقي والتفاعل مع قصدّيات الوعي -في النصوص- وتعالقها مع فضاءات التناول وجماليات الأداء.
 تتمظهر دلالة (الانزياح) بدءاً من عنوان المجموعة (جدار مر)، العنوان الذي حقق انزياحاً منظوراً، ونقل معنى المفردة من الإطار أو المعنى المعجمي إلى الانفتاح على معنى وصورة جديدة ناسخة للاستخدام التقليدي، والمزج بين الصفة المادية (الجدار) و(المر) الصفة التي تنطوي على المعنى، وهو انزياح كنائي لأنه لا يريد طعم الجدار الحقيقي إنما أراد المعنى البعيد المرتبط بـ(الجدار الحر) الذي كان مصدراً للنفاق والتهم والتسقيط والقتل الرمزي فهو (مر) بسوئه وظلامه، وقد شاع (الجدار الحر) في زمن النظام السابق ليعطي مساحة من الحرية المصطنعة للناس، يكتبون ما يشاؤون نقداً ومقترحات وإدانات محدودة لا تشمل النظام وأزلامه، وفي التشكيل العنواني وبوصفه نصّاً موازياً نجد التشابك بين تراسل الحواس، فالجدار علامة تنظر بحاسة البصر بينما معنى (المرارة) تختص به حاسة التذوق وبهذا استطاع المجاز أن ينطلق في توصيف شعري انزياحي.
 
         
هذه المجموعة المميزة اشتغالات وظواهر يمكن احصاؤها والاقتراب من أدائها نقدياً، فلقد برع الشاعر في إيجاد نسق شفيف لبداية كلّ نص.. بداية مترعة بالصورة والاستهلال الدال :
لا تعيدي الستارة
حيث فعلت قبيل غناء الشروق
دعيها..
تراقص وضعا تراه
وننعم في منظر الزجاج النظيف
لنافذة
تعزل النظرات
فنبقى نؤمّل أرواحنا (المجموعة: 12)
 
ونلحظ عدداً من القصائد تبدأ بفعل أمر (لا تعيدي) (دعي كل صمت مضى) (اترك كتابك)... الخ.
ولعلّ ظاهرة فعل الأمر ليس بمعنى الامتثال لما يريده الشاعر ولكنّه نوع من التوظيف لإشاعة السؤال والانتباه، وكأنَّ النص هو حوار يعتمد الانتباه والتوجيه والطلب للتركيز على الدلالة، والبدايات تتّصف بالدخول إلى مشهد عياني مباشر.
النص المعنون (الجدار المر) الذي صار عنوان المجموعة، هو خطاب شعري ذهني إلى الأب، وحوار في المسكوت عنه، وفي البحث عن دلالات الهيمنة التي تمثّلها شخصيّة الأب وتداعيات البوح لشخصيّة حميمة ونجد براعة الاستهلال وتراسل الأفكار:
اترك كتابك يا أبي
لمَ لا ترد
إنّي انتظرتك
بيد أنّك في شرود
هل تعود إليّ؟
وهل تغيّر صورةً
عيناي صورتا تفاصيل انزاوئك
لا تدع شيئاً يشيد ما يعين الليل
بين الحائطين ..
فصوتي العالي يذوب ولا يجيء إليك .. (المجموعة: 21)
         
     ارتكز الاستهلال على رؤية استفهامية باستثمار فعل الأمر، ونشعر بالمسافة بين الذات والآخر الذي يمثله الأب، وما هذه المسافة إلاّ تعبير عن الارتباط والتواصل حد التماهي، حتّى تأخذ شخصيّة الأب بعداً رمزيّاً فهي تمثّل الحاضنة الدافئة لاسئلة الذات!.
 المجموعة على مستوى المضمون والثيمات تركّز على استنطاق الظواهر والوقائع التي ينطوي عليها اليومي والمهمل وإضاءة الزوايا الخفيّة والتي لا تثير اهتمام الأذهان العابرة!.. وترتكّز المجموعة على موضوعات مهمة (المرأة، الحلم، الانتظار، الحقيقة، الزيف، الحرب، الحزن، الغربة، ... وغيرها)، من الثيمات والمضامين الإنسانية ولنتأمل الشواهد أو النماذج للتدليل على هذا التوجّه، ففي نص (انطفاء الكلام) نجد المرأة والعشق، والغنائية الشفيفة:
 
لم تغب نظرة منكِ
أو تنزوي
في ثنايا الغروب
وهي لم تطلق الكلمات
فراشات دفء
تشير إلى نزلة البرد
ألاّ ترافقها
دون أن يفضح العطرُ سيرتَه
كيف أودّع قلبا برملٍ
على أمل نتغنى بما يفصح النّبض
كيف تفاصيل سيرته ..؟
زرْعَها مثمرٌ بشفاهٍ تغنّي  (المجموعة: 25)
          ونجد التعمّق بأجواء السؤال الوجودي على وفق مسحة تجريدية في نص (المساء أتى):
          لكن دع الأمر يأخذ مجراه
          فالوقت
          مثل محيط لدائرة تتحرك
          والأمس
          كفٌ تديم لها اللّفَّ
          كي يعلن الضوء نصر التّصور
          أنْ يركز الشك قبّته
          وسط حاشيةٍ
          للفراق
          تصفق والنكبات .. (المجموعة: 38)
 
   نجد ثمة براعة في المجاز والاستعارات وانزياحات لا حصر لها والتحليق بالفكرة عبر متوالية من الأداء اللغوي وبعض مفردات تثير الوعي والقصد الذهني، وهي طريقة لتناول الواقع بعيداً عن اللّغة المألوفة، فالتناول غير المألوف بانزياحاته هو الذي يثير الاسئلة أكثر مما يعطي الأجوبة والتوصيفات النهائية، فالنصوص في هذا الاشتغال هي تحريض صوري للبحث عن المعنى (الكامن) وتحريك الذهن لإعادة اكتشاف الواقع بعمقه ودلالته.
 ونجد ميل الشاعر إلى الطبيعة وإثارة الانتباه لمفرداتها، وجعل المتلقي يعثر على السؤال والجواب والتعالق بين ما تثيره الطبيعة من هواجس وبين اسئلة الذات المتأملة في نص (انتظار التراب)، إذ نلحظ هذا التوظيف:
أرى أنْ تبخّرنا الشمس
نغدو
غيوماً مقطّعة
لا تدرّ
ولكن بنا رغبة
أن تسرّ بنا الأرضُ
من توافق عطر أمانيه
ولون التراب
فتنسجم الصورة المستفيقة
لا أن نخفّف ثقلاً بها
علَّ من بعصاه يغني
يرى ظلمة الصبح .. (المجموعة: 43)
 تتجلّى مفردات ومرموزات الطبيعة (الأرض، الشمس، التراب، الظلمة، الصبح...الخ)، موظفة في صور استعارية لمناجزة الفكرة ونجد ميلاً لأنسنة هذه المرموزات وصولاً إلى إثارة انتباهات ذهنية تغيّر خلجات الذات المتأملة صورة الانزياح وجماليته تتجلى في الأداء اللّغوي في مقطع الختام من نصّ (جمر الحضور):
ليلٌ
مدَّ ذرعيه للصمت.
ليبقيه على سندات لا تنفر مطرقةٌ
لم تطبع قبلتها
ليل ضاق به الصبر
فذابت أغلفة لم يألفها الصبحُ.. (المجموعة: 47)
 فأنسنة الطبيعة (لم يألفها الصبح) تمثل انزياحاً استعارياً، ونجد جمالية الصور والمفردات التي عمل الشاعر على زحزحة إطارها ومعناها المعجمي بالانفتاح على مساحات من التصور الذهني والتأويل.
          وهناك غنائية فيها كثير من العذوبة في نص (شيء ما):
كلّما مرَّ شيء يخصك
قربي
يفزّ انتشاءً
ويرقص
قلبي
كأنّ مروره عزف
فتنكسر الصورة المستظّلة وضع التجمّد
كي ارتقي عائداً سلّم الحلم
أن تتراصف طائعة في المسير خطانا
وتغرز في هاجس المتطلّع
حيث الندى .. (المجموعة: 95)
 ونجد نصوصاً مكثفة تشبه إلى حد ما قصيدة (الهايكو) في الاختزال والمجهول الشعري والإشارة إلى الفكرة بطريقة تثير كثيراً من الاسئلة لدى المتلقي:
أقسى من فعل القتل
أن تتعرّى من كلّ فنون الفتك
وتنسى رمح لسانك .. (المجموعة: 136)
          وتتكرر موضوعة الحلم مراراً وفي أكثر من نص كما في نص (زيارة):
كلما زارنا فرح
ثم وشّح أتراحنا الحبور
وراقصنا طيف أنثى
لتنمو عقابيل أحلامنا
وهي تبرق بالضحكات
وأوقد فانوس حيرتنا المتعفّر بالنكبات
تفتّق من ليل البدر
داخل بوتقة تمسك الليل في حضنها
لتطبع تباشير النبض.. (المجموعة: 79)
 أمّا موضوعة الحرب فتتكرر بالإيحاء وبالتصريح مثل هذا التجسيد في نص (إشراق الكلام):
 في ساحة الحرب الضروس
يضيء وجه الشك
جوف حقيقة المخبوء في الأنوار
كي تجثو عيون
في بريق حديثها شكوى
صريعة غابة
تلتّم قلباً
لا يراوده ازدهار يورق الحّمى
فيختل استواء الأفق .. (المجموعة: 18)
 
مجموعة (جدار مر) أنموذج لروح التجريب وعلى أكثر من مستوى تجريب في الصورة الشعرية التي تمزج بين الغنائية والمسحة الذهنية التجريدية ونجد تجريباً في الاختزال، واستقصاء المعاني القصيّة، ونجد اتجاهاً تجريبياً في تفعيل وظيفة الانزياح وتحرير المفردة من طقسها وعرجونها المعجمي باتجاه التأويل والانفتاح والتوهج الشعري ومن ثمّ هناك تحرّر القصيدة من النسق المألوف والسائد.