أيار 18
     يُعدُ المسرح الملحي من المسارح التي أثارت جدلاً كبيراً في الأوساط المسرحية العربية، لِمــا لهذا المسرح من تأثير كبير في الساحة الثقافية العربية عموماً والحركة المسرحية وتفاعلاتها على وجه الخصوص. أن المسرح الملحمي الذي أسسه الكاتب المسرحي المعروف برتولت برشت يُعدُ مسرحاً ذا خصائص ديالكتيكية وتعليمية هادفة، يفتقرُ إليها المسرحُ التقليدي الموروث في عالمِنا العربي. وجاء المسرح الملحمي بنظرية التغريب على خشبة المسرح، والتي هي على النقيضُ مما جاء بهِ المسرح التقليدي من هيكلية وأنماطٍ ثابتةً كانت تشكل ركائز المسرح التقليدي والتي لا يُمكنُ المساس بها، ومن أهمها الوحدات الثلاث: (الزمان، المكان، الحدث).
 وقد احتل المسرح الملحمي مكانةً كبيرة في تاريخ المسرح الحديث لِما له من تأثير مباشر على حركة المسرح عموماً والمسرح الحديث على وجه الخصوص. ويعتمدُ المسرحُ الملحمي بشكلٍ جلي على إبراز وإظهار الدور الكبير الذي يلعبه المسرح في الحياة الاجتماعية، ويعكسُ كذلك مدى تطور الشعوبِ أو اضمحلالها؟ ويحملُ هذا المسرح على عاتقهِ تطوير وإثراء الحركة الأدبية، على وجه العموم، والمسرحية على وجه الخصوص. إذْ يعدُ المسرح الانعكاس الطبيعي والحقيقي لحركة المجتمعات وتطورها على الأصعدة كافة.  ويمكن من خلال حركة المسرح قياس مدى تطور ونمو الشعوب أو مدى التخلف الذي يصيب تلك المجتمعات.
 وقد شهدت المانــيا في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي (وهي ذات الفترة التي ظهر بها المسرح الملحمي) نشاطاً محموماً في الحركة المسرحية وبالأخص منها الحركة اليسارية والتقدمية التي تبنتْ سبل الارتقاء بالحركة المسرحية والطروحات التي تتماهى مع هذا النهج.  وكانت اللبنة الأولى للحركة الملحمية ودور المسرح في الحياة اليومية والسياسية قد وضعها الكاتب المسرحي الكبير آرون بسكاتور. ذلك الكاتب الذي انشغل في ما بعد بالحركة اليسارية العمالية.
 
بريشت
ولقد انشغلَ بيسكاتور فيما بعد بتأسيس المسرح العمالي، وهو مسرحٌ سياسي يحملُ بين ثناياه هموم الطبقة العاملة والأسس الكفيلة التي تؤسس لدعم هذهِ الحركة النضالية. ولم تتبلور فكرة تأسيس المسرح الملحمي بشكلهِ المعروف والنظم التي بُنيتْ عليها النظرية الملحمية والأدوات التي يتم استخدامها لتحقيق الهدف المنشود مثل الاستخدام الأمثل للديكور والسينوغرافيا والموروث الشعبي من أغاني وتراتيل شعبية وكذلك استخدام عنصر التغريب في المسرح كوسيلة وأداة من أدوات المسرح الملحمي إلا بعد مجيء الكاتب الألماني والمخرج المسرحي برتولت برشت، عندها يُمكنُ للمتتبع أنْ يلحظ نشوء وتبلور المسرح الملحمي في شكلهِ الذي عرفه العالمُ بهِ. أنَّ النظرية الملحمية في المسرح قد ظهرت وتبلورت على يد الكاتب والمسرحي الألماني برشت الذي يعد مؤسس المسرح الملحمي. وقد أحدثَ ظهور المسرح الملحمي في النصف الأول من القرن الماضي صدىً واسعاً ليس على نطاق الساحة الألمانية فحسب وإنما سرعان ما انتشرَ في جميع أنحاء العالم، ولقيت المسرحيات التي كتبها مؤسس المسرح الملحمي برشت صدىً كبيراً وواسعاً إذ تُرجمت تلك الأعمال إلى العديدِ من اللغات العالمية ومنها اللغة العربية؛ ومُثلت كذلك في العديد من الدول. ولم تكن الحركة المسرحية العربية بعيدة عن حركة التغيير هذهِ، بل كانت تلاحظ وتراقب باهتمام بالغ حركة المسرح الملحمي والانتشار السريع الذي حظيت به هذهِ الحركة المسرحية الواعدة. وكانت الحركة المسرحية العراقية من أكثر الحركات المسرحية نضوجاً على مستوى الحركة المسرحية العربية، ويعود الفضل في ذلك للرعيل الأول من مسرحيي العراق ومؤسسيه أمثال: ابراهيم جلال ويوسف العاني وجعفر السعدي وكذلك د.الرائد المسرحي الكبير سامي عبد الحميد. ومن الجديرِ بالذكر في هذا الجانب أنَّ الساحة العراقية في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي كانت متعطشة لظهور مسرح جاد وملتزم يأخذ على عاتقه هموم وتطلعات الشعب، ويعود الفضل في ذلك إلى ظهور حركة الاستقلال في عموم الوطن العربي بما فيها العراق. وقد انشغل المسرح الملحمي بوصفهِ مسرحاً سياسياً يأخذ على عاتقهِ هموم وتطلعات المجتمع؛ والسعي الحثيث للوصول إلى الأهداف التي تنشدها تلك المجتمعات. ولتحقيق هذهِ الأهداف الكبيرة والسامية يتوجب وجود وسائل وتقنيات في المسرح تحدث انقلاباً كبيراً بما هو سائد ومألوف في الحركة المسرحية التقليدية التي كانت تتبنى أنماطاً ثابتة ونظماً صارمة وتقاليد مسرحية لا يُمكنُ الخروجُ عنها أو كسرِهـــا والتي عُرف عن طريقها المسرح التقليدي. وقد جاز تسمية المسرح بالتقليدي لأنه كان سائراً على وتيرة واحدة وتقنيات محددة وضوابط صارمة تحدد الحركة المسرحية منذ تأسيسه علي يد الفلاسفة الإغريق بما يقارب ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد منذُ عهد سوفوكليس. وأفلاطون، وكذلك أرسطوطاليس؛ حيثُ يمكنُ تسمية المسرح التقليدي أيضاً بالمسرح الأرسطي أو الأرسطوطاليسي نسبة للفيلسوف الإغريقي أرسطو طاليس، والذي يعد مؤسساً للمسرح بمفهومهِ الحديث وواضعاً المعالم الرئيسة لشكل المسرح (القائمة على الاندماج بدل التغريب والجدل). وقد اتسم المسرح التقليدي أو الأصح القول قد ضُبِطتْ حركة المسرح بالوحدات الثلاث وهي:
- (الزمان، المكان، الحدث)                   
  وهذهِ الوحدات الثلاث هي التي كانت بمثابة السمات والمميزات الأساسية التي بُنيَّ المسرح على أساسِها منذ نشأته ولحين ظهور المسرح الملحمي الذي أضاف بعداً رابعاً أو وحدةً رابعةً للمسرح وهي الجمهور والتي تعد من أهم الوحدات في المسرح أو أهم سمات المسرح الملحمي.
إذْ أنَّ للجمهور أو المتلقي دورا مهما في المسرح الملحمي الذي يأخذ على عاتقه إنضاج فكر المتلقي وتطوير قدراته وقناعاتهِ للوصول به من متلقٍ (مندمجٍ: على عكس نظرية ستانسلافسكي التي تقوم على الاندماج) مع سياق الحركة المسرحية التقليدية للوصول بهِ إلى ناقدٍ ومحللٍ للأحداث وينظر إليها بوعي الناقد ذي النظرة المتفتحة التي تؤهله لوضع الحلول المناسبة وانتقاد الخاطئ منها والثناء على ما هو صائب وصحيح بعيداً عن الاندِماج مع الأحداث التي تدور على خشبة المسرح وغير متفاعل مع ما يدور على المسرح، إذ يسمى هذا الاندِماج والتقمصُ في المسرح بالإيهام المسرحي.
ــ والايهام تفاعل المشاهد مع ما يدور على خشبة المسرح والاندماج الكامل مع الاحداث.
ولتحقيق هذا الهدف توجب ظهور أو اعتماد أدوات تُمكن المخرج والمؤلف المسرحي من الوصول إلى ما يصبو إليه. ومن أهم تلك الأدوات التي اعتمدها المسرح الملحمي هو تقنية التغريب على المسرح، وهي على النقيض من الإيهام على خشبة المسرح. والتغريب كما حاولَ برشت إيصاله إلينا هو الابتعاد الكلي للممثل من الانغماس أو الاندِماج والتقمص للدور الذي يلعبه ذلك الممثل، بل يتوجب عليه إشعار المتلقي بأنه ممثلاً يؤدي دوراً معيناً يحمل فكرةً ذات أهداف محددة وليس ممثلا متقمصا للدور، مُحاولاً بكل القدرات الفنية التي يمتلكُها للوصول إلى حالة الاندِماج الكلي مع النص والوصول به إلى حالة الإيهام. وهذا هو الاختلاف الجوهري بين المسرح الملحمي والمسرح التقليدي. ومن التقنيات الأخرى التي اعتمدها المسرح الملحمي هي (السرد)، أي أنَّ بإمكاننا أنْ تعد المسرح الملحمي مسرحاً سردياً بامتياز بل يعتمدُ ويفعلُ سرد الأحداث عن طريق الراوي، والذي يقوم بعملية القص أو السرد للأحداث، وهذا بحد ذاته يبعد المتلقي عن الاندماج والتفاعل مع العرض المسرحي، وكذلك فأنَّ صيغة النص الذي يرويه الراوي تكون بصيغة الزمن الماضي لكي يقول للمشاهد بأنَّ ما يراه هو حدث مجرد قد حدث في الزمن الماضي ولا حاجة للغوص والاندماج والتفاعل الحثيث معه. ويتضحُ هنا أنَّ أية مُحاولة للتعرف الصحيح والدقيق على المسرحي برشت، لا تتم إلا بدراسة وفهم نصوص مسرحياتهِ أو مؤلفاتهِ النثرية والشعرية على حدٍ سواء، كما يتطلبُ من الباحثِ أيضاً الفهم العميق والمتجذر للفترة الزمنية التي عاشها هذا الكاتب، والتناقضات الجمة التي شهدتها المانيا في تلك الحقبة الزمنية على الأصعدةِ السياسية والاقتصادية وحتى الأمنيةِ كافة، وأهمها ظهور النازية في المانــيا وملاحقتها للحركات التقدمية واليسارية الفتية التي كانت نشطة وفاعلة في ذلك الوقت.
كان مفهوم الفن لدى الجماهير التي عاشت حقبة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي مختلفة تماماً عما جاء بهِ برشت. فقد أحدثت طروحاتهِ الأدبية سِيَّما على الصعيد المسرحي ثورةً فكرية تستحق التأمل والدراسة لِما لها من تأثير كبير على المستوى الاجتماعي وكذلك الاهتمام الكبير الذي حظيت بهِ تلك الطروحات ليس على صعيد ألمانــيا حسب، بل على صعيد أوربا والعالم وقد وصل ذلك التأثير إلى الوطن العربي وبالأخص أولئك المسرحيين الذين تأثروا بالمسرح السردي أو بدايات طروحات برشت عن المسرح الملحمي، وتجدر الإشارة هنا إلى الكاتب الألماني اليساري آرون بسكاتور الذي سبق برشت في هذهِ الطروحات المسرحية وأنَّ لم تلقَّ صداها كما هو الحال عند برشت. إنَّ برشت ورغم حداثة تجربته وعلى الرغم من صغر سنّه في تلك الحقبة الزمنية؛ استطاع أنَّ يُنشئ له اسماً كبيراً في عالم الحداثة في المسرح. إذ لم تزل أعماله إلى يومنا هذا محط دراسةٍ ونقدٍ وتحليل ولها الكثير من الانعكاسات على الصعيد المسرحي. لقد أعطى برشت دوراً هاماً للمرأة في أعمالهِ جميعا وكانت أغلب مسرحياته تحمل ذلك الطابع، حيث تكون المرأة هي محور الأحداث في أعمالهِ، ومن تلك الأعمال:
  • مسرحيات: (الأم الشجاعة وأبناؤها، مسرحية الأم، مسرحية بنادق الأم كارار) وكان لهذهِ المسرحيات الثلاث صدى كبير لِما تحملُه بين طياتِها من مدلولاتٍ كبيرة أسهمتْ في إعادة بناء المجتمع الألماني بعد الحروب الكبيرة والانكسارات التي مرّ بها المجتمع الألماني.
 بهاء محمود علوان: أستاذ الأدب والمسرح الألماني الحديـث، رئيس قسم اللغة الألمانية الأسبق، كلية اللغات، باحث ومترجم – جامعة بغداد