أيار 18
 
  حين وقعت بيدي رواية "يوم قُتِلَ الزعيم" قرأتها قراءتين: مرة لأقيس المسافة ما بين رواية "ميرا مار" وهذه الرواية بعد مرور فترة ثماني عشرة سنة بينهما(1)، وأخرى لأطلع على درجة نجاح "محفوظ" في استثمار مفهوم وأسلوب "تعدد الأصوات" في رواية "يوم قتل الزعيم". الزعيم الذي يقصد به محفوظ هنا بالتحديد "أنور السادات" الشخصية الإشكالية التي قلبت تاريخ مصر الحديث رأساَ على عقب بعد زيارته المفاجئة لإسرائيل وبعد توقيعه معاهدة "كامب ديفيد" سيئة الصيت.
 القراءة الثانية (درجة النجاح في هذا الاستثمار) هي التي تهمني في بحثي هذا؛ إذ أن الكتابة عن "نجيب محفوظ" السارد العربي الوحيد الذي قطف جائزة نوبل غير مجزية بعد أن أُشبع الرجل بحثاً ودراسة ولاسيّما أن المصريين هم أساتذة النقد الأدبي العربي من سنوات التنوير العربية الأولى التي شملت الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية ومجمل شؤون الفكر والسياسة.
وعلى الرغم من أن قراءتي لهذه الرواية تطبيقية بالدرجة الأولى، لكنني وضعتها في الجزء التنظيري من كتابي عن "مفهوم تعدد الأصوات بين النظرية والتطبيق"، لأنها تلقي الأضواء على الجانب التنظيري من مفهوم وأسلوب تعدد الأصوات؛ ولهذا السبب علينا القاء المزيد من الأضواء على رواية "ميرا مار" التي سبقتها، والتي عدّها الدكتور "محمد نجيب التلاوي"(2) من أولى الروايات المصرية العشرة التي درسها بوصفها نماذج عربية تطبيقية لرواية الأصوات. وليس ثمة قدرة وامكانية نقدية أفضل من الدكتور "التلاوي" لنعرف منه مسوغات اعتبار رواية "ميرامار" رواية أصوات؛ إذ أن هذه المسوغات ستلقي المزيد من الضوء لتحديد مفهوم وأسلوب "تعدد الأصوات " على الجانبين التنظيري والتطبيقي في الآن معاَ.
المسوغات
1- اختفاء نجيب محفوظ الذي وصفه "التلاوي" بأنه اختفاء جيد على الرغم من أنه أعلن عن نفسه، وأظهر وجهه، بشكل غير مباشر من خلال البناء والتنظيم والتنفيذ لحدود الأصوات: فهو يقدم صورة الكارهين للثورة بشكل لا يبعث ولا يساعد على التعاطف معهم، ثم برزت الأصوات المناهضة للفكر الثوري في قدرة حوارية ضعيفة وبحجم ثقافي محدود إذا ما قيس باختياره للأصوات المؤيدة للثورة (ص75 من كتاب الدكتور التلاوي * هامش رقم2).
ومن هنا فإن الدكتور الباحث سيعتبر لاحقا في صفحة (82) إنّ اختفاء الروائي لم يكن تاماً في هذه الرواية؛ لأنّ محفوظ أناط بأحد شخصيات الرواية القيام بمهام المؤلف الراوي. ومعنى هذا أن الدكتور يغمز من درجة حيادية "محفوظ" بحيث نظم واختار محفوظ أصواته بشكل يبرز "وجهة نظره"، مما قلل درجة حياديته، هذه الحيادية التي يتطلبها مفهوم وأسلوب "تعدد الأصوات".
2- تمايز شخصيات الرواية وعدم تجانسها: إذ جاءت محملة بمعطيات المكان الذي نشأت فيه أصلاً. وهذا التمايز شرط لازب لخلق رواية أصوات، وإن كان التلاوي قد أشار الى حقيقة وجود هذه الأصوات في مكان واحد وهو "البنسيون". وبمعنى أدق حقق محفوظ في روايته "تبادلات سردية" من خلال طريقة تنظيم ظهور الأصوات وتعاقبها من صوت لآخر لإبراز اللاتجانس و"وجهات النظر الجزئية المختلفة" ص79 نفس المصدر.
 
3- جعلنا نجيب محفوظ في رواية ميرامار في "مواجهة مباشرة مع أصواته" حيث يُقدِّم كل صوت نفسه بنفسه على الرغم من تنصيبه للصوت الأول [صوت عامر وجدي] بمنزلة راوٍ أساس، أو المعادل الموضوعي للسارد العليم (محفوظ التقليدي). غير أن مشاركة (عامر وجدي) لم تُضعِف استقلالية بقية الأصوات ورؤاها الشخصية.
4- حرص محفوظ بأصواته على ابراز ورصد ردود الفعل المختلفة تجاه الثورة. أي أن ثمة "محفز موضوعي"، وبالتالي فإن المنطلقات الفكرية -التي تعبر عن خوف من قسوة السلطات القائمة- هي التي تحفز الروائيين على كتابة رواية الأصوات اضافة الى المحفز الفني. ولعل الاستنتاج الذي عبر عنه الدكتور التلاوي هنا ينسحب على معظم روايات الأصوات باللغة العربية أو التي استثمرت هذا المفهوم واستفادت من أسلوبه؛ ولذا فإني أعود الى التذكير هنا بأصوات "فرمان" الخمسة وبرواية أميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، وعلى نحو من الأنحاء رواية فؤاد التكرلي "الرجع البعيد"؛ لأنَّ هذه الروايات الثلاثة تشابهت من حيث المحاولة الفكرية في اختيار وسيلة فنية للتهرب من قسوة السلطة.
5- أشاد التلاوي باختيار محفوظ لأصواته بعناية فائقة في ميرامار: فهي أصوات متباينة أشد التباين. إذن، فمحفوظ جعل لكل صوت قوامه الغيري المستقل، وقد تحلقوا جميعاً حول ردِّ الفعل تجاه ثورة يوليو 1952، وإن كان محفوظ قد شغلنا عن هذه القصدية الفكرية بعلاقة طارئة بين "زهرة- رمز مصر" وسرحان البحيري الذي يمثل وجه الخائن الوغد. يراجع ص 106-  110من كتاب التلاوي.
6- الأصوات في ميرامار جاءت بمسرحة للأحداث عبر حوارات، ولم تأتِ بشكل إخباري مباشر. وهذه ميزة لرواية الأصوات (نفس المصدر، ص32).
هذه الميزة التي جددت حيوية وتقدم الرواية كانت قد بدأت في أوروبا في القرن التاسع عشر عامة، وقد أشار لها الناقد الإنكَليزي المشهور "بيرسي لوبوك" من غير أن يتطرق لمفهوم أو أسلوب "تعدد الأصوات"، بل كان يعني الفارق بين السرد التقليدي في القرنين الماضيين والسرد الحديث ولاسيما في محاولات "هنري جيمس" الذي كان يدعو إلى مسرحة كل شيء في الرواية، والذي شن حربه التنظيرية من أوائل القرن العشرين على "الراوي العليم" وجعل اختفاءه مقياساً للجودة الفنية... إلخ؛ وللتأكد من صحة هذه الملاحظة أو التوسع في الموضوع نشير إلى القارئ الكريم بضرورة قراءة الفصل الثامن من كتاب لوبوك "صنعة الرواية"، والذي أعطاه المترجم العراقي "عبد الستار جواد" عنوان الأسلوب: (هنري جيمس – تورغنيف – ص107)(3).
هل بقيّ من يدافع عن ثورة عبد الناصر؟
وإذا كان الباحث الدكتور التلاوي قد اعتبر رواية ميرامار بمنزلة اجابة على السؤال الإشكالي يومذاك: من هو مع ثورة يوليو 1952 ومن هو ضدها (كذا ؟!)، فإن رواية يوم قتل الزعيم تطرح سؤالاً إشكاليّاً جديداً هو: ترى هل ثمة شخص يوجد في عام 1985، وهو عام صدور الطبعة الأولى من هذه الرواية، يدافع عن ثورة يوليو التي غُدِّرَتْ وصارت مقبورة بسبب سياسة الانفتاح السياسي والاقتصادي مع دخول الخصخصة ومجمل نمط الانتاج الرأسمالي بدل تجارب "جمال عبد الناصر" شبه الاشتراكية، ومنها تأميم قناة السويس وتدخلات الدولة لصالح الفقراء من خلال بناء المصانع والمزارع التعاونية والسدود.. إلخ؟
صحيح أنّ نجيب محفوظ يتجنب مثل هذه الأسئلة المباشرة، غير أن أصوات الرواية الثلاثة - التي تتكون منها الرواية - تتوحد بما يشبه الكورال المشترك رغم تعدد نغماته لتجيب بصوت الحياة وتقول: إنَّ ما يسمى بسياسة الانفتاح أوصلتنا الى أسوأ الأحوال؛ بحيث صار الماضي هو الفردوس المفقود عند المصريين.. وللبرهنة على صحة هذا الاستنتاج أشير الى بعض الصفحات والعبارات، إذ تبدأ هذه النغمة "اللازمة" من الصفحة الأولى والثانية للرواية بصوت الجد محتشمي، والذي يمثل الصوت الأول الرئيس في الرواية، والذي أعتقد أنه المعادل الموضوعي لشخصية وصوت محفوظ ذاته حتى وإن تخفى بين طيات جلبابه:
"اللهم جنبني المرض والعجز. لا أحد ثمة للعناية بالآخرين. ولا فائض مال للتمريض. الويل لمن يسقط. يجمعنا في الصباح (المدمس) وحده أو (الطعمية). هما معا أهم من قنال السويس. سقيّاً لعهد البيض والجبن والبسطرمة والمربى. ذلك عهد بائد، أي قبل الانفتاح. الأسعار جنت، كل شيء قد جن"، ص6 من رواية يوم قُتل الزعيم.
وكجزء من تصور الجد (محتشمي) لتسلسل النكبات التاريخية فإنه يرى 5 يونيو - نكسة أو هزيمة حزيران 1967- والانفتاح وروسيا والولايات المتحدة ومملكة المنحرفين بمنزلة خط طويل من المآسي (ص34)، بقدر ما يرى سياسة الانفتاح والواقع الاقتصادي بمنزلة عدوّاً للحب وللضمير وللإنسانية جمعاء. أو هذا ما توضح من خلال مفاتحته لحفيده علوان [الصوت الثاني في الرواية] بموضوع زيارة (أم رندة) للاستنجاد به من أجل الوصول الى حلٍّ مُرضٍّ لعقدة عدم قدرة اتمام زواج الحفيد (علوان) بابنتها (رندة)؛ بسبب واقع الحال الاقتصادي.
ولأنًّ هذا العالم صار حافلاً بالأذى كما يرى العجوز محتشمي في ظهوره للمرة السابعة كصوت (أو شخصية/ نموذج) رئيس في الرواية فإنه يشكر ربه لأنه لم يقدم في حياته الطويلة هذه أي أذىً لإنسان، ويطلب منه "حُسن الختام".
وليس ثمة رؤية كهذه أكثر قساوة ومرارة على وصف الواقع المعيش: عالم حافل بالأذى (ص75). وأود أن ألفت انتباه القارئ إلى عظمة ومهارة نجيب محفوظ في تصوير هذه المرحلة الخطيرة المتقدمة من عمر الإنسان؛ إذ اعتبر/عدّ محتشمي في ظهور سابق أن إصراره على المشاركة في تشييع جنازة آخر أصدقاء عمره بمنزلة "بروفة" يرى فيها ما هو الذي سيحدث بعد موته (!!). ولا أظن أن أحداً أقدر على وصف هذه البروفة من نجيب محفوظ في تاريخ السرد العربي.
وإذا ما رجعنا إلى رواية ميرامار فسنجد محتشمي متطابقاً إلى حدٍّ ما مع شخصية أو صوت عامر وجدي، الشخصية الرئيسة أو المعادل الموضوعي للسارد العليم، وبمعنى أدق أن اهتمامات محفوظ الاجتماعية والإنسانية بقيت كما هي على الرغم من مرور ثماني عشرة سنة ما بين صدور ميرامار في طبعتها الأولى وبين رواية "يوم قتل الزعيم". 
ولكن من خلال التعمق برصد مظاهر ومواقف رفض سياسة الانفتاح، والاستنتاج الذي نريد البرهنة على صحته، علينا أن نعطي صورة بسيطة عن أهم عناصر بنية الرواية وماذا تمثل هذه الأصوات التي استخدمها محفوظ لإشادة هيكل روايته التي أراد لها أن تكون رواية أصوات. إذ أن كل صوت من هذه الاصوات الثلاثة يظهر بالتتابع سبع مرات بدل أن تكون سبعة فصول، فيكون مجموع فصول الرواية 21 فصلاً، يضيف له محفوظ ما يمكن تسميته مجازاً الفصل الأخير بصوت الجد محتشمي. بيد أنّ ظهور محتشمي في هذه السطور لا يمكن اعتباره بمنزلة فصل اضافي (أخير)؛ وذلك بسبب حجم أو عدد هذه السطور القليلة وطريقة التعبير من خلالها؛ لأنها سطور اخبارية مقتضبة تعادل موضوعياً عملية اسدال الستارة على هذه الدراما المصرية التي لعبت السياسة فيها دورا بارزا، كما فعل صوت "عامر وجدي" في نهاية رواية ميرامار بأسدال الستارة على الرواية من خلال "لحظة تنوير" كما وصفها د.التلاوي ليخبر عن مصائر الأصوات المشاركة له في الرواية.
 كما أعتقد أن نجيب محفوظ وضع نصب عينيه امكانية تحويل رواية "يوم قتل الزعيم" الى فيلم سينمائي ولاسيما عند الحدث الدراماتيكي في خاتمتها المجسد/ المتمثل بقتل علوان لمديره أنور علام، اضافة الى طريقة اسدال الستارة على حدثها وعلى مصائر شخصياتها/ نماذجها ولاسيما الشابين: علوان ورندة؛ من غير أن ننسى الفوائد الجمة التي قطفها (استفاد منها) محفوظ في توسيع دائرة شهرته من خلال تحويل عديد من قصصه الى أفلام سينمائية.
 الصوت الأول: ويمثله/يجسده كما أسلفنا الجد محتشمي زايد الذي يربو على الثمانين وصحته لا تسمح له بالخروج من الشقة، وإن كانت تسمح له القيام بأعمال منزلية مساعدة يحسده عليها جاره والد (رندة). وبهذا لم يعد في تماس واقعي مع العالم الخارجي إلا من خلال المذياع وحفيده. ومن هنا يصير الماضي بالنسبة له هو عالمه الحقيقي وفردوسه المفقود؛ ولذلك فإن صوته -أو اذا ما قلنا مجازاً سطور الفصل الأول والتي تقدم صورة بانورامية عن هذه العائلة- مليء باللغة الدينية والدعوات والطقوس والاجواء والمعتقدات، وما الى غير ذلك من أمور معظمها تنتمي الى الماضي على نحو من الأنحاء، وإن كان الرجل يستدعي من خلال ذاكرته ومونولجاته الداخلية بعض جماليات الشباب الغابرة: السفرات، الفونوغراف وأغاني الزمن الذهبي الجميل، البهجة وليلة الزواج (الدخلة)، ثم في فصل لاحق البحث من خلال وصفه لجسد الشغالة/المنظفة (أم علي) عن "نغمة الحلم الغابر"  ص19 مع الاشارة الى عهد "فسق ومجون" ص44.
غير أن هذه الاشارة تتحول الى ما يشبه استدعاء ذلك العهد الماضي (فلاش باك) بشكل قوي ومريع بعد أن اختلط وتمازج عند الجد ذلك "الماضي الجميل" بحاضر حفيده المؤلم؛ بسبب عجزه عن الارتباط العملي بوصفه زوجاً مقتدراً مع معشوقة قلبه وخطيبته (رندة) لافتقاده مقومات هذا الارتباط ولا سيّما السكن، مع اصراره على سلك/ اختيار طريق الاستقامة والنزاهة. الطريق الذي لا يريد الحفيد (علوان) أن يحيد عنه.
كل هذا يظهر في صوت محتشمي منذ ظهوره الأول، في الوقت الذي يتحول صوته في الظهور الخامس (ص) الى ما يشبه جلد الذات والحُكّام والزمن الآبق الرديء!!
الصوت الثاني: يمثله/ يجسده الحفيد (علوان)، وهو شاب موظف في مؤسسة حكومية لم يحددها محفوظ كأنه يتعمد تعميم محنة هذا الشاب كما لو أنها محنة كل شباب مصر في زمن الانفتاح. وإذا ما تابعنا رؤية الحفيد للواقع الحياتي والاجتماعي -مجمل الفضاء العام: مصر زمن السادات- وارتباط محنته الشخصية بمجمل أوضاع بلده السيئة، فإننا سننتهي الى الحكم القاطع بأنّ الحياة صارت جحيماً لا يُطاق، وأنّ كل شيء الى تدهور وفساد وتراجع عن زمن ما أسماهم بالضباط الأحرار حتى وإن أنكر بعض هؤلاء الضباط فضل السابقين عليه. بمعنى أنَّ الماضي بكل سوءاته صار أفضل من الحاضر بغض النظر عن نوعية الحكم وطبيعة الحاكم: ملكياً أو جمهورياً، محافظاً أم ثورياً (كذا!!) ص11.
 هكذا بدأ صوت الحفيد من أول ظهور له في الرواية، وأقدم هنا مقطعاً طويلا لأحبتي القراء لكنه ضروري لإلقاء الضوء ليس على طريقة تفكير هذا الشاب فحسب، بل وعلى أسلوب ولغة محفوظ في هذه الرواية التي جمعت خبراته الفنية العريقة:
"المشي صحة واقتصاد. المفروض أنه طريق العشق والجمال فانظر ما هو. آه يا قدمي! آه يا حذائي! تحملا وتصبرا هذا زمن التحمل والتصبر. في زمن النار والوحوش لا نسمة ترطب الفؤاد إلا أنت يا حبيبتي.. أعباء الحياة المشتركة. لا حل لديها ولا حل لديّ ولا نملك إلا الحب والإصرار. أعلنت الخطبة في عهد الناصرية وواجهتنا الحقيقة في عصر الانفتاح. غرقنا في دوامة عالم مجنون. حتى في الهجرة لا مجال لنا. بين الفلسفة الثراء الفاحش وفي زمن لا يصدق؟ ألا يمكن أن يحدث ذلك بلا انحراف؟ ما سرّ حرصي على الاستقامة؟ ما أطمح في هذه الساعة إلى أكثر مما يؤهلني للزواج من رندة" ص 11-12. 
غير أنَّ هذا الصوت الشاب يتصاعد ويسمي الأشياء بأسمائها (بمسمياتها) الحقيقية وهو يتحدث عن حبيبته، جارته في الطفولة وزميلته في الدراسة والوظيفة العمومية، ويعتبر أزمته جزءا من المواجهة الفعلية بين "الناصرية" وما أسماه بعصر الانفتاح. وكما قرأنا في المقطع السابق الذي هو عبارة عن تداعيات ذهنية وروحية فإنَّ علوان (الحفيد) يقوم بعملية كسر الزمن والعودة الى الماضي لاستنطاق حلاوة لقاءاته الحميمية الأولى مع حبيبة قلبه (رندة)، لكنه بذات الوقت لا ينسى حقيقة حاضره حين يعترف بأنَّ الأسرتين معاً (أسرته وأسرة حبيبته) سقطتا في "حفرة الانفتاح" (ص24). وثمة اشارة في الصفحة التالية إلى أن "زمن حفرة الانفتاح" حين يكون المرء فيها من أصحاب المبادئ هي بمنزلة حالة إشكالية مستعصية!!
ثم يعلو صوت الشاب في ظهور آخر (فصل آخر) ويكشف عن حقيقة الأمر: فإذا ظل (عبد الناصر) المهزوم عسكرياً رمزاً للآمال الضائعة "امال الفقراء والمعزولين" فإن خليفته (السادات) الذي يسمي نفسه "بطل السلام والنصر" هو في الواقع نموذج للخنوع والاستسلام؛ إذ يتكشف الحال بأن السلام هو في الحقيقة لعبة "تسليم" للإسرائيليين كما ورد في صفحة 46.
ومن خلال عملية رصد لمجريات الواقع المرير الذي يقوم به (علوان) وهو جالس في مقهى ريش [المقهى المفضل باستمرار عند محفوظ] ينتهي الى الاستنتاج بضرورة التراجع عن اتفاقية (كامب ديفيد) والعودة الى العرب والحرب، حتى وإن كانت حرب أبدية. ص 47.
في ظهور سابع يصف الحفيد علوان أنور السادات بالمنتصر (المعجباتي) -المعجب بنفسه كما ورد على لسان أم علوان كشخصية ثانوية ساندة في الرواية، السطر الأخير ص77- ثم من خلال متابعته لحدث مقتله في الاستعراض العسكري الذي أقامه لعيد نصره المزعوم في (5 سبتمبر)، وذلك عن طريق المذياع/الترانزستور وأقوال الشباب في المقهى وأقوال الناس في الشارع.
الصوت الثالث: (رندة سليمان مبارك) خطيبة الحفيد علوان. في أول ظهور لها تصف أيام الزمن الذي لم تعشه -بحكم عمرها الصغير نسبياً- بأنه "الأيام الأسطورية"، وذلك مقارنة برغد العيش فيه على الرغم من الدخول/ المداخيل المحدودة مقابل "عصر الانفتاح" الذي يحتم على أفراد الأسرة جميعاً أن يعملوا ليدبروا لقمة العيش، هذه اللقمة التي تخترق سطور وروح ونفس الرواية كوسيلة رمزية للتعبير عن معاناة الشعب المصري جراء سياسة عصر الانفتاح [تُراجع ص15]. ولأنها شابة فإنّ صوتها هو الآخر قوي وجريء ويسمي الأشياء بأسمائها: عبد الناصر كبطل منهزم في الخامس من حزيران1967، وعصر الانفتاح فيه أبطال مستفيدون مقابل ضحاياه الكُثر، وتنتقد تردد خطيبها بين بين ولكنها تتمسك بالحب كما لو أنه العصا السحرية التي ستحل مشكلتها ومشكلة عصرها (!!)؛ بل وتجرؤ على القول في مونولوجها النفسي: "زمن شعارات مقزز. حتى الراحل البطل لم يعف عن ترديد الشعارات. وبين الشعار والحقيقة هوة سقطنا فيها ضائعين" ص17. ويستمر ضياع (رندة) عندما يعود اليها محفوظ في فصل أو ظهور لاحق (ص27) تبحث مع حبيبها عن سبيل الخروج من "حفرة الانفتاح". ولكنهما لم يصلا إلى مخرج ايجابي، مما يدفع الشاب علوان إلى التضحية واتخاذ قرار فسخ الخطوبة ليمنح جمارة قلبه فرصة الحصول على الزوج المناسب.
وهنا يدفع محفوظ بخيوط شبكته الفنية ذات الطابع العنكبوتي الماهر لالتهام مصير الشابة (رندة) فتصير/تصبح ضحية رمز الفساد المصري (مدير دائرتها أنور علام)، رجل التسلق واغتنام الفرص؛ ولاسيما أن محفوظ استثمر خبراته الفنية الرائعة من أجل التمهيد لهذه الفرصة الذهبية من خلال محاولة هذا المدير الفاسد لجر (علوان) باتجاه شقيقته الأرملة (جوسلين الوارثة من زوج خليجي مسن)، في الوقت الذي لمَّح لرندة أكثر من مرة بلا جدوى انتظار أمل لن يتحقق.
ومن خلال هذه المصيدة الخبيثة التي نصب شباكها الشيطانية أنور علام حظي بزواج رندة من أجل تحقيق مكاسب مالية عن طريق تحويلها إلى ما يشبه عاهرة بزي زوجة، أو نادلة، ترضي متطلبات رؤوس الفساد الأكبر الذين سماهم الشعب المصري يومذاك بالحيتان والقطط السمان.   
والتاريخ ضعف الطالب والمطلوب. لا لزوم لنا. ما أكثر من لا لزوم لهم. كيف حاق بنا هذا الضياع؟ إني مسئول مُطارد تحاصره التساؤلات. وهي جميلة ومطلوبة وأنا قائم مثل السد في طريق حظها. نظرات والديها الممتعضة لا تفارقني.. أكاد أسمع ما يقال من ورائي. فوق ذلك تهيم أحلام الإصلاح. تجيء من فوق أو من تحت. بقرارات أو بانتفاضات. معجزة العلم والانتاج. لكن ما الحل مع ما يقال عن الفساد واللصوص؟ ما أفظع ما تقول الدكتورة (علياء سميح) وما يقول (محمود المحروقي). أين الصواب؟ لِمَ أشكْ في كل شيء؟ منذ تهاوى مثلي الأعلى في خمسة يونيه - يقصد علوان هنا تهاوي عبد الناصر بعد نكسة أو هزيمة 5 حزيران 1967  
- كيف يجد أناس سبيلاً سحرياً الى رندة: " وما أكثر أصدقاءك من رجال الأعمال!"
"إنهم في الحقيقة مستقبلنا" أجاب زوجها ومدير دائرتها أنور علام.
فتساءلت في حيرة: "ماذا تعني؟"
"وظيفة مثل وظيفتي لا قيمة لها إلا في نظر موظف ناشئ، مستقبلنا الحقيقي في القطاع الخاص، في المغامرة الذكية التي ترفع الشخص من طبقة إلى طبقة، فلا تقصري في الاحتفاء بهم!"
"إذن فهي زيارات عمل!" فلم أرتح لذلك وقلت:
"إنكَ أفهمتني أنك واثق من نفسك من الناحية المالية"
فقال بصراحة مكشوفة: "عن هذا السبيل وحده، عدا ذلك فلا أمان لأحد في هذا الموج المتصاعد بلا توقف من الغلاء!؛ فإذا لم يكوّن الإنسان ثروة خيالية في هذه الظروف فلا بارك الله فيه"
"ألا يكفي ما يوفر لنا معيشة مريحة؟"
"مريحة؟! نحن في سباق يا محبوبة لا رحمة فيه"
"ها هو شخص جديد يبرز لي من وراء الشخص الآخر، وبعجلة مذهلة، لا يطيق الصبر ولا يصبر على التدرج ولا يعمل حسابا لأثر رد الفعل في نفسي. إنه يقول لي بكل بساطة إليك ذاتي بلا قناع ولا لف ولا دوران، فما رأيك؟! إنه لا يرى في هذه الدنيا إلا طموحه ولا يحفل إلا به، يسدي إليه صلاته مائة مرة في اليوم، وكأنما لا وجود لي إلا من خلال الدور الذي يمكن أن ألعبه في مخططه المترامي" ص60-61.
غير أن عفة وكرامة الشابة دفعتها للشعور الصادق بالندم لأنها باعت نفسها عن غير قصد؛ فتندفع بما يشبه الثورة أو يقظة الضمير لتحول دون تحقيق مآرب أنور علام الدنيئة. وبهذا يدفع محفوظ حبكة روايته إلى مواقع درامية كان قد تفنن بخلقها وبنائها في أعماله السابقة.
وعلى الرغم من أن الظهور السابق (الرابع ص50) لصوت رندة قبل ظهور هذه العقدة الدرامية بوصفها الذروة في البناء الروائي كان صوتاً ذا نغمة خافتة وطابع اخباري، غير أنه عبر بصدق جارح عن حقيقة كون الإنسانية محكومة بالمال كما لو أننا في لعبة (روليت) محطمة للأعصاب!!
*****
والآن علينا العودة إلى ما هو جوهر وأساس بحثنا في درجة نجاح نجيب محفوظ في طريقة استثماره لمفهوم وأسلوب تعدد الأصوات في هذه الرواية، بغض النظر عن نية محفوظ الأصلية فيما لو كان أراد أن يكون استثماره واسعاً أو محدوداً ولاسيّما أن النقد الأدبي الحديث كان قد انتهى الى حقيقة خروج النص من يدّ المؤلف بعد طبعه من جهة وتحوله إلى عموم القراء ومنهم النقاد، فضلاً عن حقيقة وجود تاريخ أدبي عالمي حافل بهذا الأسلوب من جهة ثانية، مع وجود محاولة عربية لاستثماره كان محفوظ من روادها الأُول في روايته ميرامار كما أسلفنا من قبل، وصار بمتناول يده أصوات فرمان الخمسة (1967م) و أصوات (سليمان فياض 1970م) ورجع التكرلي البعيد (1980م)، وما ذكره دكتور التلاوي من/عن روايات مصرية حاولت استثمار هذا المفهوم/الأسلوب لحين ما نشر روايته " يوم قُتل الزعيم" عام (1985م).
بالطبع لا تخفى على أحد حقيقة أن (عميد الرواية العربية) كان يقرأ كثيرا ويطلّع على منجزات مجايليه العرب إضافة الى محاولاته المبكرة لتحديث وتجديد الرواية العربية من الناحية الفنية، حتى أنّ أحد النقاد المصريين كتب في ستينيات القرن الماضي كتاباً كاملاً عن الشكل والأسلوب الفني في قصصه، كما أنني شخصيّاً أشدت باهتماماته الفنية (عام1977) من خلال قراءتي لروايته (قلب الليل)(4). وثبَّت حقيقة أن (محفوظ) وسَّعَ في هذه الرواية من دائرة الايقاع الدرامي والشعري والمسرحي على حساب الاستفاضة في الوصف السردي الذي ميز أعماله الأولى ولاسيما في الثلاثية وما قبلها وما تلاها بقليل؛ كما لو أنني كنت أريد الاشارة إلى حوارية (محفوظ) في تلك الرواية ليس بمفهوم "تعدد الأصوات" بل في تبادل أدوار (الروي/السرد) بين الراوي والمروي عنه (النموذج/بطل الرواية) خاصة حين يتحدث الأخير عن طفولته الغريبة. وفي نهاية قراءتي استخلصت الحكم النقدي الآتي: إنّ نجيب محفوظ بلغ أسرار الصنعة الروائية بجدارة فائقة ومهارة تكنيكية تقترب من دائرة الخبرة الشخصية العظيمة المتراكمة ومن مفهوم الاحتراف. 
من كل هذا أريد التأكيد على حقيقة اطلاع (محفوظ) على التجارب العربية عامة في هذا المجال والعراقية خاصة رواية (فرمان) التي تكشف عن أسلوبها الفني من خلال تسميتها (عنوانها)، في حين تكشف رواية التكرلي (الرجع البعيد) عن نفس الأسلوب من خلال بنائها ومعمارها الفني؛ وبهذا يكون ثمة خيط رابط أساسه مفهوم وأسلوب "تعدد الأصوات" بين هذه الروايات الثلاث، بغض النظر عن المقاصد وحدود هذا الاستخدام أو درجة النجاح والاخفاق في طريقة استخدامه!
مقاربة نقدية بين الروايات الثلاثة
ولأني مثل كل أبناء جيل النصف الأول من القرن العشرين تتلمذت على روايات العميد محفوظ، وما زلت أدرس وأكتب عن فرمان والتكرلي، فإني سأسمح لنفسي القيام بمقاربة نقدية بين هذه الروايات الثلاث ضمن اطار مفهوم " تعدد الأصوات " الذي صار واضحاً من خلال كل هذه المقدمة التنظيرية الواسعة.
أولا: حدد (فرمان) أصواته الرئيسة بخمسة رجال، في حين زاد التكرلي من عدد أصوات روايته الى ثمانية أصوات رجالية ونسائية اضافة إلى صوت الطفلة سناء ... وسنتابع هذه الأصوات الثمانية صوتاً بعد آخر وفصلا بعد فصل في الجانب أو القسم التطبيقي من هذا الكتاب، في حين اكتفى محفوظ بثلاثة أصوات فقط: اثنان ذكور (الجد والحفيد) والصوت الثالث نسائي هو صوت (رندة) كما ذكرنا سابقاً؛ مما يعني أن (رائد الرواية العربية من غير منازع) أكثر احترافية وقدرة على لملمة وضغط روايته بأقل عدد ممكن من الاصوات والصفحات. ولعل هذا السبب هو الذي جعل بعض النقاد يرون الجانب المترهل في رواية (فؤاد التكرلي)، وإن كنت لا أميل لهذه الرؤية الأحادية الجانب وأعتقد أن التكرلي أراد أن يكتب رواية تاريخية وإنسانية وفكرية واجتماعية، وحتى سايكولوجية - بمنزلة المعادل الموضوعي لكل جوانب الحياة؛ ولذلك لم يقيد نفسه كلية بمفهوم "تعدد الأصوات" واكتفى بما يخدم روايته من هذا الأسلوب الفني وغيره من الأساليب الحديثة والتقليدية في بناء الرواية على حدٍ سواء.
ولهذا السبب بالذات كان ذهني يطرح السؤال الآتي وأنا أحاول أن أدلو بدلوي كما يقال في هذا المفهوم والأسلوب: ترى لماذا عدّ الناقد (فابيو كاياني) رواية التكرلي بوصفها "تمثل أنصع نموذج على تعدد الأصوات والسرد التعددي في الرواية العربية المعاصرة"(5) وليس رواية (محفوظ) المنشورة عام 1985؟ على الرغم من إنه كتب دراسته هذه في تسعينيات القرن الماضي بدليل أنه استخدم دراسة الناقد العراقي (فاضل ثامر) المنشورة عام (1992) كمصدر لتجربة "السرد التعددي في الرواية العربية المعاصرة" عند غائب طعمة فرمان كما ذكرت في الصفحات الأولى من هذا الكتاب.
ثانياً: جعل فرمان أصواته الخمسة تتحدث كما لو أن كل صوت بمعزل عن الأصوات الأخرى على نحو من الأنحاء على الرغم من وجود تداخلات بسيطة ومحدودة بين هذه الأصوات من جهة وبين صوت فرمان كمؤلف وسارد وإنسان صاحب رؤيا وموقف من جهة ثانية، وإن كنا سنؤجل مؤقتاً حقيقة أن هذا التداخل والتدخل سيكون من أسباب عدم نجاح أي رواية تسعى لاستخدام أسلوب "تعدد الأصوات" الذي يقتضي استبعاد المؤلف واستقلالية أصوات أبطاله/ نماذجه إلى أقصى حدٍّ ممكن. في حين كانت تداخلات أصوات "الرجع البعيد" الثمانية كبيرة وكثيرة إضافة إلى تدخل (التكرلي) على نطاق واسع وفي معظم فصول روايته المكونة من ثلاثة عشر فصلاً، ولاسيما الفصل الأول الذي يمكنني أن أعده عرض مشهدي وبانورامي لموقع بيت (ابو مدحت - الجد، مركز دائرة مسرح الرواية) وسكناه وأبطاله ومعظم مصادر أصواته على الرغم من أن هذا الفصل كان مخصصاً لصوت (أم مدحت).
غير أن محفوظ المحنك، الذي له باع طويل في تاريخ السرد العربي، جعل من الأصوات الثلاثة لروايته أقل تداخلاً وأكثر صفاءً على الرغم من وجوده كمؤلف وكإنسان ولاسيما في شخصية أو صوت (محتشمي)، ما جعل عدد صفحات روايته أقل كما لو أنه خبير في عمليات الشطب التي عدَّها البعض سرّ نجاح الروايات الموزونة التي لا زيادة ولا نقصان فيها؛ وكان أقرب في روايته لأصوات (فرمان) منه إلى التكرلي من حيث المحافظة على البعد الاجتماعي والهم الحياتي من غير أن نقصي رواية (الرجع البعيد) عن هذا الهم الذي أضافت الرواية له هموم انسانية ووجدانية وروحية وفلسفية كثيرة.
ثالثاً: الروايات الثلاث تتشارك في الاخفاق للوصول إلى الرواية النموذج المطلوبة حين يتخذ الكاتب لنفسه مهمة كتابة رواية أصوات، ولكن بنسب متباينة في درجة هذا الإخفاق إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الدرجة الابداعية الصعبة التي تتطلبها هذه المهمة والتي تحدث عنها الدكتور التلاوي، إضافة إلى النقاط التي وردت في الكتابات المختلفة التي وقعت بين أيدينا وذكرناها في هذه المقدمة التنظيرية كخصائص (ولا أقول شروطا) لمفهوم و أسلوب "تعدد الأصوات" وأهمها الغاء سيطرة أحادية الكاتب -الروائي التقليدي- واختفاء صوته إلى أبعد حدٍّ ممكن كما لو أن الأبطال والنماذج الروائية تتحدث عن نفسها من غير أن يجمعهم أي جامع بالمؤلف، أي أحرار ومتكافئين مع الروائي، أو حتى متضادين معه ومتمردين على سطوته ومتماشين مع المرتبة التاريخية العليا لتطور الوعي من غير أن يطغى منظور على منظور أو صوت على صوت مما يجعل رواية الأصوات ذات طابع حواري ديالوجي - وعلاقات حوارية - على نطاق واسع تحمل مستويات عدّة ومتنوعة للسرد ولطبقات الوعي أو خلق نغمات شخصية مميزة في كل صوت من خلال خلق المسافة المطلوبة بين مستويات الوعي عند الشخصيات واختلافها مع درجة وعي المؤلف لتغتني بالتنوع الصوتي وديمقراطية التعبير بما في ذلك إلغاء (المركزية) التي وسمت الروايات التقليدية بميسمها خلال قرون عدّة. فهل استطاع (نجيب محفوظ) الذي اقتطف جائزة نوبل أن يقطع الحبل السري الذي ربطه مع أصواته الثلاثة ولاسيما الجد المسن (محتشمي) أم أنه لم يستطع تجاوز ذاته فبقينا نلمس بصمات صوته الشخصي: أفكاره، مفاهيمه، أحاسيسه، التي عهدناها في كل أعماله السابقة وتتلمذنا عليها لما يزيد على نصف قرن من الزمان؟!
أترك الاجابة لمن يقرأ رواية محفوظ المهمة "يوم قُتل الزعيم"، وأحض على قراءتها؛ لأن فيها الشيء الكثير مما لا يتعلق بموضوع كتابنا/ بحثنا هذا. وإذا ما طرح قارئ السؤال الصعب: ما هو المقصود بالرواية النموذج المطلوبة؟ فإني أحيله إلى قراءة روايات فولكنر من مثل (بينما أرقد محتضرة) أو (نور في آب/أغسطس) وخاصة (الصخب والعنف) التي فيها أنصع نموذج لدرجات وطبقات ومستويات الوعي والسرد الروائي على حدٍّ سواء ولاسيما خلق النغمات الشخصية المميزة عند كل صوت (صوت بنجي المختلف بحكم قصور عقله، مثلاً)، إضافة إلى التلوين الصوتي الذي سنلمسه أيضاً عند قراءة تحفة فرجينيا وولف (الأمواج) والصفاء والدقة وعدم الاختلاط بين الأصوات عامة وصوت المؤلف/المؤلفة لاسيّما إن كان لهذا الصوت ثمة ضرورة فنية؛ وكل ما يستدعيه عملية الخلق الابداعي لتفرد كل شخصية بنغمة صوتها وتدرج الموتيفات الموسيقية والتونات - واعادة تكرارها لتثبيت المعنى - خاصة عند شخصيتها الرئيسة (برنارد) لنقول عن جدارة إنها درة من درر البناء البوليفوني أو نص/ رواية "بوليفونية" من غير أن ننسى رسالة دوستويفسكي لأخيه في هذا المجال حين كان يكتب (رسائل من تحت الأرض)(6) ويريد استثمار اللغة الموسيقية في أعماله الأدبية كما أسلفنا سابقاً.
 
* مؤيد جواد الطلال كاتب عراقي مستقل مقيم في سورية.
 
الهوامش والمصادر
  • الطبعة الأولى لرواية "ميرامار" كانت في عام 1967. أما الطبعة الأولى لرواية "يوم قتل الزعيم" فقد كانت في عام 1985 – منشورات دار مصر للطباعة، سعيد جوده السحار وشركاه.
  • محمد نجيب التلاوي: وجهة النظر في رواية الأصوات العربية، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق 2000، ص130.
  • بيرسي لوبوك، صنعة الرواية، ترجمة عبد الستار جواد، منشورات وزارة الثقافة العراقية، 1981.
  • مجلة الأقلام، العدد 4، 1 أبريل 1977
  • دراسة " فابيو كاياني" عن الرجع البعيد، التي ترجمها "سهيل نجم" ونشرها في العدد الأول من مجلة الأديب العراقي/ نيسان 2005
  • يراجع في هذا الشأن مقالة للدكتور (ثائر زين الدين) التي يقرأ فيها رواية دوستويفسكي "رسائل من تحت الأرض" على ضوء نظرية أو طريقة "ميخائيل باختين" في دراسته لدوستويفسكي؛ ولاسيّما أن الدكتور الأديب السوري يعدّ باختين بوصفه "واحدا من أهم علماء فقه اللغة الروسية في القرن العشرين"، ص 156، مجلة المعرفة في سنتها الستين، العدد 692، آيار2021